الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني(قدس سره)، هي الوحيدة من بين الحركات التي ظهرت في العصر الحديث في الدول العربية والإسلامية التي تستحق بجدارة أن يطلق عليها اسم «ثورة». فهي تختلف تماماً عن الحركات السياسية والانقلابات العسكرية التي قامت من أجل الاستحواذ على السلطة، أو لدواعٍ قومية أو طائفية أو معيشية أو ما شابه ذلك.‏

 

فالثورة الإسلامية الإيرانية نهضة عارمة، قامت لتعيد صياغة المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في إيران بشكل جذري، من منطلقات فكرية وعقائدية وفقهية مكتملة ومترابطة.‏

 

تميزت هذه الثورة بأنها انطلقت من قول رسول الله(ص): «مَنْ رَأَى سُلْطَاناً جَائِراً، مُسْتَحِلا لِحُرُمِ اللَّهِ، نَاكِثاً لِعَهْدِ اللَّهِ، مُخَالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللَّهِ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، ثُمَّ لَمْ يُغَيِّرْ بِقَوْلٍ وَلا فِعْلٍ، كَانَ حَقِيقاً عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَه»(1)، ومن الاقتداء بسيرة الإمام الحسين(ع) في الجهاد والتضحية.‏

 

تميزت هذه الثورة أيضاً بأنها انتصرت وحققت إنجازاتها اعتماداً على إرادة الجماهير.‏

 

* من الثورة إلى الدولة‏

 

مما ميّز الثورة الإسلاميّة الإيرانية عن غيرها من الثورات، أنّها انتقلت بسرعة قياسيّة بعد إسقاط عرش الطاغوت إلى بناء الدولة، رغم الكثير من التحديات والمؤامرات التي قادتها دول الاستكبار العالمي، ورغم الاغتيالات الفظيعة التي تعرضت لها. فهذه ميزة بالمقارنة مع الثورة الفرنسية التي لم تستقر إلا بعد ثماني سنوات من الفوضى والاضطرابات، والثورة الروسية التي عانت من المذابح والحرب الأهلية الدامية لأكثر من خمس سنوات.‏

 

أغلب الثورات تتعرض لمعارضة داخلية تضعها أمام مخاطر الحرب الأهلية، وتعيق انتقالها إلى البناء، وهو ما اعتاد الصحافيون على التعبير عنه بأن الثورة تأكل بعضها. في إيران اختلف الحال، فالتحدي الخارجي من قبل المتضررين من قيام الثورة ومن سقوط الشاه كان الأكبر والأخطر، وهو الذي حاول دائماً إثارة الداخل، مستغلاً التعدد في القوميات، ومستفيداً من بقايا أجهزة الشاه. إلا أن ذلك ـ رغم خطورته ـ لم يمنع بناء الدولة الحديثة، ولم يلجئ قادة الثورة إلى مصادرة الحريات ولا تأجيل أي انتخابات عن موعدها، بل زادهم إصراراً على إنجاز بناء المؤسسات بسرعة فائقة. وهذا له دلالته العميقة على صدقية المبادئ والقيم والشعارات التي قامت الثورة على أساسها، وله دلالته على مدى تفاعل الجماهير وتبنيهم لها.‏

 

* منطق الثورة ومنطق الدولة‏

 

هل من تعارض بين منطق الثورة ومنطق الدولة؟ ولماذا هذا التعارض إن وجد؟‏

 

ينطلق البعض من أن الثورة دائماً تشكل مساراً يفرض عليها اعتماد رؤية ومنطق وتفكير وأسلوب مغاير تماماً لمسار بناء الدولة، الذي يفرض أسلوباً وتفكيراً ومنطقاً ورؤية مناسبة لمشروع الدولة.‏

 

ذلك أن الثورة مرحلة تستهدف إسقاط النظام وتفكيك المؤسسات، بينما الدولة تقوم بتشكيل النظام وبناء المؤسسات. الثورة تعتمد الخطاب الحماسي والتحريضي، بينما الدولة تمارس الخطاب العقلاني والتوحيدي. الثورة خروج على القانون، بينما الدولة تحافظ على القانون. الثورة تصنع الفوضى والاضطراب وتنتعش فيهما، بينما الدولة تعمل على إرساء الأمن والاستقرار الذي تحتاجه في عملها.‏

 

فبين الثورة والدولة تغاير تام في المنطق وطريقة التفكير والعمل، رغم أن الثورة أيضاً تهدف لاحقاً إلى بناء الدولة الجديدة مكان القديمة، والنظام الجديد مكان القديم، إلا أنها مضطرة لتغيير منطقها والتخلي عن منطق الثورة عند الانتقال إلى هذه المرحلة.‏

 

وهنا ليس كل من نجح في صنع الثورة سينجح حتماً في بناء الدولة. الانتصار في مرحلة لها خصوصيتها وأسلوبها وطريقتها وشرائطها، لا يستلزم الانتصار في مرحلة أخرى مغايرة في كل ذلك.‏

 

أين الخلل في هذا التفكير؟‏

 

صحيح أن مستلزمات أي مرحلة هي خاصة بها، من التخطيط إلى اختيار أسلوب العمل والأدوات وترتيب الأولويات والخطاب، إلا أن الثورة والدولة بينهما علاقة تكامل، ويجب أن يشكلا معاً مساراً واحداً متواصلاً. وإذا كان هناك من خلل في بعض التجارب، فهو لا يعني وجود تعارض بين المنطقين.‏

 

فهدف الثورة الإسلامية ليس إسقاط النظام فحسب، وإنما بناء النظام وفق رؤية خاصة، وليس إلغاء الدولة السابقة فحسب، وإنما بناء دولة العدالة والصلاح مكانها، دولة الاستقلال الحقيقي، دولة تخدم الناس وتحفظ مصالحهم. وكأي بناء، لا بد من إزالة القديم من باب المقدمة، ليس إلا.‏

 

نعم، إن التعصب لأي وسيلة أو طريقة عمل والإصرار على اعتمادها في مختلف الظروف خطأ.‏

 

ومجرد اختلاف آليات العمل من مرحلة إلى أخرى، لا يعني أبداً التنكر لبقية الآليات والوسائل.‏

 

* الإمام الخميني بين مبادئ الثورة ومشروع الدولة‏

 

لقد نظّر الإمام الخميني للدولة الإسلامية منذ كان أستاذاً في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، وشيّد البناء الفقهي لولاية الفقيه. وعندما وطِئت قدماه أرض الثورة بعد عودته من منفاه، أعلن عن تشكيل الحكومة، ودعا قيادة الثورة إلى بناء المؤسسات، وكان دقيقاً في التقيد بأحكام الدستور، فهل تخلّى عن منطق الثورة، أم أنه كان يستكمل مسارها عبر ذلك؟‏

 

هنا، لا بد لنا من الإشارة إلى مبادئ الثورة، لنرى كيف عمل الإمام على حفظها في مشروع الدولة. فأهم تلك المبادئ إقامة الدولة المبتناة على الإسلام المحمدي الأصيل، وحاكمية قيم الدين والمنهج الفقهي والأخلاقي لأهل البيت (عليهم السلام)، وولاية الفقيه في عصر غيبة المعصوم، والاستناد إلى الشعب كحاضن للثورة والدولة، ومنشأ قوتهما، وتحقيق العدالة الاجتماعية. هذه المبادئ كفلها دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية بشكل واضح وصريح، ووضع جملة ضمانات دستورية تحول دون الوقوع في دكتاتورية الحكم، وانحرافه عن هذه المبادئ، حتى على مستوى الولي القائد، فضلاً عمّن دونه من مستويات الإدارة والحكم. وبذلك، ضمن الإمام الخميني استمرار الثورة كنهج ومبادئ وأهداف في الدولة، فالإسلام اليوم هو الحاكم.‏

 

وهكذا، نرى كيف حُفظت مبادئ الثورة الإسلامية المظفرة في الدولة الإسلامية. وهذا يشكل انتصاراً كبيراً أهم من الانتصار الذي تحقق يوم سقط نظام الشاه وأزيل حكم الطاغوت.‏

 

* الامتحانات الصعبة‏

 

تعرضت الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الراحل لعدة امتحانات صعبة وقاسية، منها: الحرب المفروضة التي شنت على مدى ثمانية أعوام، والتي أريد من خلالها إسقاط الثورة وإعادة إيران إلى حظيرة الطاعة للاستكبار الأمريكي، ومنها: سلسلة الاغتيالات التي طالت أعمدة الدولة، وبشكل لم يشهد له مثيل في السابق. وقد تجاوزت الثورة هذه العقبات القاتلة بصبر وحكمة منقطعة النظير، واستمر حضور الناس ومشاركتهم الكثيفة في الانتخابات حتى اليوم، وهو أحد مظاهر استمرار نهج الثورة.‏

 

عندما تعرضت إيران للحصار الاقتصادي والسياسي، ترجم الإمام إصرار إيران على الاستقلال ثقافياً واقتصادياً بأكثر من موقف، فأقفل الجامعات ريثما تعاد صياغة المناهج الجامعية التي تحقق الاستقلال، وهو ما سمي بالثورة الثقافية. وأمر كل مقتدر أن يساهم بزراعة القمح. واستطاعت إيران بعام واحد أن تحقق الاكتفاء الذاتي في مجال الاكتفاء الغذائي، لكي لا تبقى لقمة عيش الناس مرهونة للمستكبر والمحتكر.‏

 

هذه نماذج قليلة من التحديات والامتحانات التي تعرضت لها الثورة في مراحل صنع الاستقرار وبناء مؤسسات الدولة والمجتمع. وفي كل مرة ـ ونتيجة استمرارية مبادئ الثورة، وبفضل حكمة الإمام وحضور الشعب الإيراني الحي والحرِّ ـ كانت إيران تخرج أقوى وأعز وأكثر منعة وحصانة.‏

 

وما تشهده إيران اليوم بفضل الله من تألق ومن تقدم على المستويات العلمية والتكنولوجية والصناعية كافة، ينقلها إلى مصافّ الدول العظمى، يأتي نتيجة طبيعية للمبادئ الحية للثورة التي لم تمت ولم يبهت لونها بعد مضي عقود ثلاثة على انتصارها الأول، وستستمر بإذن الله.‏

 

ـــــــــــــــ

 

(*) مدير عام المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم.‏

 

(1) بحارالأنوار، ج‏44، ص‏382.‏