المؤسسة العسكرية

 

نقف هنا على رؤية الإمام حول دور المؤسسة العسكرية ليس في إيران أيام الشاه فحسب وإنما في مجمل المنطقة الإسلامية، إذ ليس أمراً يحتاج إلى توضيح أن نقول بأن دور الجيش والمؤسسات العسكرية في معظم البلدان العربية والإسلامية لم يكرس لما هو مفروض للقضايا الدفاعية البحتة. والحؤول دون تعرض الدول إلى اعتداءات خارجية، لقد استخدمت المؤسسة العسكرية ولازالت تستخدم في سحق حركات الرفض الشعبية على الأنظمة، وتحولت إلى أدوات تنفذ أرادة السلطات الدكتاتورية، ووضعت حواجز بينها وبين أبناء الشعب، وربما أعطيت في بعض الأحيان امتيازات خاصة لكي تقوم بمهامها على أحسن وجه، وأخضعت إلى قوانين استثنائية صارمة وحرّم عليها العمل السياسي، ووضعت لها محاكم خاصة، وأقفلت كمجال أساسي في الولاء والانتماء للسلطة الحاكمة، وباختصار لقد أسيء استخدامها إلى درجات خطيرة وخطيرة جداً.

 

كان الإمام يستوعب هذا المعنى ويستوعب أن الجهد الدولي المعادي للإسلام اخذ يركز على هذه المؤسسة بغية إبقائها مخترقة على الدوام.. فلقد حرصت الدول الكبرى على تربية الكادر الأعلى العسكري في الدول الإسلامية تربية غربية أو شرقية وحرصت على أن تجعل من المؤسسة العسكرية مجالاً لتمرير أخطر المهام الدولية والتحوّلات المصيرية في أوقاتها المطلوبة، وكان الإمام يحذّر من هذا التوجه التربوي كما أنه كان يقول في أحد لقاءاته بخريجي الكلية العسكرية[1], كان يقول لهم: (انتم الذين تتلقون العلوم في المدارس العسكرية عليكم أن تنتبهوا إلى هذه المسألة، وهي أن دراساتكم يجب أن تكون من أجل خدمة الشعب واستقلاله حريته وصيانة حدود وثغور البلاد، أن هدفكم يجب أن لا يكون الوصول إلى القيادة على حساب الشعب، فهذه هي من صفات الدكتاتورية حيث أن الدكتاتوريين يريدون الوصول إلى السلطة بأي ثمن كان، ولو كان في ذلك القضاء على الشعب أو الجيش).

 

يحاول الإمام من خلال هذا النص ومن خلال عشرات النصوص الأخرى أن يضع يده على الداء الخطير الذي تتعرض له المؤسسة العسكرية، فهو يسعى إلى إخراج هذه المؤسسة من التبعية التربوية للغرب.. وحتى قبل أن تصل الثورة إلى نقطة الانتصار.. كان الإمام يحاول تحطيم هيكل الخصوصية المعطاة للجيوش على حساب دورها الدفاعي عن ثغور البلاد، كما أنه كان يسعى إلى تحسين القوات المسلحة بأن هنالك خططا أبعادية يحيكها الأعداء.. وهناك مؤامرات عازلة وهمية لهم.. يراد من خلالها إبقاء الجيش كأداة من أدوات السلطة وأداة من أدوات إرهاب الناس الأبرياء.. تحت ذريعة خدمة الوطن والدفاع عن أمن البلاد، كان الإمام أيضاً حريصاً على تحديد علاقة ايجابية مع القوات المسلحة، وكان في جهده التربوي الثوري العام ومن خلال جهوده المعارضة لحكومة الشاه، يحاول أن يوجد جواً تقاربياً بين الجيش والشعب، فهو يقول في واحد من خطاباته[2] يقول: (يا أفراد الجيش المحترم وجهوا صفعتكم لأولئك .. أنكم مسلمون.. أن أكثر عناصر الجيش وقادته أناس طيبون، وللبعض منهم علاقة معي، حيث أنهم في بعض الأحيان يرسلون لي برقيات، فاعملوا يا أعزائي على طرد هؤلاء العاملين ضد مذهبهم، وضد بلادهم واستقلالهم، والمحطمين لاقتصادهم، اذهبوا وطالبوا كباركم بالعمل على إخراجهم.. فوالله إني أريد الخير لكم.. وأني لأخشى أن يأتي ذلك اليوم الذي تستيقظون فيه فلا تستطيعون عمل شيء، وإذا كنتم غير حاضرين لذلك فإني، أطالبكم بالحياد في مواجهتنا لهم وسيأتي اليوم الذي أقضي فيه عليهم.. فاعملوا على طردهم وألا فسيأتي اليوم الذي لا تستطيعون فيه فعل أي شيء ولا استطيع أنا أيضاً..).

 

إنّ السطور الأخيرة من كلام الإمام هذا توقفنا ولو سريعاً على ثقة الإمام بجهوده الثورية بحيث أنه يقول ومنذ العام 64م: (سيأتي ذلك اليوم الذي أقضي فيه عليهم).. أي على نظام الشاه، ويعود الإمام فيربط ذلك بدور القوات المسلحة بطريقة هادفة إلى إنقاذها أولاً، والى تحييدها ثانياً، على أقل تقدير. منذ العام 1964م والإمام يخطط للتعامل مع المؤسسة العسكرية.. مؤسسة الشاه، والكيفية التي يستطيع فيها القضاء على كبريائها السلبي، وعالمها الإرهابي، ودورها في خدمة شاه إيران، وبث المفاهيم الدينية في أوساطها وتحييدها إزاء جهده الثوري، وإقامة أجواء الثقة بينها وبين الطبقات الشعبية المستضعفة.

 

يقول الإمام في نص آخر في هذا الإطار وقبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران بفترة طويلة.. أي في عام 1963م يقول: (أننا لا نخاف من تجنيد طلابنا الإجباري، ليذهب شبابنا إلى الثكنات، وليعملوا على تربية إخوانهم الجنود، ورفع مستواهم الفكري، ولتكن من الأحرار وأصحاب الضمائر الحية والواعية جماعة يدعون في صفوف الجيش إلى الإسلام والثورة على الطغاة والمستكبرين، ونحن نعلم بأن البعض من قادة الجيش وضباطه وجنوده الشرفاء يشاركوننا مشاعرنا، ويستنكرون هذه الجرائم والأعمال الهمجية، كما وأني على علم بأساليب الضغط التي تمارس ضدهم، أن وضعهم يثير الشفقة، واني أمد يد الإخاء إليهم، وادعوهم إلى الأقدام والمبادرة لإنقاذ إيران والإسلام).

 

إنّ هذا الكلام الذي قاله الإمام بمناسبة مرور أربعين يوماً على فاجعة قم التي حصلت في العام 1963م، يسلط الضوء بصورة أكبر على اهتمام الإمام بالمؤسسة العسكرية وملاحقته لطبيعة العلاقة القائمة بينها وبين النظام الحاكم وللأساليب الفرضية التي توجد هذه العلاقة، كما أن الإمام كان يحاول أن يفجّر الموقف داخل هذه المؤسسة ويحدث خللاً في انضباطها وتماسكها من خلال أثارة هذا الأسلوب الفرضي، ومن خلال توجيه أنظار القوات المسلحة إلى سياسة(الشاه) التي تحشرهم في قضايا هي بعيدة عن قضاياهم الدفاعية الأساسية.

 

إنّ الإمام نجح إلى حد كبير في ضعضعة المؤسسة العسكرية(للشاه) وهي التي تمثل أداته الرئيسية في الحفاظ على نظامه السياسي، وهذه النتيجة إذا كانت تعبر عن شيء فهي تعبر عن الفهم الثوري للإمام وعن أساليب التحريض التي اعتمدها، فهي أساليب قائمة على استيعاب أولي لقواعد النظام(الشاهنشاهي) والأدوات القوية التي يمسك بها ومن ثم محاولة تهديم هذه القواعد وتخريب هذه الأدوات.. بالطبع لو كان اهتمام الإمام بالجيش في الانتفاضة التي حصلت في بداية الستينيات وقبلها مقطوعاً ولم يأخذ طابعه التواصلي ولم يلتحم مع اهتمام أكبر أبداه بالمؤسسة العسكرية في نهاية السبعينيات وقبل انتصار الثورة الإسلامية؟

 

وأي دلالات وإيحاءات ومعان تلك التي كان يختزنها هذا التفكير؟ فمن الواضح أن الإمام كان قد أمر الثوار قبل الإنتصار بنثر الزهور على أبناء القوات المسلحة المكلفين بإطلاق الرصاص عليهم ولم يكن قائد أي ثورة يفكّر بأكثر من أن يواجه هذا الرصاص برصاص مضاد.

 

إلاّ أن الإمام واجه الرصاص بالورود ليخترق بهذا الأسلوب التأثيري قلوب أبناء المؤسسة العسكرية حتى لو كانت هذه القلوب من الحجر وبدرجة عالية من القساوة.. ويبعث فيها عطر الحرية؟... أي قساوة تلك التي تصمد أمام نداء الثورة الإنساني وهو ينطلق من الحنجرة (الإمامية) التي أطلقت صرخة الثورة في عالم غارق بالإستغلال ويكبّل الفقراء بأغلال حديدية.. لقد حطّم الإمام الخميني هذه الأغلال، وعلّم الأحرار أسرار الثورة وأسرار تحطيم هذه القيود، ولقد حقق الأسلوب الذي انتهجه الإمام في الضرب على مؤسسة (الشاه) العسكرية أهدافه كاملة، عندما امتزجت دموع الثوار ودموع أبناء القوات المسلحة(في بهمن) لتنتصر الثورة..

 

بعد هذا الإستيعاب من قبل الإمام لدور المؤسسة العسكرية واستهدافها بالذات من قبل مشاريع التبعية والتخريب، التي تسود هذه المؤسسة، وتقوم على أنقاض قيم التبعية في التسليح وتحديد المسؤوليات وطريقة الحياة العسكرية وبرامج التدريب.. فمن الواضح أن المؤسسة العسكرية كانت تابعة في كل هذه المجالات، وإذا كان الإمام قد أدرك أهمية ودور هذه المؤسسة، وعمل على تهديمها في اللحظة التي كانت تشكل أداة إضطهادية بيد النظام وضد أبناء الشعب الإيراني المسلم.. فإنه أدرك من ناحية أخرى بأن المسألة الدفاعية تتطلب بدائل في الإطار المؤسساتي العام، وفي محتوى القيم وطبيعة العلاقات التي تملأ هذا الإطار وتحدد المسؤوليات والمهام في داخلة، فهي قيم يجب أن تنسجم مع مبادئ الثورة الإسلامية الأصيلة ويجب أن تبتعد عن الإسلام الشكلي، إذ يقول الإمام في كلمة له مع قائد الحرس الثوري:

 

(إنّ أولئك الذين عليهم أن يصوموا، ليفعلوا ذلك، ويؤدوا الصلاة هناك بعيداً عن كل الأعمال المنكرة، وأن يراعوا أحكام الإسلام بالإسم، ولا أثر للإسلام في قوات الدرك وفي الجيش أو في الحرس الثوري، فهذه هي ليست جمهورية إسلامية وإنما هي عبارة عن إسم خاطئ تم فرضه على دولة وشعب، وتدار كما كانت في عهد الطاغوت.. إنّ علينا أن نصلح هذه الأمور، ووضع الأفراد غير الصالحين جانباً منذ البداية، وإذا ما ارتكبوا خيانة، لا سمح الله، يجب تسليمهم للمحاكمة)[3].

 

إذن يبحث الإمام عن محتوى القيم وليس عن الإسم، فالإسم لا يحقق سوى تكرار لمسؤولياتها التي توازي حجم الثورة الإسلامية في إيران، إن الإمام كان يسعى إلى مؤسسة نظيفة من كل علامات التلوث التبعي الفكري والثقافي والمهني، ولما كان ضبط المؤسسة العسكرية القديمة بما يجعلها الأداة الدفاعية الوحيدة عن البلاد أمراً صعباً فلقد وازن الإمام هذا الخلل عبر طرح تعددي للسياسة الدفاعية الجديدة، طرح لا يلغي المؤسسة العسكرية القديمة لأن أكثر أبنائها اثبتوا أن ولاءهم من خلال التجربة للثورة وقيمها ومبادئها، إنما يقوم على تعدد مؤسساتي يؤدي:

 

أولاً: قدرة دفاعية أكبر عن حدود البلاد وعن قيم ومبادئ الثورة الإسلامية في إيران.

 

ثانياً: يؤدي إلى تأسيس مؤسسات دفاعية جديدة نظيفة ومضمونة من أي أثر تبعي للقوى الكبرى.

 

ثالثاً: يؤدي إلى تحجيم أي اختراق محتمل بمخاطره على البلاد للمؤسسة العسكرية القديمة.

 

رابعاً: يؤدي إلى إيجاد عناصر علاقة جديدة بين المؤسسة الدفاعية وبين أبناء الشعب، أو أنه يؤدي إلى شكل من أشكال العلاقة المفتوحة التي يتحقق في ظلها طموح الإمام التعبوي الأقصى، أو تستوعب طرح تعبئة العشرين مليوناً الذي نادى به الإمام في إطار تعدد المؤسسات الدفاعية. ومن خلال ما تقدم يمكن قراءة إصرار الإمام على إبقاء مؤسسة الحرس الثوري كإحدى الثوري كإحدى المؤسسات أو الأعمدة الأساسية في النظام الدفاعي للبلاد، والتصدي لكل الأصوات التي انطلقت منادية بحل هذه المؤسسة بذريعة تصادم القرارات العسكرية، الذي يؤدي إليه وجودها، لقد وضع الإمام أساس هذه المؤسسة، وأصر على إبقائها إلى الحد اعتبرها فيه بأنها ضمانة البلد كما يجسد هذا المفهوم الشعار المكتوب في كل شارع من شوارع إيران والقائل (بأنه إذا لم يوجد هنالك حرس ثوري فليس هنالك بلد)، فهذا الشعار هو كلمة من كلمات الإمام التاريخية حول مؤسسة الحرس الثوري الدفاعية والتي تتوزع مسؤولياتها بين داخل البلاد وحدوده مع الدول الأخرى.

 

لقد أحبط النظام الدفاعي هذا العديد من المؤامرات والانقلابات العسكرية، ولقد احرق فرصة كبيرة وأساسية من الفرص التي عادة ما تبقى قائمة أمام الدول الكبرى عندما تواجه الهزيمة في نقطة إقليمية ما. وهي فرصة الاعتماد على المؤسسة العسكرية لتلك النقطة كورقة احتياطية لتغيير الأوضاع من جديد وإرجاعها إلى دائرة التبعية التي خرجت منها.

 

ففي ظل إجراءات التطهير الطبيعية لهذه المؤسسة بعد انتصار الثورة وفي ظل الطرح الدفاعي الذي يستوعب طموح الثورة الدفاعي والتغييري، وما أدى إليه هذا الطرح من نظام دفاعي يضع ضوابط معينة على أي حركة أو قرار عسكري بما يؤدي إلى إشاعة عنصر الثقة والطمأنينة فيه، في ظل كل ذلك، أصبح ممكناً للمؤسسة العسكرية بصورة عامة أن تمارس مهامها الدفاعية ليس فقط أمام مؤامرات الأعداء الانقلابية، وإنما أمام الغزو الخارجي الذي داهم الثورة الإسلامية، وهي لا تزال بعد فتية غضة لم تقطع المسافة الزمنية الكفيلة بإنضاج عهودها.. أمام حرب السنوات الثمانية التي فرضت عليها، وأرادت أن تطفئ نور الثورة، وأن تقتل (بهمن الانتصار) في المهد.

 

فلكي تبقى هذه الثورة كان مفجرها الإمام يوصي أبناء القوات المسلحة في وصيته بكلامه التالي: (أيها الأعزة.. يا من تجيشون بالعشق للإسلام، وتواصلون بدافع عشقكم للقاء الله الفداء والتضحية في الجهاد، وأعمالكم القيمة في أرجاء البلاد.. كونوا على أتم اليقظة والحذر، فإن أصحاب اللعب السياسية، ومحترفي السياسة المتغربين والمتشرقين، والأيدي المشبوهة والمجرمة هم خلف الكواليس يوجهون إليكم أيها الأعزاء أكثر من أي فئة أخرى شفار أسلحة إجرامهم وخيانتهم ومن كل صوب، ويريدون أن يستغلوكم ـ انتم أيها الأعزاء الذي أوصلتم الثورة للنصر وأحييتم الإسلام بتضحياتكم ـ يستغلونكم لإسقاط الجمهورية الإسلامية، ويعزلوكم باسم الإسلام وحب الوطن وخدمة الشعب، عن الإسلام والشعب، ويلقوكم في شباط أحد قطبي ناهبي العالم، ويحبطوا كل جهودكم وتضحياتكم بمكائد سياسية وخواطر إسلامية ووطنية.

 

وصيتي المؤكدة للقوات المسلحة هي التزام عدم دخول العسكريين في الأحزاب والحركات والتحالفات، كما تنص على ذلك مقررات النظام).

 

الطرح التعبوي

 

(هنالك خصوصية خاصة للقوات المسلحة، جيشاً وحرساً وقوات درك وأمناً داخلياً ولجاناً ثورية وتعبئة وعشائر، فهي ساعد الجهورية الإسلامية القوى المقتدر، وحارسة الحدود والطرق والمدن والقرى، وحافظ الأمن، وباعثة الاطمئنان لدى الشعب، ولذا يجب أن تكون محل اهتمام خاص من الشعب والحكومة ومجلس الشورى).

 

هذا النص في وصيته الإمام، يجمع بصورة غير مباشرة خصوصيات الطرح التعبوي الذي طرحه قائد الثورة الإسلامية الراحل خلال السنوات الماضية ولاسيما سنوات الحرب المفروضة، وما حصل في إطارها من جوانب بلورة للطرح المذكور بما يضمنه من تلبية لطموح الأمة الإسلامية وقضاياها المصيرية وحاجاتها الدفاعية الإستراتيجية، فكان طرح العشرين مليون مقاتل كوعاء حاضن وخالط وجامع للمؤسسات العسكرية والأمنية التقليدية إلى جانب القوى الشعبية أو قوى المتطوعين الذين يشكلون الرصيد الاحتياطي لأية قوة إسلامية ضاربة.. وعندما نقول احتياطي هنا فان هذه التسمية لا تعني الثانوي  أو الشكلي الذي اعتدنا أن نرى العديد من نماذجه في الخطط العسكرية والتعبوية لدول مختلفة في العالم كالدول الاشتراكية أو بعض دول المنطقة التي تخلط في أنظمتها السياسية والاقتصادية والعسكرية وتضع هذا الخليط تحت عناوين اشتراكية وعلمانية مختلفة.. فمثلاً في العراق كان هنالك ولازال ما يسمى بالجيش الشعبي كأحد التعبيرات التعبوية في خطط النظام الحاكم، والأردن أخذ تجربة العراق فيما بعد، والكيان الصهيوني يعمل هو الآخر وفق نظام تعبوي يستنفر كل طاقات المجتمع القتالية، وحتى في العربية السعودية التي لا يوجد فيها نظام التجنيد الإجباري، جرى التفكير في إعداد قوى شعبية تعالج الطوارئ وما تفرضه من تحديدات عسكرية على ارض البلاد. وهنالك عشرات الأمثلة العالمية المختلفة التي بإمكانها أن تعكس الطرح التعبوي كما طرحه الإمام القائد.

 

إنّ ما يمكن أن أقوله هنا هو أن النماذج التعبوية المذكورة بقيت تشترك كلها بعنصر الجبرية.. جبرية الانخراط في هذا الجهد التعبوي، وهذا العنصر لاشك أنه يقيد إمكانات العطاء في النظام الدفاعي العام للبلاد، ويوجد حالة من الإحساس بفقدان حرية الاختيار.. أو المساهمة الذاتية في قرار المواجهة.. وأقرب مثال لذلك هو الجيش الشعبي في العراق، فهو جيش لا يستهان به من حيث أعداده البشرية والإمكانات المتوفرة له، ولكنه أخفق في أن يسجل حالات عطاء عسكرية واضحة، وكانت مساهمته هامشية، وكان الزج القهري للأفراد في ساحات القتال يولد لديهم شعوراً بأنهم ليسوا أكثر من أحجار يتلاعب بها صاحب القرار السياسي الذي يرفض أي شكل من أشكال التساؤل والحوار حول أحقية هذا القرار العسكري أو السياسي أو عدم أحقيته.

 

والنتيجة هي أن اخفق هذا الشكل من أشكال التعبئة القائم على القهرية والقسرية في أن يحقق طموح القيادة السياسية في البلد على رغم ما وضع تحت يده من آلات ومعدات قتالية متطورة وتقنية عالمية، وكم هائل من أرقى ما خبأت مخازن العالم العسكرية من قطع حربية..

 

ومن يدرس التاريخ العالمي العسكري يدرك على الفور إنه ليس إخفاق الجيش الشعبي في العراق، هو الإخفاق الوحيد في هذا الإطار، لا بل أن كل التجارب التي قامت على الانخراط القسري للأفراد في داخل أنظمتها الدفاعية انتهت إلى هذا الإخفاق، حتى وأن حققت نجاحات شكلية ـ في بادئ الأمر ـ واللجوء إلى هذا الأسلوب غالباً ما يكون إفرازاً ذاتياً لنوعية القيادة السياسية وخلفية نشوئها وذاتية المنطق فيها وغياب المبدأ الفاعل لديها، أو أنه يكون تعبيراً عن ضعف القناعة الشعبية في المبادئ التي ترفعاه القيادة السياسية التي تفتقد أساليب الإقناع وتلجأ رويداً رويداً إلى القوة في فرض آرائها وقناعاتها.

 

أما التجربة الثورة الإسلامية التعبوية فهي وأن كانت تشترك مع تلك التجارب في الاسم والمهمة الدفاعية وشكل الطرح الجامع للمؤسسات العسكرية والأمنية التقليدية الثابتة إلى جانب القوى الشعبية. إلا أنها تختلف عنها في بعض النقاط الجوهرية المهمة، وأولى هذه النقاط هي النقطة الطوعية الذاتية التي تقوم عليها النظرية التعبوية الإسلامية في جانبها المبلور للطاقة القتالية الجماهيرية، فهذه الطوعية أو الاستعداد الذاتي الطوعي للانخراط يأتي عبر شكلين من أشكال الإيمان، كلاهما فاعلان على صعيد النتائج، وهما الشكل الإيماني الفطري، والشكل الإيماني الواعي أو الجامع للفطرة والوعي معاً، كما أن الانخراط في المؤسسة الدفاعية الإسلامية من قبل أي فرد من أفراد الأمة يتجسد لديه أحد هذين الشكلين، يكون على الدوام واجباً من الواجبات الشرعية التجسيدية لهذا الإيمان.

 

ومن هنا فان الطوعية ستتحول إلى عناصر عطاء إضافية على فاعلية أو نتائج أية خطط موضوعة لجهاز تعبوي معين وهو يمارس دوره القتالي، بخلاف عنصر الجبرية في ألوان ونماذج الطرح التعبوي العلماني أو الاشتراكي أو الخليط أو المطعّم، فلقد لاحظنا كيف يتحول الإجبار ـ إجبار الأفراد على الانخراط في الجهد التعبوي ـ إلى عنصر شلل أو تعطيل للعطاء أو النتائج الايجابية، فيما نحن نلاحظ أن الاستعداد الذاتي بما يضفيه من قوة نفسية كيف يتحول إلى نتائج وثمار ومضاعفة، لأن هذا الاستعداد يفرض حالة من الحرص الطبيعي على حركة وعمل الجهاز التعبوي من كل فرد أو كادر من أفراده وكوادره، بحيث يحول إلى رقيب أمين على ذاته ودوره وما يعطيه وكيفية ابتكار أو إيجاد الوسائل التي يمكنها أن تضاعف من عطائه في إطار الحركة الدفاعية التعبوية.. ولاشك أن تجربة الحرب الإيرانية ـ العراقية اختزن أرشيفها التعبوي مئات بل آلاف الحالات التي تعبر عن تجاوز هذا الحرص الذاتي حدوده الطبيعية بحيث يتحول إلى ممارسة تحتاج إلى الضبط في انطلاقاتها الإيمانية.

 

إن عنصر الاختيار والطوعية بقي الأساس في رؤية الإمام التعبوية حيث يقول في هذا الإطار وفي ندائه إلى حجاج بيت الله الحرام غرة ذي الحجة 1405 هـ.ق يقول: (وفي البعد العسكري يفرض التعليم العسكري على كل من له صلاحية الدفاع عن الوطن في المواقع الاضطرارية، وفي هذا المواقع يفرض التعبئة العامة الاختيارية وأحياناً الإجبارية، وفي الأوضاع العاديّة تربى القوات المؤمنة المدربة للدفاع عن الثغور ونظم شؤون المدن والطرق وصيانة الأمن).

 

على أية حال، ففي حين كان الطرف الآخر قد وقع بعد فترة قصيرة من الحرب بالأزمة البشرية، لم تعان الساحة الإيرانية في ظل الطرح التعبوي من مثل هذه الأزمة ولم تضطر إلى إكراه أحد للانخراط في الأدوار القتالية والدفاعية، ولم تعتمد أساليب الدعاية الرخيصة أو تلجأ إلى تحريك وازع قومي أو وطني لدى أفراد الشعب الإيراني لكي تشجعهم على الالتحاق بصفوف قوات المتطوعين.. إن الطرح التعبوي المذكور كان طرحاً إسلامياً بحق، يعتمد في جوانبه التبليغية على أساليب تربوية إسلامية طبيعية، وهي ـ أي الدولة الإسلامية ـ وجدت نفسها في كثير من الحالات تعاني من فائض بشري تطوعي يهجم عليها ليشكل في ظاهره ومحتواه معنى من معاني التحول الإيماني الكبير الذي أحدثه الإسلام في ملايين من المتطوعين في بعض الفترات، تضاف إلى المؤسسات الدفاعية التقليدية في البلاد، لتمارس معاً مهام الدفاع أمام الهجمة الدولية التي كانت قد وصلت الذروة قبل قبول إيران بالقرار الدولي.

 

نقول إنه بالإمكان تصور نمو الروح التعبوية لدى المسلمين بصورة طبيعية، وكنتيجة للتربية الإسلامية، لكن ما هي الصيغة النظرية أو ما هي الأطروحة التي بإمكانها أن تنظم الواقع ألاستعدادي الإسلامي للانخراط في التعبئة؟ هذا ما طرحه الإمام من خلال نظريته التعبوية ذات العشرين مليون مقاتل.

 

إن النقطة الأخرى التي تشكل خصائص النظرية التعبوية الإسلامية كما بلورتها رؤى الإمام، شمولية الطرح، وقد يقول قائل في هذا الإطار ـ أي إطار الشمولية ـ أن رقم العشرين مليوناً الذي طرحه الإمام القائد، يعتبر الرقم الذروة بالنسبة للشعب الإيراني ـ أي الرقم الفاعل قتالياً في أإطار هذا الشعب ـ ولذا فهو أقرب إلى الطموح القطري أو القومي أو الإسلامي المحدود أو الوطني منه إلى الطرح الإسلامي الشمولي، ولو كان الإمام يفكر في أبعد من حالات الطموح المذكور لاقترح الرقم الذي يعتبر الذروة البشرية الفاعلة بالنسبة لتعداد نفوس الأمة الإسلامية وليس الشعب الإيراني فقط!!

 

وازاء هذا القول لابد من إثارة أمرين، الأمر الأول يرتبط بالإمكانية الفعلية أو الأمر الواقع لحكمة القرار السياسي أو التعبوي الإيراني، فهو أمر يتحدد فعلاً بالساحة الإيرانية، وتلكن ومع هذا فإن الواقع ـ أي رقم العشرين مليوناً ـ يبقى أكبر من الحاجة الدفاعية الإيرانية البحتة، فمثل هذه الحاجة تحققت خلال فترة الحرب بثلاثة إلى أربعة ملايين مقاتل في حالاتها القصوى، وواضح إن التوجه القيادي عندما ينطلق نحو هذا الرقم بالنسبة لشعب لا يتجاوز عدد أفراده الخمسين مليون نسمة، فإنه يهدف إلى أهداف إسلامية كبرى ويضع أمامه غايات بعيدة, ويسعى إلى تهيئة الرصيد الدفاعي عن طموحات الثورة الإسلامية ودحر المحاولات الساعية إلى إيقاف مسيرة هذه الطموحات، ومع هذا فإن الرقم المذكور لم يكن الرقم الوحيد في الإطار التنظيري.

 

أما الأمر الثاني فهو يرتبط بموقع إيران في تفكير الإمام وبدورها بالنسبة لخريطة العالم الإسلامي، فإيران بقيت على الدوام تمثل مركز انطلاق الثورة الإسلامية باتجاه الساحة العالمية في كل أحاديثه، ومركزاً للإسلام الصامد والثوري، وعليه فإن تسديد ودعم هذا المركز، هو في الواقع دعم وتسديد للمشروع الإسلامي العالمي، وطرح التعبئة عندما يكثف في هذا المركز إلى حد العشرين مليون مقاتل، فإن هذا التكثيف يبقى أمراً ضرورياً لحساسية الموقع الذي تحتله إيران في العالم الإسلامي.

 

فإيران تحملت وستتحمل العبء التعبوي الأكبر في إطار المواجهة الإسلامية مع عالم الكفر والطغيان، وليس بالضرورة إذاً أن تصل الأرقام التعبيرية في نقاط إسلامية أخرى غير إيران إلى الذروة التي تستوعب كل الطاقات والإمكانات البشرية والمادية ولكن يبقى ضرورياً أن تتكامل حالات التعبئة في نقاط العالم الإسلامي الجغرافية المختلفة لترسم الإطار الإجمالي للنظرية التعبوية الإسلامية ذات الخصوصيات المتعددة وذات الميزّات عن النماذج التعبوية الأخرى، القائمة على القسرية وعامل التحديد، ولتأخذ هذه النظرية موقعها في الإطار الأشمل والأوسع للمواجهة مع القوى الدولية العدوة من جهة، ولتأخذ موقعها في البناء النظري العملي لأساليب المواجهة المضادة للقوى الكبرى الذي رسمته عقلية الإمام القيادية على مجموعة من المحاور والأحداث والقضايا من جهة أخرى.

 

فالإمام ينظر للقضية ببعدها الشمولي من خلال ما يقوله في نداء له في عيد الأضحى المبارك 10 ذي الحجة 1403 يقول الإمام: (لو تحققت ـ إن شاء الله ـ الوحدة بين المسلمين وبين حكومات البلدان الإسلامية بمساعدة الشعوب أن يكون لها جيش احتياطي دفاعي مترك يزيد عدده على مائة مليون مدرب، وجيش من مئات الملايين في خدمة العلم، وبذلك يكتسبون أكبر قدرة في العالم.

 

واليوم، إذا لم يحصل هذا تستطيع الحكومات الإسلامية في المنطقة وأطرافها أن يكون لها جيش احتياطي من عشرات الملايين. من أكثر من عشرة ملايين مجند تحت خدمة العلم للدفاع عن البلدان الإسلامية.

 

وهذا أيضاً يفوق القوى، وليس أوجب من أن تفكر الحكومات المنطقة في هذا الأمر وتخطط له في ظل راية الإسلام فقط بمعزل عن (الفوارق) اللغوية والعنصرية والطائفية، لتنجو من عار الخضوع للقوى الكبرى، ولتذوق حلاوة الاستقلال والحرية، ويلزم لإيجاد مثل هذه القدرة أن تدرس كل حكومة بالتفاهم مع شعبها مثل هذا المشروع الحيوي للدفاع عن وطنها، وتستوحي هذا الأمر من البلد الإسلامي إيران الذي يدافع عن نفسه وعن أخوته المسلمين).

 

هكذا إذاً ينظّر الإمام تعبوياً للمركز ـ إيران ـ من خلال جيش العشرين مليوناً، وبما يتجاوز حاجة هذا المركز. وينظّر بعد ذلك تعبوياً للثورة كمشروع إسلامي وعالمي وبالأرقام التي تتوازي مع محيط هذا المشروع البشري ليفك أي التباس، ويعطي مزيداً من الوضوح على النظرية التعبوية، ومهما يكن من الأمر فإنه على صعيد هذا البناء النظري لمفردات الصراع لدى إمام الأمة الراحل، يمكن أن نقرأ بيسر العلاقة بين النظرية التعبوية المذكورة كصراع مواجهة، وبين يوم القدس العالمي ومسيرة البراءة من المشركين والدعوة إلى أسلمة قضايا العالم الإسلامي، ومشروع الوحدة الإسلامية.

 

فهذه الطروحات كانت تتوزع على مجالات مختلفة وتؤدي مهام متعددة إلاّ أنها واضحة فيما تؤدي ببعدها الترابطي في إطار الصراع القائم مع القوى الدولية العدوة للإسلام وواضحة في صفتها التكاملية والدعم أو الإسناد المتبادل بين مفردات البناء النظري الشامل لفكر الإمام، ومن هنا تأخذ ما أسميناها بنقطة الشمولية للطرح التعبوي معناها ومداها، فهذا الطرح شامل أي بمعنى أنه يستوعب كل نقاط العالم الإسلامي الجغرافية ويؤدي المهام الدفاعية عن هذا العالم، كما إنه شامل بمعنى ما يؤديه من دور مساند وداعم لباقي أجزاء التفكير أو التنظير الذي طرحه الإمام القائد، وشامل بمعنى أنه يمثل الطرح الموازي لثقل التحدي الخارجي المفروض على الأمة الإسلامية وعدد الأطراف الدولية التي تشكله في إطار هذا التحدي، وكما يوجز ذلك ما جاء بمناسبة بدء أسبوع التعبئة الجماهيرية في 3 ربيع الثاني 1400هـ على لسان الإمام:

 

(أجهدوا لكي تكسبوا القوة أكثر فأكثر في العلم والعمل وبالاتكال على الله القدير، جهزوا أنفسكم بالسلاح والصلاح، فالله تعالى معكم وأن يد القدرة التي حطمت القوى الشيطانية هي السند الإلهي للمجتمع.. إنني آمل أن تكون هذه التعبئة الجماهيرية الإسلامية، نموذجاً ليحتذى به كل مستضعفي العالم والشعوب الإسلامية وأن يكون القرن الخامس عشر هو قرن تحطيم الأصنام بالإسلام والتوحيد والقسط والعدل).

 

العلاقات التسليحية

 

(ويجب أن أضيف هنا أن احتياجنا بعد كل هذا التخلف المفروض علينا للصناعات الثقيلة في البلدان الأجنبية هو واقع لا يمكن إنكاره ولكن هذا لا يعني أن نرتبط بأحد القطبين في علوم التقنية المتطورة بل على الحكومة والجيش أن يعمدا إلى إرسال الجامعيين المؤمنين إلى البلدان التي تمتلك تقنية صناعية متطورة دون أن تكون استعمارية ولا مستغلة، وليجتنبا الإرسال إلى أمريكا وروسيا والبلدان السائرة في فلك هذين القطبين، اللهم أن يأتي ـ إن شاء الله ـ يوم تنتبه فيه هاتان القوتان إلى خطئهما، فتؤوبان إلى مسيرة الإنسانية وحب الإنسان واحترام حقوق الآخرين).

 

يعالج الإمام الكبير من خلال هذا النص الموضوعي في وصيته المباركة مسألة حساسة في مجال علاقات الدول الصغرى أو المتوسطة التسليح بالدول الكبرى، فلطالما كان شعار الحاجة إلى التطور العلمي والتكنولوجي والتقنية الراقية، مدخلاً لإنحرافات سياسية خطيرة انتهت إلى حالة التبعية الواضحة في العلاقات الدولية، وتحت ثقل الإحساس بالهيمنة المطلقة الواضحة في العلاقات الدولية، وتحت ثقل الإحساس بالهيمنة المطلقة لموسكو وواشنطن في المجال العلمي والتصنيعي صوّر الساسة والإعلاميون أن لا طريق ثالثاً للنهوض بالدول(النامية) إلى مراقي العلمية الكبرى، وعلى أساس هذا التصوّر بقيت هذه الدول مرتبطة في قرارها السياسي وإرادتها واستقلالها الواقعي إلى هذا الشعار المزور، فواقع الحال وكما يؤكد الإمام الخميني إن العالم فيه أكثر من طريق ثالث لتحقيق طرح أي بلد علمياً وتصنيعياً، وهناك عدد من الدول التي بإمكانها أن تقدم القدر اللازم من التطور التقني المطلوب، والبعيدة عن منطق الاستبعاد والفوقية والمنطق الفرضي الذي يسلب حرية الآخرين ويقيد إرادتهم بقيود حديدية. فالطريق الثالث هنا يمثل إجراءً للحد من هيمنة الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي على العالم، ويحاصر منطق الإستغلال الذي يعملان به، ويفتح الآفاق أمام حركة تبادل تقني وتطوّر علمي حر وبعيداً عن التبعية، ومساعدة على إرساء قواعد جديدة للعلاقات الدولية، قواعد أكثر توازناً وأقرب إلى العدالة، وأبعد عن حالة الظلم المريرة التي تميز هذه العلاقات في وقتنا الحاضر، لا سيّما وأن التطور التقني والعلمي لا يتم بسياسة الطفرات.. إنما تشترك فيه مجموعة من العوامل والإمكانات الذاتية والإبداعية، وعليه فإن الاعتماد على الآخرين يبقى يمثل عاملاً من هذه العوامل التي تتعاطى بالتجزئة وبالتدريج تبعاً للظروف ودرجة العلاقة العالمية بين أي طرفين، ولذا فإن الحاجة فيه إلى واشنطن أو موسكو تكاد تكون محدودة إذا ما قيست على أساس البدائل الدولية المتاحة، فالولايات المتحدة لا تعطي مصر مثلاً كل ما تطمح إليه في المجال العلمي والتصنيعي، وعليه فإنّ مصر قادرة على أن تأخذ من كوريا الشمالية أو من الصين ما تحصل عليه من واشنطن، دون أن يكون هذا الأخذ مربوطاً بشروط سياسية أو بحالة من حالة التبعية كما هو حاصل في علاقة النظام المصيري مع واشنطن.

 

وأفغانستان قادرة على أن تأخذ من البرازيل أو الأرجنتين ما تحصل عليه من الاتحاد السوفياتي، دون استغلال أو استبعاد، لا بل أن الطريق الثالث لا يلبي الحاجة بحدود ما تعطيه واشنطن وموسكو في إطار الطموح التطويري العلمي فحسب، بل هو قادر على أن يلبي درجة أكبر من طموح الدول الصغرى، فالولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي سابقاً لا يتعاطيان في المجال العلمي والتقني إلا بحسابات قائمة على إبقاء منطق التبعية وحرمان(الحلفاء) من الاستقلال التصنيعي، فهذا الاستقلال سيضر بنفوذهما ومصالحهما على المدى البعيد، وعليه لابد من قيود صارمة في عملية التعاون العلمي تجعل أي بلد صغير غير قادر على النهوض بنفسه إلى ما يطمح إليه في هذا المجال.

 

وتاريخ العلاقة بين واشنطن وموسكو من جهة وحلفائهما من جهة أخرى، ما هو إلا أرشيف لمصاديق هذه الحقيقة، وسجل لأرقامها الواضحة، ويكفي هنا أن نتصور الأهداف التي تدفع بواشنطن على الدوام إلى ممارسة شتى أنواع الابتزاز ضد (القنبلة النووية الباكستانية)، على رغم التحالف الكبير الذي يربط الطريفين أو يكفي أن نتصور آفاق العلاقة التسليحية السعودية ـ الأمريكية، على رغم القواعد العسكرية الأمريكية في السعودية فإن القادة الأمريكان يبتزون النظام السعودي في صفقات السلاح المشتراة بمليارات الدولارات فضلاً عن إعطائهم التقنية التي لم تحصل بمعناها الحقيقي.

 

إنّ الإمام الخميني، يريد أن يقول لنا بأنه مجرد الافتراض بأن العلاقة العلمية مع موسكو أو واشنطن يمكن أن تقوم على أساس من النوايا الحسنة هو افتراض ساذج لا يأخذ بنظر الاعتبار حقائق التاريخ ولا يحيط بأشكال العلاقات القائمة فعلاً معهما.

 

ويوصي الإمام بأن البدائل عن هذه العلاقات وبما يضمن مصالح العالم الإسلامي ودوله، بل بما يضمن تصحيح حالة الخطأ في مجمل العلاقة الدولية بما يرتبط بجانبها التطويري العلمي، هي بدائل متاحة ومتوفرة في عالم اليوم، كما أنها أكثر فائدة، وأصلح كقناة للوصول إلى أهداف وطموحات الدول( النامية)، حيث لم يثبت حتى الآن أن موسكو وواشنطن ساهمتا فعلية في تطوير دول من دول العالم الإسلامي، ولم يثبت أنهما منحتا هذه الدولة أكثر مما يمكن أن تحصل عليه من أطراف دولية أخرى ذات نظرة إنسانية أو اقتصادية إلى العلاقات العلمية والتقنية، وبعيدة عن منطق الاستغلال والاستبعاد، أنها إذاً وصية الإمام الأكثر أهمية والأكثر استيعاباً لتعقيدات الحاضر والأكثر تشخيصاً لنظام العلاقات التسليحية والعلمية، والدعوة إلى استبداله بنظام آخر قائم على العدالة وعلى النوايا الحسنة في بناء المدنية والحضارة وخدمة الإنسانية جمعاء.

 

وبعيداً عما يقال من أجواء عزلة دبلوماسية يفرضها هذا النفس الاستقلالي، فهذه العزلة لا تصلح أن تكون مقياساً لقوة أي نموذج دولي كما يوضح النص التالي الذي قاله الإمام بمناسبة عيد الأضحى المبارك 1400هـ: (مع الأسف، يفكر البعض بأننا منزوون بسبب مخالفتنا لأمريكا، كلا أن أمريكا هي المنزوية، إن الميزان عندنا هو الشعوب، فارفعوا الحراب عن أبناء الشعوب وامنحوهم حريتهم، عند ذلك سترون من هو المنزوي).

 

المفعول العقيدي.. ونظرية الدفاع:

 

إنّ شمولية الخطاب الخميني راحت تغطي كل مجالات الحياة الإسلامية، وتبرز مصيرية الارتباط الفكري الإسلامي، ومن ثم تطبيقات هذا الارتباط في الحياة العملية، ولعل هذا الارتباط الفكري الإسلامي، ومن ثم تطبيقات هذا الارتباط في الحياة العملية تجلى عبر المجال الدفاعي في رؤية الإمام، إذ كان الإمام ومنذ بدايات الثورة في العقد السادس، يضع يده على المسائل الجوهرية في قضية الدفاع، إعداداً وتعبئة وقيماً عقائدية وثقافية ويعتقد الإمام الخميني، أن قيمة أي جيش أو تشكيل دفاعي تقوم في الأساس على المفعول العقيدي الذي يغذي هذا التشكيل بالدوافع القتالية إذ بغياب هذا المفعول تحدد عوامل الحجم، وإعداد القوات المسلحة، وحتى التكنولوجيا العسكرية، وما تنتجه من أسلحة متطورة، تتوقف كفاءتها ودورها على دور الإنسان الذي يستخدمها في الحرب، ولقد لاحظنا أن هذه التكنولوجيا المتطورة عجزت عن حسم الموقف في الحرب العراقية ـ الإيرانية لصالح الإرادة الدولية، لأنها فقدت الإرادة المعنوية للإنسان ببعدها العقيدي، وعجزت تكنولوجياً الاتحاد السوفييتي السابق عن حسم الموقف في أفغانستان لأنها واجهت إرادة عقيدية تمثلت بالمجاهدين الأفغان، ولأن القوات السوفيتية كانت تقاتل من دون هذه الإرادة العقيدية.

 

كان الإمام الخميني يدرك هذه الحقيقة، ويعكسها من خلال خطابه الثوري بشكل مركز، فهو في واحد من نصوصه في كتاب(كشف الأسرار) وتعليقاً على هروب الضباط والجنرالات الإيرانيين أمام القوات الروسية والانجليزية في عام 1941م يشير بالقول: (هل تريدون من جندي عادي أن يجاهد أعداءه ويلقي بنفسه أمام دباباتهم ومدرعاتهم وهو يرى جميع القادة العسكريين من أولهم حتى آخرهم عند هجوم العدو أول الفارين والهاربين، يرى منه ذلك وكان يقسو عليه، ويحرمه حتى من مرتبه الشهري).

 

ويضيف الإمام قائلاً: (من الذي يدفع بروح الجندي إلى ساحة القتال عند ذلك الليل المظلم والموقع الخطر حيث يرى الموت إلى جنبه ولا يهابه؟ من الذي يدعه يندفع بروح قتالية ونافذة، ويتأهب للموت فيكل حين سوى الإيمان فقط؟ الإيمان بحياة دائمية غير زائلة. ما هو الدافع والحافز لروح التضحية لدى ذلك الحارس لثغور البلاد ليلاً ونهاراً، سوى الإيمان بالله تعالى والإيمان بجزاء الله الآخر؟ لو كان الجيش آنذاك يبث في نفوس الجنود التعاليم الدينية، والقيم الروحية، ويستقدم رجال العلم والدين إلى المعسكرات ليعظوا الجنود، ويشحنوا نفوسهم بروح الجهاد، ويحركوا فيهم المشاعر والأحاسيس الوطنية والدينية بدلاً من أن يلقنوهم الأهازيج الجوفاء، والأناشيد المبشرة، ولو أن الإذاعة كذلك كانت تبث القيم، وتنشر الفضائل بدلا من أن تنشر الرذيلة وتدعو إلى الفساد، لما وصلت البلاد إلى ما وصلت إليه في هذه الصورة الرعناء، ولم يصل مستوى الجيش إلى ما وصل إليه أيضاً من انحلال والضعف والفساد)[4].

 

إنّ العقيدة الإسلامية هي التي بإمكانها أن تحرك لدى المقاتل أسباب التضحية والفداء والاستشهاد، وأن القيم الإسلامية هي وحدها القادرة ـ كما كان الإمام يقول ـ أن تصنع جيشاً عقائدياً بإمكانه أن يواجه الاعتداءات الخارجية، مهما كانت همجيتها ووحشيتها، ولذا فإن برامج الدولة آنذاك كانت فاقدة لأسس التربية العسكرية المطلوبة. وأن دروس الوطنية عاجزة لوحدها ومن دون أن تأتي في سياق الدفاع العقيدي، عاجزة عن صنع المقاتل، والإمام بالتأكيد لا يريد، كما الإسلام، أن يصنع أي مقاتل وفق أيديولوجيا الحروب اللاأخلاقية، إنه يركز على العقيدة التي تعطي المقاتل الشجاعة والقيم الأخلاقية والمعنوية وتغذيه بمعنى الكرامة الإنسانية التي تستحق التضحية بالنفس.

 

إنّ التلقين الوطني الصحيح لا يحصل إلا من خلال الإسلام ومن خلال علماء الدين، الذين يرى الإمام أن من أولى مهامهم المهمة التثقيفية التعبوية في الوحدات العسكرية، فهذه المهمة يجب أن تسير جنباً إلى جنب مع نظام التدريب العسكري وتعلم العلوم العسكرية ويقول الإمام: (إذا كان المسؤولون يريدون إعداد الجيش ويبثون فيه روح الوطنية، وحب الوطن، والدفاع عنه يجب عليهم أن يسلموه إلى رجال العلم والخطباء والوعاظ الدينيين، وأن يربطوا الجندي بالعالم الرباني، والرجل الديني العقائدي، وطريق الفتوة والذب عن كرامة الوطن حبه لا يمر إلا عبر الروح الإيمانية الإلهية التي تؤمن بالله وبمده الغيبي)[5].

 

لاحظ كيف أن خطاب الإمام يتابع ويراقب الحرب مثلما هو يتابع الشؤون السياسية، ويحاول أن يضع يده منذ وقت مبكر على أزمة الجيش الإيراني أيام الشاه، وأزمة أي جيش آخر في العالم، فالأزمة هي أزمة عقائدية بالأساس، ولا يمكن لجيش فارغ من العقيدة الإسلامية أن يحافظ على ديمومة الروح القتالية، فبإمكان التربية القائمة على عقائد منحرفة أو القائمة على الأهداف التوسعية أو الإجراءات الإكراهية القسرية أو تؤدي إلى نتائج ميدانية، إلا أن هذه النتائج تبقى ظاهرة طارئة ومؤقتة وهي بالتالي لا تنشئ دوافع عقائدية مستقرة بمبدأية الاندفاع والدفاع، وأي فكر لا يمكن أن يعطي الاستقرار الداخلي للإنسان، مثلما تعطيه العقيدة الإسلامية، ومازال الفكر الماركسي المهزوم في أفغانستان أمام العقيدة الإسلامية في ساحة الميدان العسكري نموذجاً قريباً لهذه الحقيقة.

 

لقد اكتشف العالم الاستعماري هذه الأزمة قبل وبعد التجربة الإسلامية الإيرانية، وأراد لجيوش الدول العربية والإسلامية أن تكون فارغة من الاندفاع العقيدي والتربية الإسلامية، وحلت محل الإسلام، الأفكار الوطنية والعفوية في معظم الجيوش العربية والإسلامية، وربط الإرادة الإنسانية بالإرادة الربانية لخلق الدوافع القتالية، وإذا كان مثال الجيش العراقي مثالاً مكرراً في سيادة الإكراه وفقدان الدافع العقيدي الإسلامي الذي يظهر أيام الحرب مع إيران، فإن الحاجة إلى العقيدة كانت قد تبلورت في أمثلة عديدة أخرى حتى في الساحة العربية، إذ كان أول شعار يطلقه الجيش المصري وهو يقتحم خط بارليف في حرب تشرين/ أكتوبر 1973 هو شعار( الله أكبر)، الذي أعطى المقاتلين المصريين اندفاعاً وحماساً هائلاً، كما يقول الكاتب المصري محمد حسنين هيكل[6].

 

وكان القادة المصريون يدركون أن انعدام الشعارات الدينية، سوف يترك أثراً سيئاً على معنويات المقاتلين، ومن اندفاع الحالة الإسلامية في لبنان، وبروز الظاهرة الإسلامية الإيرانية التعبوية أخذ العنصر الديني والعقيدي يتكثف في الخطاب الماروني التعبوي، إذ أن (حملة التحريض والتعبئة التي قادها الحلف الماروني بعدم من الرهبانيات كانت هدف لتحضير الكتلة المسيحية)[7].

 

لقد لاحظت المارونية ضرورة إحضار المخاوف على المسيحية في لبنان والعالم الإسلامي، لتستفيد من هذا الإحضار في إطار سياستها القتالية التعبوية. ولعل الحالة الصهيونية تقدم دليلاً واضحاً وغنياً في هذا المجال، فهي من خلال معتقدات خرافية أحضرت (الوعد الإلهي) المصطنع في خلفية نشأتها الإرهابية، وأحضرت هذا الوعد كأساس عقائدي في برنامجها التربوي التعبوي، وأن العقل الصهيوني بحكم تجاربه الطويلة أوجد من خلال أدبياته التعبوية ونصوصه الخرافية الدينية، أساساً عقائدياً مزيفاً، إلا أنه مقبول في العقلية اليهودية الاستعلائية ليشكل منه مصدراً معنوياً للتعبئة والقتال، لأن الصهاينة يدركون بأنه من دون هذا العامل العقائدي، لا يمكن أن يمدوا جيشهم الإرهابي بأسباب ومعنويات القتال. ولكن عندما واجهت العقيدة الإسلامية الأصيلة في لبنان هذه العقيدة الخرافية، انهزمت الثانية، وعندما تكررت التجربة داخل فلسطين، ارتبك العقل الديني والسياسي اليهودي، ولجأ إلى دهائه السياسي والنفاقي ليحول دون تكريس الظاهرة الإسلامية في فلسطين عبر التفاوض مع ياسر عرفات.

 

والملفت للنظر أن ما أسميناه بالأزمة العقائدية التي تعاني منها جيوش العالم، دفعت بالولايات المتحدة الأمريكية أن تضمّن برامجها التربوية العسكرية بعض التعاليم الدينية، ولقد جاء ذلك أيضاً بعد التجربة الإسلامية في إيران، وبالتأكيد تبقى هذه التعاليم الأمريكية والصهيونية عندما تصطدم بواقع الحياة الإفسادية والاستعلائية والتوسعية اعجز من أن توجد تغيراً عقائدياً جذرياً في صفوف قواتها المسلحة.

 

لقد شخص الإمام الخميني من خلال الأزمة العقائدية الإسلامية ليس فقط مسألة عسكرية تعبوية، بل أنه كشف عن سر من أسرار إبعاد الإسلام عن فكرة الدولة، أمام القوى الاستعمارية إذ أن قوة الإسلام لا حدود لها في المجال التعبوي، ومن هنا جاء اهتمام الإمام بالقوات المسلحة في الدولة الإسلامية وبالأخص قوات التعبئة أو ما يسمى (البسيج) باللغة الفارسية، ورؤية الإمام لهذه القوات لا تقتصر على ساحات الحرب والقتال وما تحتاجه من ثقافة تعبوية إسلامية فقط، ولا بدور علماء الدين، والحوزة وتواجدها في الوسط العسكري والتعبوي فحسب.. إنما يشير الإمام إلى العلاقة بين التعبئة والجامعة، ومن ثم التعبئة الجامعية التي تقطع الأيادي الاستعمارية التي تحاول أن تتسلل من جديد إلى هذا الموقع. يقول الإمام في خطاب تاريخي له موجه إلى قوات التعبئة : (إن طلاب الحوزة العلمية وطلبة الجامعات اليوم هم في طليعة مستلزمات هذا التنظيم، حيث يجب على هاتين الشريحتين أن تدافعا عن الإسلام والثورة بكل ما أوتيتا من قوة، وعلى أبنائي من قوات التعبئة أن يكونوا حماة مبادئ اللاشرقية واللاغربية غير القابلة للتغير. إنّ الحوزة والجامعة هنا أحوج ما تكونان للوحدة ورص الصفوف، وعلى أبناء الثورة أن لا يسمحوا بأي شكل كان بأن يتسلل عملاء أمريكا وروسيا إلى هذين المركزين الحساسين ويمكن القيام بهذا العمل عن طريق التعبئة فقط. إنّ القضايا العقائدية لهذه القوات تقع على عاتق هاتين القاعدتين العلميتين، أي: الحوزة والجامعة، وعلى الجامعة أن ترسخ الأطر العامة للإسلام المحمدي الأصيل بين صفوف هذه القوات، وعلى قوات التعبئة في كافة أنحاء العالم أن تعد العدة لإقامة حكومة الإسلام الكبرى، وهذا ممكن لأن التعبئة لا تخص إيران الإسلام فقط، حيث يجب تشكيل خلايا المقاومة في كافة أنحاء العالم للوقوف بوجه الشرق والغرب).

 

ويضيف الإمام الخميني في خطابه هذا قائلاً: (إنني أقبلكم فرداً فرداً، أنتم يا طلائع الحرية، وأعلن أنه إذا غفل المسؤولون عنكم فإنهم سيحترقون بنار البرزخ، إنني أؤكد مرة أخرى أن غفلة ونسيان أعضاء قوات جيش العشرين مليون ستؤدي إلى السقوط في حبائل القوتين العظيمتين في العالم)[8].

 

إنّ الإمام الخميني ومن خلال النصوص المتقدمة، يعطي الثقافة الإسلامية بعدها العملي والتعبوي، وينهض بها إلى إطارها الأوسع، إلى الجمهور التعبوي. وهو عندما يدمج بين المواقع الحوزوية والجامعية والتعبوية يطمح بهذا الدمج إلى البعد العملي لدور الثقافة وإخراجها من مواقع التخصص الانطوائية، والإسلام لا يعطي الأهمية للعلماء إلا بما يحقق هؤلاء العلماء الطموح العملي للإسلام، أي: إحضار الإسلام في حركة الحياة ومجالاتها، والعقيدة الإسلامية عندما تتكثف في وجدانية المقاتل فهي أفضل من الثقافة الانزوائية، أو العلم المغلق، وبهذا الربط الخميني أخذت الثقافة الإسلامية حيويتها وحركتها وشموليتها بخلاف الثقافة الماركسية النخبوية.

 

وبهذا الصدد يمكن أن نقف على ما جاء في تقرير ميداني هام لباحث فرنسي نشرته(لوموند دبلوماتيك) غذ يقول التقرير: (فالثورة الإسلامية تطرح وبشكل جذري مسألة تعثرت بها باقي الثورات. إنّ أمكانية الإطاحة بنظام ما، أمر سهل ويسير، أما متابعة الثورة واستمراريتها وتقديم براهين حضارية على ذلك وتأسيس قيم جديدة قادرة أن تحافظ عليها، وتنقلها عبر تلقين وتعليم غير مقتصرين على نشر بسيط للمعلومات فإن ذلك أمر أشد صعوبة وعسراً، فالمنظمات الماركسية تبقى بشكل عام على اختلاف توجهاتها في إيران برهنت بشكل فاضح عن جهلها، بالواقع الاجتماعي الشعبي للأمة، فالماركسية التي كان يدعي مروجوها أن تكون عامل إيضاح وتنوير في كثير من بلدان العالم الثالث أصبحت محدودة في فئة برجوازية ثقافية مدنية، ومن ثم سقطت في الانغلاق والتقوقع داخل قمقمها واكتفت بإصدار النظريات الإستراتيجية المجردة، وذلك بعدان عميت عن الإبعاد الرمزية والدينية والحضارية والتقليدية والثقافية، وهذا العمى الثابت عندها هو حقيقة معلومة ومؤكدة)[9].

 

إذاً، وبالإضافة إلى كل تصورات الإمام ورؤاه في المجال الدفاعي، فهو يرى:

 

1ـ إنّ هذا المجال لا يمكن له أن يرتقي إلى أداء دوره بمعزل عن العامل العقيدي الإسلامي.

 

2ـ ولا يمكن لأي طموح دفاعي أن يتحقق بمعزل عن السلوكيات والقيم التعبوية المستمدة من قيم الإسلام العظيمة.

 

3ـ والوطنية المجردة لا يمكن أن تخلق لدى الجهاز التعبوي معنويات القتال والدفاع المطلوبة.

 

4ـ ويجب أن تبقى المجالات التعبوية والحوزوية والجامعية مفتوحة على بعضها البعض في الحياة الإسلامية، كضمانة لتطبيق وحفظ سياسة (لا شرقية ولا غربية).

 

 

 

دراسات الكاتب:

 

الخطاب الثوري.. البنية، الثوابت، الملامح [1]

 

الخطاب الثوري.. البنية.. الثوابت.. الملامح[2]

 

الإمام الخميني والمنهج الثوري

 

الدول الكبرى.. النظام الدولي..

 

الغرب والحضارة الغربية خطوط المواجهة.. وشروط التفاعل

 

التخريب الثقافي والفكري: الجامعة ـ الحوزة

 

القيادة الإسلامية

 

الإمام الخميني والإعلام

 

الإمام الخميني رجل القرن العشرين، ورجل القرن الحادي والعشرين

 

الجذر المعتقدي للاستشراف الخميني

 

ــــــــــــــــ

 

[1] بتاريخ 24/11/1359هـ.

 

[2] بتاريخ 2 جمادي الأولى 1384هـ.

 

[3] بتاريخ 28/4/59هـ.

 

[4] المصدر السابق، ص 248.

 

[5] المصدر السابق، ص 248.

 

[6] لمزيد من المعلومات راجع: كتابه حول حرب أكتوبر 1973م.

 

[7] العهد، 26 ذي الحجة 1404هـ.

 

[8] في ربيع الثاني 1409هـ.

 

[9] منشور في العهد 3 شوال 1405هـ.