الإمام الخميني رجل القرن الحادي والعشرين

 

الإمام الخميني رجل القرن العشرين، ورجل القرن الحادي والعشرين. وعندما نقول: رجل القرن الحادي والعشرين؛ فإننا نحاول هنا أن نقرأ هذه المقولة عبر شقّين من الحديث عن حياة الإمام السياسية وما اتخذته من صبغة استراتيجية أو بالأحرى محتوى استراتيجي.

 

شق يتمثل بما أثبتته الأحداث من رؤى سياسية للإمام، وشق ثانً يتصل بما توقّعه الإمام لمستقبل المسيرة الإسلامية، سواء ما يتعلق منها بجانب الصراع مع القوى الكبرى, أو ما يتعلّق بمستقبل المنطقة الإسلامية ذاتها.

 

والمهم هو أن نقول أيضاً: إن الإمام سرّب هذه الرؤية عبر مجموعة من القرارات والمواقف التي تشكل فهماً ثورياً في العمل السياسي وإدارة الأمور السياسية مع قوى الكفر والاستغلال والهيمنة، وأن الهم المرجعي والهم الحوزوي وإعطاء الدروس وما تحتاجه الدراسة الفقهية من وقتٍ وتفرّغ لم تمنع الإمام من أن يواكب الحركة السياسية في إيران والمنطقة الإسلامية، والعالم برمّته. بل لعلّ الإمام يذهبُ إلى أبعدَ من حد الاهتمام في الأمور السياسية.. إنما هو يعتبرها الهدف الأساسي للإسلام كرسالةٍ في أبعادها الاجتماعية والكونية والإدارية.. وكنظام جاء به الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده الإمام علي (عليه السلام) ومن هنا فإن الإمام الخميني أعطى المعنى الحقيقي لدور المرجع في استنطاق النص الفقهي، وتوظيف هذا النص في بناء هيكل الرسالة الإسلامية العام.

 

وقبل أن نبدأ رحلة الاستشراف ببعدها الفكري والسياسي الاستراتيجي، لابدّ من القول: إنّ هنالك العديد من الرموز العلمائية التي لعبت أدواراً سياسية مهمةً، إلا أنها لم تستطع أن تؤدي الدور الذي أدّاه الإمام, ولم تستطع أن تنقذ الإسلام من المؤامرات الكبرى التي حيكت إزاءه، كما لم تستطع أن تؤسس للإسلام الثوري السياسي الذي أصبح اليوم جزءاً من معادلة الصراع العالمي القائم.. وأخيراً فإنها لم تستطع أن تستشرف الأفق كما استشرفه الإمام، وحدد ملامحه في أكثر من تصريح ومناسبة ومكان، فبماذا إذاً؟ بماذا انفرد الإمام عن الآخرين في القيم السلوكية والتكوين والرؤية حتى استطاع أن ينجز ما أنجز، ويؤسس ما أسس من صروح للإسلام السياسي في هذا العالم؟

 

لاشك أن هذا السؤال هو بدرجة من الصعوبة، بحيث لا يمكن لأحد ببساطة أن يحيط بكامل الصفات التي كوّنت الإمام كظاهرة وخط, إلا أننا نحاول هنا أن نحدد بعض الجوانب المهمة التي ميّزت الإمام عن غيره.

 

أولاً: إذا تأمّلنا في ما قاله في يوم من الأيام، وذلك عندما اعتقلته قوات السافاك التابعة لنظام الشاه السابق، إذا تأمّلنا قول الإمام: (إنني لم أعرف معنى للخوف في حياتي) أدركنا أن هذا الرجل هو ليس كغيره من الرجال، فغالباً ما يكون الخوف سبباً مهماً من أسباب اللجوء إلى المساومة أو الانسحاب من ساحة الأحداث، أو التلكّؤ في المسيرة الثورية. وغالباً ما يُغلّف هذا الخوف بألف مبرر ومبرر من مبررات المصلحة العامة التي تنتهي فيما بعد إلى توقف المسيرة الثورية.

 

وقد كان الإمام الخميني يعي مخاطر هذا النقص النفسي لا سيّما في الدائرة القيادية... لذا نراه في معظم دروسه ومحاضراته يُركّز عليه كمرضٍ وطرفٍ في معادلةٍ يتشكّل على طرفها الآخر الخوف من الله، فمن يخشى الله لا يخشى غيره.

 

ولعلّ الإمام يُبحرُ بمعاني ودرجات هذه الخشية من الله بالشكل الذي يعطيه صفة خاصة ويبلور لديه قدرةً داخليةً على قول الحق وملاحقته، وقدرة تصميم خارقةً على أداء مسؤوليته كإنسان أولاً، وكعالم دين ومرجع ثانياً. وبالتأكيد أن كل ذلك نابع من قوة روحية داخلية هائلة تجعله ينظر إلى المواجهة لا بموازين القوى المادية الظاهرة فقط، إنما بالموازين المادية والمعنوية الإلهية، وهذه الموازين المعنوية هي الحاسمة النهائية في تقرير شؤون الكون> إن الله لا يُغيّرُ ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم<[1].

 

ثانياً: إن الإمام ومن خلال معظم خطاباته وأقواله كان قد شخّص طبيعة المواجهة مع القوى الكبرى، فهذه القوى لا علاقة لها بالإسلام كدين فردي وعبادات وطقوس ومسائل فقهية تتعلق بالطهارة والسلوك الخاص، إنما هي عملت لقرون عديدة من أجل إزاحة الإسلام السياسي عن الحياة الإسلامية، تارةً بالحروب، وتارة أخرى بطرح بدائل(إسلامية) كالإسلام الشكلي، والإسلام الرسمي، الذي يُذكر في الأعياد والمناسبات، وتارة ثالثة بزرع تيارات فكرية وسياسية في المنطقة تُنظّر لفصل الدين عن السياسة، وتارة رابعة بإثارة النعرات الطائفية والعنصرية وترويج الطروحات القومية، كل ذلك بغية سلب الإسلام مضمونه الكوني والسياسي والإداري والحضاري وإبقائه كامناً في العبادات الفردية.

 

هذا العمل التاريخي الطاغوتي نجح في عزل الإسلام السياسي عن مسرح الحياة، وجرّد هذا الإسلام عن كياناته المركزية التي تمثّلت آخر أشكالها بالدولة العثمانية، كدولة مركزية للمسلمين، وبالتالي مزّق العالم الإسلامي إلى مجموعة أجزاء متناحرة، ووضع داخل كل جزء عدداً لا ينتهي من الأزمات المؤجّلة وربط عجلة اقتصاد هذه الدول والأجزاء بسياسة النهب الدولية المُنظّمة لثروات العالم الإسلامي.. نجح إذاً المخطط الدولي التاريخي حيال الإسلام، ليجد العالم الإسلامي نفسه فيما بعد مشلول الإرادة أمام قوة التغيّرات العالمية التي انتهت لغير صالح الإسلام، فمن يا تُرى قادرٌ على أن يشخّص المواجهة بهذه الخلفية، ويمتلك المقوّمات وما تحتاج إليه مسيرة الإنقاذ من جرأة وعناد ثوري؟

 

ثالثاً: شخّص الإمام هذه الخلفية ووضع على أساسها أولويات أهداف الحركة الثورية، كما سعى في الوقت ذاته إلى تحديد ملامح المنهج الحركي الثوري، والذي يقرأ سيرة الإمام الخميني يكاد لا يرى حديثاً من أحاديثه وقد أسقط عنه هذا المعنى المرتبط بعلاقة الدين بالسياسة.. ويكاد هذا المعنى يشكّل الركيزة الدائمة فيما يقول عن الإسلام، والدين، والثورة، والواقع، والغزو الفكري، والثقافات المستوردة.

 

إذاً سبقُ التشخيص والإصرار على إثارته خلال سبعين عاماً من حياة الإمام الخميني السياسية، هو من الأمور الحيوية والمصيرية التي انفرد بها هذا الرجل العملاق، إذ إنه في النهاية، استطاع أن يعطي الإسلام مضمونه السياسي والحضاري، واستطاع أن يهزم جهود مئات من السنين التي بذلها الأعداء بغية تحقيق هدفهم المشؤوم.

 

لازال الإمام هو ذلك اللغز المحيّر الذي تدور كل دوائر الاستكبار العالمي لاستنطاق أسراره وكوامن قوّته الروحية والنفسية والوجدانية, التي استطاعت أن تتحدى النظام الدولي القديم، وأن تُربك كبار هذا العالم، وأن تعرقل قيام النظام الدولي الجديد.. إذ لازال هذا النظام لم يتشكّل حتى الآن، ويراد له أن يقوم على أنقاض تراث الإمام من الحركة الثورية السياسية للإسلام التي قادها هذا الراحل العظيم بعنفوان قلّ نظيره، وبتحد تحوّل فيما بعد إلى مدرسة ثورية في المقاومة، تجد مصاديقها الثورية في شتّى أرجاء العالم الإسلامي، بل وفي شتّى أرجاء المعمورة الباحثة عن حرية الإنسان المسحوقة بعجلة الظلم الدولي.

 

وعودة إلى ما قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران هي أكثر من ضرورية الآن لبلورة المنهج الثوري للإمام, والوقوف على المحطّات الاستشرافية التي أفرزها الإمام بحسّه السياسي الدقيق.

 

يقول الإمام: (تاريخ إيران ومنذ الحركة الدستورية لم تشهد أعضاء برلمان كهذا، إذ ينسبون الهجمة والوحشية لأبناء أذربيجان المؤمنين المحترمين، نعم إنّ برلماناً يُعدّ من قِبَل الشاه يجب أن لا يُتوقّع من أعضائه غير هذا. اليوم اجتمعت هتافات الجماهير في كافة الأزقة والطرق (الموت للشاه) وسوف لن يستطيع أي شخص أن يثني عزيمة الشعب للإطاحة بالشاه الذي هو بحق سبب كافة الجرائم والانتهاكات اللامشروعة)[2].

 

وفي هذا النص يبدو الإمام وكأنه يتجاوز حدود تقرير حقيقة النصر الإلهي، حتى وإن تحالفت هذه القوى، ومارست ما تستطيع ممارسته من بطشِ وقتلٍ وإرهابٍ وحيل سياسية ماكرة. وبالإضافة إلى البعد الاستشرافي لذلك النص، فإنه يعبّر بوضوح عن بعض ملامح منهج الإمام السياسي، في العمل، والمسيرة الثورية، فالإمام كان يعي من الناحية السياسية أهداف كل الأساليب الداخلية والخارجية التي يُراد لها أن تحول دون تحقيق النصر، ففي محاولات متكررة وعديدة للهروب من استحقاق الهزيمة أمام المدّ الثوري الإسلامي كان النظام الإيراني السابق والبائد قد لجأ إلى تحريك ورقة البرلمان في البت في الأحداث الداخلية؛ بغية إعطاء قراراته طابعاً دستورياً وقانونياً، ولم يألُ الإمام جهداً في كشف ألاعيب النظام، ووضع النقاط على الحروف، وتحليل خطواته ساعةً بساعة ويوماً بيوم.. أي: إن الإمام كان يخوض تفاصيل المعركة السياسية بعقل تحليلي بارع مدرك لأساليب العدو، ويضع من خلال خطاباته وبياناته الثورية، الخطوط العريضة لحركة الثورة وبما يُحبط أساليب الأعداء، ويحول دون تحقيق مؤامراتهم، ويصون الثورة من الانحراف عن خطّها الإسلامي.

 

وعلى صعيد الأساليب العدوة لم يقاوم الإمام لعبة البرلمان، إنما لاحق المكر الشاهنشاهي بكل أشكاله، وبما يُعجّل تحقيق الانتصار الثوري، ففي الوقت الذي سعى فيه نظام الشاه إلى الإطاحة بالثورة عبر سياسة شقّ القوى الثورية، ومدّ يده إلى التفاوض مع بعض القوى المساومة فقد وقف الإمام لهذه المحاولة الجديدة بالمرصاد رافضاً أي شكل من أشكال التفاوض، وعازماً على مواصلة المسيرة الثورية دون أن يقع ضحية الخوف أو الإغراء. فردّ على الدعوات التي انطلقت بضرورة التفاوض مع الشاه فقال الإمام: (إن أمة الإسلام وأمة إيران لم ولن تتفاوض مع هذا الرجل مطلقاً، كل من ينادي بالمفاوضة هو خائن وعميل، وإن ما نادت به بعض الأحزاب فيما يتعلق بتطبيق الدستور ما هو في الحقيقة إلا دعوة لتثبيت أقدام الشاه وهذه هي الخيانة بحد ذاتها، يجب على دعاة تطبيق الدستور أن يعيدوا النظر بقوانينه التي فرضت بحد السلاح والقوة، وكما قال أحد كبار السياسيين: إن الإيرانيين أمام طريقين اثنين: إما الحرية وإما الشاه، ولكن الشعب سوف يختار الحرية, وسوف يطيح بالشاه بعون الله).

 

هذه الـ(لا) الخمينية القوية لمقولات(الإصلاح) ولتفعيل البرلمان ولدعوات التفاوض، ولعشرات الحيل التي لجأ إليها الشاه في أيامه الأخيرة، هي (لا) نابعة من وعي سياسي كبير بما يحاك للثورة من مؤامرات.. إنها (لا) تُعبّر عن شكلين من أشكال العقلية الثورية..

 

وهما: العقلية الثورية المرحلية، والعقلية الثورية الاستراتيجية، ففي الأولى ـ أي المرحلية ـ غالباً ما تنتهي قيادة أي حركة ثورية إلى نكسات على المدى البعيد، حتى وإن حققت امتيازاً مرحلياً ومؤقتاً، وحتى وإن حصلت على بعض المكاسب الشكلية، فهذه الامتيازات والمكاسب سرعان ما يُطاح بها عندما يخف الزخم الثوري وتُفكّك مفاصل الثورة، ويجري استيعاب الفعل الثوري عبر أساليب إغرائية متعددة، وعندها يكون الخصم قد انتصر على أساس من سياسة المكر والخديعة والإطاحة بالأطر، وما أكثر الحركات والحالات الثورية تاريخياً وآنياً التي راحت ضحية هذه السياسة وسقطت في مطبّات الأهداف المرحلية.

 

وفي مقابل هذا المكر السياسي الساعي إلى إسقاط الثورات في مطبّ الأهداف المرحلية مما يغيّر طريقها، ويبّدد زخم الثورة، هنالك العقلية الثورية الاستراتيجية التي تحسب شروط مرحلة الثورة بدقةٍ، وتسعى من خلال ممارستها الثورية إلى تحديد ثوابت وملامح المنهج الثوري الأصيل الذي لا يسقط في فخ المرحلية، إنما هو يستوعبها ويؤسس عليها أهدافه الثورية البعيدة، هكذا مارس الإمام الخميني مسؤولياته الثورية، مارسها في إطار الوعي والتحليل الدقيق للأهداف والطروحات التي يواجه بها الخصم المد الثوري، فهو عندما يرفض التفاوض مع نظام الشاه، فلأن هذا التفاوض جاء في غير مرحلته كشعار، وجاء في غير زمنه بما يعبّر عنه من نوايا، وبالتالي فإن الانجرار وراءه، يعني انجراراً وراء أهداف عدوةٍ صمّمت ورسمت مساره وتسعى إلى تسويقه من أجل الإطاحة بحركة الثورة الإسلامية.

 

إن المرور ولو سريعاً على أحداث ما قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران يساعد كثيراً على إدراك رؤية الإمام، وقدراته التحليلية، وتشخيصاته الفكرية والسياسية، وتلك هي مفردات ما نسعى إليه تسليط الضوء عليه.. مفردات لعنوان الاستشراف الكبير، أو لعنوان الأفق الاستراتيجي الذي يطبع حركة الإمام الثورية في محاور العمل الأساسية أو في التفصيلات.

 

ولنسق هذا النموذج في التشخيص لبعض التيارات اليسارية والشيوعية في إيران والمنطقة، ليتضح كيف أنّ الإمام كشف عما يسمّى بالشيوعية الأميركية أو تكتلات اليسار الأميركي، يقول الإمام: (نرى أن الشاه يحاول تبرئة نفسه مما ارتكب من مجازر وجرائم طيلة سلطنته وهيمنته، ويحمّل مسؤولية كل ذلك للمسؤولين وكبار رجال الدولة ودليل ذلك محاولته تمييز بعض عناصره وأعوانه، إنه يخادع ويراوغ بتغيير وسائل الإجرام وآلاته متغافلاً عن مصدر الإجرام وأساسه).

 

ويضيف الإمام: (فالأمة الواعية سوف لن تُخدع بأساليبه هذه, وسوف لن ننسى المجرم الأول, فتارة يصف لنا معارضيه بأنهم أشخاص يريدون تقسيم البلاد أو تسليط الاستعمار عليها.. وتارة يهدّد الشعب بخطر الشيوعية).

 

ويحاول الإمام أن يوضّح ماهية الشيوعية الإيرانية بالقول: (ولعلّ البعض من السذّج خُدعوا بأحابيله، وتناسوا أن الاشتراكية والشيوعية ما وُجدت في إيران إلا عن طريق الأميركيين أنفسهم، وكما أوجدت بريطانيا حزب تودة الشيوعي، وقد زعم الخبراء والمتخصصون أن جلّ المتحمّسين للفكر الشيوعي في المنطقة هم من زعماء أميركا، أولئك يسعون لمحاربة النهضات الوطنية والدينية عبر الاشتراكية، تلك التي شهدنا تجربتها تاريخياً في السنين الأخيرة والشيوعية في الواقع خير شاهد على ذلك)[3].. هكذا كان الإمام الخميني يفصل ماهية التيارات الفكرية وحقيقتها عن الإسم والعنوان؛ ليكشف بذلك عن ألاعيب القوى الكبرى وأساليبها في إحباط الشعوب.

 

 

 

الجذر المعتقدي للإستشراف الخميني

 

لقد كان الإمام من خلال خطابه السياسي غالباً ما يشير إلى وراثة المستضعفين للأرض، وغالباً أيضاً ما يتكثف هذا المعنى في الخطاب عبر أحاديثه عن الإمام المهدي المنتظر(عج) كمخلّص للبشرية من ظلم الطواغيت، ومن أكلة العالم، ومفسديه(فالمستضعفون هم ورّاث هذه الأرض)، إلا أنّ هذه النهاية الحتمية الربّانية للعالم، يجب أن تؤسّس على مراحل من العمل والتمهيد، وإنّ المسافة الزمنية للوصول إليها لا يجب أن تخضع للإنتظار السلبي، ويتعطّل فيها دور الإنسان المسلم في السعي إلى تحكيم شرع الله، وإقامة النظام الإلهي، لا بل إنّ هذا النظام ضرورة لتلك النهاية الحتمية.

 

ويقول الإمام الخميني: (كم هو مبارك ولادة شخصية كبيرة حيث أنه يقيم العدل الذي بُعث الأنبياء من أجل إقامته، وكم هو مبارك ولادة رجل عظيم سوف يطهّر الأرض من شرّ الظالمين والدجّالين, وسوف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً, وسوف يقضي على مستكبري العالم ويجعل المستضعفين ورّاث الأرض).

 

(وكم سعيد ومبارك ذلك اليوم الذي يتطهّر العالم فيه من الدجل والفتن, وتبسط حكومة العدل الإلهي في كل أرجاء المعمورة, ويسود البشرية قانون العدل الإسلامي)[4].

 

هذا الطموح بتحقيق العدالة الإلهية جعل الشيعة كما يقول د.خوري[5] من الرافضين والمعارضين لمبدأ قيام غير دولة الإمام العادل(عج)، ولكن د. الفار[6] يعتبر أن هذا الطموح لتحقيق العدالة والذي هو جزء من الإيمان والتقوى عند الإمامية الجعفرية، كما يضيف: يمكن أن يتحقق جزئياً في غياب الإمام المنتظر(بواسطة أولئك الذين يتلهّفون إلى عودته ويرغبون بالتالي في تمهيد الطريق من خلال استشفاف خصائص ولايته).

 

إنّ نقطة جوهرية تبرز هنا، وهي تلك المتعلقة بزمن انتظار وراثة المستضعفين للأرض على يد الإمام الحجة المنتظر(عج)، فهذا الزمن كما قلنا، لا يسقط دور الأمة الإسلامية في إقامة الحكم الإسلامي والتمهيد لذلك الظهور.

 

إنّ الإمام الخميني ومن خلال خطابه السياسي فرز بشكل دقيق الأبعاد السلبية لبعض المفاهيم العقائدية والدينية التي جاءت من خلال التأويلات الخاطئة، والفهم الناقص، وتلك التي تحتاح إلى تأشير مرحلي، أو عبر التأويل النفعي للمفهوم الذي يجرّده من معناه الحقيقي, إذ إنّ مفهوم(التقية) مثلاً يحتاج إلى تأشير مرحلي عندما يرتبط بمسيرة الأمة.

 

ومفهوم الصبر يجب أن يأخذ بعده الديني, لا من خلال الصبر على الظلم وبما يسحق إرادة وعقيدة الإنسان، دون أن يبادر إلى فعل شيء، وبالتالي فإنه ينتهي إلى حالة استسلام مطلقة، فالصبر يأخذ المعنى الرسالي والديني كمفهوم عندما يتلازم مع الحق، وعندما يجسّد المعنى الإيجابي لخلافة الإنسان على هذه الأرض.

 

وكذلك الحال بالنسبة لمفهوم الزهد، كأحد المفاهيم الإسلامية، إذ من الممكن أن يأخذ بعداً سلبياً، أو بعداً إيجابياً، فكما يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه(الإسلام يقود الحياة): (المسلمون الذين يمارسون إعمار الأرض بوصفها جزءاً من السماء التي يتطلّعون إليها, ويساهمون في تنمية الثروة باعتبارهم خلفاء عليها أبعد ما يكونون عن الزهد السلبي الذي يقعد بالإنسان عن دوره في الخلافة، وأقرب ما يكونون إلى الزهد الإيجابي الذي يجعل منهم سادة للدنيا لا عبيداً لها، ويحضّهم ضد التحوّل إلى طواغيت لاستغلال الآخرين)[7].

 

إنّ هذه السلبية والايجابية تمثلّت في مسألة ظهور الإمام المهدي المنتظر (عج) وبرز وجود ولو أنه محدود يقول بوجوبية قعود المسلمين حتى زمن الظهور، ولقد مارس هذا الوجود التفاعل مع هذه المسألة بشكل سلبي، يُبرّر الهروب من القيام بواجب الإنسان ودوره في هذه الحياة كخليفة لله فيها، ولاشك أنّ الإمام الخميني بثورته ودوره وخطابه السياسي أعاد النقاء للمفاهيم الإسلامية، وبلورها بشكلها الإيجابي، فإصلاح العالَم وقطع رؤوس الفساد الدولي حتى مع ظهور المصلح الأعظم، لا يأتي دفعة واحدة، ويقول الإمام الخميني في وصيّته: (وفي ذلك اليوم الذي يظهر فيه المصلح العام إن شاء الله تعالى لا تظنّوا أنّ معجزة تقع ويتمّ إصلاح العالم في يوم واحد.. بل يتمّ عزل الظالمين والقضاء عليهم بالجهود والتضحيات، وإذا كان رأيكم مثل بعض العوام المنحرفين هو أنه من أجل ظهور ذلك العظيم يجب العمل على تحقيق الكفر والظلم حتى يملأ الظلم العالم وتتحقق علامات الظهور، فإنا لله وإنا إليه راجعون)[8].

 

نقول: إنّ تجربة الإمام الثورية، وخطابه الثوري مثلما بلورا الفهم الصحيح للمفاهيم الإسلامية, فهما حددا أيضاً المسار الصحيح لمسألة الظهور، وهذا الجذر العقيدي المتمثّل بالظهور كحتمية ربّانية إذا ما توفّر الإيمان به بصفته اليقنية، كتلك التي تجسّدت لدى الإمام سيتحوّل إلى مصدر استلهام سياسي كبير ليس فقط باتجاه عدم الخوف من القوى الكبرى، وإنما بقراءة الأفق السياسي الإنساني لا على مستوى التفصيلات، وإنما على مستوى الكليات، فوفق هذا اليقين تصبح قوة أمريكا واهية كبيت العنكبوت أمام إرادة الله، ويصبح سقوطها أمراً حتمياً.

 

إنّ بالمنطق التاريخي الذي يشير إلى زوال إمبراطوريات ودول طاغوتية عظمى، وإن بالمنطلق الربّاني الحتمي الذي سينتهي في ظله الأرض إلى سيادة المستضعفين.

 

كما أنّ منطق القرآن يشير إلى التدخّل الربّاني في موازين القوى الأرضية والإرادة البشرية إذا ما سعت إلى تحقيق إرادة الله> إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم<[9].

 

ولطالما أشار الإمام في خطابه الثوري إلى حقيقة هذا التدخّل الإلهي بالتسديد والتوفيق للمسيرة الثورية؛ لأنها كانت مسيرة نحو الله سبحانه وتعالى.

 

من خلال ما تقدم، يتّضح الأساس العريض لرؤى الإمام الخميني السياسية للكون والقوى الكبرى، ومن ثم تتحول هذه القوى إلى قوى واهية أمام إرادة الشعوب إذا ما هي تحركت باتجاه تحطيمها، والإمام يرى بناءً على ذلك وبناءً على المعطيات السياسية أن (الاستكبار العالمي وقوّته السياسية مشرفة على الإنهيار).

 

ولقد إنهار الاتحاد السوفيتي، إلا أنّ أميركا ما زالت تنفرد بالعالم، وهذا الانفراد لا يعني إلا ظاهرة مؤقتة، وربما أنّ رأي الإمام هذا تعززه جملة من الوقائع التي تشير إلى الأزمة الكامنة في العالم الرأسمالي، ولاسيما في أميركا، والتي تسير بصعود ملفت للنظر.. سواء بأبعاد الأزمة الداخلية الاجتماعية، أو الأبعاد الخارجية ذات العلاقة بالمّد الثوري, العالمي، وذات العلاقة بالإدارة الكونية، ومحورية أمريكا فيها وبروز التوترات إن في الدائرة الأمريكية ـ الإسلامية، أو الدائرة الأمريكية ـ الأوروبية أو الدائرة الأمريكية ـ اليابانية في معناها التنافسي التجاري، وعلاقة كل ذلك بالنظام العالمي الذي لم يستقر بعد على شكله الجديد منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وحتى الآن، وعلاقته أيضاً بمسالة الأمن العالمي، وأكذوبة السلام العالمي التي يتعاطاها التنظير الأمريكي على أساس من إبادة المد الثوري بينما يتعاطاها الخطاب الخميني على أساس العلاقات المتوازنة غير الخاضعة لمنطق الظلم الطاغوتي.

 

(فالإمام الخميني يرى أنّ محاولات السلام العالمي استهلاكية طالما ظلّت القوى الاستكبارية متحكّمة في مصير العالم، وأن أي قانون لا يمكن أن يسمو لإنهاء حالة الصراع، ما دامت هذه القوى موجودة.

 

إنها قائمة على أساس العدوان.

 

وبالتالي فإن الطروحات المقدّمة بشأن السلام والاستقرار في العالم، إنما صادرة على أساس النظم القائمة، حديث غير واقعي على الإطلاق)[10].

 

ووفق رؤية الإمام فإن السلام الحقيقي لا يمكن أن يتحقق في ظل نوازع الاستغلال التي تتحكم بالقوى الدولية الكبرى، ولا يمكن أن يتحقق هذا السلام إلا في ظل انتصار عالم المستضعفين، وربط الإنسانية بإنتمائها العقيدي الربّاني، أما تنظيرات السلام القائمة، فهي قد تتجاوز المعنى الاستهلاكي إلى معنى تقنين النهب الدولي لشعوب العالم, بما يقتضيه هذا النهب من نظريات وعناوين (إنّ الإمام الخميني يرفض إذاً المشاريع القائلة: بأن مسؤولية السلام أو الاستقرار الدولي يجب أنّ تضطلع بها القوى غير العقائدية، ومنهم كيسنجر الذي يرى أن الاستقرار لا يمكن أن يستمر إلا بزعامة الولايات المتحدة، حيث تؤهّلها إلى ذلك المبادئ الأخلاقية التي تعتنقها, علاوة على أنها دولة غير عقائدية.

 

ويرى أنّ الإتجاهات العقائدية تخلق المواقف الثورية كما يسميّها التي لا يمكن حلّها بالطرق الجدلية، أي المفاوضات لقبول الحلول الوسط، بل يتحتّم لمواجهتها استخدام القوة، كما أنّ الاتجاهات العقائدية لا تحقق للأطراف كافة مصالحهم الناقصة)[11].

 

مصاديق استشرافية

 

الإمام الخميني رحل عنّا جسداً وبقي فكراً ثورياً في إيران وفي العالم الإسلامي، وفي العالم بأسره، بقي منهجه الثوري يتحرك في ساحة الحدث السياسي العالمي, وينخر في المعادلات والقوانين السياسية التي أريد لها أن تخلق عالماً إسلامياً منهوباً منهوشاً.

 

بقي الإمام يعمل في الساحة من خلال الثروة الفكرية والسياسية الهائلة التي تركها، دولةً وخطاباً وتأسيساً للوعي الثوري السليم والمستقيم والبعيد عن الانحراف الذي سُرّب إلى الأفكار الإسلامية في عقود عديدة من الزمن.

 

ولقد قلنا سابقاً: أن نبدأ مع الإمام, يعني أن نبدأ في مرحلته السياسية منذ بدايتها، وتلك مهمةٌ شاقّة.. لذا نحن نريد أن نقف على جانب من قدرات الإمام السياسية التي بلورتها تلك التجربة الهائلة له، وهو الجانب ألاستشرافي والسياسي.

 

وفي مجال الاستشراف والتوقّع, والسبق التحليلي الذي تميّزت به عقلية الإمام الراحل يمكن أن نضيع إذا ما واكبنا مرحلة الإمام كلها؛ ولذا كان لابد لنا أن نقف على بعض المحطّات الإستشرافية الإستباقية ـ إذا صحّ التعبير ـ في حياته السياسية التي تداخلت مع مسيرة الثورة الإسلامية في إيران قبل وصولها إلى مراحلها النهائية، أي: قبل وصولها إلى لحظة الانتصار الكبرى.

 

ويوم بُذرت النواة التأسيسية الأولى لكيان المسلمين من جديد, والتي تمثّلت بالجمهورية الإسلامية, ويوم بدأت مرحلة جديدة من مراحل الصراع السياسي الإسلامي مع القوى الكبرى. ومن ثم صراع القوى الكبرى مع هذا العالم المستهدف بألف مؤامرة ومؤامرة, والأسير لألف قيد وقيد، والغارق في بحر متلاطم من المشاكل والعقد والفتن والأزمات التي أراد لها الكبار أن تُشلّه وتشغله عن أداء دوره السياسي الحضاري.

 

يمكن القول: إنّ الإمام وبعد أن قطع شوطاً مهمّاً من الجهاد والحركة السياسية والثورية المقاومة للنظام الطاغوتي البائد, والقوى الكبرى ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية التي تدعمه، بدأ يرسم ملامح أفكار الحركة الإسلامية المستقبلية، وبدأ يُصرّح علناً بصعودها السياسي، ومن ثم قدرتها الأكيدة على تحقيق النصر على شاه إيران.. لقد نحت أحاديث الإمام منحى الجزم بأن النصر قادم، وبأن الطاغوت سينهزم، ففي رسالة بعث بها من منفاه في العراق كان الإمام يقول: (إنّ لي وطيد الأمل بهذه الصحوة التي عمّت البلدان الإسلامية وبخاصة إيران، وبهذا النفور العام من أنظمة الجور والقمع والإرهاب والاستعمار، فإن هذه الصحوة وهي ليست قوة مؤقتة، بل إنها ستستمر للقضاء على أنظمة العمالة، وحينها سينتقم الله من القوم الظالمين)[12].

 

إذاً وقبل أن يجرّنا الحديث إلى نصوص إستشرافية أخرى قالها الإمام في انتصار الثورة الإسلامية في إيران، لابدّ من المرور ولو سريعاً على ما يختزنه النص المذكور من إستشرافات إسلامية عامة، فالإمام يقرّر حقيقة ما زالت لم تحقق بعد بشكل كامل، بل هي تحققت في نقطة واحدة من نقاط العالم الإسلامي، وهي إيران التي شهدت الانتصار الثوري، فيما أن نص الإمام المذكور يقول: بأن أنظمة الطغيان والظلم والجور ستسقط لا محالة.

 

هذا الاستنتاج لم يُصرّح به الإمام عفواً وتكهّناً؛ إنما هو قراءة مسبقة لأفق التحوّلات والتغيّرات التي ستطرأ على العالم, وهو استنتاج يقول: بسقوط أنظمة الجور, بناءً على واقع الصحوة الإسلامية، وإذا كانت هذه القراءة المبكرة للأفق السياسي قد تحققت في إيران بشكل كلي فهي أيضاً تحققت في نقاط عديدة من العالم الإسلامي كصحوة صاعدة، ووعي ثوري متواصل.

 

وفي نص آخر يقرّر الإمام الخميني حقيقة انتصار الثورة الإسلامية في إيران، ففي خطاب له قبل الانتصار ـ وردّاً على مجزرة قامت بها قوات الأمن الشاهنشانية في مدينة قم المقدسة ـ كان يقول: (إنني حائر لمن أنعي هذه الفاجعة، هل أعزّي الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) والإمام المنتظر(عجّل الله قدومه)، أم أعزّي الأمة الإسلامية وكافة المسلمين والمستضعفين في العالم، أم أعزّي شعب إيران المظلوم الذي فًجع بهذا الحادث، أم الحوزات والعلماء، أم أبناء قم الغيارى... علينا أن نشكر شعب إيران؛ لأنه شعبٌ واع، وصامد أمام الظلم، مع كل ما يواجه من قتل، وتعذيب واضطهاد، ومما لاشك فيه أنّ جهاد وصمود هذا الشعب سيُتوّج بالنصر والنجاح إن شاء الله)[13].

 

إنّ عبارة (مما لا شك فيه) لهي حكم سياسي قاطع يطلقه الإمام حول حتمية النصر على الشاه؛ لأن الإمام كان يرى أنّ شروط النصر قد اكتملت في المسيرة الثورية، وفي حركة الشعب الإيراني وتضحياته.

 

إنّ الإمام وهو يطلق إشارات النصر ويقرر حقيقة انهزام الطاغوت، لا يفعل ذلك إطلاقاً لضخّ الشارع الإيراني آنذاك بقوة مقاومة معنوية مطلوبة في الممارسة الثورية.

 

فالإمام أثبت من خلال مسيرته السياسية الطويلة أنه أكبر من التقريرات الجاهزة التي قد تنعكس إحباطاً على الحركة الثورية بشكل عام... بل هو يطلق الإشارات انطلاقاً من وعي خلفيات الصراع الاستكباري الإسلامي، ومن مجمل التحوّلات التوعوية التي أفرزتها المراحل الثورية السابقة، وبالتالي فهو رجل عايش محن وتجارب سبعين عاماً من العمل السياسي.

 

وفي هذه الأعوام شهد العالم تحوّلات وكوارث، واختزن كماً هائلاً من الأفكار والسياسات والتنظيرات القومية والعرقية والمذهبية، كما شهد تلك الأعوام إنهيار أنظمة سياسية إقليمية ودولية وبروز أنظمة جديدة.

 

وفي وقت مبكّر وقبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران بشهور عديدة كان الإمام يقول: (أبشّر الشعب الإيراني بأنّ النظام يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأنّ هذه المجازر، ما هي إلا دليل على عجزه وخوفه وهلعه من أمتنا المجيدة، الأمة التي خرجت نساؤها لتُعلن معارضتها للنظام الجائر، الأمة التي تفتخر نساؤها بتقديم أبنائهم شهداء في طريق الثورة، الأمة التي أرهبت الشاه وكارتر والبيت الأبيض وأخافتهم بصمود أبنائها الأبطال، تلك أمة عمادها القرآن، ودستورها القرآن، وثورتها من أجل إحقاق الحق ونشر العدالة الإلهية ورفع وإنهاء عصر الظلم والجور).

 

لقد بقي الإمام مصرّاً على أنّ الأمة قد كسبت المعركة مع شاه إيران، على الرغم من أنّ الشاه وحلفاءه الأمريكان كانوا يستخفّون آنذاك بما يقول الإمام من مقولات النصر؛ لأنهم كانوا يعتقدون بأن أوراقهم وألاعيبهم السياسية لم تنفد بعد إلى الدرجة التي تجعل الإمام يبشّر بالنصر في ذلك الوقت المبكّر، إلا أنّ الإمام كان يقولها بملء الفم, وبكامل الثقة: إنّ الأمة ستنتصر.

 

وإذا كان هذا القطع يُدلّل على شيء، فهو يُدلّل بالتأكيد على الأفق الاستراتيجي الذي كان يتّسم به فكر الإمام، فبالتأكيد إنه لا يقرأ المعادلات السياسية كما يقرأون.. هم يقرؤونها على أساس موازين القوى، وبناءً على فعل القوة العسكرية والآلة الحربية، وهو يقرؤها على ضوء فلسفة الدم الإلهية، ومنطق الإستشهاد الربّاني، والوعي الثوري الذي لا يقهر بالقوة، والكرامة التي لا يمكن قهرها إذا ما تعرّضت إلى مستوى معيّن من مستويات الخدش والإهانة والإذلال.

 

هم يقرؤونها على ضوء قدراتهم الثقافية في اختراق الثورة، وبثّ سياسة التفريق بين قاداتها المرجعية، وهو يقرؤها في ضوء فلسفة التوفيق الربّاني والمكر الإلهي>ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين<[14].. لقد قرأها الإمام وبشّر بها، وتحققت البشرى في ولادة الإسلام السياسي من جديد، بولادة الجمهورية الإسلامية.

 

والمصداق الإستشرافي الآخر يتعلّق بالاتحاد السوفييتي السابق، والفكرة الشيوعية التي حكمت مساحة كبيرة من العالم طوال سبعة عقود زمنية، والتصقت بها مفردات وشعارات وعناوين لا علاقة لها بها، كالتحرّر والعدالة وحقوق الفقراء ومواجهة الإمبريالية، ومقاومة الاستعمار، إذ عبر هذه المفردات والشعارات والعناوين استطاع روّاد هذه الفكرة أن يشحنوها عبر الأدمغة إلى عالم الشرق، كمنقذ لهم من عالمهم المرير، المحكوم إلى هيمنة الغرب الرأسمالي.. وعلى هذا الأساس وبحكم الفراغ الفكري والسياسي الكبير الذي كان يسود المنطقة الإسلامية، وجدت هذه الفكرة مخدوعين ببريقها، فتعشّشت على شكل أحزاب وتكتلات ذات أسماء يسارية أو شيوعية أو اشتراكية, ولقد شكّل جيش المناصرين مع مركزهم السوفييتي المنهار جبهة الشرق مقابل جبهة الغرب، وانقسم العالم على ضوئها إلى أحلاف وتكتلات اقتصادية وسياسية وعقائدية.

 

ولم يكن روّاد الشيوعية الأوائل وحتى المتأخّرون منهم يعرفون أنّ نهاية القرن العشرين تخبئ لهم رجلاً كالإمام الخميني, سيقود المسيرة الإسلامية, وجزءاً من المسيرة الإنسانية إلى فطرتها النقيضة مع الفكرة الشيوعية، ولعل الإمام كان أول من أطلق كلمة موت الشيوعية؛ لأنه:

 

1ـ كان أكثر استيعاباً من غيره لواقع هذه الفكرة المنحرفة, ولقدر التلفيقات الفكرية والفلسفية التي انطوت عليها.

 

2ـ عايش مرحلتها السياسية، وراقب الظلم ومصادرة الحريات وتقييد الإنسان التي سادت الأنظمة الشيوعية.

 

3ـ كان مدركاً بأن الشيوعية نمت في مرحلة من الفراغ الفكري العالمي، وفي مرحلة من التحوّلات التي جعلت شعوباً عديدة ترزح تحت التخلّف والفقر المدقع.

 

4ـ وكان يعرف ـ وهذا هو الأهم ـ بأن البديل الإسلامي الذي عمل على تأسيسه قد وصل درجة من النضج الذي بإمكانه أن يفضح ولو بشكل ضمني العديد من الأفكار، وعلى رأسها الفكرة الشيوعية المادية الإلحادية.

 

انطلاقاً من هذه النقاط جاءت رسالة الإمام الخميني التاريخية إلى الرئيس السوفيتي السابق ميخائيل غورباتشوف[15]، وما انطوت عليه هذه الرسالة من جرأة أولاً، واستعداد ضمني للحوار والاطلاع على واقع الفكر الإسلامي ثانياً، ودعوة جريئة إلى عدم الإنبهار بالواقع الرأسمالي والوقوع في فخّه، ودعوة أكثر جرأة إلى الإسلام كفكر مخلّص للإنسانية من التخبّط والضياع الذي يلُفها في ظل الأفكار الوجودية، وبالتأكيد إنّ هذه الرسالة لوحدها تحتاج إلى المزيد من الإثراء وتسليط الأضواء، ولكن نحاول هنا أن نكتفي بنص من نصوصها التقريرية الجازمة بسقوط ونهاية الشيوعية العالمية، وبشكل ربما أثار حساسية بعض المحللين السياسيين والخبراء والمفكرين حول ما أسماه البعض باستعجال الإمام الخميني في طرح مضامين هذه الرسالة التاريخية، فلم يكن أحد يعتقد بأن نهاية الشيوعية ستكون قريبة إلى هذا الزمن الذي كان بين تاريخ الرسالة، وتاريخ انهيار الكيانية السوفيتية، ومن ثم المعسكر الاشتراكي برمّته.

 

يقول الإمام الخميني في رسالته الموجّهة إلى رئيس الاتحاد السوفيتي السابق ميخائيل غورباتشوف ما يلي: (من الواضح لكل شخص أنه يجب البحث عن الشيوعية من الآن فصاعداً في متاحف التاريخ السياسي العالمي؛ لأنها لم تكن تلبية لأي حاجة من الحاجات الواقعية للإنسان؛ ولأنها مذهب ماديّ، ولا يمكن للمادية أن تنقذ البشرية من أزمة عدم الاعتقاد بالمعنويات، هذه الأزمة التي تعدّ أهم أساس لمعاناة المجتمعات البشرية في الشرق والغرب.

 

من الممكن أن لا تكونوا قد أدرتم ظهركم في بعض الجوانب للماركسية، ولعلكم ستحاولون من خلال تقريراتكم إبداء اعتقادكم الكامل بهذا المذهب، ولكنكم تعلمون أنّ ما هو ثابت ليس بهذا).

 

ويضيف الإمام الخميني القول في رسالته: (لقد أصبح العالم اليوم لا يرى شيئاً يسمّى الشيوعية، ولكننا نريد منكم وبشكل جاد أن لا تقعوا في حبال وقيود الغرب والشيطان والكيد، وأنتم تحطّمون جدران التحليلات الماركسية، إني لأرجو أن تفوزوا بالفخر الحقيقي لهذا الأمر وهو أن تزيحوا من وجه التاريخ وبلادكم آخر الإعلانات المتهرئة لسبعين عاماً من إعوجاج عالم الشيوعية).

 

لم يمض وقت طويل حتى تحققت استشرافات الإمام الخميني المتعلّقة بالشيوعية[16]، والاتحاد السوفييتي القديم، إذ سرعان ما استفحلت الأزمة الداخلية، وارتفعت مؤشرات التدهور الاقتصادي، وتصاعدت حدّة الأوضاع السياسية باتجاه الفوضى الداخلية, ومن ثم إنهار العملاق الدولي الأحمر الذي حكم عدّة أمم وشعوب بقوة الحديد والنار، ولم يقف الأمر عند انهيار الكيان المركزي للشيوعية بل إنّ المعسكر الاشتراكي برمّته تداعى واندثر، وسادت مرحلة قاسية من الحروب الأهلية مازالت قائمة حتى الآن، وفي خضمّ هذه التحوّلات المصيرية في حياة العالم تنسّمت بعض الجمهوريات الإسلامية التي كانت تحت هيمنة الاتحاد السوفييتي البائد نسيم الإسلام، لتقرر من خلاله مصيرها، ولو كان (غورباتشوف) وقادة الشيوعية قد أخذوا بنصائح الإمام الخميني منذ وقت مبكّر لربما لم تنته الأمور إلى ما انتهت إليه الآن من الحروب الداخلية الدموية، والتي كانت آخرها حرب الشيشان التي أبدى فيها الرئيس بوريس يلتسين وحشية فائقة ضد المسلمين.

 

لقد مارس يلتسين كل هذه الوحشية في الشيشان وارتكب مجازر دموية بحق الجموع المدنية المسلمة التي هتفت بهتاف (الله أكبر) إرضاءً للغرب، وتملّقاً له, ومن أجل كسب ودّه السياسي، بخلاف نصيحة الإمام الخميني لغورباتشوف، حينما حذّره من الإرتماء في الحضن الغربي وبالأخص الأميركي، أما ما يخص الجمهوريات الإسلامية فعلى الرغم من بقايا الشيوعية التي تحاول أن تقف بوجه الخيار الإسلامي إلا أنّ حركة الوعي الإسلامي راحت تتصاعد بشكل ملحوظ في هذه الجمهوريات، لتحقق بهذا الصعود سرور الإمام الراحل وهو يعيش حياته الأبدية، ولتكشف عن عظمة هذا الراحل من وحل الدنيا الفانية، ولتؤكّد رؤاه الاستراتيجية التي أذهلت الخبراء الدوليين إزاء المعسكر الشرقي الذي انتهى إلى ما انتهى إليه من واقع تفكيكي، لم يمض على حصوله كما أشرنا سوى فاصل زمني قصير عن زمن الكلمة التي أطلقها الإمام قائلاً: (إنّ الشيوعية أصبحت في متاحف التاريخ السياسي).

 

وحتى الآن يرى العديد من الخبراء والمحللين أنّ نبوءة الإمام الخميني حول الشيوعية والمعسكر الشرقي لم تتحقق بأكملها، بل حصل جزء منها، إذ إنّ لجوء روسيا الآن إلى الغرب لم ولن يحلّ الأزمة القائمة، بل يبدو الأمر بخلاف ذلك تماماً حيث تتكرّس الأزمة يوماً بعد آخر بجميع مظاهرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتعاني المجتمعات الشرقية الآن من الوباء العرقي أكثر من أي وقت، ويبدو الركب الشرقي سائراً نحو مجهول مخيف, فيما أنّ الإمام الخميني يقرأ في طيّات هذا المجهول صعود الإسلام في نهاية المطاف في الجمهوريات السوفيتية، وتلك حقيقة إذا ما تحصّل في دائرتها الخاصة، فهي ستتجسّد في دائرة التحوّل الإسلامي الكلّي، والوعي الإسلامي الكلّي.

 

فهذا الاستباق والاستشراف السياسي الذي تحقق في جزء منه، والذي يتعلق الجزء الآخر منه في المستقبل ورؤية الإمام السياسية إزاءه، يأخذ أهميته من أهمية الإمام، كمفكر وكفيلسوف، وبارع سياسي، هزم أكبر قوة طاغوتية إقليمية في المنطقة والمتمثلة في نظام الشاه، وأسس أكبر صرح إسلامي بالرغم من الإرادة الدولية التي قاومت هذا التأسيس.

 

إنّ السؤال الكبير ينطلق من ماهيّة هذا الرجل الذي تحدّى العالم بأسره، وقاوم إحباط مئات السنين التي أريد للمسلمين في ظلّها أن يفقدوا الثقة بأنفسهم, وينهاروا أمام صرح الحضارة الرأسمالية، وأمام القوى الدولية التي تحكّمت بمصير العالم الإسلامي.

 

السؤال ينطلق من هنا... من ماهيّة هذا الرجل, وطبيعته الإيمانية والسلوكية، فأية قوة فكرية كان يختزنها الإمام, بحيث خلقت في داخله هذه الثقة الهائلة التي تحدّى بها كل المدارس والتيارات والمسالك الفكرية التي تسود العالم؟ وأية قوة روحية ووجدانية جعلت أقدامه النحيفة تقف صامدة في مسيرة سياسية طولها سبعون عاماً من الاستهداف الداخلي والخارجي لدوره في الأمة؟

 

إنّ الحديث عن الإمام صعب متشعّب؛ لأنه يحتاج أولاً: وعي مرحلة الإمام بتفاصيلها... بحوادثها ورموزها وأنظمتها السياسية، وواقع العالم الإسلامي خلال هذه الفترة الزمنية، فهو واقعٌ إنهياري أكثر منه واقعاً للصحوة والوعي، والعمل الإسلامي، وهو واقعٌ تراجعي أكثر منه واقعاً للبناء وبعث الأمل.. وهو واقعٌ يسير باتجاه تفكيك العالم الإسلامي ونهبه وتمزيقه وتكالب القوى الدولية المستغلة له أكثر من كونه واقعاً ينسجم فعلاً مع شعاراته الشكلية المرفوعة والمنادية بالعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان والرفاهية الاقتصادية.. وأخيراً فهو واقع بائس من الداخل والخارج, ولا يساعد على إعطاء الثقة بالنفس لأي رمزٍ سياسي وفكري في الأمة، كما أنه لا يملك ولا يعطي مقوّمات الحركة السياسية الناجحة فضلاً عن الثورة بشرطها وشروطها.

 

مرّة أخرى نقول: كيف يقاوم مثل هذا الواقع؟ وأية قوة قادرة على الخوض في غماره؟ وأي سفينة يطمح ربّانها إلى النجاة بها في ظل أمواجه المتلاطمة؟

 

أسئلة تبدأ ولا تنتهي، واستفهامات تتوالى بلا انقطاع، وحيرة ترتسم في رؤية أي مراقب لتلك المرحلة.. مرة أخرى نقول: أية قوة روحية كان الإمام يختزنها, بحيث أتاحت له قيادة المسيرة السياسية الإسلامية ضد التيار، وأعطته الثقة الكبيرة في بدء رحلة تأسيس الوعي الثوري؟ أية مبادئ خلقت داخل الإمام ذلك العناد الثوري الهائل للوقوف بوجه العالم، كل العالم الذي استسلم والى الأبد بمغادرة الإسلام السياسي عن مسرح الحياة.. ولم يبق إلا العمل على مغادرته كإسم وعنوان وشعائر وطقوس عبادية فردية؟ نعم, هكذا كانت تقتضي الخطّة الدولية والإرادة الدولية.

 

من هنا يبدأ الذهول، ومن هنا تبدأ الحيرة في استيعاب الإمام كقائد ومفكّر ورمز ومؤسس وصاحب مدرسة ثورية، ومنهج ثوري، وهذا الذهول هو ذهول بكل معنى الكلمة، إنه ذهول الوصف وحيرة الاستيعاب، وصعوبة التصوّر، لا لدى الإنسان العادي، بل لدى الإنسان الواعي والحركي، والقائد الثوري، فليس من المبالغة القول: إنّ سبعين أو ثمانين سنة من المسيرة الثورية للإمام لم تكشف عما قام به، ولم تكشف عن كل ما أسسه، وعلينا إذاً قراءة هذه المرحلة على ضوء رؤى هذا القائد وأفكاره، لا بل علينا قراءة الأفق المستقبلي على ضوء فعل الإمام ودور الإمام, وكذلك استشراف الإمام السياسي ذاته لمرحلتنا هذه ولمراحل قادمة لم تأت بعد.

 

وفي هذا الصدد يُعبّر أحد الكتاب بالقول:

 

(كنّا وما زلنا نرى أنّ الإمام الخميني ومضة في ليل اشتدّ حلكة، وهذه الومضة لها وهج أخّاذ لا تضبطه حسابات الأجهزة، كما لا تستطيع التحكّم بحرارته موازين القوى، وهذا سر قوّته وعظمته، فلم ننظر إليه أبداً على أنه قائد إيراني، ولا اقتنعنا فقط بأنه قائد إسلامي وحسب، وإنما هو من الرجال الذين تنطبق عليهم صفات القائد التاريخي، الذي يترك بصماته على الحياة، ويستمر تأثيره بعد رحيله بالقدر الذي كان عليه أثناء حياته, فقراره ساري المفعول إلى أمد طويل غير محدود بزمن)[17].

 

إذاً هي حيرة الاستعياب لا يقع بها الإنسان العادي، إنما هي ملازمة لأقرب الناس من الإمام، لطلاّبه وروّاد مدرسته الفكرية والسياسية، وها هو آية الله السيد علي الخامنئي, وهو يتحدّث عن الإمام لا يستطيع الإفلات من آثارها، فهو يقول: (لقد قيل الكثير حول إمامنا العزيز، لكنني أعتقد أنّ من المبكّر الآن أن نعرف نحن ويعرف المحللون العالميون إمامنا الجليل الفذ بشكل دقيق وكامل، فهو شخصية عظيمة يندر وجود مثيل لها بعد الأنبياء والأولياء كثيراً، إذ تظهر مثل هذه الشخصيات في مراحل معيّنة من التاريخ فتقوم بإنجاز أعمال كبرى ومنجزات ضخمة، وتضيء في السماء كالبرق فيمتد نورها إلى كل مكان في الفضاء ثم تمضي, لقد قام إمامنا الجليل الفذ بأعمال كبرى تتناسب ضخامتها مع عظمة الإمام نفسه)[18].

 

هكذا إذاً يصف آية الله السيد علي الخامنئي الأمر بالقول: إنه من المبكّر معرفة الإمام له وللمحللين العالميين.

 

إنّ هذا الكلام في وصف الإمام عندما ينطلق من أي إنسان، فهو ليس كما يقال على لسان السيد الخامنئي، ليس لأنه رجل الثورة الإسلامية الثاني بعد الإمام، ولا لأنه أكثر الثوريين استيعاباً لمنهج الإمام الثوري فحسب، بل لأنه أيضاً رفيق الإمام في مسيرته الثورية قبل وبعد الانتصار، وكلمة السر التي كان يقولها الإمام في كل موقع ثوري ولجنة ثورية قبل وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، ولأنه الرجل الذي رشّحته إيران برمّتها لاحتلال الموقع الأول في الدولة بعد رحيل الإمام إلى الملكوت الأعلى.

 

نقول: إذا كان آية الله الخامنئي يقول: إنّ معرفة الإمام هي أمر مبكّر، فكيف الحال لأي إنسان أو محلل أو كاتب أو دارس يحاول أن يسلّط الضوء على هذا العملاق الراحل, والتارك وراءه عالماً أسيراً لِما أسّسه ووضعه من قوانين جديدة للصراع الدولي، مازالت بعد لم تتمخّض عن نتائج في الوقت الحاضر؛ لأن هذا التأسيس قام على ما يمكن تسميته بالوعي الثوري المفتوح أي المتواصل، ومن ثم صراع القوى المفتوح الذي ما زال يعبّر عن نفسه يوماً وبدون انقطاع, وبشكل تصاعدي في شتّى أرجاء العالم الإسلامي, فضلاً عن محاوره التقليدية مع الجمهورية الإسلامية في إيران.

 

وبالتأكيد، إنّ صعوبة المهمّة الاستقرائية لحياة الإمام, ودوره السياسي, وآرائه السياسية لا تعني إلا أن نتعامل مع ملف الإمام كملف مفتوح للدرس والبحث والتأمّل، فهو رجل القرن الحالي، رجل القرن الحادي والعشرين، ورجل عدد كبير من المراحل السياسية القادمة، ولعل هذا ما كان يعنيه بالضبط آية الله السيد علي الخامنئي من خلال قوله المذكور: بأن معرفة الإمام معرفة دقيقة لازالت مبكّرة، فالسيد الخامنئي أيضاً يستشرف الأفق السياسي, ويقرأ استشرافات الإمام السياسية, ويرى أيضاً أنه بالفعل رجل القرن الحالي.

 

المقوّم الثالث الذي أعطى الإمام تراكماً هائلاً في الخبرة الفكرية والسياسية، وقدراً من التجربة التي عاشها مراقباً ومسدداً ومعارضاً لأشكال متعددة من الحكم والطروحات السياسية، فكما علمنا سابقاً أنّ حياة الإمام السياسية استغرقت ما يقارب السبعين عاماً عايش فيها داخل إيران نمطين من أنماط الحكم الملكي، نمط الشاه (محمد رضا) الذي أطاح بسلطته من خلال ثورته المباركة، ونمط أبيه (رضا خان) ذي الطبيعة الفجّة القاسية، كما عايش إيران في معادلاتها السياسية في لحظة تعرّضها للاحتلال الروسي وللمؤامرات البريطانية وأخيراً للتبعية الأميركية، التي أخذت حصّة الأسد في أحاديث الإمام.

 

بالإضافة إلى إيران، كان الإمام يراقب الساحة الإسلامية والساحة العالمية عن كثب بكل تحوّلاتها ومتغيّراتها، شهد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وعاصر مسيرة الحركة الإسلامية، وما تعرّض له الإسلام على إثر هذه الحروب وطبيعة الأنظمة الدولية التي أفرزتها.

 

والمعاصرة والمعايشة هنا لا تعني مراقبة الأوضاع, بل تعني أنّ دور الإمام في هذه السبعين سنة السياسية كان جزءاً من ملامح المرحلة, إذ إنّ الإمام وطوال هذه الفترة كان فاعلاً بالأحداث بشكل مباشر، حاضراً في الصراع، في كل محاوره ومفرداته، مبادراً للمواجهة بما تقتضيه المصلحة الإسلامية المستهدفة، مناضلاً دون كلل أو ملل، حاملاً همّ الأمة الإسلامية في قلبه الكبير، وفي وجدانه.. من المعاناة الإسلامية في فلسطين إلى معاناة المسلمين تحت هيمنة الحكم الأحمر البائد..

 

فـ(الخميني الآخر هو الباقي على أي حال، وهو مصدر قلق للكثيرين في الشرق والغرب، بل إنّ خطره سيشتد مع إعلان وفاة روح الله الموسوي الخميني، فالفكرة إذا ما تحررت من أسار الشخص والدولة والمصالح ستفعل وربما خارج طهران، بأكثر مما فعلت على حياة الخميني في إيران وجوارها)[19].

 

لقد كانت حياة الإمام عبارة عن فعل مقاومة ممتد على طول مرحلته الزمنية وكلمة صارخة تنطلق في أحلك الظروف، وفي الوقت الذي تعزُّ فيه الكلمات والصرخات، لم يعرف التعب، ولم يمهل مجالاً من مجالات المؤامرة الدولية ضد الإسلام والعالم الإسلامي.

 

الحوزة، والجيش، والجامعة، والبرلمان، والأحزاب، والمرجعية، وكل ما يمكن أن يتحوّل إلى مجال لممارسة النشاط الاستهدافي لوضع الأمة الإسلامية السياسي والفكري والثقافي. وكيف لا يستطيع الإمام بعد كل هذا الكفاح المتواصل والجهد الدائم والحركة المتواصلة أن يقرر بدقّة، ويحلل بدقّة، ويستشرف الأفق السياسي، ويتّكئ على أرض صلبة من الثقة لأن يطلق صرخته الاستشرافية الكبرى في حتمية سقوط شاه إيران وانتصار الثورة؟

 

وفي الوقت الذي ينازع فيه الإمام ويقاوم كل أشكال الكسل والمؤامرة على محور الحوزة، من جهة، ومحور السياسة من جهة أخرى، فإنه يضع صمّامات الأمان لأية حركة سياسية، ويرسم مبادئ الحصانة ضد الانحراف والمساومة، من خلال رسالة الإمام السمحاء، وهدفها الأخلاقي السامي، فالغاية التي تتسرب مع كل حركة، كبُرت أم صغُرت ومع أي خطوة بأي اتجاه اتجهت، هي الغاية الأخلاقية، وهي قول الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).. إذاً أخلاق السياسة، وأخلاق الحركة الثورية، ومن ثم أخلاق المسيرة الثورية بكاملها هي الضابط والضامن والحصانة الكبرى التي تنعكس سلوكاً وقولاً لدى الإمام الخميني.

 

وانطلاقاً مما يسمّى بـ(أخلقة) السياسة, وحفاظاً عليها كطابع يجب أن يطبع الحركة الثورية، كان الإمام الخميني يمزج في خطاباته ومحاضراته، بين السياسة والأخلاق، وبين الاقتصاد والأخلاق، وبين الإدارة والأخلاق.

 

وكان ينظر وينُظّر للحياة في كل أنشطتها من وحي الفلسفة الأخلاقية والأساس الأخلاقي الذي شكّل ولازال يشكّل أزمة العمل السياسي، وهذه هي ثابتة من ثوابت نص الإمام وكلامه وعمله، أهّلته لأن يقود المسيرة بصبر وثبات وتأنّ، وأعطته ما يكفي من القوة النفسية والروحية التي يخوض فيها غمار الغربة.. غربة الطريق التغييري الوعر الذي سلكه من أجل أداء دوره كقائد للقرن الماضي، وللقرن الحالي كما تقول المؤشرات والدلائل.

 

هذه المؤهّلات أو المقومّات الأربعة التي ذكرناها.. وهي:

 

1ـ رفض الحلول الوسط, وعدم الانصياع لأي شكل من أشكال الخوف والتخويف.

 

2ـ تشخيص أزمة العالم الإسلامي السياسية, وتشخيص أساليب العدو في مواجهته معه.

 

3ـ خبرة سبعين عاماً من المعايشة والفعل الثوري.

 

4ـ أخلقة السياسة، أو الاهتمام بالجانب الأخلاقي كملازم لأي نشاط مهما كان شكله ونوعه.

 

هذه المقوّمات التي امتزجت بالدرجة العلمية والبراعة الفكرية جعلت من الإمام قادراً على التأثير الحاد في مجريات المسيرة الإنسانية أولاً، وأعطته قدرة استشراف الأفق، أو قراءة المسيرة على ضوء التجربة الإسلامية التي خاضها وأسس لها.

 

وبالتأكيد, إنّ كل ذلك عزّز بتسديد ربّاني لحركة الإمام؛ وذلك طبقاً للمعتقد الإسلامي العام في مقولة التسديد والتوفيق.

 

فنكران الذات هو الأساس الذي يحدد التدخّل الإلهي في مسيرة أي إنسان، ولاشكّ أنّ المرحلة لم تفرز لنا قائداً جسّد نكران الذات كالإمام الخميني، ولعل ملف حياته الواضح بكل ما انطوى عليه من إثارات في هذا الجانب يؤكّد هذه الحقيقة، ولقد وصل نكران الذات لدى الإمام إلى الدرجة التي يضع قيوداً حتى على دَور نجله المرحوم العلامة الفاضل السيد أحمد الخميني؛ لكي يكبح عاطفة الأبوة, ويقطع الطريق على أي مستغل يحاول أن يفسّر دور المرحوم السيد أحمد ذوي الكفاءات والمؤهّلات الكبيرة بخلاف ما تقتضيه المصلحة الإسلامية العامة التي رعاها بقلبه الكبير وعواطفه النبيلة[20].

 

الفهم الخميني للواقعية السياسية

 

كيف نفهم مسألة الواقعية السياسية، أو ما يسمّى بذلك في السياسة الإسلامية، كما يراها الإمام، فالإمام يفهم الواقعية لا كما يفهمها الآخرون، حتى مع بعض الإسلاميين، والواقعية السياسية هي تلك التي تقوم كنتيجة للاستقلال السياسي بكل معانيه؛ لأن التوافق السياسي النهائي لا يمكن أن يكون بين إسلام طامح وساع إلى هداية الإنسانية، وبَتْر يَد الظلم، وإقامة العدالة، وبين قوى طاغوتية كبرى هي التي تمارس هذا الظلم، ومسؤولة عن انتهاك العدالة، وناهبة لثروات الفقراء، وإذا كان لهذا التوافق أن يكون في لحظة زمنية معينة فهو يعتمد بالدرجة الأساس على تغيير منهج السياسة الطاغوتية، أي: إنّ التوافق يتحقق بقدر ما تبتعد تلك القوى الطاغوتية عن ممارسة سياسة الاستعلاء والتسلّط، وهذا أمرٌ مستبعد على الدوام.

 

هنا لم يدخل الإمام الخميني عالم المساومات السياسية، أو منطق استدرار العطف، أو ما يسمّى بسياسة تحييد بعض القوى الدولية، ومن خلال التأثير على الخطاب السياسي، وبحيث يقع هذا الخطاب في مطب التناقضات الرائجة والسائدة في عالم اليوم السياسي بكل مدارسه السياسية، وبكل تياراته, وحتى في أصعب اللحظات، وأدق المراحل في حياته الثورية لم يبتعد الإمام عن ثابتٍ سياسي مقدس من ثوابته، ألا وهو تحقيق الاستقلال السياسي الإسلامي بشكل واضح، وتأسيس معالم المدرسة السياسية الإسلامية بعيداً عن الضغوط المرحلية, وبعيداً عن اللعب على محاور السياسة الدولية, أو إقامة التحالفات دون شروط إسلامية تحدد طابع هذا التحالف ومواصفاته؛ لأن مثل هذا المنهج سيبدد الكثير من قيم الحق والعدالة التي تمثّل صلب الرسالة الإسلامية المحمدية، وسيخلط المنهج السياسي الإسلامي، بالمناهج الأخرى التي تقوم على مقاييس المصلحة الذاتية البحتة دون مصلحة المبدأ.

 

إنّ العالم في عصر الإمام الخميني محكوم إلى معسكرين، وإلى تيارين سياسيين، غربي وشرقي، فلقد رفع الإمام شعار(لا شرقية لا غربية) وبدأ في إعطاء السياسة الإسلامية كل شروطها الاستقلالية التي تبعدها تماماً عن منطق التبعية الدولية، وترسم لها خصائصها وصفاتها، وإذا كان من الأمور (شبه الطبيعية) أن يلجأ قادة الثورات، ورجال الانقلابات إلى بعض المساومات السياسية، أو ممارسة سياسة المخادعة في المنعطفات الثورية والسياسة الحالية؛ من أجل تسجيل النصر المادي، فإن الإمام رفض كذلك حتى هذا المستوى من مستويات اللجوء إلى تحقيق الهدف بالوسائل التي يشوبها قدر من الشك, وإنه بخلاف ذلك كان واضحاً في خطابه السياسي في هذا المجال على طول المسار الثوري، وقبل وبعد انتصار الثورة الإسلامية، وقبل وبعد الحرب العدوانية المفروضة، وفي الأزمة مهما اشتدّت وكانت خارج زمنها.

 

لنقرأ ما يقوله الإمام في أخطر مقطع حساس من المقاطع الثورية، يقول الإمام قبل انتصار الثورة الإسلامية بأسابيع قليلة: (في يومنا هذا تقوم كل من الصين الشيوعية والتي تدّعي الثورية, وأمريكا مثال الاستكبار العالمي، وروسيا مصدر الكذب والرياء, وبريطانيا العجوز بدعم نظام الشاه ضد ثورة ونهضة شعبنا المطالب بالحرية والاستقلال، لكني على يقين كبير، بأن انتصار شعبنا حتمي وقريب بإذنه تعالى)[21].

 

لم يعرف بالتأكيد التاريخ السياسي العالمي منذ أكثر من ألف عام هذا النمط من التحدّي، وهذا القدر الهائل من الوضوح الرسالي, وهذه الثقة بالنفس التي تتبدى من خلال كلام الإمام الخميني، وبالتأكيد لو لم يكن الإمام هكذا لَما استطاع أن ينجز ما أنجز, ولما استطاع أن يوقظ العملاق الإسلامي من سباته الطويل، وأن يعطي ـ وهذا هو الأهم ـ الإسلام مضمونه ومحتواه الحقيقي في مرحلة كثرت فيها أشكال الإسلام المزيف.

 

القوى السياسية الأربع التي ذكرها الإمام الخميني في نصّه المذكور، وهي أمريكا وروسيا وبريطانيا والصين، تمثّل رموز السياسة الكونية؛ ولأنها كذلك فإن الإمام لا يُجزّئ دفعات التشخيص إزاءها، بل إنه يضعها مرّة واحدة وفي نص واحد، دون اكتراث لمظاهر القوة والجبروت التي تملكها هذه القوى، فالأصل الفكري الذي ينطلق منه الإمام في ترجمة هذه الحالة هو قوله تعالى > والله غالب على أمره<[22]، وعليه فإن كل مظاهر قوّتهم، إنما هي مظاهر قوة وجبروت وهميّة، أمام قدرة خالق هذا الكون، ومصدر القوة الأوحد الأزلي، وهو الله سبحانه وتعالى؛ ولأن الإمام صادق مع الله خالق هذا الكون ومدبّره، فإن الله سبحانه وتعالى لم يُخيّب ظنّه، وحقق يقينه الصادق من خلال الانتصار المظفّر للثورة الإسلامية في إيران.

 

والإمام الخميني، يدرك بوعيه السياسي موازين هذه القوى السياسية الدولية, ويحدد أكثر دولة قوة ونفوذاً وبالتالي قهراً واستعباداً للشعوب، وقمعاً للحريات، وعداءً للعدالة الإنسانية، فلم يتشابه موقفه إزاءها جميعاً، وبعبارة أخرى لم يوزع المسؤوليات حول هذا الظلم الإنساني دون اكتراث بمستواه ودرجته, فهناك مسؤول أول وثانٍ وثالث، وهناك رأس للطاغوت الدولي الراهن، كان لابدّ للإمام أن يعتبره رأساً للفساد الدولي, ولقد بقي هذا الاعتبار محفوظاً بالفعل والتحديد الواضح في خطاب الإمام الثوري على طول المسيرة الثورية، فهو خطاب قائم على التشخيص، تشخيص مستوى ودرجة الأعداء ومن ثم الفرز الدقيق، ولا يلوذ بالعمومية أو المطلقات التي قد تؤدّي إلى تشوش المفاهيم فيما الإمام يسعى إلى تأسيس الفكر السياسي الواضح.

 

ومن الأساس كانت الولايات المتحدة الأمريكية رأساً للفساد، ورمزاً للطاغوت، وإسماً للمواجهة، وعنواناً للموت في خطاب الإمام الثوري، فأميركا كما يقول الإمام الخميني: (هي التي تقف وراء إسرائيل، وأميركا هي التي تساند إسرائيل لدحر وتشريد العرب المسلمين، أمريكا هي التي تسيّر أمور بلدنا عبر عملائها مباشرة، أو بصورة غير مباشرة، أميركا هي التي ترى أنّ القرآن والإسلام خطر عليها وتريد وقفهما، أميركا هي التي ترى علماء الدين المجاهدين عائقاً، سدّاً منيعاً حائلاً أمام أهدافها ومآربها، أميركا هي التي تأمر النظام بالإمتثال لأوامرها، وهي التي أمرته بالموافقة والمصادقة على هذا القانون الشنيع المذل للمسلمين ولمفاخرهم الإسلامية والوطنية.

 

اليوم اقتصاد بلادنا بِيَد الأمريكان والإسرائيليين، الأسواق التجارية والعجلة الاقتصادية خرجت من يَد المسلمين، أمور المسلمين اليوم بأيديهم وبإمرتهم)[23].

 

يُعرّف الإمام الخميني أميركا من خلال هذا النص، وكأنه يجيب على بعض التساؤلات التي تقول: لماذا أميركا دائماً هي العدوة في خطاب الإمام، يجيبهم الإمام، بأنه إذا كانت مواجهتنا إسلامية ووطنية، وعربية، فأميركا هي الرأس الذي يقود المواجهة ضد العروبة والإسلام والوطن، ولم يخفق الإمام في تشخيصه هذا إطلاقاً، فمنذ أن فتحت المواجهة بين الإسلام وقوى الكفر العالمي، بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، كانت ومازالت أميركا هي التي تقود الحرب الشعواء ضد الإسلام السياسي في كل بقعة من بقاع العالم، وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وانفراده في قيادة العالم، فلربما شخّص الإمام سلفاً مرحلة هذا الانفراد الأمريكي، لا بل إنه شخّصها عندما أطلق استشراف انهزام الشيوعية، ليشير بذلك إلى أنّ المواجهة العالمية ستأخذ بعد هذا الانهزام طابعاً أميركياً ـ إسلامياً.

 

وهذا ما هو قائم الآن ومترجم في كل محاور الساحة الإسلامية والعالمية.

 

الإمام عادة لا يكتفي بالمبدأ العام، أو بالعائمية السياسية ـ إذا صحّ التعبير ـ أو المطلقات السياسية، بل هو يدل بالمبدأ إلى ضرورات التمييز أو مستحقّات التشخيص السياسية، ليضع الأولويات في الدائرة الواحدة، سواء كانت دائرة خاصة بالتأسيس للسياسة الإسلامية، أو دائرة خاصة بالممارسة الثورية إزاء الآخر الطاغوتي.

 

وقد لاحظنا بناءً على هذا التأسيس، كيف أفرد الإمام الخميني الولايات المتحدة الأمريكية، كرأس واسم ورمزٍ وعنوانٍ طاغوتي للحالة الإسلامية الأصيلة بكل أشكالها.. وهذا الفرز مثلما شكّل حالة من حالات استيعاب الذاكرة لدى الإمام لواقع العالم السياسي، فإنه مثّل من جانب آخر هذا الواقع السياسي العالمي، إذ انسجمت نهايات الرؤى الخمينية مع نهايات المسيرة السياسية العالمية، فانهار الاتحاد السوفييتي ككيان إلحادي، وانهارت الفكرة الشيوعية كفكرة وجودية مادية، وانفردت الولايات المتحدة الأميركية في إدارة شؤون العالم السياسية, وأخذت المواجهة في أبعادها الفكرية والسياسية طابعاً إسلامياً ـ أميركياً بالدرجة الأولى، وطابعاً إسلامياً ـ غربياً بالدرجة الثانية، وفي ما قبل النهايات كان الإمام الخميني قد قرأ سقوط كارتر قبل أوانه، وحدد أفق مسار القضية الأفغانية، وتنبّأ بانتصار الثورة الإسلامية، ومن ثم صعود حالة الوعي والصحوة الإسلامية.

 

اليوم حيث يعيش العالم غياب الإمام الخميني فهو يعيش من ناحية أخرى الواقع العنيف أو المرحلة العنيفة من مراحل تأسيسه وآثاره،وهذا ما يفسّر الاستنفار الأمريكي ـ الغربي ـ الصهيوني إزاء الحالة الإسلامية وبالتحديد مصادر تصعيدها الثورية، وهما الدولة الإسلامية الثورية من ناحية والوعي الإسلامي الثوري من ناحية ثانية، وقد لا توجد حاجة للتأكيد بأن هذا الاستنفار والملاحقة عقيمان, بمعنى استحالة السيطرة عليهما؛ وهذا ما أثبتته التجارب السابقة أكثر من مرّة, إذ عندما يحاول هذا الثلاثي العدواني الأمريكي ـ الغربي ـ الصهيوني بكل جهوده احتواء ومعالجة محور من محاور الصحوة الإسلامية، أو انفجار من انفجاراتها في العالم، يفاجأ قبل تحقيق هدفه، بفتح محور ثوري إسلامي جديد أو انفجار ثوري غير متوقّع.

 

وفي دوامة هذا الواقع، تبدو الجبهة الامبريالية ـ الصهيونية أكثر قلقاً وضياعاً من الجبهة الإسلامية على رغم معاناة الأخيرة، وقلّة إمكاناتها، ويبدو العالم الآن وكأنه نظام سياسي مستقر، أو نظام دولي محدد، بعد مرحلة نظام القطبين الذي كان سائداً قبل إنهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الشرقية، يبدو العالم معلّقاً على كف المجهول، وتبدو المسيرة الإنسانية سائرة نحو مرحلة مُضيّعة الخطط والأهداف، أي: إنّ قلق المرحلة أكبر من أي خطط وأهداف للدول العالمية الكبرى والقوى الإقليمية الكبرى، ويأتي هذا الضياع بعد سقوط معظم الأفكار والإيديولوجيات والرؤى السياسية التي جرّبتها الإنسانية، ولم تجرها إلا إلى المزيد من الدمار، والرأسمالية التي تهيمن على المقدّرات سائرة هي الأخرى شاءت أم أبت إلى حتفها، وبالتأكيد إنّ العالم ـ وخاصة العالم الإسلامي ـ لم يكن ليصل إلى ما وصل إليه من وعي الحقيقة لولا الإمام الخميني.

 

إنّ كل ما سلّطنا عليه الأضواء من أبعاد لفكر الإمام الخميني الاستراتيجي، ونظراته الاستشرافية، لم يُشكّل المنظومة الكلية لهذا الفكر الاستراتيجي السياسي، فالمنظومة الكلية تبقى بحاجة إلى دراسة خطاب الإمام الثوري، محاورة وتحليلاً، لندرك من خلال ذلك أنّ الإمام كيف استنهض الفكر الإسلامي، ليلبّي حاجة الفكر السياسي الذي يواكب العصر والمرحلة، وحتى الآن مازال هذا الخطاب لم يُدرس, ولم يُحلل بشكل تفصيلي، وتلك مهمّة تبقى الحاجة إليها ماسة وكبيرة.

 

فالبنية العامة لهذا الخطاب تنطوي على جوانب متعددة، وإنها مستبطنة لقدر مهم من الجوانب التاريخية والنفسية والأسلوبية التي أعطتها التماسك، وأعطت الخطاب الثوري للإمام الخميني خصوصية في الإسقاط والتأثير والتغيير الثوري الذي أوجده.

 

نحاول هنا أن نقرأ الخطاب الخميني في رؤاه السياسية العامة، وأن نبحث في الأسس الجذرية لمظهرية الثقة والتحدّي التي تدور حول التشخيص بدءاً، تشخيص الواقع السياسي العالمي، ومن ثم الرؤية الكلية المستقبلية لهذا العالم، بمعناها الاستشرافي، إذ من خلال قراءة نصوص الإمام وتحليلها، والنصوص التي قيلت حوله، يتحدّد لون من ألوان التحدّي للدول الكبرى، والتجاوز الطبيعي لمقولات سياسية حول منطق القوة وتوازنها، مارسه الإمام، ويعزز انقلاب الحدود ومعنى ومضمون (الواقعية السياسية) السائدة في منطق التاريخ، وفي عالم اليوم السياسي.. انقلاب حوّل هذه (الواقعية) إلى (لا واقعية) وأسّس مضموناً جديداً(للواقعية)، غير قائم على حساب التوازن المادي، ولا على حساب توازن القوى، وهذه النتيجة غير القابلة للإنكار، هي نتيجة فوق منطق العالم السياسي القائم لابدّ من تأمّلها، تأمّلاً دقيقاً؛ لأن الإمام الذي رحل، لم يرحل أثراً، بل ترك وراءه عالماً يتصارع على ضوء أثره السياسي، فلنقرأ ما قالته بعض الصحف.

 

ـ (الإمام الخميني: غادرنا كإنسان كبير وصانع للتاريخ, وإنّ فقدان الرجال الذين يصنعون التاريخ لا يمكن أن نعتبرهم قد ماتوا).

 

ـ (إنّ الإمام الخميني كان من عظماء التاريخ المعاصر، ولعل من صفاته عدم الاكتراث للقوى الكبرى والمعادلات الدولية).

 

ـ (لقد ودّع الإمام الخميني عشرة ملايين مواطن في إيران، وإنّ التاريخ لم يشهد نظيراً لمثل هذا التجمّع الجماهيري حتى الآن).

 

ـ (كان الإمام الخميني لا يهاب القوى العظمى).

 

ـ (لقد فَقَد العالم الإسلامي زعيماً عظيماً وكبيراً برحيل الإمام، ولا يساور أحداً الشك بأن طريق الإمام واسمه سيظلان إلى الأبد).

 

ـ (لقد تمسّك الإمام بسياسة اللاشرقية واللاغربية على الرغم من تهديدات الاستكبار العالمي).

 

ـ (لم يكن آية الله الخميني مؤسساً وزعيماً ومرشداً دينياً للثورة الإسلامية الإيرانية حسب بل إنه كان قوة محركة لتجديد حياة المسلمين في العالم).

 

ـ (لقد علّم الإمام الخميني شعبه بأنه يمكن الوقوف أمام القوى العالمية كأميركا بدون خوف).

 

ـ (لقد رفض الإمام الخميني النفوذ السياسي للغرب خاصة).

 

ـ (قلّ أن شاهدنا رجلاً يقوم وحده بتغيير مسار التاريخ وهذه المهمة وضعت على عاتق آية الله الخميني).

 

ـ (كان كلام الإمام قانوناً وقانونه قرآناً).

 

ـ (ما أبداه الشعب الإيراني من حزن على الإمام يثبت بأنه قادر على مواصلة منهج الإمام حتى النهاية).

 

ـ (وفاة الإمام الخميني لا تعتبر نهاية لمسيرته الفكرية نحو الحياة والعالم وإنما ستستمر هذه المسيرة التي نبعت من الثورة الإسلامية إلى أرجاء العالم كافة).

 

هذه ثلاثة عشر نصّاً لثلاث عشرة صحيفة عربية وأجنبية هي على التوالي: السفير اللبنانية، النهار اللبنانية، الاتحاد الظبيانية، باكستان تايمز، صحيفة التايمز اللندنية، صحيفة الديلي تلغراف، صحيفة الانديبندنت، صحيفة داغبلات النرويجية، مجلة جون افريك الفرنسية، صحيفة آل بايس الاسبانية[24].

 

أردنا من خلال هذه النصوص أن نشير إلى حقيقة ما أسميناه بواقعية العالم الجديدة التي أوجدها على أنقاض (الواقعية السياسية) القديمة على حسابات القوة ومنطق التوازن.

 

وهذا النموذج المتمثل بثلاثة عشر نصّاً يعكس أو يبلور الواقعية الجديدة على شقّين رئيسين هما:

 

1ـ إنّ الإمام الخميني سجّل خروجاً لا نظير له في التاريخ السياسي العالمي على القوى الكبرى.

 

2ـ إنّ الإمام سيبقى حاضراً في هذا العالم إلى أمدٍ غير محدد.

 

هاتان الحقيقتان تقودان إلى الوقوف على مسألتين حيويتين متلازمتين، هما: الأساس العقائدي الذي شكّل رؤى الإمام السياسية للعالم، واستشراف هذا العالم، أو قراءة مستقبله السياسي على ضوء هذه الرؤى, وعلى ضوء بعض النصوص الاستشرافية للإمام.

 

ومن هذه النصوص ما يلي:

 

ـ قول الإمام الخميني: (لقد شارف عهد القنوط واليأس في منطقة الكفر على الانتهاء وازدهرت حدائق الشعوب)[25].

 

ـ يقول الإمام: (لقد قررنا أن نشيع في عالم الاستكبار، نظام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وستشهد الشعوب الأسيرة ذلك عاجلاً أو آجلاً)[26].

 

ـ يقول الإمام: (إنّ قصور الاستكبار العالمي وقدراته السياسية والعسكرية لهي أشبه ببيت العنكبوت سهلة التمزّق)[27].

 

هذه العيّنات الثلاث من كلام الإمام تقرر حقيقة واضحة بالنسبة للإمام الخميني في سياق حركة المستقبل السياسي العالمي، وهي حقيقة انهيار رموز الكفر العالمي، متمثّلة بالولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد السوفيتي آنذاك.

 

وعلى أساس من هذا الاستشراف، كان الإمام يطلق دعواته التي لم تهدأ في المبادرة الثورية لتحطيم كيان الكفر الثنائي هذا، ويدعو الشعوب بلا هوادة لمقاومته، وإذا كان من الضروري أن نقف على بعض هذه الدعوات فلندرج هذه النصوص الموجزة من كلام الإمام:

 

ـ (يا مستضعفي العالم، انهضوا وتحالفوا واطردوا الظالمين من الميدان فإن الأرض لله وورّاثها المستضعفون)[28].

 

ـ (ينبغي للمسلمين في كل بقاع العالم أن يخلّصوا أنفسهم من أسر وعبودية الشياطين الكبار والقوى والعظمى)[29].

 

ـ (انهضوا وخذوا زمام مقدراتكم بأيديكم، والى متى تقعدون لتُعيّن واشنطن وموسكو مقدرّاتكم)[30].

 

هذه النصوص هي عيّنة أخرى حول الدعوة إلى المبادرة الثورية ضد أمريكا والاتحاد السوفييتي، باعتبارهما كانا يمثّلان قطبي العالم، ورمزي القوى الطاغوتية فيه، وكان الإمام قبل رحيله قد قرأ النهاية الأبدية لأحد هذين القطبين وهو الاتحاد السوفييتي، يعلنها على الملأ عبر مبادرة جريئة وعبارات صريحة في رسالته التي وجّهها لميخائيل غورباتشوف الرئيس السوفييتي آنذاك، ليسجّل بذلك سبقاً استشرافياً هائلاً في تقريره لنهاية الشيوعية العالمية.

 

وها هو ليس ببعيد عن المعنى الاستشرافي أيضاً ما جاء في رسالته من تقرير حقيقة النهاية الأمريكية في سياق نصيحته لغورباتشوف، يقول الإمام في هذه الرسالة: (من الممكن جداً أن تبدو من خلال السياسة والممارسات الاقتصادية الخاطئة للمسؤولين الشيوعيين السابقين، دنيا الغرب وكأنها الحديقة الغناء المنشودة، ولكن الحقيقة هي شيء آخر، فلو حاولتم في هذه الفترة أن تحلّوا العقد العمياء التي واجهتها الاشتراكية والشيوعية باللجوء إلى مركز الرأسمالية الغربية، فإنكم بالإضافة إلى عدم تمكنكم من إزالة معاناة مجتمعكم ستحتاجون إلى أفراد آخرون لتعويض ما ستقعون فيه من أخطاء في هذا المجال؛ وذلك لأن الماركسية اليوم وأساليبها الاقتصادية والاجتماعية تواجه طريقاً مسدوداً، وأن عالم الغرب هو أيضاً يعاني من هذه القضايا ولكن بشكل آخر، كما يعاني من قضايا أخرى)[31].

 

نقول: إنّ الإمام ربما لم يكن بحاجة لأن يشهد إنهيار الاتحاد السوفييتي وهو في حياته؛ لأنه كان يعي حقيقة هذا الإنهيار بجرأة شكّلت بحد ذاتها طرازاً غريباً سواء في شكل المخاطبة ومستواها, أو في كونها تشكّل سابقة في إطار المخاطبات الدبلوماسية العالمية.. حقيقة مفروغ منها، ليست سهلة القراءة، ولا تنظيم قراءاتها إلا في سياق ما مثّله الإمام من مفاجآت وصدمات في وجه هذا العالم.

 

وإذا كانت تلك حقيقة انتهت، واستشرافاً تحقق، فإن هنالك حقيقة أخرى، واستشرافاً آخر، مازال لم يتحقق، لا بل ربما لا يبدو من المسموح التفكير به في هذه المرحلة، وهو ذلك الاستشراف المرتبط بالرمز الكوني الآخر للثنائية التي كانت قائمة آنذاك؛ وهو الرمز الأميركي.

 

فالإمام الخميني كان يعلن في رسالته أيضاً أنّ (عالم الغرب يعاني من المشاكل الاقتصادية وأخرى غيرها) وبلونٍ آخر، وتلك عبارة لا يمكن المرور عليها مرور الكرام؛ لا لأن الإمام أعلن عن موت الشيوعية وتحقق إعلانه، ولا لأنه سبق هذا الإعلان الاستشرافي، بإعلانات استشرافية أخرى وتحققت، ولا لأنه رجل تاريخي عظيم قاوم القوى الكبرى بجرأة، على حد وصف النصوص الآنفة الذكر التي أوردتها صحف مختلفة فحسب، بل أيضاً؛ لأن العالم لازال يواصل تحوّلاته السياسية المصيرية التي بدأت بعد عهد الإمام، ولأنه لازالت هنالك حاجة إلى معرفة الأسس العقائدية لفكر الإمام السياسي، التي تشكّل تلك التحوّلات التي شهدها العالم على يديه، والرؤى الإستباقية التي تحققت والتي مازالت لم تحقق إفرازاً.

 

ومهما بدا هذا الكلام بعيداً عن المألوف العالمي الذي لا يربط بين العقيدي وبين التحليل السياسيي، فإن الإسلام ومنذ أن جاء به خاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسى جذراً عقائدياً من شقّين يشكّل الأرضية العقائدية لرؤية مسار العالم ونهاياته، وهذان الشقّان هما: النص القرآن, الذي يقول: > ونريد أن نمّن على الذين استضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين<[32]، وشق الإمامة والإمام الغائب المهدي المنتظر(عج): (الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً).

 

سنضطر أن نخرج هنا عن منهجية البحث إلى الوقوف على بعض وقائع الوضع الأميركي، لنكمل بذلك الصورة الأخرى لتوقّع الإمام الخميني حول نهاية الولايات المتحدة الأميركية، كمظهر طاغوتي كوني بارز في عالم اليوم، فما وراء صورة القوة الأميركية الحالية، هنالك العديد من الأزمات الداخلية والخارجية التي تتخبّط بها، وما وراء الإنفراد الأمريكي في العالم، هنالك مظاهر واضحة للقلق والاختناق والارتباك, وما وراء الشكل الأمريكي ـ الأوروبي الموحّد سياسياً إزاء بعض قضايا العالم، يختفي كم كبير من الصراعات والتنافس وتضارب المصالح الاقتصادية والسياسية، وفي العالم الذي تسعى أمريكا لإخضاعه، هنالك قوى وبؤر ثورية، ووعي ثوري متصاعد.

 

إنّ هالة أمريكا غالباً ما تنسي البعض مظاهر الواقع الداخلي بأبعاده الاجتماعية والاقتصادية والإعلامية في ظل الرأسمالية, التي تكرّس الفارق الطبقي الهائل وتدفع به مع مرور الزمن، وبما يؤدّي إليه هذا الفارق من انعكاسات اجتماعية متنامية، وإذا كان الإعلام الأمريكي المرتبط بالشركات الكبرى ومصالحها يتقصّد تجاوز التوتر الاجتماعي، فإن الصورة الخارجية لا يمكن أن تغطّي إلى الأبد تنامي هذا التوتر الذي سينعكس, إن عاجلاً أو آجلاً على الوضع السياسي, وعلى النظام الديمقراطي القائم في هذا البلد, الذي تأسّس واندفع من خلفيات غير عادية، وهو اليوم يختبئ وراء سحر التفوّق العسكري والتكنولوجي، ويتوارى من بذور الانفجار القادمة بسبب عوالم متعددة.

 

يرى (جون جيديلي) أستاذ الاقتصاد بجامعة ستانفورد أنّ (قوى مناوئة قوية) ستنشط ضد الاقتصاد الأمريكي، وسوف تواجه الحركات الثورية المستمرة في الخارج، والمنافسات الاقتصادية القوية مع الدول الصناعية الغربية الرئيسة، واليابان، وضغط القوة العاملة الداخلية من أجل الحصول على نصيبها من الدخل القومي، سيواجه كل ذلك ـ في رأي جيديلي ـ باللجوء المتزايد إلى سياسة تدخّل الدول (لصالح الطبقة الرأسمالية)، وسوف تعاني القوة العاملة بوجه خاص أشكالاً صارمة من القمع.

 

ويتنبّأ جيديلي (بثورة واسعة النطاق ضد النظام نفسه تحدث بصورة وبأخرى في المستقبل) سيشارك فيها كثير من أفراد الطبقة العاملة الذين لا يبدون اهتماماً في الوقت الحالي بالمشكلات الاجتماعية)، (وفي غضون ذلك، ستحافظ الرأسمالية على بقائها بوصفها رأسمالية ذات طابع احتكاري موجّه بصورة متزايدة، لكن العديد من عناصر الديمقراطية لن يواصل البقاء)[33].

 

وربما أن جيدلي الذي يتوقّع لجوء السلطة الرأسمالية لقمع الطبقات الفقيرة المسحوقة من المجتمع الأمريكي, والتي تتزايد مع مرور الزمن ليس بالضرورة أن يستشرف الأفق الأبعد للمشكلة الاقتصادية.. الأفق قد يتجاوز قدرة الرأسمالية على البقاء من خلال القمع المفترض، فهذه المشكلة أبعد ربما مما تصورها في إفرازاتها الاجتماعية وفي عمقها الداخلي.

 

إذ إنّ (التناقضات الداخلية في النظام الاجتماعي كبيرة ومتزايدة, كما أنّ أوضاع الحياة غير المتوازنة في الولايات المتحدة يعيشها عشرات الملايين من الناس, وبالتالي فمن الصعب تماماً بالنسبة للكثيرين أن يوفّقوا بين حجم إنتاج قومي يزيد على تريليون دولار، وبين الإهمال المذهل لكبار السن والفقراء والمرضى وأغلبية الأقليات من سود وسمر وحمر، كذلك يصعب على الكثيرين أن يفهموا كيف ينتج نظام اقتصادي كمّيات هائلة من السلع الغربية والمضحكة، وعدداً لا يحصى من الخدمات ذات الأهمية الثانوية (مثل استشاريي الوقاية من الضرائب، ومؤسسات تربية الحيوانات المدللة، وما إلى ذلك) في الوقت الذي يعجز فيه عن توفير الأطباء البشريين، وأطباء الأسنان، والتعليم الكافي، وغير ذلك من الخدمات الاجتماعية الأساسية، ورغم الجهود المدروسة من جانب الدوائر الإعلامية للتشويش على، أو تجاهل هذه المسائل، فإن ضغط الاحتياجات الحيوية غير المُلبّاة يتصاعد، كما أنّ الوعي الفريد يتأثّر بالتأكيد.

 

إنّ واقع أميركا يفرض نفسه فرضاً على إعلانات التلفاز وأحداث الرئاسة المعدّة مسرحياً، وطقوس الصخب الرياضي الأسبوعية)[34]، ولاشكّ أنّ هذا يدفع إلى الاعتقاد بأن الأزمة الأخلاقية للرأسمالية ما زالت بعد لم تنعكس بكامل تعبيراتها الداخلية، وهي بحاجة إلى وقت أكبر ليتّضح فيما بعد أنّ السلطة السياسية التي شهدت قبل سنوات انفجار مدينة لوس أنجلوس؛ بسبب العنصرية الخطرة التي تختزنها الحياة الأمريكية، ربما لا تستطيع أن تحتوي انفجاراً آخر في هذه المدينة أو في غيرها من المدن الأمريكية، إذ درجة العنف ونوعيته التي عكستها أحداث لوس انجلوس لم تُعبّر فقط عن السبب العنصري الذي فجّر الأحداث، بل إنّ أسباباً أخرى اقتصادية تتمثّل في الفوارق الطبقية ما كانت تنفصل بالنهاية عن منظومة أسباب الانفجار، والصورة تبدو فيما يرتبط بالسياسة الأمريكية الخارجية قابلة لإفراز ما هو أكبر من أزمة لبنان، وأزمة الصومال، وأزمة التحدّي الإيراني والإسلامي بشكل عام بالنسبة لهذه السياسة، وعلى كلا المحورين الداخلي والخارجي، يبقى البعد, الأخلاقي الذي أفرغت منه الرأسمالية منذ البداية، هو المشترك الذي سيدفع بالرأسمالية إلى المجهول، وسيبقى السؤال الذي أطلقه السيد الشهيد محمد باقر الصدر قائماً إلى أمدٍ بعيد إذ يقول: (وماذا يمنع المجتمع الرأسمالي، إذا كان يؤمن بالحرية الرأسمالية مجرّدة عن كل الإطارات الروحية والخلقية.. أن يسخّر سائر الكتل البشرية لحسابه، ويستعبدها لقضاء مآربه؟!.

 

والواقع التاريخي للرأسمالية، هو الذي يجيب على هذا السؤال.

 

فقد قاست الإنسانية أهوالاً مروّعة، على يد المجتمعات الرأسمالية؛ نتيجة لخوائها الخلقي وفراغها الروحي، وطريقتها الخاصة في الحياة، وسوف تبقى تلك الأهوال وصمة في تاريخ الحضارة المادية الحديثة، وبرهاناً على أنّ الحرية الاقتصادية التي لا تحدّها حدود معنوية، من أفتك أسلحة الإنسان بالإنسان وأفظعها إمعاناً في التدمير والخراب)[35].

 

وفي السياسة الخارجية اتّضحت الأزمة الأخلاقية للسلوك السياسي الأمريكي بشكل فج أثناء حرب الخليج الأخيرة التي قذفت فيها أميركا من مواد التدمير على بلد مثل العراق، لتحطيم ركائزه ومقوّماته، ما لم يحصل في أي حرب تقليدية أخرى بمقياس هذا البلد جغرافياً وسكانياً ودوراً عسكرياً.. لينتج هذا السلوك الوحشي، عن إبقاء حاكم العراق في السلطة، بعدما مورس التدمير الأمريكي للبلد تحت شعار ضرورة إسقاط هذا الحاكم، تتكشّف بعد ذلك البشاعة الأمريكية، وصورة رهيبة من غياب الأخلاقية بما صنع معاناة أسطورية لشعب العراق.

 

وقبل ذلك، فإن المواجهة الأمريكية ـ الإسلامية على المحور الإيراني، بقدر ما أسفرت عن هزائم للقوة الأمريكية فإنها فضحت الخواء الأخلاقي للسلوك الأمريكي بالشكل الذي ولد إرباكاً واضحاً لهذا السلوك الذي وصلته الإدارة الأميركية فيما قبل انتهاء الحرب بين إيران والعراق بإسقاط الطائرة المدنية الإيرانية التي راح ضحيتها زهاء أربعمائة ضحية مدنية.

 

لقد أعطت هذه الواقعة وعشرات الوقائع التي سبقتها على خط الممارسة الأميركية إزاء الجمهورية الإسلامية في إيران خطاب الإمام الخميني قدراً آخر من التركيز على المصير الأمريكي في ضوء الانعدام الأخلاقي، فهذا العامل الأخلاقي المفقود وتشخيص الإمام لواقع الرأسمالية الأميركية داخلياً ونظرياً، جعل الإمام وعلى أساس من وحي الأرضية العقائدية التي تحدد رؤيته السياسية للقوى الكبرى التي ترسم خطّاً ترقّبياً مفتوحاً، جعلته يتوقّع نهاية من أميركا إن عاجلاً أو آجلاً.

 

ومنذ أكثر من عشرين سنة كان من الممكن قراءة الصورة الرأسمالية من الداخل وبما يشير آنذاك إلى نهاية حتمية، فمنذ ذلك الوقت، وكما يقول المفكّر الشهيد السيد الصدر: (انكشف الميدان عن ثراء فاحش من جانب الأقلية من أفراد الأمة، ممن أتاحت لهم الفرص وسائل الإنتاج الحديث, وزوّدتهم الحريات الرأسمالية غير المحدودة بضمانات كافية لاستثمارها واستغلالها إلى أبعد حد، والقضاء بها على كثير من فئات الأمة التي اكتسحت الآلة البخارية صناعتها، وزعزعت حياتها، ولم تجد سبيلاً للصمود في وجه التيار، ما دام أرباب الصناعات الحديثة مسلّحين بالحرية الاقتصادية وبحقوق الحريات المقدسة كلها، وهكذا خلا الميدان إلا من تلك الصفوة من أرباب الصناعة والإنتاج، وتضاءلت الفئة الوسطى واقتربت إلى المستوى العام المنخفض، وصارت هذه الأكثرية المحطّمة تحت رحمة تلك الصفوة، التي لا تفكر ولا تحسب إلا على الطريقة الديمقراطية الرأسمالية، ومن الطبيعي حينئذ أن لا تمدّ يَد العطف والمعونة إلى هؤلاء، لتنشلهم من الهّوة وتشركهم في المسيرة الضخمة.

 

ولماذا تفعل ذلك؟! ما دام المقياس الخلقي هو المنفعة واللذة، وما دامت الدولة تضمن لها مطلق الحرية فيما تعمل، وما دام نظام الديمقراطية الرأسمالية يضيّق بالفلسفة المعنوية للحياة ومفاهيمها الخاصة؟!)[36].

 

وبعد عشرين عاماً سارت عجلة الفوارق الطبقية بسرعة متصاعدة، ناخرةً بذلك المعادلة الاجتماعية الداخلية، وخارقةً لتوتّرات قادمة لا يدري أحد متى تتغيّر، بشكلها النهائي، لتنتهي الحقبة الأميركية ويتحقق الاستشراف الخميني.

 

ــــــــــــــــــــ

 

[1] سورة الرعد، الآية:11.

 

[2] في بيان للإمام الخميني في العام 1977م.

 

[3] في بيان للإمام أصدره في 10 حزيران 1978م.

 

[4] المنطلق العدد(56) ص107.

 

[5] المصدر نفسه ص108.

 

[6] المصدر نفسه.

 

[7] محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، الجزء الخامس.

 

[8] الوصية الإلهية ـ السياسية.

 

[9] سورة محمد، الآية:7.

 

[10] سليم الحسني، مقال في مجلة الثقافة الإسلامية، العدد(37).

 

[11] المصدر نفسه.

 

[12] بيان الإمام في العام 1977م.

 

[13] في حديث للإمام بعد مجزرة قم في العام 1963.

 

[14] سورة آل عمران، الآية:54.

 

[15] راجع نص الرسالة في ملحق رقم (2) في آخر الكتاب.

 

[16] (والإمام الخميني الذي أدرك ببصيرته نهاية(الشيطان الأحمر) المتمثل بالاتحاد السوفيتي ودعا إلى مؤتمر محاكمة الجرائم الأميركية في بدايات تأسيسه الجمهورية الإسلامية في إيران، يجعلنا نثق أكثر فأكثر بأن المشروع الإسلامي والوطني على موعد مع سقوط وانهيار الشيطان الأكبر > إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين، ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين<(القصص، 4، 5). فتحي يكن، مدرسة الإمام الخميني في مواجهة الانحرافات الفكرية والتحديات الأميركية والصهيونية، مؤتمر الجهاد والنهضة، حزب الله لبنان. 15 شعبان 1420هـ.

 

[17] عمر حرب، الأمين العام المساعد للاتحاد الاشتراكي العربي في لبنان/ من كلمة له نشرت في كتاب (عبرات وعبر)، إصدار المستشار الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، بيروت، في أيار 1990م.

 

[18] مجلة الثقافة الإسلامية، العدد: (55)، ص 17.

 

[19] طلال سلمان صاحب ورئيس تحرير جريدة السفير اللبنانية راجع كتاب(عبرات وعبر)،مصدر سابق.

 

[20] راجع رسالة الإمام إلى نجله أحمد في ملحق رقم (3) في آخر الكتاب.

 

[21] راجع كتاب الحياة السياسية للإمام الخميني.

 

[22] سورة يوسف، الآية:21.

 

[23] في العام 1964.

 

[24] راجع مجلة الثقافة الإسلامية، العدد(37).

 

[25] في 5 ذي الحجة 1408هـ.

 

[26] في 5 ذي الحجة 1408هـ.

 

[27] في 1ذي الحجة1407هـ.

 

[28] في 13/12/1979م.

 

[29] في 29 رمضان 1401هـ.

 

[30] في 29رمضان1401هـ.

 

[31] راجع رسالة الإمام إلى غورباتشوف.

 

[32] سورة القصص، الآية:5.

 

[33] نقلاً عن هربرت شيلر، المتلاعبون بالعقول ـ سلسلة عالم المعرفة،ص 244، مصدر سابق.

 

[34] المصدر نفسه،ص 245.

 

[35] محمد باقر الصدر: اقتصادنا، ص 277.

 

[36] محمد باقر الصدر: فلسفتنا، ص 43.

 

 

 

 

 

 

 

دراسات الكاتب:

 

الخطاب الثوري.. البنية، الثوابت، الملامح [1]

 

الخطاب الثوري.. البنية.. الثوابت.. الملامح[2]

 

الدول الكبرى.. النظام الدولي..

 

الغرب والحضارة الغربية خطوط المواجهة.. وشروط التفاعل

 

التخريب الثقافي والفكري: الجامعة ـ الحوزة

 

القيادة الإسلامية

 

الإمام الخميني والإعلام

 

الإمام الخميني رجل القرن العشرين، ورجل القرن الحادي والعشرين

 

الجذر المعتقدي للاستشراف الخميني