تأملات فكرية في مدرسة الإمام الخميني (قدس سره) 3
البعد الوحدوي في فكر الإمام الخميني
ــ هذا الملف تم إعداده بمناسبة الذكرى السنوية الثالثة بعد المائة لميلاد مفجر الثورة ومؤسس الجمهــورية الإسلامية الإيرانية الإمام الخميني (طاب ثراه)، استكمالاً للمواضيع والملفات السابقة التي نشرتها "كيهان العربي" عن سيرة حياة هذا الفقيه الرباني الراحل ومناقبه العظيمة التي تركت بصماتها واضحة على المستويات الإسلامية والثورية والإنسانية في أنحاء العالم.
ورغم أن هذا الملف يتناول أساساً معالم الشخصية الخمينية في أبعادها المختلفة، إلا أن التطورات والمستجدات الراهنة في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، لم تغب عن المواضيع والأحاديث الواردة فيه، انطلاقاً من أن ما يجري الآن على الساحتين الإقليمية والدولية مرتبط بشكل أو بآخر بالنهضة الكبرى التي أطلقها إمامنا الراحل في سبيل الانتقال من الاستكبار والعبودية وإيصال المسلمين والبشرية جمعاء إلى بر الأمان:
دمشق/ إعداد وحوار: حميد حلمي زاده
في العام 1964 جاءنا الشهيد عبد العزيز البدري في قصبة الاعظمية من بغداد فرحاً مسروراً يحمل إلينا بشارة وجود عالم مجتهد من علماء إيران في مدينة النجف اسمه روح الله الخميني أخرج من بلده بسبب معارضته لحكم الشاه يدعو لإقامة دولة إسلامية لجميع مسلمي العالم من خلال أطروحة فقهية بعنوان ولاية الفقيه. وقد كنا في حينه لا نزال شباباً لم نتجاوز الثلاثين من أعمارنا منخرطين في العمل الإسلامي متطلعين إلى هذا الهدف الكبير الوارد في ثنايا كتابات الإسلاميين أمثال الشيخ حسن البنا وأبو الأعلى المودودي والشهيد سيد قطب ونعتبره حلماً من الأحلام لابد وأن يتحقق عاجلاً أو آجلاً على يد من يريد الله به خيراً.
لقد كان هؤلاء الذين ذكرتهم وأمثالهم من أهل السنة، ولم نكن في حينه على إطلاع ما يراه الشيعة وما كتبوا عنه بهذا الشأن. ولذلك كانت فرحتنا بالخير الذي حمله إلينا الشهيد البدري شديدة. فقررنا التوجه بمعيته إلى حيث يقيم السيد له، استمعنا منه ما يؤكد هذا التوجه وحدثنا بإيجاز عن ولاية الفقيه التي ينادي بها ويلقيها دروساً على طلبة العلم في ــ حوزته ــ فوجدناها مضموناً وحدوياً لأن من يتولى أمر المسلمين من خلال غيبة الإمام الثاني عشر ــ في عقيدة الشيعة الأثنى عشرية ــ يشترط فيه أن يكون فقيهاً عادلاً. وهذان الشرطان هما من ضمن شروط أهل السنة التي يجب أن تتوفر في ولي أمر المسلمين، إضافة للشروط الأخرى مثل الحرية والبلوغ والإسلام والعقل، وأحسب أنها عند صاحب الأطروحة من قبيل تحصيل الحاصل التي لم يجد داعياً لذكرها في كتابه ــ الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه ــ. لذلك تكررت زياراتنا له للاستزادة منه وكادت أن تكون دورية شهرية إلى أن استشهد الشيخ البدري وتعرض الإسلاميين في العراق لحملة ابادة جماعية لم ينج منها سني أو شيعي. ثم قامت الثورة في إيران وسقط حكم الشاه بزعامته وقيادته الصلبة الصادقة، فقدمنا له ونحن خارج العراق ــ مذكرة تتضمن آليات تحويل الأطروحة إلى واقع لأن الدولة الإسلامية في إيران على نفس الأسس التي قامت عليها دولة الإسلام الأولى في المدينة عالمية منذ أول تكوينها.. بلال الحبشي وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وعلي بن أبي طالب العربي الهاشمي القريشي بقيادة الرسول صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وصحابته وأتباعه الصادقين، ثم عقبناها بزيارة إلى إيران فوجدنا أن وقعها في نفس السيد الخميني ومشاعره كان جيداً، فحمدنا الله وشكرناه، ثم كان صدور الدستور فوجدناه المادة الحادية عشرة منه تنص على ما يلي:ــ
"بحكم الآية الكريمة {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} فإن المسلمين أمة واحدة، وعلى حكومة جمهورية إيران الإسلامية إقامة سياستها العامة على قاعدة ائتلاف واتحاد الشعوب الإسلامية وأن تواصل جهودها من أجل تحقيق وحدة العالم الإسلامي السياسية والاقتصادية والثقافية". فوجدنا في منطقها ومضمونها في فكر الخميني ونفسه. وعندما تحرينا عن ذلك علمنا أن السيد الإمام هو الذي أصر على إثباتها في الدستور وأن صياغتها عرضت عليه أكثر من مرة إلى أن اعتمدها بصيغتها النهائية، فقلنا الحمد لله لقد أثبت الرجل أنه صادق الوعد إبراهيمياً محمدياً حسينياً وحدوياً.
أذكر أنه بعد قيام الثورة ونجاحها بأسابيع أصدر المرحوم أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان بياناً يدعو الإسلاميين إلى مساندة الثورة وقائدها السيد الخميني الذي وصفه "بالمسلم الصادق الذي يسعى لتحقيق وحدة المسلمين"، فقررنا الاتصال بما لا يقل عن مائة شخصية إسلامية لها وزنها وتأثيرها للذهاب إلى إيران وعقد البيعة للسيد الخميني إماماً للمسلمين، وعرضنا المشروع على من علمنا أنهم على نهج الإمام حقاً أمثال بهشتي وباهنر وقدوسي ومفتح ومحمد علي رجائي فلاقت قبولاً منهم وتشجيعاً، إلا أن آخرين مثبطين عارضوها. ثم جاء العدوان العسكري على إيران وانشغلها بالحرب واستشهاد الذين هم على نهج الإمام الوحدوي في ساحة المعارك أو الاغتيال. ثم أضيف إلى ذلك عامل الشيخوخة والمرض، فتوقف المشروع عملياً وإن كان لا يزال ينتظر الشخص المؤهل لقبول هذا الهدف الكبير.
لقد كنا ولا نزال نعتقد جازمين لو أن هذا المشروع الوحدوي قد تحقق في حياة السيد الخميني ولو أن إيران الثورة قد أقامت الدولة.. ببعدها العالمي لما تجرأت قوة في الأرض على غزوها لأنها كان عليها أن تفكر كثيراً وتتوقع أنها ستواجه مليارا ونصف المليار من المسلمين يخوضون ضدها معركة ضارية دفاعاً عن دولتهم الشرعية.
والذي أريد الإشارة إليه أن الإمام الخميني قد خطا في حياته خطوات عملية وحدوية رغم كثرة المشاكل التي أحاطت بإيران الثورة. ولم يكن نظريا فقط ولا متاجراً بشعارات الوحدة لتحقيق أهداف موضعية مؤقتة، أذكر من هذه الخطوات على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1ــ فتواه الموفقة للشيعة الذين اتخذوه مرجعاً دينياً لهم بالصلاة خلف أئمة الحرمين الشريفين من أهل السنة، وهي فتوى قطعت ألسنة كثيرة كانت تهمز وتلمز وتشكك في وحدوية الرجل إن لم تشكك حتى في صحة إسلامه وصدق إيمانه.
2ــ موقفه المشرف في الاستجابة للشيخ سعيد شعبان أمير حركة التوحيد الإسلامي في لبنان عندما حوصر في طرابلس من بعض القوى اليسارية، إذ أرسل المذكور برقية إلى كثير من حكام العرب والمسلمين يطلب منهم إنقاذه مما يتعرض له وأتباعه من عملية ابادة، فلم يتلق منهم جواباً باستثناء السيد الخميني الذي أرسل السيد علي الخامنئي وكان رئيساً للجمهورية على رأس قوة من حرس الثورة فدخلوا لبنان بأسلحتهم واخترقوا الحصار وأنقذوا الشيخ المحاصر وجماعته من هلاك كانوا يتعرضون له.
3ــ أما الموقف الوحدوي الكبير فهو موقفه من القضية الفلسطينية الذي قلب به الطاولة على المتاجرين بها والمتآمرين عليها.
لقد ألغى اعتراف إيران بالكيان الصهيوني، وحوّل سفارة الكيان إلى سفارة دولة فلسطين. وجعل آخر جمعة من رمضان في كل عام يوماً للقدس يذكر فيه المسلمين بمسؤولياتهم لتحريرها، ولم يكتف بذلك وإنما قرر تكوين جيش القدس ليضم أربعين مليوناً من المسلمين لتحرير فلسطين، فأعاد بهذه الممارسات الوحدوية إلى القضية الفلسطينية بعدها الإسلامي الأصيل نطاقاً ومضموناً بعد أن حولها المتأمرون والمزايدون إلى قضية عربية أولا ثم فلسطينية خاصة بالفلسطينيين لكي يخلو لهم الجو لإبرام الصلح والاعتراف بالكيان الصهيوني الغاصب ولكي يتحولوا إلى وسطاء بين الكيان والفلسطينيين، وأخرى قضية منظمة التحرير "جعلوها" الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني بعد أن ضمنوا لها زعامة تقدم التنازلات تلو التنازلات للعدو الغاصب.
يقينا لو أن الله قد أخذ بعمر الإمام ولم يقع فريسة المرض ولم تداهمه الشيخوخة لأقدم على خطوات وحدوية ورد النص عليها في الدستور وتضمنتها أطروحة ولاية الفقيه، لأنه كان يؤمن إيماناً صادقاً راسخاً أن وحدة المسلمين فريضة شرعية وضرورة حياتية أيضاً الآن لمواجهة الهجمة الصليبية الصهيونية على المسلمين من دون تمييز. رحم الله السيد الخميني وجزاه خير الجزاء على خطواته الوحدوية {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}.
تعليقات الزوار