بسم الله الرحمن الرحيم

 

أحمد الله وأستعينه، وأستغفره وأتوب إليه، وأعوذ بالله من شر نفسي إنّ النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي.

 

اللهم صل على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسرّ المستودع فيها.

 

من المسئوليات الثقافية التي أجد ضرورة تحملها، والعناية بها من خلال بيانها –ونحن نعيش ذكرى رحيل روح الله الموسوي الخميني (قده)-: معرفة خط الإمام ونهجه والتعريف به، لكونه خطاً مُستمداً من روح الشريعة الإسلامية، وصانعه فقيه استثنائي في كل وجوده، وفي كل صفاته، وفي كل أفعاله، وفي كل تطلعاته.

 

وأود في هذه الذكرى أن أسلط الضوء على مسألة من مسائل الخط، وهي مسألة التكليف السياسي والاجتماعي عنده (قده)، ولا أدري ما إذا كنت قادراً على المساهمة في بلورة بعض ملامح نظرية للتكليف السياسي والاجتماعي من خلال وجهة نظره (قده)، وكيف كان فقد رصدت بعضاً من لئالي ذرر كلامه (قده)، وحاولت نظمها في عقد واحد، لتشكل رؤية متكاملة في البعد الذي أردت بحثه، وكلامه لا يحتاج مني سرداً توضيحياً، فكلماته سهلة، واضحة، عذبة كالزلال .

 

وهذا البحث ليس بحثاً للحرفيين السياسيين والاجتماعيين فحسب، بل لكل مؤمن ومؤمنة، ورغبت في استعراضه ليخلق هماً، ويولد رؤية عند أكبر عدد من الناس، لتصون وتساعد على استيعاب الحركة التكليفية الميدانية.

 

وأود التنويه إلى أنّ التكليف السياسي والاجتماعي قد يكون واجباً وقد يكون مستحباً، لأنه يجب دفع المنكر والأمر بالمعروف، فإذا شخص الفقيه الصالح التكليف العيني قد يجب على جميع الناس دفع المنكر والأمر بالمعروف، وهكذا لو شخص التكليف الكفائي فقد يجب على البعض من الذين يسقط بهم الواجب، ولو تخلف هذا البعض لكان الجميع مأثوماً، ففي الخبر، قال الإمام الباقر(ع): {أوحى الله تعالى إلى شعيب النبي(ص) إني لمعذب من قومك مائة ألف، أربعين ألفا من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم، فقال: يا ربّ، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ فأوحى الله عزّ وجل إليه: داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبو لغضبي}.

 

وخيرية الأمة ليس لكونها مُصلية مع عظمة الصلاة، وليس لكونها صائمة مع الصيام من عظمة، وإنما لأنها آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر، قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}.

 

وكيف كان سأتناول الحديث ضمن المحاور التالية:

 

المحور الأول

 

تعريف التكليف

 

التكليف السياسي والاجتماعي هو الوظيفة الرئيسية التي شخصها أو اعتمدها المجتهد الصالح من بين وظائف متنوعة ومتفاوتة من حيث الأهمية الشرعية، وفي لحظة من الزمن الصعب، ووفق رؤية شرعية صافية، وأشير لموقف الشعب من قانون الأحوال الشخصية تلبية لقيادة المجلس الإسلامي العلمائي، هذا القانون الذي لا زال الرهان على تفعيله بطريق وآخر، ولا يسعني هنا إلاّ أن أستغرب توقيع بعض الجمعيات الإسلامية على احترام قانون سيداو وقانون ما يُسمى بالجندر، وهي خطوة أقل ما يُمكن القول عنها أنها ناتجة من الغفلة، ولا ينبغي ذلك، ويجب تدارك هذا الموقف بشكل وآخر، ففي القانونين من الانحرافات الخطيرة التي يراد تطبيعها في بلداننا الإسلامية، كالزواج المثلي وما شابه ذلك، وعلى كل حال.. عدنما اتخذ المجلس موقفاً حاسماً في مواجهة هذا القانون، تعالت بعض الأصوات من داخل الصفّ المؤمن عن أولوية مواجهة قانون الأحوال الشخصية مقارنة بالملف الدستوري، ولست في صدد مناقشة أولوية أحدهما عن الآخر، وإنما لبيان وجود وظائف متنوعة في الأهمية، وتشخيص الوظيفة من بين مجموعة من الوظائف من أهم القضايا في العمل السياسي والاجتماعي، فللزمان والمكان والآلية دوراً أساسياً في إنجاح التكليف والوظيف الشرعية.

 

وهذه الوظيفة الشرعية قد تكون نأياً وعزلة، وقد تكون إيجاباً ومشاركة، وقد تكون ممانعة ومدافعة، وقد تكون تصدي ومواجهة، وهذا ما نتعلمه منه (قده)، فتشخيصه الشرعي هو الذي يفرض عليه طبيعة التكليف، إذ يقول في شأن مسألة مقاومة الشاه: {عندما كُنت في باريس، قال لي بعض أهل الخير: إن هذا لن يتحقق، وعندما لن يتحقق فيجب أن تتنازلوا قليلاً ! قلتُ: نحن عندنا تكليف شرعي، ونحن نسعى مقدار جهدنا وليس علينا أن نكون موفقين.. لقد شخّصتُ أنا الأمر بأنه يجب العمل بهذه الكيفية، فإذا تقدمنا فإننا نكون قد عملنا بتكليفنا الشرعي ونكون قد وصلنا إلى الهدف، وإذا لم نتقدم فإننا نكون أيضاً قد عملنا بتكليفنا الشرعي...}.

 

ومن الواضحات كون هذا التشخيص الذي تبناه دون غيره معتمداً على مجموعة من المعلومات والمعطيات، وأشير إلى مُعطى من المعطيات، وهو أنّ الشاه نفسَه فرض هذا الخيار، وهذا ما قاله (قده).. قال: لو أنّ هذا الرجل (الشاه) عمل بالدستور، وحفظ احترام الإسلام ومذهب الشيعة، لم يكن لنا عمل معه، فنحن لا نريد أن نصير شاهاً. كنّا نُقدّم النصائح، ونصدر التحذيرات بأن لا يرتكب ما يُخالف الإسلام حتى لا يضطرنا للعمل بالتكليف الشرعي".

 

فالمعطيات لها دورها في تحديد طبيعة التكليف، ومن يحكم له دور في تحديد طبيعة موقف الشعب منه.

 

المحور الثاني

 

موجبات التكليف

 

وقد أشار (قده) في كلامه إلى بعض مبررات التكليف بالتصدي والوقوف في وجه الشاه، وأشير إلى بعض المبررات والموجبات الأخرى لتقرب الرؤية بشكل أكبر:

 

الموجب الأول: تعرض المجتمع للضلال والكفر:

 

يقول (قده): {إن المسلمين اليوم وخصوصاً العلماء الأعلام منهم يتحملون مسؤولية كبيرة أمام الله تعالى، وبسكوتنا فإن الأجيال سوف تبقى إلى الأبد معرضة للضلالة والكفر، ونحن مسؤولون عن ذلك.. إنني لا أهتم بأن أعيش عدّة أيام إذا كانت بعار وذلّة}.

 

ومواجهة الضلال والكفر وظيفة جميع الأنبياء والأولياء والصالحين، ونجد أنّ الإمام الحسين(ع) قد ثار ضد يزيد وقدم دماءه لما رأى أنّ الحق لا يُعمل به والباطل لا يُتناهى عنه، فالإمام الحسين(ع) قدم دمه ليحافظ على المجتمع من الضلالة والكفر، ومتى ما نحى الحاكم منحى نشر الضلالة والكفر فسوف يواجه بالخيار الحسيني، وخيار حماية المجتمعات من الضلالة والكفر بحاجة لنفس زاهدة متجردة عن الدنيا، وهذا لن يحصل في ليلة وضحاها، بل يحتاج لتربية دائمة، تؤهلنا لوضع أرواحنا على أكفنا فداء للتوحيد، ونحن إن شاء الله في عصر الظهور، فلو ظهر ولي أمرنا فهل نحن على استعداد لنكون من أنصاره ونقدم أرواحنا قرابين في سبيله؟! إنّ هذا يحتاج إلى بناء للنفس، وإلاّ قد نكون متقدمين في مراتب النصرة لكننا لا نرقى لتقديم الروح، ويكون حالنا كذلك الذي قدم للإمام الحسين(ع) سيف جواده لكنه بخل بنفسه. (نسأل الله أن يُصلح ويغير أحوالنا بحسن حاله).

 

* ملامح عامة من وجهة نظر الإمام السياسيّة والاجتماعيّة

 

كنت في صدد وضع ملامح لنظرية التكليف السياسيّ والاجتماعيّ عند الإمام الخميني (قده)، ولكن وجدت صعوبة في استقصاء الرؤى والأفكار الخاصة بتفاصيل هذه النظرية بسبب الحاجة لمزيد من الوقت، وعليه سوف أكتفي بهذه المحاضرة مستبدلاً عنوان (ملامح لنظريّة...) إلى (ملامح عامة من وجهة نظر الإمام الخمينيّ (قده) في التّكليف السياسيّ والاجتماعي).

 

* من موجبات التكليف السياسيّ والاجتماعيّ

 

وقد وصل بي الحديث إلى موجبات التكليف السياسيّ والاجتماعيّ ومبرراته، وأشرت إلى الموجب الأول، وهو تعرض المجتمع للضلال والكفر:

 

وقد بيّنت أنّ ممّا لا شكّ فيه، ولا ريب أنَّ بسط التوحيد، ومواجهة عبادة غير الخالق من أوجب الواجبات التي تصدّت لها كلّ الرّسالات جيلاً بعد جيل، ولا يُعقل أنْ تبقى شجرة عبادة الواحد الأحد شامخة، متجذّرة دون أنْ تروى بعذابات وآهات وأنّات المؤمنين؟!

 

فإذا ظهر الكفر، وظهرت الضلالات والبدع، فعلى المؤمن العالم أنْ يقول الحقّ، وعلى المؤمن البصير أنْ يمارس تكليفه المُشَخَّص من قبل الفقيه العارف بزمانه، ففي المروي عن أهل البيت (عليهم السلام): {إذا ظهرت البدع، فعلى العالم أنْ يظهر علمه، فإنْ لم يفعل سُلب نور الإيمان}.

 

وفي خبر آخر عن رسول الله(صلّى الله عليه وآله): {فمن لم يفعل، فعليه لعنة الله}.

 

فالمسألة خطيرة جدًّا، فالتغاضي عن مواجهة البدع التي يتعرّض إليها المجتمع ليست مسألة اختياريّة مزاجيّة، فما قيمة السلامة عند التخلّي عن التكليف في قبال الطرد من رحمة الله؟!

 

وهل يعتقد أنّه سيكتفي بالصلاة، والصوم للحفاظ على الايمان؟ كلا، فمن تخلّى عن تكليفه في مواجهة البدع والضلال سوف يسلبه الله نور الإيمان، وأيّ قيمة عندئذ لإيمان لا يُبصر به الحقيقة، ولا يُنقذه من الظلمات؟!

 

الموجب الثاني: تعرض أحكام الإسلام للخطر

 

يقول الإمام الخميني (قده): {عندما يرى الإنسان أنّ أحكام الإسلام في خطر، فيجب عليه أنْ يثور لله، فإذا استطاع فإنّه يكون قد عمل بوظيفته، ويكون قد أحرز تقدمًّا، وإذا لم يستطع فإنّه يكون على الأقل قد عمل بتكليفه}، فلا يسع المؤمن الذي تشخّص تكليفه من قنواته المشروعة إلاّ الدفاع الجهريّ حينما لا يكون للتقيّة موردٌ، وكيف يكون للتقيّة موردٌ حين تُسفك الدماء؟!

 

وكيف يكون للتّقيّة موردٌ حين يتعرّض الدّين للمحو، والتضعيف؟!

 

إنّ التقية لا مبرر لها إذا كانت موجبة، أو مساهمة في خلق الأجواء المساعدة على تبديل أحكام الله تعالى، وتغيير سنّة رسوله (صلّى الله عليه وآله).

 

أقول لا مبرّر لها، بل قد تكون محرّمة، ويجب الدفاع عن أحكام الشريعة ولو استلزم تعريض النفس للخطر، وهذا الموجب هو أحد أسباب قيام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، إذ قال: {أيّها النَّاس، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: مَن رأى سلطانًا جائرًا مستحلاً لحرم الله، ناكثًا لعهد الله، مخالفًا لسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل، ولا قول كان حقًّا على الله أنْ يُدخله مدخله}.

 

الموجب الثالث: تعرض المجتمع للظلم

 

وكما قال الإمام الحسين (عليه السلام): {يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان}، فالتكليف الطّبيعيّ هو الوقوف في وجه الظالم، وما عداه هو الذي يحتاج إلى تقييد، وهذا ما أَلْفَتَ إليه الإمامُ الخميني (قده) بقوله: {إنّ تكليفنا هو أنْ نقف في وجه الظلم، إنّ تكليفنا هو أنْ نكافح ونعارض الظلم، وإذا استطعنا أنْ ندفعه إلى الخلف فبها ونعمت، وإذا لم نستطع فإننا قد عملنا بتكليفنا}.

 

* يجب أنْ نصحّح نظرتنا

 

وفي إطار هذه الكلمة أودّ أن نُصحح نظرتنا للأشياء، فكثيرًا ما نُقدّر الأشياء، وننتقد، ونُسقّط، ونرّفع وفق النتائج، وهذا ليس صحيحًا، فنظرة المؤمن لا تختلف بينما إذا كانت النتائج إيجابيّة، أو سلبيّة، فإنَّ النتائج وإنْ كان لها قيمة لكن القيمة الحقيقيّة في امتثال التكليف، فإنّ امتثال التّكليف هو الانتصار الحقيقيّ، فالبعض منا يُسقط الآخرين، أو يرفعهم على وفق النتائج، يرفعهم حين ينتصرون، ويُسقطهم حين ينهزمون، وهذه ليست نظرة إيمانيّة، إذ لو كان المقياس على النتائج الماديّة الملموسة والسريعة لكن الإمام الحسين (عليه السلام) فاشلاً – والعياذ بالله -.

 

* موقعيّة المقاومة الإسلاميّة في قلوبنا

 

وإنّ لحزب الله الذي يتصدّى لمقاومة الكيان الصهيونيّ في القلب نفس الموقعيّة سواء حقّق انتصارًا أم لم يحقّق أي انتصار، والموقعيّة التي يحصل عليها في قلوبنا وقلوب الملايين من المسلمين إنّما هي بسبب وقوفه ضدّ الظلم والطغيان، وعلى هذا الأساس فكلّ التقدير والاحترام للسائرين على خطّ الله سبحانه، المبتغين رضاه سواء كانت نتيجة المسيرة إيجابيّة أو سلبية، فالمهم أنْ يتحرّك الإنسان وفق تكليفه الشرعيّ وإلاّ اعتبر عاصيًّا حين تخليه، أو حين قيامه بلا ضوابط شرعيّة.

 

فمواجهة الظلم خطّ ثابت، وهو وظيفة الأنبياء (عليهم السلام)، والسائرين على خطّ الأنبياء، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ...} الحديد:25، فالغاية من هذا الإرسال إقامة العدالة الاجتماعيّة، وزوال الظلم بين النّاس، والسكوت عن الظلمة الذين يبنون من حقوق الفقراء، ويزرعون من دماء المساكين، لهو تعطيل لأهداف الرّسالات، ومن هنا يجب مواجهة الظلم تحقيقًا لهدف الأنبياء (عليهم السلام)، فيقول (قده): (وعلماء الإسلام مكلفون بمكافحة المستغلين الجشعين، وأنْ لا يتركوا الكثرة من النّاس جائعة ومحرومة، وإلى جانبهم يتنعّم الظالمون المستغلون في النّعم).

 

هذه مجموعة من الموجبات عامة وشاملة، ويمكنني الاكتفاء بها، وأشرع في بيان المحور الثالث، وهو الجهة المعنيّة بتشخيص التّكليف، والوظيفة السياسيّة والاجتماعيّة.

 

المحور الثالث

 

الجهة المعنيّة بتشخيص التّكليف

 

إذ من الواضحات في مدرسة أهل البيت (عليهم السّلام) أنّ تشخيص التّكليف بيد الفقيه، وقد روي عن الناحية المقدّسة: {وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا}.

 

* شمول موضوعات الشأن السياسيّ لمصطلح الموضوعات المستنبطة

 

وفي هذا المجال أودّ التنويه إلى أنّه يُمكنني دعوى شمول موضوعات الشأن السياسيّ لمصطلح الموضوعات المستنبطة التي جعلها الفقهاء من مختصات الفقيه، فقد يكون هناك خلط بين الموضوعات المستنبطة التي هي من مختصات الفقيه، وبين الموضوعات الصرفة التي هي من مختصات المكلّف، والموضوعات الصرفة مثل تشخيص ما إذا كان الموجود على الثوب صبغًا أحمر وليس دمًا، أو العكس، وما إذا كان الموجود في الكأس عصير تفاح وليس خمرًا أو العكس، فهذه موضوعات يشخّصها المكلّف نفسه، أمّا موضوعات الشأن السياسيّ والاجتماعيّ، فقد تدخل تحت الموضوعات المستنبطة المختصة بالفقيه، هذا مُضافًا إلى أنّ توقف المرحلة الثالثة من مراحل الأمر بالمعروف والنهي المنكر على إذن الفقيه يعني توقّف الممارسة على تشخيصه.

 

* ضوابط مُشخّص التكليف، وآليات التشخيص

 

هذا من جهة، ومن جهة أخرى أودّ التنويه إلى أنّ قولنا بكون التشخيص من مختصات الفقيه ليس أمرًا مطلقًا في كل الظروف – وهذا بحاجة إلى بحث مفصّل ليس مورد بحثي الآن-، كما أنّه ليس أمرًا مفتوحًا أو بلا ضوابط، وهو مورد البحث، فهناك ضوابط وضعها لنا الإمام الخميني (قده) في المُشَخِّص للتكليف وآليّة تطبيق التَّشْخِيص، وأشير إلى بعض هذه الضوابط:

 

الضابط الأول: وحدة العمل والرؤية المُشخّصة

 

يقول (قده): (يجب أنْ يكون باب الاجتهاد مفتوحًا دومًا في الحكومة الإسلاميّة، وتقتضي طبيعة الثورة والنّظام أنْ تعرض جميع الآراء الاجتهاديّة الفقهيّة في المجالات المختلفة، ولو كانت تخالف بعضها البعض، بحريّة تامّة، وليس لأحد قدرة أو حقّ يمنعها، بيد أنّ المهم هو المعرفة الصحيحة للحكومة والمجتمع، والتي يستطيع النّظام الإسلامي على أساسها التّخطيط لما فيه منفعة المسلمين، ومن الضروري هنا وحدة العمل والرؤية...).

 

فهنا لكلّ متخصّص الحريّة بعرض رأيه التّخصّصي، لكن شريطة أنْ يكون رأيًا تخصّصيًّا عارفًا، فليس كلّ من أُطلق عليه لقب (آية الله العظمى) كان مؤهلاً لاستنباط الرأي السياسيّ والاجتماعيّ، بل حتى لو كان الأعلم، كما ستأتي الإشارة إليه، هذا من جهة.

 

* لا يمكن اعتماد كلّ الرؤى ميدانيًّا

 

ومن جهة أخرى فإنّه من أوضح الواضحات أيضًا أنّه لا يُمكن اعتماد كلّ الرؤى المختلفة ميدانيًّا، ولا بدّ من اعتماد آليّة تتحقّق عبرها الرؤية الواحدة والموقف الموحّد، وإذا أردنا أنْ نُسقط هذا المعنى على الواقع المحلّي المُعاش، فلا يُمكن تعدّد الرؤى العمليّة في ساحة بحجم (علبة صلصل صغيرة!!)، بل لا بدّ من توحيد الموقف والتنازل عن بعض القناعات، فقد كان لبعضنا موقف من المبادرة، وكان لبعضنا موقف من الميثاق، وقد كان بإمكاننا أنْ ننتقد، ونُمزّق، ونُسقّط، ولكن التغاضي عن الرؤى لمصلحة الموقف والمجتمع، وبروز الموقف الميدانيّ الموحدّ مكّن أصحاب المبادرة من إعادة الحسابات، ودراسة الأوراق من جديد، حتى آثروا السجن مُجدّدًا، فالوحدة حول الموقف تُمكّن من تلافي الأخطاء على فرض وجودها، بخلاف التمزقات، فإنّها موجبة لانشغال المتخاصمين ببعضهم البعض، أو موجبة للفشل في المشاريع، لأنّ كلّ المشاريع مهما كانت ناجحة فسوف تكون فاشلة لارباكات الزّمان والمكان والإخوان، أو موجبة لتأخير المكتسبات نتيجة التّدافعات التي سوف تفرض بالنتيجة أحد الخيارات، واستثمار التناقضات وتضخيمها، فلنتنبه للاختراقات الكبيرة في داخل الصفوف، وعلينا أنْ ننشغل بتوحيد صفوفنا بدلاً من تمزيقها وتفريقها، فسنّة الحياة في فشل المتمزّقين مهما كانوا محقّين، فقد قال تعالى: { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ...}.

 

الضابط الثاني: حصر صلاحيّة التشخيص في المجتهد الكفء

 

فلا يكفي حتى يكون العالم مرجعيّة دينيّة، وقيادة سياسيّة أنْ يكون مجتهدًا، عادلاً، متصدّيًا، شجاعًا، بل يجب أنْ يكون ذا كفاءة في المجال السياسيّ والاجتماعيّ؛ ليكون الأصلح لإعطاء الرأي في هذين المجالين، وهذا ما علّمنا إيّاه (قده)، إذ يقول بعد أنْ بيّن البعد الأول: (وهنا يكون الاجتهاد المصطلح في الحوزات لا يكفي، بل إذا كان شخص هو الأعلم أيضًا في العلوم المعهودة في الحوزات، لكنّه غير قادر على تشخيص مصلحة المجتمع، أو لا يقدر على تشخيص الأفراد الصالحين والنافعين من غير الصالحين، وبشكل عام يفتقد في المجال الاجتماعيّ والسياسيّ إلى رؤية صحيحة، وقدرة على اتخاذ القرارات..، فإنّ مثل هذا الشخص لا يُعتبر مجتهدًا في المسائل الاجتماعيّة والحكوميّة، ولا يُمكنه أنْ يستلم زمام المجتمع)، فهناك تحدّيات ضخمة تواجهها الشعوب المؤمنة بالله، وهناك مؤامرات تواجهها كل شعب من ظروف معقّدة ودقيقة، ومواقف متنوعة وحسّاسة، وقضايا سياسيّة محليّة وإقليميّة ودوليّة متشابكة، وتطوّرات كبيرة في الساحات الإسلاميّة المختلفة، فكلّ ذلك يتطّلب من القيادة المتشرّعة أنْ تكون بمستوى عالٍ من الكفاءة، ولديها من المستشارين والقوى المتخصّصة النافعة والمتابعة ما يُمَكّنها، ويعينها على تشخيص الأولويات، والموضوعات بسرعة ودقّة.

 

* عدم الخلط بين الرؤى المختلفة والرؤى المتشرعيّة

 

وفي هذا الصدد أودّ أن أنوّه إلى أنّه ينبغي للمجتمع أنْ لا يخلط بين الرؤى المختلفة وبين الرؤية المتشرعة، فالرؤى المختلفة مطلوبة ورافد قوّة في إطار دوائر الاختصاص، إلاّ أنّ الواقع العمليّ الميدانيّ لا يتطلّب إلاّ رؤية شرعيّة واحدة فحسب، والخلط بين الرؤية والنظريّة وبين الرؤية المُتبعة ميدانيًّا من الأخطاء التي تقع فيها المجتمعات حينما تخرج الرؤى عن الدوائر التخصّصية والمعنيّة، وتُباع الرؤى في مزاد السوق الشّعبيّة، الأمر الذي لا شكّ في أنّه سيُربك وحدة المجتمع، ويمزق مواقفه ويُضعفها، ويفشل برامجه، ويمنعه من تحقيق تطلعاته.

 

* الشرع هو المحور

 

وهنا أؤكد مجدّدًا ضرورة أنْ تكون ممارساتنا وفق الرؤية الشرعيّة، فقد لا يقتنع بعضنا بقيادة شرعيّة ما، وهذا الأمر راجع إليه، ولكن عليه أنْ لا يقع في فخّ إتباع غير المتشرّع، وأرجو أنْ لا يُقال أنّ (عادل الشعلة) يدعو لجهة، ويُسقط جهة أخرى، فقد تكون جهة أو جهات تسير وفق رؤيتها الشرعيّة، فليس كلامي حول شرعيّة الجهة الفلانيّة من عدم شرعيّتها، وبغض النظر عن أرجحيّة التعدّد من عدمه، فكلامي هو في التأكيد على صياغة الرؤية السياسيّة الإسلاميّة، وهي أنّ المؤمن يدور في حركته ومواقفه مدار التشخيص الشرعيّ، ولا يحيد عنه إلى رؤية لا عناية لها بالشرع، هذا ما أود التنبيه عليه، إذ كما قلت وهذا ما تلمّسته، فقد يتّخذ الواحد منّا موقفًا تجاه قيادة شرعيّة ما، فيكون موقفه موجب لردّة فعل لا مبالية بالجانب الشرعيّ، بل عليك إمّا أنْ تعتزل الساحة وإمّا أن تتّبع قيادة متشرّعة أُخرى تقتنع بها، وتضارب المتشرعة بحث أشرت لبعض معالجاته. (أسأل الله العليّ القدير أنْ يوفقني وإيّاكم لما فيه الخير والصلاح) (2).

 

ـــــــــــــــــ

 

1ـ حديث الجمعة المحاضر: الشيخ عادل الشعلة - مسجد مؤمن، التاريخ: 6-6-2008 – 3 جمادى الثاني 1429هـ.

 

2ـ حديث الجمعة المحاضر: الشيخ عادل الشعلة - مسجد مؤمن، التاريخ: 13-6-2008م.