كان الإمام الخميني مجدّداً في الثقافة والفكر، وقد تجلّى نهجه هذا في قيادته فانقادت له القلوب.

 

إنه ينتمي إلى أولئك العظماء من السلف الصالح، وامتاز عليهم أنه نقل الفكر من (العلم) إلى(العين) من النظرية إلى التطبيق.. فكانت الأفكار الرفيعة في بطون الكتب ولكن الإمام منحها الحياة على الأرض.

 

فإذا كان الآخرون قد قسموا الجهاد إلى قسمين فإنه قسمه إلى ثلاثة أقسام، وإذا قد قسموا الهجرة إلى قسمين فإنه قد قسمها إلى ثلاثة.

 

وكان النصر حليفه في ميادين الجهاد الثلاثة والفتح في الهجرات الثلاث.

 

وعندها هتف: من هنا الطريق.. وهذا هو النهج ومن هنا يمكن بلوغ الهدف!

 

الآخرون قسموا الجهاد إلى أصغر وأكبر.. فالأصغر معركة الإنسان مع عدوّه والأكبر معركته مع نفسه وأهواءه.. معركة في الخارج، ومعركة في الداخل.

 

أما أولئك الذين تخلّقوا بأخلاق الله فهم الذين انتصروا في جهادهم العظيم، حيث التقوى والورع هو النصر النهائي.

 

الآخرون قسموا الهجرة.. هجرتين(صغرى) و(كبرى) فالصغرى جهاد أصغر والكبرى جهاد أكبر.

 

والهجرة الصغرى هي الانتقال من مكان لا يستطيع الإنسان فيه ممارسة شعائره الدينية إلى مكان آخر يسمح بذلك.. أما الهجرة الكبرى فهي هجرة الإنسان من الشر واجتناب الباطل:

 

﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾[1].

 

ولكن العظماء من أهل المعرفة الذين خلفوا لنا آثاراً خالدة[2] يطلقون على الجهاد الأكبر (الجهاد الأوسط) والجهاد الأكبر في حقيقته: الخلاص من (شرور) (العقل).. من أسر(الاستدلال).. من مخاطر(البرهان)، والولوج في وادي(العشق).

 

فالإنسان الذي يبقى في دائرة الفكر والعقل فإنه يمارس جهاده الأوسط كإنسان(عاقل) لا كإنسان (عارف) أو(عاشق).. إنه ما يزال في محور الفكر في مدار العقل وبالرغم من خلاصه من عضات الجهل، ولكنه لم يستطع بعد ترويض العقل فالإنسان العادل المتقي والطيب هو إنسان في هجرة وسعي لا في هجرة كبرى.

 

(الهجرة الكبرى) هي اجتياز مرحلة العدل والتقوى إلى مرتبة أعلى هي (الحب). والإنسان (المحب) هو من يفدي نفسه في طريق المحبوب، ولا يقول أبداً أنها حرب غير متكافئة.. أو يقول لا يمكن مواجهة الطاغوت بأيد خالية..

 

فالسالك في دروب الحب لا يقول أبداً: كيف لي أن أصرخ وأنا لا أملك شبراً على الأرض؟ ولا يقول أبداً: كيف لي أن أواجه الطاغوت وحيداً؟ فلا بلد يؤويني ولا دولة تسندني؟ ولذا كان يقول: سأسافر من بحر لبحر ومن مطار إلى مطار ومن سفينة إلى سفينة ولكن سأظل أقاوم[3].

 

هذه كلمات إنسان (عاشق) تخلص من أسار العقل، وهو ماض في طريق الهجرة الكبرى.. وهذا ما فعله سيد الشهداء وأصحابه من قبل.

 

وهواجس(الإنسان العاقل) الذي يحيا في أسار الرهان والدليل والبرهان: إنه في ظروف ليس فيها ناصر ومعين وعدّة وعدد والعدو في ذروة قوّته وبطشه فإن العمل بالتقية واجب والركون إلى السكوت أفضل من الثورة والغليان.[4]

 

أما الإنسان الذي اجتاز هذه المرحلة فيقول: لكي نصل إلى مرتبة (العشق) يتوجب علينا أن نتخلص من حبال (العقل) والفكر؛ أجل لقد اجتاز الجهاد الأوسط فهو ماض في جهاده الأكبر في طريق (الهجرة الكبرى).

 

وهؤلاء الذين يظنون أنفسهم أنهم في الجهاد الأكبر، هم في رأي الإمام في الجهاد الأوسط.. في هجرة وسفر.

 

لقد أورد المرحوم الكليني في كتابه رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها وأحبّها بقلبه، وباشرها بجسده وتفرغ لها فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا على عُسر أم على يسر)[5].

 

وهذا هو حديث الإمام الخميني نجده في تفسيره المضيء لسورة الحمد.. أنه يتحدث عن العبادة معشوقاً جديراً بالحب.. فأفضل الناس من عشق العبادة ووهب لها قلبه لا أن يفهم معنى العبادة أو يقيم عليها الدليل فهذا حدّ وسط وليس هو الغاية والنهاية.

 

أن يتحمل العذابات ويضع روحه فوق كفيه ولا يهمه القيل والقال فلن تجد في قلبه غير الله ولن يجد من دونه ملتحداً.

 

لأن من دون ذلك لا يتحمل الإنسان ولا يستمر في طريق المقاومة.

 

كم بثوا دعاياتهم ضد الإمام بعد مذبحة 15 خرداد 1342؟! كم سطروا كلمات كالسم الزعاف كما أطلقوا الاتهامات؟!

 

إنه لم يستطع مواجهة كل ذلك لولا أنه كان مشدوهاً بمعشوقه.. مشغولاً بالنظر إليه مبهوراً بجمال طلعته:

 

تيّمني النظر إلى خال على شفتيك                 وعندما التقت عينيك عيناي مرضت[6]

 

هذا هو طريق(الحب) لا طريق (العقل) وكان الإمام(عاشقاً) ولم يكن (عاقلاً) فالذي يفجر نفسه بحزام ناسف أو قنبلة يدوية، والذي يرمي نفسه تحت الدبابات هو (عاشق).

 

وكان هؤلاء العشاق من خرّيجي مدرسة (العشق الإلهي) مدرسة الإمام الخميني.

 

لقد طوى الإمام الخميني مراحل الجهاد الثلاث، وهاجر الهجرات الثلاث وبلغ الغاية التي كان ينشد.

 

إننا نقف اليوم إلى جوار مرقده الطاهر ونردد من صميم القلب ونشهد بكل إيمان قائلين:

 

(أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وجاهدت في الله حق جهاده حتى أتاك اليقين).

 

وإذا كنا تعلمنا كيف نخاطب الأولياء في مراقدهم بهذه الكلمات، فإننا نخاطب الراحل العظيم بعد ما رأينا بأم أعيننا جهاده الطويل والمرير.

 

والموضوع هنا أن هذا الطريق ممكن طيّه مع أن الله سبحانه أخفى تحقيق وعده وهو القائل: ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾[7] لقد وعدنا ووعده الحق ولكن لا أحد يعرف متى؟ في أمد قريب أو بعيد..

 

وهذا الطريق ليس حكراً على أحد دون آخر.. أنه مفتوح للجميع.. مشروع أمام الجميع..

 

فليس كل عالم يموت يحمل معه علمه. إن صدمة الموت ستنسيه علومه إلاّ ما استحال إلى مَلَكة.. إلاّ ما اتحد بالروح.

 

فالموت ليس أمراً هيناً حتى يمكن للمرء أن يحتفظ بعلومه.. لأن الموت يعني تحرر الروح من كل ما يثقلها..

 

الموت لا يعني موت الروح، فالروح لا تعرف الموت أبداً.[8]

 

الموت: خلاص الروح من كل ما يثقلها من الأشياء الغريبة..

 

الروح: تتحرّر من الجسد تخلّص من الأموال والأولاد، نسيان الذكريات وكل الأشياء التي لا تكون مقوماً للروح.

 

وقد أشار القرآن إلى حالتين من الموت، الإنسان يشيخ وتضعف قواه الجسمية يذوي جسده شيئاً فشيئاً وكما ورد في سورة يس: ﴿ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾؟

 

وهذا ليس نقصاً للإنسان العالم لأن قانون الشيخوخة يجري على جسد كل إنسان فهذه ظاهرة هامة شاملة لا يستثنى منها أحد، ولكن هناك ظاهرة أخرى تشير إليها الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾[9].

 

ومن تفيد الجزئية فهي موجبة جزئية لا موجبة كلّية، فهناك إذن زوال العلم وذهاب كل الجهود العلمية هباءاً منثوراً، وهذا نقص في حياة العلماء.

 

إنّ علماً يطلبه الإنسان من أجل أن يقال له: (عالم)، وعلماً ينشده المرء من أجل لقب واسم وشهرة، لهو علم معرّض للنسيان والزوال.. علم لا يمكنه مرافقة الإنسان بعد صدمة الموت لأنه لم يضئ روحه.. علم لم يتحول إلى نور.

 

وهذا إمام المتقين يتحدث عن صفات المتقين فيقول: (إذا زكّي أحد منهم خاف مما يقال له: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربّي أعلم مني بنفسي.. أللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل مما يظنون، واغفر لي مالا يعلمون).[10]

 

الثناء، المديح هي بداية الهجوم الشيطاني وأن على الإنسان أن يشعر بحالة الخطر إذا ما مُدح أو أثني عليه ولذا نجد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يحذر صديقه وصاحبه مالك الأشتر قائلاً:

 

(إياك والإعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها وحبّ الإطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحض ما يكون من إحسان المحسنين)[11].

 

فالعالم الذي يسعده الإطراء ويفرحه الثناء على درسه وعلمه لن يصطحب علمه معه بعد الموت.. ستنطلق الروح وتترك علمه الذي جهد في الحصول عليه.. لأن الروح لا تأخذ معها إلا ما ينسجم معها.

 

شيئاً فشيئاً يشيخ الإنسان يتقاعد من عمله ويفقد تدريجياً علومه حتى يصبح.. نكرة في سياق نفي) كما يقولون.

 

(لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً).

 

وفي النهاية نجد ذلك الأديب البليغ وهو لا يحسن تأليف جملة مفيدة، وقد لا يمكنه أن يقرأ بصورة صحيحة سطراً واحداً..

 

فما الذي يصون الإنسان وهو يسلك طريق الجهاد، ودروب الهجرة؟ ما الذي ينقذه من خطر الشيطان وأحابيله؟ سوى (الرقابة) الدائمة(والحساب) المستمر.

 

يقول الإمام الخميني في تفسير سورة الحمد: (الشباب أفضل من الكهول في استطاعتهم إنقاذ أنفسهم.. إن علينا أن نسعى في طرد الخواطر التي تشدّنا إليها لأن هذه الخواطر هي مصداق الحديث الشريف: (فإنما مثل الدنيا مثل الحيّة ليّن مسّها وقاتل سمّها)[12].

 

ومن إبداعات الإمام الكبير هو تفسيره(الدنيا) عندما يقول: الدنيا هي: أنفسكم والإنسان السيئ هو الدنيا، وإلا فإن السماء والأرض.. الجبال والشجر الصحراء والبحر ليست هي الدنيا بل إنها (آيات الله) وقد ذكرها الله سبحانه بتكريم[13].

 

إنّ الله سبحانه لم يذكر السماء بسوء أبداً، ولم يقلل من شأن قبتها المرصعة بالنجوم كما لم يذكر الأرض بكل ما فيها مثل ذلك.

 

وما الدنيا سوى تلك (العناوين الاعتبارية) التي تشغل الإنسان الشرير فيستغرق فيها.

 

إنها مجموع الأنانيات التي تحيل الدنيا إلى جحيم، فيصبح الإنسان أحياناً حطباً في تلك النار: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾[14].

 

وإلاّ فابحثوا عن الدنيا إنكم لن تجدوها في طرق السماء ولا في مجاهل الأرض.. لن تجدوا سوى آيات الله.. لن تجدوا سوى مخلوقات تسبح لله وقد خلقت من أجلنا.

 

ومن هنا فإن الدنيا إنما هي العناوين الإعتبارية التي تنطوي عليها ذواتنا والتي يمكن الخلاص منها متى أردنا، فالخلاص منها ومن شرورها أمر ممكن والطريق إلى ذلك مفتوح مشرع ميسّر لمن سلك.

 

إنّ علينا أن نراقب أنفسنا.. نحاسب ذواتنا، وحتى نبدأ الهجرة ينبغي لنا أن نميز بين الخير والشر.. بين الحلال والحرام، لأن الإنسان الذي لا يعرف أحكام الحلال والحرام لن يكتشف القبح ولن يعرف الجمال.

 

وعندما يعرف الإنسان قضايا الإسلام، ومسائل الحلال والحرام عندها يدرك كيف تنخدع النفس.

 

فالنفس لا تصبح فجأة (أمّارة بالسوء)... إنها تنحدر شيئاً فشيئاً.. وكذا السير التكاملي وارتقاء الدرجات العلى.. يصبح الإنسان في البدء (نفساً مطمئنة) بل أن بلوغ هذه المرتبة يلزمه برنامج من التهذيب والتزكية، ويتوجب اجتياز مراحل عديدة حتى يصل هذه المرحلة.

 

والسقوط أيضاً انحدار في درجات حتى يصل الإنسان حضيض النفس (الأمارة بالسوء) فتأمره نفسه إلى عمل قبيح فيضيع.. وهو (التسويل) الذي يشير إليه القرآن الكريم.

 

كما نرى ذلك في قصة السامري الذي اعترف قائلاً: ﴿ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾[15] وما نراه في اتهام يعقوب أبناءه حول مصير يوسف: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا﴾[16].

 

فالنفس (المسوّلة) شيطان في الأعماق لا ينفك عنّا، إنه عالم نفساني وثيق الصلة بطبيعتنا.. يعرف تطلعاتنا جيداً ويعرف أيضاً هواجسنا، ولذا فهو يصوّر لنا الشرور في حلّة برّاقة، وعندها يقدم المرء على تجرّع السم وهو يحسبه عسلاً.

 

فالنفس المسوّلة كالشيطان لا تغتال الإنسان وتقضي على حياته لأن الشيطان لو أقدم على قتل الإنسان لارتاح المرء.. لأنه وإن لم يشعر باللذة كذلك لن يشعر بالألم، فالشيطان عدّو ولكنه ليس من همه قتل الإنسان، بل أنه كل شيطنته تستهدف أسر الإنسان، ومن ثم تسخيره فيعمل كل ما يملي عليه ويصنع كل ما يأمره.

 

وهذا ما يقصده الإمام علي (عليه السلام) في قوله: (وكم من أسير تحت هوى أمير)[17].

 

وما أكثر العقول التي أسرت في طريق الجهاد.. أسرها الهوى.

 

الإنسان أسير مهما فكر بعقل، وتأمّل في فكر لأن حاصل تفكيره وتأمله سيكون تحت تصرّف الهوى.

 

لأن العقل أسير تابع لهوى أمير.

 

إننا نشاهد حركة العلم وتقدمه، ولكن في ميدان صناعة أسلحة الدمار.. العلماء أبرياء ولكن الساسة اللاعبون هؤلاء المفترسون الذين لا يتورّعون عن ارتكاب الجرائم أنهم يفكرون جيداً ولكن هذا الفكر هو (أسير هوى أمير..).

 

فالشيطان يسعى من أجل أن تكون له حاكمية على الإنسان.. أنه يريد أسر الإنسان وتوجيه ثقافته بالاتجاه الذي يشاء.

 

ومن هنا فإن النفس المسوّلة تخدّر الإنسان.. تزرقه سمومها التي لا تقتل بل أنها سموم مخدّرة ولذا جاء على لسان الأنبياء: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا﴾[18].

 

أي يصل المرء مرحلة يرى فيها القبح جمالاً والجميل قبيحاً وعندما يرى الإنسان السيئات في صورة حسنات، ثم يرتكبها يعني أنه تشرّب هذه السموم فهو مخدّر ومدمن، وعندما يكون قد أدمن الذنوب يصبح نفساً (أمارة بالسوء) ويصبح الإنسان تابعاً ذليلاً لها تأمره فيطيع، وقد يدرك فيها بعد أن يرتكب الكبائر ولكنه قد أصبح مدمناً، والمدمن كالأسير الذي لا يملك إرادة فهو تابع ذليل.

 

وعندما يهوي الإنسان ويصل في سقوطه إلى مرحلة النفس الأمارة بالسوء فإنه قبل ذلك قد اجتاز مرحلة النفس المسوّلة.

 

وإذا ما أردنا أن نتجنّب السقوط في فخ النفس المسوّلة، علينا أن ننتبه ونكون على أهبة الاستعداد والحذر.. فإذا قررنا عملاً ما فإننا ندرس خطوتنا لنرى هل هناك هدف غير إلهي؟ فإذا أحسسنا أن هناك غاية ليست لله فلننصرف عن ذلك.. ومثالاً على ذلك إذا أردنا عمل خير ثم رأينا شخصاً آخر يبادر إلى عمل ذلك الخير فينبغي أن نشكر الله لأن نيتنا عمله، وقد تحقق ذلك العمل، ونحن في ثوابه شريكون.

 

ولكن لو قلنا: وما كان عيبنا حتى لم نفعل ذلك؟

 

إنّ هذه الهواجس هي بداية الطريق في السقوط في شراك وتسويل النفس.

 

إنه ليس من السهل الخلاص من أحابيل الشيطان، لأن الإنسان إذا نجا من تسويل النفس فإن عقله سيكون هو الأمير على نفسه، وتصبح المعادلة: (وكم من عقل أسير تحت هوى أمير) بهذا الشكل: (وكم من هوى أسير تحت عقل أمير).

 

وقد جاء في رسالة للإمام علي (عليه السلام) قوله: (وإنما هي نفسي أروّضها بالتقوى)[19].

 

وكما نرى يقوم الإنسان بتربية بدنه لتصبح عضلاته قوّية، فإن الإمام علي (عليه السلام) يقوم بتربية نفسه بالتقوى لتتعلم على طاعة العقل وحتى لا تعرف غير الطاعة.

 

ومثل هذا الإنسان يعيش (عالماً) ويهرم (عالماً) ويموت (عالماً) ويبعث يوم القيامة(عالماً).

 

ومن هنا جاء في الروايات: (يقال للعالم: قف اشفع تُشفع)[20].

 

إنّ هذا الحديث لا يشمل كل من حصّل العلوم وكل من درس وحفظ العلوم.. إن عدداً ضئيلاً يبعثهم الله يوم الحشر (فقهاء) كما جاء في الحديث(بعثه الله يوم القيامة عالماً فقيهاً)[21].

 

ويعبر القرآن عن هذه بالمجيء: ﴿مَن جاءَ بالحَسَنةِ فَلَهُ عَشرُ أمثالِها﴾[22].

 

فالملاك إذن فعل الحسنات، والحسنات لا تتحقق إلاّ في ظلال (الإخلاص) وخلوص النيّة وعندها يكون ثوابه(فله عشر أمثالها) أو (فله خير منها).

 

إن الله سبحانه لم يعد كل من فعل حسنة أن يحصل على عشر أمثالها، فقد يعمل أحدهما خيراً ولكن حياته تنتهي بالشر وسوء العاقبة.

 

ولو أن إنساناً انطوى على هذه الخصلة فإنه يحشر يوم القيامة (عالماً) ويكون له حق الشفاعة، وكما أنه يشفع للناس في الدنيا، ويحول بينهم وبين الانحراف فإنه يشفع لهم يوم القيامة.

 

ولقد كان الإمام الخميني (رضوان الله عليه) من النوادر الذين بلغوا هذه المرتبة.. لأنه كان لديه (إخلاص في العمل) وهو الذي سعى في طيّ الهجرات الثلاث وسلوك مراحل الجهاد الثلاث.

 

وهو الذي دعا إلى ترك توصيات العقل وحسابات العادية، ومعادلاته الرياضية بعمله وفعله دعا إلى ذلك لقد نجا من شرور (العقل) وبلغ مرحلة(الحب) واقتدى في طريق السالكين بدرب المحبة، على خطى سيد الشهداء الحسين بن علي عليهما السلام.

 

وعصارة البحث هل يستطيع الإنسان في ظل المحاسبة والمراقبة والحذر الخلاص من شرور النفس الأمّارة بالسوء والمسوّلة ومن ثم يصبح العقل هو الحاكم على النفس؟

 

ومثل هذا الإنسان قادر من خلال الإخلاص والإيثار والتضحية على الخلاص من فخ العقل أيضاً.. يصل إلى منـزلة (العشق) الرفيعة وإلى منطلق المحبة ليصبح (العشق) حاكماً على (العقل) وأميراً عليه.. ومن أجل طيّ هذا المسار الطولي فإنه لا يكون قد طوى الهجرات الثلاث بل وأتم مراحل الجهاد الثلاث، وسيكون من نصيبه حينئذ إحياء الإسلام المحمدي الأصيل.

 

وهو ما نسأله من الله سبحانه في ليالي رمضان المباركة عندما ندعوه قائلين: (اللهم إني أسألك أن تجعلني ممن تنتصر به لدينك ولا تستبدل بي غيري)[23].

 

وفي عصرنا اليوم فاز الإمام الراحل بهذا الفيض الإلهي.

 

 ـــــــــــــــــــ

 

[1] المدثر، الآية: 5.

 

[2] (مراتب جهاد) رسالة الشريعة، الطريقة والحقيقة بالفارسية للعارف حيدر الآملي: 244ـ 250.

 

[3] (الآن وأنا أجد نفسي مضطراً إلى ترك جوار مولاي أمير المؤمنين وأرى يدي مكبلة في الدولة الإسلامية وأقف على حدود الكويت ممنوعاً من الدخول فأطير إلى فرنسا.. البحث عن مكان ليس همّي.. همّي الوحيد العمل بإرادة الله ومصلحة الإسلام العليا).

 

من نداء الإمام الخميني إلى الشعب الإيراني بعد مغادرته العراق بطلب من حكومة البعث 14/7/1357هـ.ش 5 تشرين الثاني 1978م صحيفة نور: 1/587.

 

[4] (سألت أحد السادة من أئمة المساجد في زمن فرضوا فيه على العلماء تغيير الزيّ التقليدي: إذا أجبروك على تغيير زيّك فماذا تصنع؟ قال: أبقى جليس بيتي ولا أخرج أبداً قلت له: أما لو أنهم طلبوا مني ذلك وكنت إماماً للجماعة فسأذهب إلى المسجد بحلّة جديدة..) المصدر السابق: 262.

 

[5] أصول الكافي: 2/83 ح3.

 

[6] من به خال لبت اى دوست گرفتار شدم      چشم بيمار تورا ديدم وبيمار شدم . ديوان الإمام الخميني: 142.

 

[7] البقرة، الآية: 106.

 

[8] الاحتجاج للطبرسي: 2/96.

 

[9] الحج، الآية: 5.

 

[10] نهج البلاغة/الخطبة رقم 184 ص 613 وهي من المواعظ البليغة جاءت بعد أن طلب أحد أصحابه قائلاً: صف لي المتقين كأني أنظر إليهم.

 

[11] المصدر السابق الرسالة رقم 53 وهي رسالته (عليه السلام) إلى مالك الأشتر: 1030.

 

[12] المصدر نفسه رسالة 68 ص 1065 نسخة فيض الإسلام.

 

[13] فصلت: الآية 11.

 

[14] الجن، الآية: 15.

 

[15] طه، الآية: 96.

 

[16] يوسف، الآية: 18.

 

[17] نهج البلاغة: الحكمة 202 ص : 1182 نسخة فيض الإسلام.

 

[18] يوسف، الآية: 18.

 

[19] نهج البلاغة كتاب رقم 45ص: 967.

 

[20] بحار الأنوار 7/320 رواية 16.

 

[21] المصدر السابق: 2/153 رواية (2ـ 9).

 

[22] الأنعام، الآية: 160.

 

[23] دعاء الافتتاح.