محور البحث في هذه المقالة رسم صورة للثورة الإسلامية وشرح أركانها وأعمدتها والإشارة إلى قدر من معطياتها ومكتسباتها باعتبارها ميراث الإمام الخالد.

 

1ـ إنّ القرآن الكريم رسم واجبات الأنبياء عليهم السلام عموماً والنبي صلى الله عليه وآله خصوصاً وعصارتها جميعاً تجتمع بشكل ثورة فكرية ووجدانية.

 

الوظيفة والواجب الإلهي للنبي صلى الله عليه وآله هي (تلاوة الوحي)، (تعليم الكتاب والحكمة) و(تزكية القلوب).

 

﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾[1].

 

﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾[2].

 

هذه هي رسالة النبي صلى الله عليه وآله.. ثلاثة واجبات: تلاوة الوحي الإلهي، تزكية القلوب وتعليم الناس الكتاب والحكمة.

 

وعندما تجتمع هذه الوظائف الثلاثة في فعلها، يحدث تغيّر اجتماعي وفي غير هذه الحالة فلا.

 

عندما يتلى الوحي وحده، أو عندما يتم تعليم الكتاب والحكمة، ولكن لم يصل المجتمع مرحلة تهذيب النفوس وتزكية القلوب فلن يحدث التغير المنشود في المجتمع.

 

إذن فإن التحولات الاجتماعية مرهونة بتحقق هذه الأركان الثلاثة وقد استخدم الإمام علي عليه السلام فعلاً منبثقاً من جذر الثورة لخص فيه رسالات الأنبياء في قوله:(ويثيروا لهم دفائن العقول)[3].

 

ولاشك أن الثورة هي أجلى صور التغيير الاجتماعي، وهذا يعني أن الأنبياء ثوّار، وهم يمتازون على غيرهم بأن ثورتهم الأساسية تحدث في الجذور .. في أعماق النفس الإنسانية، وعندها تنعكس أشعة هذه الثورة الإلهية في المجتمع بشكل جليّ.

 

2ـ إنّ كل ثورة تتألف من ثلاثة أركان هي:

 

أ ـ قائد الثورة.

 

ب ـ ثوار أوفياء.

 

ج ـ ميدان الثورة.

 

وقد أصبح واضحاً لدينا حتى الآن أن الهدف من رسالة الأنبياء هو إحداث ثورة في باطن المجتمع، وأن تلك النفوس المقدسة التي تحمل هموم هذه الثورة (وهذا هو الركن الأول).

 

أما سمات وصفات الثوار بالحق(الركن الثاني) فقد وردت في كلمات الناطق باسم الوحي سيدنا علي عليه السلام إذ وصفهم بما يلي:

 

(أما الليل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن: يرتلونه ترتيلاً ويستثيرون به دواء دائهم)[4].

 

يعني أنهم يفكرون بهموم الثورة الوجدانية في أعماق النفس الإنسانية.

 

إنهم لا يتلون الكتاب العزيز لمجرّد التلاوة، بل ويستثيرون من الآيات القرآنية ما يعالجون به الأمراض النفسية والروحية.

 

والاستثارة مشتقة من الثورة.. فهناك إذن هموم الثورة يحملها أولئك المصلحون.

 

وأما الركن الثالث للثورة:

 

إنه ما دام الشعب بأسره لم يتأثر بالكفر، الثوري ولم يستجب لقائد الثورة، فإن الثورة لن تثمر.

 

وعندما تحين اللحظة التي يهب فيها الشعب لنداء قائد الثورة كمحور للجهد الثوري، يتبلور ميدان الثورة، و(الميدان) في الثقافة العربية مجال الحركة المحورية.

 

ويخاطب الإمام علي الناس مشيراً إلى ميدان الثورة والمحور وهم أهل البيت عليهم السلام بقوله:

 

(فبادروا العلمَ من قبل تصويح نبته، ومن قبل أن تشغلوا بأنفسكم عن مستثار العلم من عند أهله)[5].

 

إذن فإن خلاصة هذا البحث هي:

 

أولاً: إنّ الأنبياء جاءوا لإشعال الثورة.

 

ثانياً: إنّ قادة الثورة هم الأنبياء.

 

ثالثاً: الثوار بالحق هم الرجال المتقون.

 

رابعاً: محور الثورة هو عقيدة أهل البيت عليهم السلام.

 

3ـ إنّ الأنبياء جاءوا للثورة، ولكن يتوجب أن نعرف قادة الثورة في غياب الأنبياء.. من هم قادة الثورة؟

 

إنّ حديث الإمام الصادق يلقي الضوء على هذا الموضوع.

 

ـ إنّ مقام الإمامة مقام شامخ.

 

ـ إنّ استمرار الإمامة ضرورة حياتية.

 

ـ وحدة القيادة والإمامة.

 

وحديثه عليه السلام جاء في تفسير هذه الآية الكريمة من قوله تعالى:

 

﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾[6].

 

ففي رواية هشام بن الحكم أن الإمام الصادق قال لدى جواب عن سؤال حول ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾: (لو علم الله سبحانه وتعالى أن اسماً أفضل منه لسمّانا به)[7].

 

وهذا يعني أن الإمامة عهد إلهي وأن الأئمة اصطفاء إلهي.

 

وإنّ الإمامة هي ذروة الكمال وأعلى مرحلة يمكن للإنسان أن يصل إليها، وإذا كانت مهمة الرسل(إثارة دفائن العقول) فمن ينفذ هذه المهمة وهذه الرسالة غير الإمام؟

 

ومن المستحيل أن يتحقق هدف الأنبياء في غياب القائد الديني، ولذا يقول الإمام الصادق عليه السلام أنه لا مقام أعلى من الإمامة.

 

وجاء في الروايات هي يترك الله الأرض بغير إمام؟

 

يقول الصادق أن ذلك محال ولا يمكن أبداً.

 

و(إن الله سبحانه وتعالى أجلّ وأعظم من أن يترك الأرض بغير أمام عادل)[8].

 

كما جاء في المأثور من الروايات أيضاً وفي صحيحة الحسين بن العلاء هذا الحوار مع الإمام الرضا عليه السلام.

 

ـ تخلو الأرض من إمام؟

 

ـ لا

 

ـ فيكون فيها اثنان؟

 

ـ لا.. إلاّ وأحدهما صامت لا يتكلم.[9]

 

4ـ إنّ الإمام علي قد وضح بشكل جلي مسألة الثورة، وأنها تنفلق من القلوب وإن المتقين ثوار، لأنهم ومن خلال برنامجهم الديني والقرآني يبدؤون حركة الثورة فهم: (يرتلونه ترتيلاً ويستثيرون به دواء دائهم)[10].

 

والداء هنا يشمل جميع الأمراض الروحية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.

 

وإذا كان القرآن قد جاء للشفاء: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾[11].

 

﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾[12] فأنه أيضاً قد شخص الأمراض.

 

﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾[13].

 

هذا فيما يخص المرض السياسي.. أما المرض الأخلاقي فإننا نجد الإمام علي يشير إليه بقوله: (فتدوَ من داء الفترة في قلبك بعزيمة، ومن كرى الغفلة في ناظرك بيقظة)[14].

 

إنك لا تعرف عن المستقبل شيئاً.. أنت نائم فأنهض من نوم الغفلة.. أنت مصاب بمرض الفتور فلتشحذ إرادتك.

 

وتذكر جيداً أنه (لا تجتمع عزيمة ووليمة، ولا بطنة وفطنة)[15].

 

أجل لن يتوقد الذهن الإنساني إذا امتلأت البطن بالطعام، وعندما لا يستطيع الإنسان أن يعرض عن الموائد الملوّنة.. فإنه لن تكون له إرادة وعزيمة.

 

القرآن الكريم يحذر حتى نساء النبي من الذين في قلوبهم مرض قائلاً: ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾[16].

 

إننا إذا بحثنا هذه المفردة(مرض) لوجدناها عميقة الجذور في الثقافة الإسلامية[17].

 

كما إننا نجد علاجاً للأمراض الاقتصادية والاجتماعية في أحاديث الإمام علي كقوله: أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى، وأكباد حرّى أو أكون كما قال القائل:  

 

وحسبك داءً أن تبيت ببطنة            وحولك أكباد تحنّ إلى القدِّ[18]

 

المجتمع الذي يعيش فيه فقراء مجتمع مريض، والناس الذين يحيا في ظهرانيهم حفاة وبؤساء هم مرضى.

 

إنه مرض في الأمة أن يوجد بين أبنائها جياع مشرّدين، وهذا المرض يجب أن يعالج باقتصاد الإسلام.

 

وخلاصة البحث هنا أن أمير البيان العربي، عندما يقول أن المتقين هم الذين يرتلون القرآن ليستثيروا به دواء دائهم.. لا يعني أن من به داء ومرض يقرأ سورة الحمد سبع مرّات فيشفى بالرغم من أن هذه معجزة القرآن الكريم والسبع المثاني أشهر من أن يعرّف أحدنا شأنها.

 

إنّ الداء الذي يعنيه الإمام عليه السلام يتسع ليشمل كل الأمراض النفسية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.. وهذا ما نجده واضحاً في أحاديث أهل البيت عليهم السلام.

 

5ـ إذا كان الإمام الخميني عظيماً، فإن أمته هي الأخرى عظيمة.. كانت مصداق قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾[19].

 

لقد هتف الإمام الراحل: ربنا الله، واستقام على ذلك حتى النفس الأخير ونهضت الأمة كلها معه تقول: (ربنا الله) .. وعليها أن تستمر في الاستقامة.

 

وإذا ما أردنا أن نعقد مقارنة بين الثورة الإسلامية في إيران والثورة في صدر الإسلام ونتساءل لماذا لم ينتصر علي عليه السلام وانتصر وارثه؟!

 

إننا سنجد الجواب في كلمات علي نفسها.. في آهاته عندما يقول: (أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي كناقش الشوكة بالشوكة وهو يعلم أن ضلعها معها)[20].

 

فما إن بدأ تجربته في الحكم حتى نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون على حدّ تعبيره.

 

وهو يدرك أن السرّ في كل ذلك هو حب الدنيا: (حليت الدنيا في أعينهم)[21]من أجل هذا لم ينتصر علي..

 

وهذا لا يعني أن هناك إخفاق في قيادته معاذ الله! كما لا يعني أن الأمويين أمكر من الاستكبار العالمي اليوم.. كلا.

 

إنّ ساسة الاستكبار العالمي إذا لم يكونوا أمكر من الساسة الأمويين فهم نظراؤهم.. ولكن لماذا انتصر الإمام الخميني ولم ينتصر الإمام علي عليه السلام.

 

يجب أن نبحث عن السرّ في الركن الثاني والركن الثالث للثورة: أعني(ميدان الثورة) و(الثوار الأوفياء) وكان الإمام علي عليه السلام يبحث عن مساعديه في العلاج فإذا هم مرضى!!

 

من أجل هذا خاطبهم علي عليه السلام أداوي بكم وأنتم دائي.

 

أما السرّ في انتصار الإمام الخميني هو أنه الوارث الأكبر للإمام علي عليه السلام، وأن الشعب الإيراني كان وريثاً لأصحاب الحسين عليه السلام فلم يكن في صفوف حوّارية ناكث ولا مارق ولا قاسط.

 

ولو كان للإمام الحسين أصحاب كشعبنا لطوى بساط الأمويين إلى الأبد، ولكن كيف يتأتى له ذلك وكان أصحابه أفراداً قلائل في مقابل آلاف الذئاب؟!

 

أما شعبنا فما يزال حتى هذه اللحظة يملأ حضوره الفاعل ميدان الثورة.

 

6ـ ما قام به الإمام الخميني كان فريداً على امتداد القرون الأخيرة.. لقد اعتمد الإمام برنامجاً مبتكراً منطلقاً من القرآن الكريم.. على أساس أن الله سبحانه هو مصدر القوّة المطلقة.

 

في قصة جلاء اليهود من المدينة المنورة يقول القرآن الكريم:﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ﴾[22].

 

لقد كان اليهود مجهزّين بأفضل أنواع الأسلحة، وكانت حصونهم من المناعة بحيث يصعب اقتحامها كما أن مخازنهم متخمة بالمواد الغذائية.

 

حتى المسلمين لم يكونوا يتصورون أن بإمكانهم إلحاق هزيمة باليهود، ولكن القدرة الغيبية فاجأت الجميع بانتصار لم يتوقعه أحد!

 

لقد زال الخطر اليهودي وأصبح أثراً بعد عين!

 

إنها قدرة الله سبحانه تجلّت في قوّة الإسلام.. ربما يأتي في المستقبل من يهزم القوة اليهودية ولكن الإسلام كان رائد هذا النصر.. ربما يأتي ساسة يتفوقون على إسرائيل، ولكن السبق الإلهي هو الرائد فـ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾[23].

 

الأصدقاء والأعداء لم يكونوا يتصورون هذا النصر الساحق للإسلام، ولا تلك الهزيمة المذلّة لليهود..

 

الإسلام قلب معادلات صراع القوى رأساً على عقب، وها نحن نشهد وبعد أربعة عشر قرناً من تاريخ الإسلام المنقوع بالدموع ظهر رجل من سلالة النبي صلى الله عليه وآله ويفاجئ الأعداء والأصدقاء، فيخرج الذين كفروا من أرض إيران، فيكون رائد النصر الجديد.

 

ومن هنا فأن من يأتي بعده ويطرد الأعداء من بلاد الإسلام فهو من أمة الإمام الراحل (رض).

 

أجل إذا انتصرت الثورة الإسلامية في السودان ومصر والجزائر، وإذا ما انتصر شعب أفغانستان المضحي، والشعب المجاهد في فلسطين وإذا ما انتصرت حركات الإسلام هنا وهناك في بقاع العالم المختلفة وهُزم الاستكبار العالمي فإن كل أولئك الثوار هم أبناء الأمة الخمينية.

 

لأن الإمام الراحل هو أول من قلب معادلات الصراع وموازين القوى.. وهو وحده الذي فاز بجائزة إمامة القرآن الكريم.

 

وبعد أن أثبت القرآن السبق الإلهي في الظفر، مجد المهاجرين الأولين باعتبارهم السباقين في قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ﴾ [24].

 

وقد أشار القرآن الكريم أيضاً إلى الفرق الجوهري بين الذين اعتنقوا الإسلام قبل الفتح الأكبر(فتح مكة) وبين الذين اعتنقوه بعد الفتح: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾[25].

 

وكما أن هناك فرق شاسع بين العالم والجاهل: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[26].

 

وأيضاً بين المجاهدين والقاعدين وقد﴿فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[27].

 

كذلك هناك فرق كبير بين الثوريين قبل انتصار الثورة وبين الثوريين بعد انتصارها.

 

وعندما نعقد مقارنة بين الذين عانوا ما عانوا في زمان الجهاد والكفاح من أجل إعلاء كلمة الإسلام.. تشردوا طوردوا سجنوا كبلوا بالسلاسل والأغلال.. وقد رسمت السياط.. سياط الجلادين خطوطاً زرقاء وسوداء على جلودهم.. عندما نقارنهم مع الذين تفيأوا ظلال الثورة وقد انتصرت وهزمت حراب القتلة.. عندها سنجد فرقاً عظيماً.. لا يستوي الثوار قبل الفتح مع الثوار بعد الفتح!

 

لو أن مسجداً مشرعة أبوابه للجميع، فمن كان ـ بيته قريباً يلج المسجد مكبراً ومن كان بيته بعيداً يصل متأخراً.. هناك تفاوت بين الاثنين ولكن القرآن لا يكترث له كثيراً لأن هذا سبق زماني لا يعد مجداً.

 

السبق الزماني الذي يعد أساساً للمجد هو انتخاب المرء عقيدة اكتشف حقانيتها قبل الآخرين، فبادر إلى اعتناقها وتحمل ما تحمل في سبيلها، وبهذا كان علي بن أبي طالب يحتج على خصومه بسبقه إلى الإسلام فيما كان خصومه يومها غارقين في الكفر.[28]

 

ومن هنا ينطلق مجد أهل البيت حيث: (علي أقدمهم سلماً)[29].

 

ومن هنا يفتخر أصحاب النبي المنتجبين بعلي الذي هو (أقدمهم سلماً) ومن هنا أيضاً نكتشف مجد الإمام الخميني الراحل لأنه كان سبّاقاً إلى المجد فكان من السابقين الأولين لأنه كان إمام الثائرين لا ينازعه مجده ثوار الشرق الأقصى والأدنى ولا ثوار يوالون الأدنى والبعيد.

 

7ـ يمكن أن نرى زاد الإمام الراحل في كثير من المسائل العادية.. ولكن أعظم شيء فعله الإمام هو إحياؤه علوماً معطلة وفتحه آفاقاً مسدودة.. كم من الأذهان شحذ وكم من القلوب زكّى!

 

كم من القضايا الحساسة في الفقه الإمامي حُجر عليها قبل الثورة لأنها ليست محل ابتلاء!!

 

لقد ظلت مسائل حساسة كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجهاد، القضاء، الشهادات، القصاص، الحدود، الديات والتعزيرات في هامش الدراسات الحوزوية فتراكم عليها غبار التاريخ والزمن.

 

ثم إذا بالإمام يثير هذه الدقائق في الكتب، وفي العقول فظهرت كنوز المعرفة الإسلامية من جديد، هذا فيما يخص الفقه.

 

اما العلوم العقلية مثل الكلام، الفلسفة والعرفان، التي هي خلاصة الأدعية المأثورة والمناجاة لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله فلم تكن نسياً منسياً فحسب بل كانت محاربة مطرودة تستهدفها لعنات اللاعنين،حتى إذا جاء الإمام أعاد إليها اعتبارها واحترامها ورونقها.

 

إننا لو درسنا حياة الذين اعتنقوا الإسلام، لرأينا أن أكثرهم إنما تأثروا بمناجاة أئمة أهل البيت وأدعيتهم وعندها سنكتشف أثر(العرفان) في عالم اليوم.

 

فالأئمة من أهل البيت إذا تحدثوا إلى الخلق كانت لهم لغتهم البسيطة التي تخاطب الناس على قدر عقولهم لأن همهم إرشاد الناس[30]ولكنهم عندما يخاطبون الخالق فلهم لغة أخرى.

 

لقد أحيا الإمام الخميني هذه العلوم، ولهذا ما إن تطبع رسالة أو مقالة في الفلسفة والعرفان فقبل أن تنتشر في إيران يتلقفها الظامئون في خارج إيران لترجمتها إلى مختلف لغات العالم..

 

وهذا معناه إحياء تراث أهل البيت عليهم السلام.

 

وهنا يكمن مجد الإمام الراحل (رض).

 

ومن هنا ندرك فجيعة الإمام علي، وهو يخاطب الرسول الراحل قائلاً: (لقد انقطع بموتك مالم ينقطع بموت أحد)[31].

 

وحق لنا أن نخاطب هذا الإمام العظيم قائلين: (السلام عليك يا بن رسول الله، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد من العلماء الربانيين).

 

وكما أعرض الإمام علي عليه السلام عن الخضاب بعد وفاة النبي(ص) قائلاً: (الخضاب زينة ونحن قوم في مصيبة).[32]

 

وكما خاطب الإمام علي عليه السلام النبي الأكرم بعد أن أهيل عليه التراب قائلاً: (إنّ الصبر لجميل إلاّ عنك وأن الجزع لقبيح إلاّ عليك)[33].

 

فحق لمسلمي العالم أن يفجعوا برحيلك يا سيدي.. أيها الإمام الحبيب لأنهم فقدوا بموتك ما لم يفقدوا بموت غيرك.

 

ــــــــــــــــــــ

 

[1] آل عمران، الآية: 164.

 

[2] البقرة، الآية: 129.

 

[3] نهج البلاغة: الخطبة1.

 

[4] المصدر السابق: الخطبة 184.

 

[5] المصدر نفسه: الخطبة 104.

 

[6] البقرة، الآية: 124.

 

[7] بحار الأنوار: 25/104.

 

[8] الكافي/178 كتاب الحجة ح6.

 

[9] المصدر السابق ح1.

 

[10] نهج البلاغة: الخطبة 184.

 

[11] يونس: الآية: 57.

 

[12] الإسراء، الآية: 82.

 

[13] المائدة، الآية: 52.

 

[14] نهج البلاغة، الخطبة 214.

 

[15] المصدر السابق: الخطبة 211.

 

[16] الأحزاب، الآية: 32.

 

[17] التفسير الموضوعي للقرآن: 1/38.

 

[18] نهج البلاغة، الرسالة: 45.

 

[19] فصلت، الآية: 30.

 

[20] نهج البلاغة، الخطبة: 130.

 

[21] المصدر السابق الخطبة الشقشقية(3).

 

[22] الحشر، الآية:2.

 

[23] الحشر، الآية: 2.

 

[24] التوبة، الآية: 1.

 

[25] الحديد، الآية: 10.

 

[26] الزمر، الآية: 9.

 

[27] النساء، الآية: 95.

 

[28] (ولم يجمع بيت واحد في الإسلام غير سول الله (ص) وخديجة وأنا ثالثهما). نهج البلاغة: الخطبة 234.

 

[29] بحار الأنوار: 22/496 الرواية 43.

 

[30] (ما كلم رسول الله العباد بكنه عقله قط) أصول الكافي باب العقل والجهل: ح15.

 

[31] نهج البلاغة: الخطبة 226.

 

[32] المصدر السابق، الحكمة: 465.

 

[33] المصدر نفسه: الخطبة 226.