بِسَنَدِي المُتَّصِلِ إلى مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ، ثِقَةِ الإِسْلاَم وَعِمَادِ المُسْلِمِينَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَدِيدٍ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ يُونُسَ، عَنِ الحَارِثِ بْنِ المُغَيرَةِ أَوْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السَّلام قالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا كَانَ فِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ؟ قالَ: «كَانَ فِيهَا الأَعَاجِيبُ وَكَانَ أَعْجَبَ مَا كَانَ فِيهَا أَنْ قَالَ لابْنِهِ: خَفِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خيفةً لَوْ جِئْتَهُ بِبِرِّ الثِّقَلَيْنِ لَعَذَّبَكَ، وَارْجُ اللَّهَ رَجاءً لَوْ جِئْتَهُ بِذُنُوبِ الثِّقَلَيْنِ لَرَحِمَكَ. ثُمَّ قَالَ أبو عَبْدِ اللَّهِ ـ عَليه السّلام ـ كان أبِي يَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إلاّ وَفِي قَلْبِه نُورَانِ نُورُ خَيفَةٍ ونُورُ رَجَاء، لَوْ وُزِنَ هذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى هذَا وَلَوْ وُزِنَ هذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى هذَا»([1]).

 

الشرح:

 

يقول «الجوهري» في الصحاح: «أعاجيب» كأنهم أرادوا جمع «أُعْجُوبَة» مثل أحدوثة وأحاديث. وقال: إن «الأعْجُوبة» هي ما يكون حسنة أو قبحه مثيراً للتعجب. ويكون المقصود في هذا الحديث هو المعنى الأول وكأنّ اللفظ في الأصل مختص بما يثير حسنه العجب، وإن استعملت تطفلاً في الأعم.

 

«والبِّرُّ» خلاف «العقوق» و«فُلان يَبِرّ خَالقَه» يعني أنه يطيعه، كما يقوله الجوهري. و«الثقلان» هما الجن والإنس. ويدل هذا (الحديث الشريف) على أن كلاً من الخوف والرجاء يجب أن يصل إلى مرتبة الكمال، ولا يجوز اليأس من رحمة الله تعالى أبداً، ولا الأمان من مكره مطلقاً. فهناك الكثير من الأحاديث التي تؤكد ذلك، كما ينص القرآن الكريم على ذلك أيضاً. ثم يجب ألاّ يرجح أحدهما على الآخر. وسوف نقوم، بشرح ذلك وبيان المواضيع الأخرى من الحديث ـ إن شاء الله ـ ضمن فصول عديدة.

 

فصل: في بيان الإنسان العارف

 

اعلم، أن للإِنسان العارف بالحقائق والمطلع على النسبة بين الممكن والواجب جلّ وعلا نظرتين: الأولى: نظرته إلى نقصه الذاتي وإلى نقص جميع الممكنات وانحطاط الكائنات فهو يدرك في هذه النظرة، عيناً أو علماً، أن الممكن غارق بكلّيته في الذل والنقص وفي بحر ظلام الإِمكان والفقر والاحتياج أزلاً وأبداً،

 

وأنه لا يملك بذاته شيئاً إطلاقاً، وهو محض لا شيء، ومجرد ضعة، ونقص مطلق، بل إن هذه التعبيرات نفسها لا تصدق عليه حقيقة وإنما هي من ضيق أفق التعبير والكلام، وإلاّ فإن النقص والحاجة من سمات الشيئية، وليس لجميع الممكنات والخلائق كافة، شيئية بذواتها. وهو في هذه النظرة، لو تقدم إلى أعتاب الربوبية بكل العبادات والطاعات والعلوم والمعارف، فلن يكون أمامه سوى أن يطأطئ رأسه خَجَلاً وذلاً وخوفاً، فما هذه العبادة والطاعة؟ ممن؟ ولمن؟ إن كل المحامد تعود إليه تعالى، وليس للممكن أي تصرف فيه، بل إن تصرف الممكن يبعث على نقص في إظهار محامد الله والثناء عليه. وهذا ما سألوي عنه عنان القلم، ففي هذا المقام يقول عزَّ وجلّ: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ...)([2]). كما يقول في المقام الأول (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)([3]).

 

يقول الشاعر في هذا المقام:

 

قال مُرشدنا: أن قلم الصانع لم يخطأ........... (فإن الأخطاء منّا).

 

بُوركت نظرته السديدة الساترة للعيوب...... وهي: (قُلْ كُلّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).

 

إن قول المرشد (الشطر الأول) راجع إلى المقام الثاني (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ). وأما (الشطر الثاني من الشعر) فيعود إلى المقام الأول (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) وفي هذا المقام يستولي على الإنسان الخوف والحزن والخجل والخزي.

 

والنظرة الأخرى نظرته إلى الكمال الواجب، وبسط رحمته، وسعة لطفه تعالى وعنايته. فهو يرى أنه سبحانه قد بسط هذه النِعم والرحمات المتنوعة، التي لا يمكن الإحاطة بها ولا حصرها وتحديدها، من دون استعداد وتهيأ مسبق لها. وإنه قد فتح أبواب لطفه وعفوه على العباد دون استحقاق. فنعمه مبتدءة لا يسبقها سؤال.

 

كما أشار إلى ذلك حضرة الإمام زين العابدين وسيد الساجدين كثيراً في أدعية الصحيفة وغيرها، فيقوى رجاؤه برحمة الحق تعالى ويزداد أمله، بالكريم الذي لا يسبغ كرمه إلاّ من باب الرحمة واللطف، وبمالك الملوك الذي يفيض علينا بنعمه من دون سؤال أو استعداد. تلك النعم التي تعجز العقول عن إدراك بعضها وتقصر. والمالك الذي لا تنقص من ملكه الواسع معصية العاصين، ولا تزيده طاعة المطيعين، بل إن هداية ذاته المقدسة لنا إلى طرق الطاعات، ومنعه إيّانا عن العصيان، إنما هو من عناياته الكريمة ونعمه وآلائه، لأجل وصولنا إلى مقامات الكمال ومدارجه الرفيعة، وللتنزه عن النقص والقبح والتشوه.

 

فإذا جثونا عند أعتاب رحمته وعنايته، لوجب أن نقول: اللهم إنك إذ ألبستنا لباس الوجود، ووهبتنا كل أسباب الحياة والرفاه بما يفوق إدراك المدركين، وأريتنا طرق الهداية، وأسبغت علينا من نعمك، إنما كان ذلك لمصلحتنا لننعم بأفضالك ونعمك. وها نحن وفدنا إلى دار كرامتك، وعلى أعتاب سلطنتك، مثقلين بذنوب الثقلين، مع أن ذنوب المذنبين لم تنقص من خزائن رحمتك، ولم تخلّ خطاياهم بمملكتك. فماذا أنت صانع بقبضة تراب لا تساوي شيئاً عند أعتاب عظمتك سوى أن تشملها برحمتك وعنايتك؟ أيمكن أن نأمل غير الرحمة من لطفك؟

 

فعلى الإنسان، إذاً، أن يتردد بين هاتين النظرتين. فلا هو يغمض عينيه عمّا فيه من نقص وقصور في القيام بالعبودية، ولا هو ينسى سعة رحمة الحق جلّ جلاله وعنايته وشموليتهما.

 

فصل: في قصور الممكن عن القيام بواجب العبودية للحق تعالى

 

اعلم أيها العزيز، أن للخوف والرجاء مراتب ودرجات حسب حالات العباد ومراتب معرفتهم. فخوف العامة يكون من العذاب وخوف الخاصة يكون من العتاب، وخوف أخص الخاصة يكون من الاحتجاب. ولكننا لسنا الآن بصدد شرح ذلك، وإنما سنشير إلى الموضوع السابق ببيان آخر.

 

فاعلم أن ليس أحد من المخلوقات بقادرٍ على عبادة الحق تعالى حق عبادته. لأن العبادة هي الثناء على مقام ذات الله المقدسة، وثناء كل شخص فرغ معرفته بمن يُثني عليه. ولمّا كانت يد أرجاء العباد، في الحقيقة قصيرة، عن عِزَّ جلال معرفة ذاته المتعال، فهم إذاً ليسوا قادرين بالثناء على جماله وجلاله. وقد اعترف بذلك أشرف الخلائق وأعرف الكائنات بمقام الربوبية:

 

«مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ وَمَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ»([4]) حيث الجملة الثانية هي بمثابة التعليل للجملة الأولى، إذ قال: «أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»([5]).

 

إذاً، فالقصور الذاتي من حق الممكن، والعلو الذاتي خاص بذات كبرياء الله جلّ جلاله. ولمّا كان العباد قاصرين عن الثناء على الله تعالى وعن عبادة ذاته المقدسة. ومن دون معرفة الحق سبحانه وعبوديته لا يمكن لأحد من عباده أن يبلغ المقامات الكمالية والمدارج الأخروية، كما هو ثابت ومبرهن عليه عند علماء الآخرة في محله، ولكن العامة غافلون عن ذلك، ويحسبون المدارج الأخروية جزافاً أو شبيهة بالجزاف ـ تعالى الله عن ذلك عُلواً كبيراً ـ لمّا كان كذلك فقد فتح الله تعالى بلطفه الشامل ورحمته الواسعة باباً من الرحمة والرعاية بالعباد عن طريق تعليمات الوحي الغيبية والإلهام، وبوساطة الملائكة والأنبياء. ذلكم هو باب العبادة والمعرفة. فعلّم العباد طرق عبادته، وفتح لهم سبيلاً إلى المعارف لكي يخففوا من نقائصهم قدر الإمكان، ويسعوا لنيل الكمالات الممكنة، ويهتدوا بأشعة نور العبودية للوصول إلى عالم كرامة الحق، وإلى الروح والريحان وجنات النعيم، بل إلى رضوان الله الأكبر.

 

إذاً، ففتح باب العبادة والعبودية من النِعم الكبرى التي تدين لها الكائنات كافة، دون أن تستطيع الوفاء بحق الشكر، بل إن كل شكر هو فتح باب كرامة لا تقدر على شكره أيضاً. فإذا علم الإنسان مشربه هذا، واطّلع قلبه عليه، اعترف بتقصيره. وحتى لو أنه تقدم إلى أعتاب الله جلّ جلاله بعبادة الجن والإِنس والملائكة المقربين، لكان مع ذلك خائفاً ومقصراً. وكذلك إن عباد الله العارفين وأولياءه المختصين به الذين فتح لهم باباً من سرّ القَدر، واستنارت قلوبهم بنور المعرفة، لارتجفت قلوبهم من الخوف، ونفوسهم من الخشية، بحيث لو اتجهت إليهم الكمالات كلها، وأعطوا مفاتيح المعارف كلها، وأُترعت قلوبهم بالتجلّيات، لما قلّ من خوفهم قدر ذرة، ولا من خشيتهم قدر شعرة، كما يقول أحدهم: الناس تخاف النهاية وأنا أخاف البداية. سُبْحَان الله وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالله، أعوذ بالله تعالى. يعلم الله يجب أن يتقطع قلب الإنسان من هذا الكلام، ويذوب خوفاً، ويهيم على وجهه في البراري فإلى أيّ حدّ يكون الإنسان غافلاً؟

 

ثم أنه سبق منا في شرح أحد الأحاديث السابقة وقلنا بأننا في كل عبادتنا وطاعتنا إنّما نريد مصالحنا الخاصة، ودافِعُنا إليها هو حبّ النفس. وما الزهد في الدنيا في الحقيقة إلاّ من أجل الآخرة. وهو أشبه بالزهد في الدنيا من أجل الدنيا عند الأحرار. فلو ذهبنا بعبادة الثقلين إلى محضر قدسه الربوبي، لما كان استحقاقنا سوى البعد عن ساحته المقدسة. لقد دعانا الحق تبارك وتعالى إلى مقام قربه وأُنسه. قال: «وَخَلَقْتُكَ لأَجْلِي» وجعل غاية الخلق معرفته، وهدانا إلى طرق المعارف والعبودية، ولكننا مع هذا لم نشغل أنفسنا إلاّ بتعمير البطن والفرج، ولا همَّ لنا سوى الأنانية وحب الذات.

 

فيا أيها الإِنسان المسكين، الذي لم تجنِ من عبادتك ومناسكك إلاّ البعد عن ساحة الله المقدسة، والاستحقاق للعتاب والعقاب، علامَ اعتمادك؟ ولماذا لا يقلقك ولا يزعجك الخوف من شدة بأس الحق؟ أعندك متكأ تتكئ عليه؟ أتثق بعملك وتطمئن إليه؟ إذا كان الأمر كذلك فالويل لك من معرفتك بحالك وحال مالك الملوك! وإذا كان اعتمادك على فضل الحق وسعة رحمته وشمول عناية ذاته المقدس، لكان ذلك في محلّه جدّاً. لقد اعتمدت على أمر وثيق، ولجأت إلى أوثق ملجأ.

 

إلهي، وربي! إن أيدينا عن كل شيء قاصرة، ونحن عارفون بأننا ناقصون وتافهون، ولا نملك ما يليق بأعتاب قدسك. كلنا نقص وعيب. ظاهرنا وباطننا ملوث بالمهالك والموبقات. فمن نحن حتى نرجو القدرة على الثناء عليك، فيما يعترف الولي من أوليائك قائلاً: «أَفَبِلِسَانِي الكالّ هذَا أَشْكُرُكَ!» مقراً بعجزه وقصوره، فكيف بنا نحن أهل المعصية المحجوبين عن ساحة كبريائك؟ ما عسانا نقول سوى أن نحرك ألسنتنا قائلين: إن رجائنا موكول إلى رحمتك، وأن أملنا وثقتنا بفضلك ومغفرتك وجودك وكرمك، كما على ألسنة أوليائك.

 

في الكافي، بإسناده عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلم: قَالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (لاَ يَتَّكِلُ العَامِلُونَ لِي عَلَى أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَها لِثَوابِي، فَإِنَّهُمْ لَوِ اجْتَهَدُوا وَأَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ ـ أعمارَهُمْ ـ في عِبَادَتِي كَانُوا مُقَصِّرِينَ غَيْرَ بالِغَينَ فِي عِبَادَتِهِمْ كُنْهَ عِبَادَتِي فِيمَا يَطْلُبُونَ عِنْدِي مِنْ كَرَامَتِي وَالنَّعِيمِ فِي جَنّاتِي وَرَفِيعِ الدَّرَجَاتِ العُلَى فِي جِوارِي، وَلكِنْ بِرَحْمَتِي فَلْيَثِقُوا، وَفَضْلِي فَلْيَرْجُوا، وَإِلَى حُسْنِ الظَّنِ بِي فَلْيَطْمَئِنُّوا، فَإِنَّ رَحْمَتِي عِنْدَ ذلِكَ تُدْرِكُهُمْ، وَمِنّي يُبْلِّغُهُمْ رِضْوانِي، وَمَغْفِرَتِي تُلْبِسُهُمْ عَفْوي، فَإِنِّي أَنَا الله الرّحْمنُ الرَّحيمُ، وَبِذلِكَ تَسَمّيْتُ)([6]).

 

ومن أسباب الخوف أيضاً التفكر في شدة بأس الله تعالى، وفي دقة سلوك طريق الآخرة، والأخطار التي تحيط بالإنسان في حياته وعند موته، وشاقّ البرزخ، ويوم القيامة، ومناقشات الحساب والميزان، مع ملاحظة الآيات والأخبار التي تنبئ عمّا وعد الله تعالى عباده، مما يُحيى كامل الأمل والرجاء.

 

لقد جاء في الأحاديث، أن الحق تعالى يبسط يوم القيامة بساط رحمته بصورة يطمع حتى الشيطان بالمغفرة منه. وأن الحق سبحانه لم ينظر إلى هذا العالم منذ تكوينه وخلقه، نظرة لطف كما ورد في الرواية وأنه سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذا العالم رحمته إلاَّ بمقدار ذرة بالنسبة إلى العوالم الأخرى، هذه الذرة قد بعثت على إحاطة النِعم الإلهية، وألطافه ورحمته وغفرانه، بالجميع من جميع جوانبهم، وأن الظاهر من النعم والباطن منها تعتبر مائدة نِعم الله تبارك وتعالى وعطاياه التي لا يقدر العالم برمّته على الإِحاطة بجزء منها، فكيف إذاً بنعمه سبحانه في عالم هو عالم كرامته، ودار ضيافته، وموضع رحمته، حيث يبسط رحيميته ورحمانيته؟ فيحقّ للشيطان أن يطمع في نيل رحمة الله، ويرجو عطيته! إذاً، فأكمل حسن ظنك بالله وثق بفضله (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)([7]). فالله يغرق الجميع في بحر جوده وكرمه، والله لا يخلف وعده، وإن كان الخلف في الوعيد مكن، كثيراً ما يقع فعلاً. فليستبشر قلبك برحمته التامة. ولولا شمولك برحمته الواسعة لما كنت قد خلقت، فكل مخلوق مرحوم: (وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيءٍ)([8]).

 

فصل: في الفرق بين الرجاء والغرور

 

ولكن أيها العزيز كن على حذر، لئلا تخلط بين الرجاء والغرور. فقد تكون مغتراً وتحسب نفسك من أهل الرجاء. إن من السهل التمييز بين الحالين في مباديهما. أنظر إلى هذه الحال التي فيك والتي تظن نفسك بها بأنّك من أهل الرجاء. فهي إمّا أن تكون ناشئة من التهاون في أوامر الحق سبحانه والتقليل منها، وإمّا أن تكون ناجمة عن الاعتقاد بسعة رحمة الله وعظمة ذاته المقدسة. وإذا عسر عليك التمييز بينهما أيضاً، أمكنك التمييز من خلال الآثار. فإذا كان الإحساس بعظمة الله في القلب، وكان قلب المؤمن محاطاً برحمة ذاته المقدسة وعطاياه، لقام القلب بواجب العبودية والطاعة. لأن تعظيم العظيم المُنعم وعبادته من الأمور الفطرية التي لا خلاف فيها.

 

وإذا لم تكن في أداء واجبات العبودية، وفي بذل الجُهد والجدّ في الطاعة والعبادة، معتمداً على أعمالك، ولم تحسب لها حساباً، وكنت آملاً رحمة الله وفضله وعطائه، ووجدت نفسك مستحقاً للّوم والذم والسخط والغضب بسبب أعمالك، ولم تعتمد إلاّ على رحمة الجواد المطلق، فأنت من أهل الرجاء. فاشكر الله تبارك وتعالى، واطلب من ذاته المقدسة أن يثبّت ذلك في قلبك، ويمنحك أعلى منه مقاماً.

 

أما إذا كنت ـ لا سمح الله ـ متهاوناً في أوامر الحق تعالى ومستحقراً ومستهيناً لتعاليمه، فاعلم أنه الغرور الحاصل في قلبك وأنه من مكائد الشيطان، ومن نفسك الأمّارة بالسوء. فلو آمنت بسعة الله ورحمته وعظمته. لظهر أثر ذلك فيك. إن المدعي الذي يخالف عمله دعواه يكذب نفسه بنفسه. والشواهد على هذا في الأحاديث المعتبرة كثيرة.

 

ففي الكافي بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السّلام قالَ: «قُلْتُ لَهُ: قَوْمٌ يَعْمَلُونَ بِالمَعَاصِي وَيَقولُونَ نَرْجُو فَلاَ يَزَالونَ كَذلِكَ حَتّى يَأْتِيَهُمُ المَوْتُ. فقَالَ: هؤُلاَءِ قَوْمٌ يَتَرَجَّحُونَ فِي الأَمَانِي. كَذَّبُوا لَيْسُوا بِرَاجِينَ، إِنَّ مَنْ رَجَا شَيْئاً طَلَبَهُ وَمَنْ خَافَ مِنْ شَيْءٍ هَرَبَ مِنْهُ»([9]).

 

وبهذا المضمون رواية أخرى في كتاب الكافي الشريف:

 

وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي سَارَةَ قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا عَبْد اللَّهِ عليه السّلام يَقُولُ: لاَ يَكُونُ المُؤْمِنُ مُؤْمِناً َحَتّى يَكُونَ خَائِفاً رَاجِياً وَلاَ يَكُونَ خَائِفاً رَاجِياً حَتّى يَكُونَ عَامِلاً لِمَا يَخَافُ وَيَرْجُو»([10]).

 

قال بعضهم: إنّ مَثَلَ من لا يعمل وينتظر رحمة ربه ويرجو رضوانه مَثَلُ من يرجو المسبِّب دون أن يُعِدَّ الأسباب، وَمَثَلُ الفلاّح الذي ينتظر الزرع من دون أن يبذر الأرض أو يهتم بها وبإروائها أو يقضي على موانع الزرع. إن مثل هذا الانتظار لا يسمى بالرجاء، بل هو بله وحماقة. وإن مَثَلُ من لم يُصلح أخلاقه أو لم يبتعد عن المعاضي فينهض بأعمال راجياً تزكية نفسه، مَثَلُ من يودع البذر في أراضي سبخة، ومن الواضح أن هذا الزرع لا يثمر النتيجة المتوخاة.

 

فالرجاء المستحسن والمحبوب هو تهيأة كافة الأسباب التي يمتلكها الإنسان كما أمر الله بها واستغلالها حسب القدرة التي زوده بها الحق المتعال بعنايته الكاملة، وحسب هدايته ـ عز وجل ـ إياه إلى طرق الصلاح والفساد، ثم ينتظر ويرجو الحق المتعال أن يتمّ عنايته السابقة تجاه الأسباب التي وفّرها من قبل، ويحقق الأسباب التي لا تدخل تحت إرادته واختياره من بعد، ويزيل الموانع والمفاسد.

 

فإذا نظف العبد قلبه من أشواك الأخلاق الفاسدة وأحجار الموبقات وسباختها، وبذر فيها بذور الأعمال، وسقاها بماء العلم الصافي النافع والإيمان الخالص، وخلصها من المفسدات والموانع مثل العجب والرياء وأمثالها التي تعد بمثابة الأعشاب الضارة العائقة لنمو الزرع، ثم انتظر ربه المتعالي ورجاه أن يثبّته على الحق، ويجعل عاقبة أمره إلى خير، كان هذا الرجاء مستحسناً. كما يقول الحق المتعالي:

 

 (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ) ([11]).

 

فصل: في سبب تعادل الخوف والرجاء

 

ورد في نهاية هذا الحديث الشريف ـ الحديث الرابع عشر ـ أنه لا بد من تعادل الخوف والرجاء وعدم تفوق أحدهما على الآخر، كما ورد هذا المضمون في مرسلة ابن أبي عمير عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً.

 

إن الإنسان عندما يدرك منتهى قصوره في النهوض بالعبودية، ويرى صعوبة وضيق طريق الآخرة، يتولد فيه الخوف بأعلى درجة، وعندما يجد ذنوبه ويفكر في أناس كانت عاقبة أمرهم الموت من دون إيمان وعمل صالح، رغم حسن أحوالهم في بدء الأمر ولكنهم انتهوا إلى سوء العاقبة، يشتدّ فيه الخوف. ففي الحديث الشريف في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام:

 

قال: «المُؤْمِنُ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ ذَنْبِ قَدْ مَضَى لاَ يَدْرِي مَا صَنَعَ اللَّهُ فِيهِ وَعُمْرٍ قَدْ بَقِيَ لاَ يَدْرِي مَا يَكْتَسِبُ فِيهِ مِنَ المَهَالِكِ فَهُوَ لاَ يُصْبحُ إلاّ خَائِفاً وَلاَ يُصْلِحُهُ إلاّ الخَوْفُ» ([12]).

 

ونقل الكافي في حديث آخر عن الإمام ـ عليه السلام ـ خطبة عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ بهذا المضمون.

 

وعلى أي حال يرى الإنسان نفسه في منتهى النقص والتقصير، ويرى الحق في منتهى العظمة والجلال، وسعة الرحمة والعطاء، ويعيش العبد بين هاتين النظرتين دائماً في حال متوازية بين الخوف والرجاء. وحيث أن الأسماء الجلالية والجمالية تتجليان في قلب السالك متعادلة لا يترجح كل من الخوف والرجاء على الآخر.

 

وقال([13]) بعض أن الخوف في بعض الأحيان أنفع للإنسان مثل أيام الصحة والعافية، حتى يجهد الإنسان نفسه في كسب الكمال والعمل الصالح. وفي بعض الأحيان الرجاء أفضل مثل أيام ظهور علامات الموت، حتى يلاقي الإنسان الحق المتعالي مع حال مفضلة أكثر عنده سبحانه ـ.

 

ولكن هذا الكلام لا يتطابق مع الكلمات السابقة والأحاديث المذكورة، لأن الرجاء المحبوب يدفع الإنسان أيضاً نحو العمل واكتساب الآخرة، والخوف من الحق سبحانه محبوب لديه ـ عز وجل ـ ولا يتنافى مع الرجاء المؤكد.

 

وقال بعضهم([14]) أن الخوف لا يعتبر من الفضائل النفسية والكمالات العقلية في عالم الآخرة وإنما يعدّ من الأمور النافعة في دار الدنيا التي هي دار العمل، حيث يحرص الإنسان على فعل العبادات وترك المعاصي وينتهي دوره بعد الخروج من هذه الدنيا. في حين أن الرجاء لا ينقطع ويستمر حتى في عالم الآخرة. لأن العبد كلما نال رحمة الله أكثر، ازداد طعمه نحو فضل الحق المتعالي أكثر، لأن خزائن رحمة الحق الجليل لا تتناهى. فالخوف ينقطع بالموت ويبقى الرجاء حتى إلى ما بعد الموت.

 

يقول([15]) المحدث المحقق المجلسي ـ رحمه الله تعالى ـ «والحق أن العبد ما دام في دار التكليف لا بد له من الخوف والرجاء وبعد مشاهدة أمور الآخرة يغلب عليه أحدهما لا محالة بحسب ما يشاهده من أحوالها».

 

يقول الكاتب: إن ما قيل من غلبة الخوف والرجاء في عالم الآخرة، لا يتلاءم مع ما ذكر من معنى الرجاء. وعلى فرض صحة الكلام المذكور فهو صحيح بالنسبة إلى المتوسطين حيث يكون خوفهم ورجاؤهم عائدين إلى الثواب والعقاب.

 

وأما حال الخواصّ والأولياء فيختلف المر عما ذكروا، لأن الخوف والرجاء الناجمان عن مشاهدة عظمة وجلال وتجلّي أسماء اللطف والجمال، والحاصلان في القلب لا يزولان بمشاهدة أمور الآخرة. ولا يترجح أحدهما على الآخر، بل إن آثار الجلال والعظمة وتجليات الجمال واللطف في عالم الآخرة أكثر، فيصبح الخوف الحاصل من عظمة الحق من اللذائذ الروحانية، ولا يتنافى هذا مع الآية الكريمة (أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)([16]). كما يتبين ذلك بالتمعن في الآية المباركة. وما نقل ـ قبل أسطر ـ من أن الخوف ليس بفضيلة نفسية، ليس هو الخوف من الجلال والعظمة، لأن مثل هذا الخوف يكون كمالاً ومن صفات الكاملين والمكملين. كما أن خوف غيرهم يكون أكثر. والحمد لله على جماله وجلاله والصَلاة على محمّد وآله.

 

 

 

ــــــــــــــــــ

 

([1]) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الخوف والرجاء، ح 1.

 

 ([2]) سورة، النساء، آية: 79.

 

 ([3]) سورة النساء، آية: 78.

 

 ([4]) "سفينة البحار" ج: 2، ص: 180 وما بعدها.

 

 ([5]) "سفينة البحار" ج: 2، ص: 181، وما بعدها.

 

 ([6]) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب حسن الظن بالله، ح: 1.

 

 ([7]) سورة الزمر، آية: 53.

 

 ([8]) مقتبس من آية 156 في سورة الأعراف.

 

 ([9]) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الخوف والرجاء ح 5 وح 11.

 

 ([10]) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الخوف والرجاء ح 5 وح 11.

 

([11]) سورة البقرة، آية: 218.  ([12]) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الخوف والرجاء ح 5 وح 11.

 

 ([13]) بحار الأنوار، المجلد 70، باب الخوف والرجاء ص355.

 

 ([14]) بحار الأنوار، المجلد 70، باب الخوف والرجاء ص355.

 

 ([15]) بحار الأنوار، المجلد 70، باب الخوف والرجاء ص355.

 

 ([16]) سورة يونس، آية: 62.