15 شعبان يوم المستضعفين(الإمام الخميني يتحدث عن الفكرة ومرتكزاتها القرآنية)

مستقبل البشرية

تكتسب قضية مستقبل الإنسان على هذه الأرض موقعها المميز في كافة الاتجاهات السائدة في المذهبيات الأرضية. وهي القضية التي تأخذ موقعها أيضاً في اهتمامات الأديان السماوية جميعاً، وبالذات الرسالة الخاتمة رسالة سيد المرسلين محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثمة بالتأكيد من الاتجاهات الوجودية والإباحية من يحاول أن يرفض تصور أن يكون للإنسان وللمستضعفين مستقبل على هذه الأرض. إلا أن هذه التيارات لا تستند في رفضها ليوم الخلاص والمستقبل السعيد للبشرية وللمستضعفين على أدلة فكرية واضحة، وإنما تحاول أن تماشي في رفضها أمزجتها وطبائعها الخاصة وذاتياتها. وليس الهدف من هذا التمهيد أن ندخل في استعراض النظريات التي تتحدث عن المستقبل السعيد، وإنما يكفي أن نؤكد أن الجاد من الاتجاهات والمذهبية الوضعية تؤمن بهذه الفكرة وإن كانت تتبنى صياغتها للمشروع من خلالها فلسفتها وفكرها. وفي هذا السياق يكتب باحث إسلامي: "ليس المهدي تجسيداً لعقيدة إسلامية ذات طابع ديني فحسب، بل هو عنوان لطموح اتجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها، وصياغة لإلهام فطري" (محمد باقر الصدر، بحث حول المهدي، ص7).

وإذا كانت بعض عوالم الغرب ومن يتبعها في أرضنا تحاول أن تطرح قضية التقدم العلمي بديلاً لأطروحة الدين ومشروعه لمستقبل المستضعفين، وتربط مستقبل الإنسان بالعلم فقط، فإن الوقائع المستمرة والأحداث اليومية من حولنا تكشف عجز العلم لوحده عن أداء هذا الدور. فالعلم لا يعدو مهما بلغ من الرقي والتقدم، أن يكون مجرد أداة بيد الفكرة، وهو بالنهاية مجرد وسيلة لا تغني عن العقيدة الشاملة التي تعالج فيما تعالج صلة الإنسان بالغيب.

وبعد، فإن أفضل مكان تستقر فيه فكرة يوم الخلاص والمستقبل السعيد للإنسانية هو الأطروحة الإسلامية التي بشرت بفكرة المنقذ العالمي وأشبعت عقل الإنساني ووجدانه وتطلعاته عن قضية المصلح الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً. 

المرتكز القرآني لليوم الموعود

إن فلسفة أن يكون للإنسانية والمستضعفين مستقبل سعيد في الأرض من خلال دولة المنقذ العالمي الإمام المهدي (عج)، تقوم على أساس قرآني واضح يحصر الغاية من خلق الإنسان بإنجاز العبادة لله تبارك وتعالى، حيث يقول: {وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون}، ولأن هدف العبادة لا يمكن أن يتم إلا من خلال اقتراب البشرية نحو مستوى الكمال النسبي، فإن كافة مراحل التاريخ البشري تثبت أن الإنسانية لم تصل بعد إلى المستوى برغم كل ما بذله الأنبياء (عليهم السلام) من جهود، وإنما هناك رحلة شاقة من التمحيص والبلاء تنتهي ولابد بشرارة الظهور المقدس حينما يصحو الإنسان على نداء السماء بقيادة حفيد الرسول الأعظم، فتلامس البشرية غايتها، ويصافح المستضعفون في الأرض ساعة المجد، وتلك بشرى القرآن إلينا، وهي وعد الله القاطع الذي لا خلف له: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين}. 

مولد الإمام، يوم المستضعفين

نطل في الخامس عشر من شعبان من كل عام على مناسبة مولد المنقذ الكبير الإمام المهدي حفيد رسول الله من ولد فاطمة، هذه المناسبة التي ارتبطت بالوعي الإسلامي بمستقبل مسيرة التوحيد، وبالوعي البشري بشعور يعلوه الوضوح مرة ويكتنفه الغموض مرات.

أما في ثقافة الثورة الإسلامية ونهضة الإمام الخميني فقد ارتبط الميلاد بيوم المستضعفين، حيث تتأكد دلالة الاختيار في كون يوم الخلاص المهدوي هو يوم خلاص المستضعفين أنفسهم.

لقد عالج الإمام الخميني أطروحة الإنقاذ المهدوي من خلال زوايا متعددة منها ما هو عقائدي فكري، وما هو تعبوي تحريكي، ومنها ما هو سياسي تغييري يرتبط بحركة الشعب، ومنها ما هو تعبّدي إيماني يرتبط بفيوضات الوجود المهدوي ورعايته (عليه السلام) لمسيرة الموحدين المستضعفين.

ومن الطبيعي أن تصدر كل هذه المعالجات من منظور إيمان موحد ومتكامل لموقع المهدي في الإسلام، إذ يقول الإمام الخميني في ذلك: "ونحن حين نتحدث عن الإمام، باعتباره قوة تنفيذية للإسلام، نقول إنه سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً...". والذي يهمنا في النص الذي سنقف عليه كاملاً، أن الإمام الخميني ينظر إلى أطروحة المنقذ المهدي (عج)، بوصفها قوة تنفيذية للإسلام، تستطيع أن تطبقه كاملاً وتواجه من خلال جميع القوى الطاغوتية المستكبرة. 

ثلاثة منطلقات

برغم الفهم الشامل الذي يقدمه الإمام الخميني لأطروحة المهدي عليه السلام، إلا أننا سنقتصر في التركيز على المنطلقات الأربعة التالية:

أولاً: ذكرنا في التمهيد أن فلسفة يوم الخلاص تقوم على أساس تحقيق البشرية لغاية وجودها في الأرض، وهي العبادة، وبالتالي على أساس إعطاء ثمرة عالمية وشاملة لجهود خط الأنبياء والرسل والأولياء والصالحين والشهداء، وتحقيق وعد الله سبحانه في الإرث والمنة والاستخلاف، حيث يقول تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}، وفي آية أخرى يربط الوعد الإلهي بين الإمامة والوراثة، فيقول تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}، وفي آية الاستخلاف يربط الوعد الإلهي بين الاستخلاف والتمكين حيث يقول: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدوني لا يشركون بي شيئا}.

من الواضح أن هذه الوعود الإلهية لم تصل غايتها بعد. لذلك يرتكز الفهم الإسلامي ــ كما يطرحه الإمام الخميني ــ لأطروحة المهدي المنقذ، على تحقيق غايات تلك الوعود الإلهية في حياة البشرية. وفي ذلك يقول الإمام الراحل: "إن الله تبارك وتعالى قد ادخره (أي الإمام المهدي) لتتحقق على يده آمال جميع الأنبياء التي حالت الموانع دون تحقيقها، وآمال جميع الأولياء التي لم يتسن لهم تحقيقها". 

هل تحققت الوعود؟

ثانياً: هل يشمل الوعد القرآني في الإرث والمنة والاستخلاف مقرونة بالإمامة والتمكن عصرنا الراهن؟ بمعنى هل تحققت هذه الوعود الإلهية في رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعثته أم لا؟

الوعي العقائدي الإسلامي يجمع في أصل الأطروحة أن رسول الله أعلن بنفسه من خلال أحاديث وصلت بنظر أكثر من فريق حد التواتر، أن المهدي من هذه الأمة وهو من ولد البضعة الطاهرة فاطمة البتول وسيظهر في آخر الزمان. ومعنى أحاديث النبي الأكرم هذه أن الوعود الإلهية لم تتحقق بشكل كامل بعد.

على هذا الأساس يقول الإمام الخميني: "إن المهدي سيحقق بشكل كامل الأهداف التي ما تسنى لرسول الله (ص) تحقيقها".

وإلا لم يكن ثمة معنى لأحاديث رسول الله في المهدي لو كانت الوعود الإلهية قد تحققت كاملة في البعثة النبوية الشريفة. 

إثارة الشبهات

وما حصل أن "منطق" إثارة الشبهات حاول أن يستجمع قواه ويتهم الطرح الإسلامي هذا بأنه لون من التفضيل للمهدي على رسول الله سيد الكائنات وأعظم الموجودات. إلا أن الإمام الخميني كان بالمرصاد لهذا "المنطق" البائس، إذ أوضح مباشرة علو مكانة رسول الله وسموها على كافة الكائنات والموجودات، حيث قال سماحته: "ليس في عالم الوجود أعظم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، غير ذات الباري تعالى، ولا حادثة أكبر من بعثته، فهي بعثة النبي الخاتم، وبعثة أعظم شخصيات عالم الإمكان، وهي بعد أعظم القوانين الإلهية".

ودور المهدي عليه السلام وإن كان دوراً كبيراً وأساسياً في تحقيق الوعود الإلهية، إلا أن المهدي يبقى بتعبير الإمام الخميني، قوة تنفيذية للإسلام الخاتم: "وإننا نعتبر المهدي من أتباع الإسلام ومن أتباع نبي الإسلام، لكنه أيضاً قرة عين الرسول والمنقذ لما جاء به الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)".

فهو (عليه السلام) حفيده وهو ابنه من ولد فاطمة الزهراء. 

تصدي الإمام للشبهات

ثالثاً: بعد أن اتضحت مرتكزات فكرة الإمام المهدي في الطرح الخميني، نصل الآن إلى ما يثيره "منطق" الشبهات من قبل بعض أعداء الإسلام إزاء فكرة المهدي. فبعد الثورة الإسلامية ارتكزت استراتيجية الفصل بين المسلمين والثورة وبين المسلمين أنفسهم إلى وسائل متعددة كان منها قضية المهدي المنتظر (عليه السلام). فحاول المنطق الشبهاتي البائس أن يحصر القول بالمهدوية في التشيع ثم بإيران الثورة فقط، هذا فضلاً عما ألحقه من تشويه لمرتكزات الفهم الذي أبانه الإمام الخميني للفكرة.

إلا أن الإمام كشف عن خلفيات هذا المنطق التشكيكي وأبان أهدافه وفق تحليل متكامل، نعطي الآن أفكاره الأساسية قبل أن تنتقل إلى نصوصه:

1ــ إن أعداءنا لا يتمثلون بأمريكا والقوى الدولية الأخرى وحسب، وإنما هناك أعداء داخليون.

2ــ من أخطر الأعداء الداخليين علماء البلاد الذين يتسترون بالدين ويتبوّأون مقام الفتوى.

3ــ إن أبرز سلاح لدى وعاظ السلاطين هو تكفيرهم لبعض فئات الأمة من أجل زرع الفرقة بين المسلمين وحماية النظم والحكام.

4ــ إن المخطط يستهدف تنفيذ أهداف القوى الكبرى وبعض الأنظمة الإقليمية، في عزل شعوب العالم الإسلامي عن الثورة الإسلامية للإبقاء على أوضاع الضعف والانهيار والتجزئة، ولضمان استمرار مصالح هذه القوى.

5ــ إن علماء السلاطين الذين يصدرون فتاوى التكفير ويصطنعون قضايا فرعية لإشغال الشعوب واستهلاك وعيها وصرفها عن القضايا الأساسية، لا يحركون ساكناً إزاء القضايا الأساسية والانحرافات الكبرى في سياسات الحكام والأنظمة.

6ــ إن الدور الأساس في تنفيذ استراتيجية التكفير ودفع وعاظ السلاطين إلى الواجهة يتمثل في حكومات معروفة في المنطقة توظف اتجاهات سلفية متحجرة جاهلة تعطي للإسلام بتصرفاتها صورة شوهاء، وتدفعها لمواجهة الأمة في معتقداتها ونهضتها.

عبّر الإمام الراحل عن خطوط هذه الاستراتيجية المعادية التي اندفعت بعد الانتصار في موازاة القوى الاستكبارية الخارجية بقوله: "إضافة لما نعانيه من أمريكا والاتحاد السوفيتي، فإننا نعاني أيضاً من بعض أدعياء الإسلام، ومنهم كبار رجال الدين في بعض البلدان الإسلامية. هؤلاء يحرفون كلامنا، ثم يصدرون أحكام التكفير بحقنا". ثم يضيف سماحته: "لو كان الأمر قد اشتبه على هؤلاء فأولى لهم أن يدرسوا المسألة جيداً، وأن يعلموا ماذا يقولون ولمصلحة من يعملون".

وعن مواقع هؤلاء وخلفية القوى المحركة لهم يضيف الإمام الراحل: "لو كانت مواقف هؤلاء ملتزمة من بلد إسلامي يسعى إلى تقوية الأواصر بين جميع الإخوة المسلمين وإحلال الوئام بينهم، لما عمد بعضهم إلى تكفير بعض، ونحن سعينا منذ عشرين عاماً إلى أن تتآخى البلدان الإسلامية. هؤلاء الذين يبثون مثل هذه السموم ويتلبسون ــ مع الأسف ــ بلباس الإفتاء إنما يعملون ضد الإسلام، ووفقاً لهوى القوى الكبرى ولخدمتها عامدين أم جاهلين".

ثم يتساءل سماحته أثر الضجة التي أثاروها حول تصريحاته عن المهدي (عليه السلام): "لماذا لم يقف هؤلاء موقفاً متصلباً كهذا من السادات؛ ولماذا لم يصدروا أحكام تكفيرهم بحقه؟".

وبعد أن يشير الإمام إلى مراكز وعاظ السلاطين هؤلاء حيث الاتجاهات السلفية المتحجرة والأنظمة الحامية لهم، يتساءل سماحته: "لماذا يعمد هؤلاء إلى تحريف الكلام، وإلى العمل ضد بلد إسلامي (إيران) يعمل على جمع شمل الإخوة وتقليم أظافر القوى الكبرى في العالم الإسلامي، ويفرقون بين المسلمين؛ ألا يعلم هؤلاء أن إلقاء الفرقة بين المسلمين يعارض نص القرآن؟ أجاهلون هؤلاء أم هم ــ لا سامح الله ــ للقوى الكبرى عملاء؟"

ثم يختم الإمام قوله عن هؤلاء الذين لا زالوا يشعلونها فتنة عمياء لا تذر: "لو كف وعاظ السلاطين شرهم وكفوا أيديهم عن التعرض لوحدتنا فسننتصر إن شاء الله، وستنتصر القوى الإسلامية، والبلدان الإسلامية".