قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إني تاركٌ فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي … فإنّهما لن يفترِقا حتى يردا عليّ الحوض"[1] الحمد لله وسبحانك اللهم، صلِّ على محمد وآله مظاهر جمالك وجلالك وخزائن أسرار كتابك الذي تجلت فيه الأحدية بجميع أسمائك حتى المُستأثر منها، الذي لا يعلمهُ غيرك. واللعن على ظالميهم أصل الشجرة الخبيثة.

 

وبعد.. فإني أرى من المناسب التعرض باقتضابٍ قاصر لموضوع الثقلين، لا من حيث المقامات الغيبيّة والمعنويّة والعرفانيّة[2]، فقلمي لا يجسر على مرتبةٍ يستعصي عرفانها، ويصعب ـ أن لم أقل يمتنع ـ تحملها على كل دائرة الوجود من الملك[3] إلى الملكوت الأعلى[4] ومنه إلى اللاهوت[5] وإلى ما يفوق فهمي وفهمك، ولا من حيث ما مَرَّ على البشرية جرّاء عدم إدراك حقائق المقام السامي للثقل الأكبر[6] والثقل الكبير[7] الذي يكبر كل شيء عدا الثقل الأكبر الذي يمثل الأكبر المطلق، ولا ما حيث من قاساه هذان الثقلان من الطواغيت[8] والشياطين من أعداء الله، ذلك عليّ عسير لقصور الاطلاع وضيق الوقت. فجلَّ ما رأيته مناسباً للذكر، هو الإشارة باختصار بالغ إلى ما تعرض له هذان الثقلان.

 

لعلَّ قوله ( لن يَفترِقا حتّى يردا عليَّ الحوضَ ) إشارة إلى أن كلّ ما يجري ـ وبعد حياة رسول الله (ص) المباركة ـ على أحد هذين الثقلين يجري على الآخر، وإلى أنّ هجران أيٍّ منهما يُعدُّ هجراناً للآخر، وحتى تلك الساعة التي يرد فيها هذان المهجوران الحوض[9] على رسول الله (ص).

 

أما هل أن هذا الحوض هو مقام اتصال الكثرة بالوحدة[10] واضمحلال القطرات في البحر، أو أنّه شيء آخر؟ فلا سبيل له إلى العقل والعرفان البشري. ولكنَّ ما تنبغي الإشارة إليه، هو أنّ ظلم الطواغيت الذي لحق وديعتي الرسول الأكرم (ص) هاتين، لحق الأمة الإسلامية، بل البشرية جمعاء، وإن القلم ليعجز عن بيان ذلك.

 

ولا يفوتني هنا التذكير بأنّ حديث الثقلين متواتر بين جميع المسلمين، فقد نقلته كتب أهل السنة، بدءاً من الصحاح الستّة[11] حتى الكتب الأخرى بألفاظ مختلفة وفي أبواب عديدة متواتراً عن رسول الله (ص)؛ وبذا فالحديث الشريف يُعدُّ حُجَّة قاطعة على البشر جميعاً، خصوصاً المسلمين على اختلاف مذاهبهم. وعليه فإنَّ على جميع المسلمين الذين تمت الحجة عليهم أن يوضحوا موقفهم إزاء ذلك، وإن كان ممكناً التماس العذر للجاهلين غير المطّلعين، فلا عذر للعلماء من كل المذاهب.

 

* المستبدّون والطواغيت

 

وإننا لنرى الآن أن الأمور المؤسفة التي جرت على كتاب الله ـ هذه الوديعة الإلهية وأمانة رسول الإسلام (ص) ـ هي ممّا يبعث على البكاء بدل الدموع دماً، والتي ابتدأت بُعيد شهادة عليّ (ع)؛ فقد اتّخذ المستبدون والطواغيت من القرآن وسيلة لإقامة الحكومات المعادية للقرآن، وإقصاء المفسرين الحقيقيين للقرآن والعارفين بحقائقه ـ من أولئك الذين أخذوه عن رسول الله (ص) وسمعوه عنه وممن كان نداء "إني تارك فيكم الثقلين" يملأ أسماعهم ـ عن موقع القرار باسم القرآن وبذرائع مختلفةٍ ومؤامرات محاكةٍ سلفاً.

 

وفي الحقيقة فإن هؤلاء الطواغيت عملوا على إبعاد القرآن ـ الذي يعدُّ أعظم منهج للحياة المعنوية والمادية للبشرية حتى يوم ورودها الحوض ـ عن واقع الحياة وقضوا بذلك على حكومة العدل الإلهي التي تمثل أحد أهداف هذا الكتاب المقدّس، وأسسوا للانحراف عن دين الله وعن الكتاب والسُّنَّةِ الإلهية، حتى بلغ الأمر مبلغاً يخجل القلم عن إيضاحه.

 

* القرآن منهج الحياة

 

وكلّما استطال هذا البنيان الأعوج ازداد به الانحراف والاعوجاج، حتى وصل الأمر حداً أقصي فيه القرآن الكريم عن ميدان الحياة وأصبح وكأنه عديم الدور في الهداية، وهو الكتاب الذي تنـزل من مقام الأحدية الشامخ إلى مقام الكشف المحمدي التام[12] لإرشاد العالمين، وليكون نقطة الجمع لكل المسلمين، بل للعائلة البشرية جمعاء، هادفاً إيصالها إلى ما يليق بها، وتحرير وليدة علم الأسماء[13] من شر الشياطين والطواغيت وإقامة القسط والعدل في العالم وتفويض أولياء الله المعصومين (عليهم صلوات الأولين والآخرين) أمر الحكومة يسلمونها بدورهم لمن يرون فيه صلاح البشرية. وإذا بالقرآن يصبح على أيدي الحكومات الجائرة والمعممين الخبثاء ـ الذين يفوقون الطواغيت سوءاً ـ وسيلة لإقامة الجور والفساد وتبرير ظلم الظالمين والمعاندين للحق تعالى.

 

ومن المؤسف أن يقتصر دور القرآن الكريم ـ وهو كتاب الخلاص ـ وبسبب المتآمرين والأصدقاء الجهلة، على المقابر والمآتم، ويصبح ـ وهو النازل لجمع المسلمين والبشرية جمعاء وليكون منهجاً لحياتهم ـ وسيلة للتفرقة والاختلاف أو أنه يُهجر كليّاً. وقد رأينا كيف كان يعامل من تلفظ بشيءٍ عن الحكومة الإسلاميّة أو تحدث عن السياسة وكأنه قد ارتكب أكبر المعاصي! مع أن الحكومة والسياسة هي المهمة الأولى للإسلام والرسول الأعظم (ص) والقرآن والسنة يفيضان بها. كما رأينا كيف أصبحت كلمة "عالم دين سياسي" مرادفة لكلمة "عالم دينٍ بلا دين" وما زال الأمر كذلك الآن.

 

* الطواغيت وطباعة القرآن

 

فقد عمدت القوى الشيطانية الكبرى مؤخراً ـ وبهدف القضاء على القرآن وتحقيق المقاصد الشيطانية للقوى الكبرى، وبالإيعاز للحكومات المنحرفة، الخارجة عن تعاليم الإسلام المتلبسة زوراً بالإسلام ـ للقيام بطبع القرآن طبعات فاخرة ونشره على نطاقٍ واسعٍ لتحجيم دوره بهذه الحيلة الشيطانية؛ وكلنا نذكر قيام حمد رضا خان البلهوي[14] بطباعة القرآن، وكيف أنّ هذا الأمر انطلى على البعض، ودفع البعض الآخر من المعممين الجهلة للإطراء عليه! واليوم نرى ما ينفقه الملك فهد[15] سنوياً من مبالغ طائلة من أموال المسلمين على طبع القرآن الكريم والتبليغ بالوهابية[16] ـ هذا المذهب المشحون بالخرافات والباطل جملة وتفصيلاً ـ سعياً في تطويع المسلمين والشعوب الغافلة للقوى الكبرى، والقضاء على الإسلام العزيز والقرآن الكريم باسم الإسلام والقرآن.

 

---------------------------------

 

[1]  ومفرده "ثقل". والثقل وإن كان مفهومه واحداً، إلا أن له عدة مصاديق جاءت في شروح الحديث وتفاسير القرآن الكريم منها: الميراث الثقيل، والشيء الكبير أو الثقيل أو الثمين، والمسؤولية العظيمة، والأمانة النفيسة النادرة.

 

والمراد من "الثقلين" في الحديث هو القرآن والعترة، لأنهما مصدران للشرع في الأحكام، والمرشدان إلى العمل الصالح.

 

وحديث الثقلين منقول بألفاظ مختلفة، إلا أن الروايات متفقة في المقصود، للمزيد من الإطلاع راجع: الترمذي 13/199 (باب مناقب أهل بيت النبي)، كنـز العمال 1/48، صحيح مسلم/ باب فضائل علي بن أبي طالب، مسند أحمد 4/366، سنن الدارمي 2/431، سنن البيهقي 3/148 و 7/30، الطحاوي في مشكل الآثار 4/368، أسد الغابة 2/12، مستدرك الصحيحين 3/109، حلية الأولياء 1/355، تاريخ بغداد 8/442 ومجمع الزوائد للهيثمي 9/163 و 164.

 

[2]  وهو المعرفة ومعرفة الله ـ خاصة ـ، وهو في المعارف الإلهية وحدة علمية وثقافية ذات قسمين هما: العرفان النظري والعرفان العملي. العرفان النظري: البحث في معرفة الله والعالم والإنسان. والعرفان العملي: البحث في كيفية العلاقة بين الإنسان وربّه وعالمه ومجتمعه ونفسه، وواجبه تجاههم.

 

[3]  من أحدث المباحث الفلسفية المهمة مبحث معرفة عوالم الوجود، وقد أثبتت الفلسفة وجود بعض تلك العوالم، ومنها ما ثبت وجوده للإنسان بواسطة الرؤية بالعين المجرّدة، وبحس من الحواس، وهو عالم الطبيعة الذي سمّي بـ "المُلك".

 

[4]  استدل الفلاسفة والمفكّرون على ضرورة وجود عالم في الحدّ الفاصل بين عالم الطبيعة "المُلك" و"عالم اللاهوت". هذا العالم المجرّد من المادة والزمان، المكان بشكل مطلق سمّي بـ"عالم الملكوت".

 

وقد قسّم الحكماء والعرفاء هذا العالم إلى مرتبتين: عليا وسفلى، وقد أيّدت النصوص الإسلامية هذا التقسيم. وقد أصطلح على تسمية المرتبة العليا بـ"الملكوت الأعلى" وهو عالم مهد العقل أي "الإنسان". واصطلح على تسمية المرتبة السفلى بـ"الملكوت السفلي" وهو عالم "المثال".

 

[5]  هو ذات الخالق جلّ وعلا التي لا تدرك بالحسّ، وإنّما تثبت بالدليل والبرهان العقلي. وبما أن الذات الإلهية تشمل جميع الصفات الكمالية، لذا فإنها اعتبرت أكمل عالم.

 

[6]  يستفاد من حديث الثقلين، ومن توضيحات المفسّرين وعلماء الحديث أنّ الثقل الأكبر هو "القرآن" الكريم.

 

[7]  يستفاد من المصادر التي تطرقت لمفهوم الثقلين أن الثقل الكبير هم "الأئمة المعصومون" من عترة رسول الله(ص).

 

[8]  "الطاغوت" مصطلح استعمله القرآن الكريم، وهو اسم صنع لقريش قبل الإسلام، ويطلق على الشيطان أيضاً، وعلى أيّ صنم أو بشر يمنع من فعل الخير، ويدعو إلى الضلال والشّر. و"الطاغوت" من "الطغيان" وهو الخروج عن الحدّ. قال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى".

 

[9]  تستعمل كلمة "الحوض" في المعارف الإسلامية مضافة إلى كلمة "الكوثر". و"حوض الكوثر" في نظر الإمام الخميني(س) هو تعبير عن واقعية أخروية، وهو مقام اتصال الكثرة بالوحدة، فكما أن السواقي تصب في النهر لتتوحد فيه، فإنّ القرآن والعترة يتّصلان في عالم الآخرة ليصبحان واحداً.

 

[10]  "الكثرة" تعني عند الفلاسفة سلسلة مراتب الموجودات، وتنوّع ظواهر الوجود المادية والمعنوية.

 

و"الوحدة" هي الذات الإلهية التي هي منشأ ومبدأ الوجود كله بجميع موجوداته وكائناته. بناءً عليه فإن "مقام اتصال الكثرة بالوحدة" هو مقام ومرتبة أخروية تشكّل الحد الأقصى والأعلى للكثرة والحدّ الأدنى للوحدة. وهي واسطة صدور الكثرة عن الوحدة في بدء الخلق، وواسطة عودة الكثرة إلى الوحدة في نهاية العالم.

 

[11]  مفردها "صحيح" وهو الخبر الذي يعتبر صادقاً. والصحاح الستة هي ستة كتب انتخبها علماء السنّة من بين جميع كتب الحديث، واتخذوها أصلاً وأساساً لهم في استنباط الأحكام والعقائد وتفسير القرآن وتحليل تاريخ صدر الإسلام، وهي:

 

أ ـ "صحيح البخاري" مؤلفه محمد بن إسماعيل البخاري (812 ـ 869م)

 

ب ـ "صحيح مسلم" مؤلفه مسلم بن الحجاج النيشابوري، المعروف بالقشيري (812 ـ 876م).

 

ج ـ "سنن ابن ماجه" مؤلفه محمد بن يزيد بن ماجة المتوفى عام (886م)

 

د ـ "سنن أبي داود" مؤلفه أبو داوود السجستاني سليمان بن داوود المتوفى عام (888م).

 

هـ ـ "جامع الترمذي" مؤلفه محمد بن عيسى بن سورة الترمذي المتوفى عام (892م).

 

و ـ "سنن النسائي" مؤلفه أحمد بن شعيب النسائي المتوفى عام (915م).

 

[12]  هو ظهور وتجسّم جميع الحقائق القرآنية لدى النبي محمد(ص) و"الكشف التام المحمدي" وهو مرتبة من مراتب التنـزل القرآني. ففي هذه المرتبة استقر القرآن في قلب النبي بكل أبعاده، وهذه المرتبة من كشف الحقائق القرآنية ليست إدراكاً عقلياً، بل مشاهدة غيبية، لا يدركها إلا النبي(ص) والكشف خاص به، والمشاهدة التامة له خاصة.

 

[13]  "علم الأسماء" هو نوع من العلم والمعرفة يختص بتعلمه الموجود الإنساني.

 

و"وليدة علم الأسماء" هو الإنسان، الذي عرض الله سبحانه عليه هذا العلم ليصبح به مؤهلاً لخلافة الأرض، ولولاه لما كان مؤهلاً لخلافة الأرض.

 

[14]  هو آخر ملوك العهد البهلوي في إيران. ولد عام 1919م، أبوه: "رضاخان" الذي تسلّم الحكم في انقلاب عسكري، وجعله ابنه "محمد رضا" خليفة من بعده. أكمل "محمد رضا" دراسته الأولية في إيران، وتابع دراسته العليا في سويسرا، وعاد إلى إيران ليلتحق بأمر من أبيه بالكلية العسكرية. بعد عزل أبيه عن الحكم عام 1941م ونفيه خارج إيران، وافق الحلفاء على تعيين "محمد رضا" محله. يقسم عهد "محمد رضا" إلى قسمين:

 

الأول: (1941 ـ 1955م) وطوال هذه المدة لم يتمكن من السيطرة كاملاً محل أبيه.

 

الثاني: (1955 ـ 1979م) حكم إيران في هذه المدة كمستبد مطلق العنان.

 

وقد أشار الإمام الخميني(س) في وصيته هذه إلى وضع حكم "محمد رضا" خلال 37 عاماً.

 

[15]  هو الملك الحالي لجزيرة العرب، وهو فهد بن عبد العزيز آل سعود. وللاطلاع على عمالة هذه العائلة للقوى الكبرى ـ وخاصة بريطانيا ثم أمريكا ناهبة العالم ـ ودورها العائلة في نشر مسلك الوهابية الضال المضل، وعدائهم الدفين والتاريخي لشيعة النبي وآله(ص) ونفاقهم تجاه المواجهة الشعبية الفلسطينية البطلة، وارتكابهم لمجزرة إبادة شرسة ضد الحجاج المسلمين في بيت الله الحرام، وهتكهم لحرم الأمن الإلهي، وقمعهم للمجاهدين المسلمين العرب من أهالي الجزيرة العربية وخارجها. وهدرهم لثروات المسلمين، وظلمهم واستبدادهم، وزرعهم للفتن بين المسلمين، وتكفيرهم لجميع مذاهب المسلمين معروف. للإطلاع على كل ذلك لابد من مراجعة الكتب المختصة بذلك وهي كثيرة جداً منها: "كشف الارتياب" و"تاريخ آل سعود" و"هذه هي الوهابية" وغيرها.

 

[16]  هو مذهب ابتدعه في آخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر الهجري ـ المدعو "محمد بن عبد الوهاب النجدي". هذا المسلك المنحرف يتهم جميع المذاهب الإسلامية على الاطلاق بالكفر والشرك، يعتبرهم عبدة أصنام ويعتبر توقير وتعظيم قبر النبي(ص) وقبور أهل بيته(ع) وصحبهم بدعة وعبادة أصنام. نشط الوهابيون ـ باستغلالهم لثروات المسلمين التي سيطروا عليها ـ في مجال الثقافة والاعلام والدعاية، وسخّروا كل ذلك من أجل تنفيذ المخططات الهدّامة للقوى الكبرى.