لم تكن تمض مدّة طويلة حتى ودّعنا الحاج السيد أحمد الخميني ذكرى الإمام ليحلّ في جوار والده الراحل: (اللهم جافي الأرض عن جنبيه وأصعد بروحه إليك ولقّه منك تحيّة ورضواناً).
لقد كان هذا العظيم من أبرز مصاديق الحديث الشريف: (المرء يُحفظ في ولده)[1]، ومن أسطع المثل القائل: (الولد بسرّ أبيه) هناك الكثيرون ممن لا يحفظون كل الأسرار، ربما يحفظون اسماً من أسمائه ولكن البعض يسلك خطى والده ويحفظ كل أسراره.
وتوضيح هذه المسألة لو أنّ الأب مظهر الاسم الجامع للحق وهو سالك في مسار التكامل، وقطع خطوات في ذلك... فإن مثل هذا الأب ينطوي على كثير من أسماء الله، فهو مظهر العليم، القدير، الرؤوف والرحيم ومظهر لـ (أشدّاء على الكفار في موضع النقمة)، ومظهر الرحمة والرأفة: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[2] وأمثال ذلك.
وبالطبع أن مظهرية الاسم خاصة بالنبي الأكرم خاتم الأنبياء محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وأهل بيته الطاهرين والأنبياء أولي العزم بالدرجة الأولى ثم تأتي مرتبة الأنبياء الآخرين ثانياً وبعدها الأولياء والعلماء الربّانيين ثالثاً.
في المرتبة الثالثة التي هي تنزلّ للمرحلة الأولى والثانية يصبح العلماء الربّانيون في ساحة الوجود(خلفاء الله).
وعندما تتنزّل من الخليفة الأول الذي هو في لغة الحكمة(أوّل صادر) وبلغة العرفان (أول ظاهر) وهو شخص النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام، ومن الأنبياء أولي العزم وسائر الأنبياء الآخرين من أولي العزم يصل الدور إلى ورثة الأنبياء وهم العلماء الربّانيون.[3]
فإذا كان العلماء الربّانيون هم ورثة الأنبياء، وكان الأنبياء خلفاء الله، والخلفاء مظهر(الاسم الأعظم) فإذن سيكون بعض العلماء الربّانيين بالنتيجة جامعاً للجمال والجلال الإلهيين، ويمكنهم أن يكونوا خلفاء لله بالحق، وبالطبع أن أمثال هؤلاء هم من نادر الدهر.
بعض فقط في قسم من الأسماء خلفاء الخالق، ولكن بعض في جميع الأسماء خلفاء لله وكل له شأنه.
الإمام الراحل بدوره بعد الأنبياء وبعد الأئمة المعصومين من بين العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.. هو خليفة بالحق ومظهر هذا الاسم الإلهي.
ولذا كان فقيهاً عادلاً وعالماً عاملاً؛ فهو في البحث العلمي مظهر للعليم وفي البحث العملي مظهر للقدير.
ولأنه وضع خطاه في طريق الدين وكانت كل هجرته وجهاده واجتهاده من أجل ذلك لتكون: ﴿كَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾[4] لذا فهو مظهر (الحيّ القيوم).
وكما أن أهل الجنّة أحياء خالدون، فإن الرجال الإلهيين الذين نهضوا من أجل صون الشريعة وإحياء دين الله وتحملوا في سبيل ذلك، فهم أيضاً يصبحون (كلمة عليا) وهم باقون ما بقي الدهر.
وقد قال أمير البيان والبلاغة الإمام علي عليه السلام: (العلماء باقون ما بقي الدهر)[5].
والسرّ في ذلك هو أن العلماء ورثة الأنبياء والأئمة المعصومين، وأنّ أكمل أولياء الله في هذا العصر هو الإمام المهدي( أرواحنا فداه) ونحن نذكره على أنه (بقية الله).
(وبقية الله كل ما هو خالد باقٍ..)
الله سبحانه بالدرجة الأولى هو الباقي بالذات: (هو الباقي) فالعلماء العدول باقون ما بقي الدهر.
الإمام الراحل هو بين العلماء الربّانيين كالنجم الساطع والكوكب اللامع. بعض الناس يكونون آباء لأبنائهم ليس بالجسم فقط ولكن آباء روحيين لهم، وبعض الأبناء يكونون أبناء روحيين لآبائهم.
مثلاً عبد الله بن جعفر الصادق، موسى بن جعفر الصادق عليه السلام كلاهما ابن لأبيه.
ويحتج عبد الله بن جعفر قائلاً: (أليس أصلي وأصله واحداً؟) ولكن الإمام الصادق يبيّن له الفرق الشاسع قائلاً: (أنت ابني.. وهو من نفسي)[6].
نعم أنت ابني جسماً وموسى ابني روحاً ونفساً.. إنه ينطوي على إمكانية حمل الأسرار..
لبعض العلماء أبناء أدركوا أسرار آبائهم وآمنوا بها وحفظوها، وهكذا كان نجل الإمام الراحل الحاج مصطفى الخميني لقد صحبته وكنا معاً من تلامذة الإمام الراحل أدرك أسرار أبيه وحفظها وأظهرها وكان هو الآخر(سرّ أبيه) وعندما يقال(يحفظ المرء في ولده) ففي أولاد كهذا.
وكما أن للأئمة أبناء كثيرون ولم يكونوا جميعاً في مرتبة سواء، فالعلماء أيضاً ربما يكون لهم أولاد كثيرون ثم لا يتساوون في المرتبة، وكان من فضل الله الذي﴿أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾[7] أنْ رزق الله الإمام الراحل ولدين يحفظان كلاهما أسراره.
وعندما نتأمل في كتابات السيد مصطفى العلمية سنشاهد أفكار الإمام (رضوان الله عليه) في علم المعقول والمنقول، وعندما نتأمل سيرته نجده إلى جانب والده الإمام دائماً.. كان له نعم التلميذ ونعم الناصر المعين وكان أملاً لأبيه.
وعندما رحل عن الدنيا جاء الدور لأحمد، لقد شغل ذات المكان الذي شغله أخوه وشقيقه من قبل فهو التلميذ المخلص والنصير القوي يحفظ آثار أبيه وأسراره.
هاجر مع والده فهو صاحبه في الهجرة، وعندما رحل والده عن الدنيا سعى أحمد في حفظ ميراث والده وهو أسرار نهضته وثورته.
كان عالماً دينياً وكان في قلب الأحداث السياسية وله رؤيته النفاذة ورثها من والده.. كان كأبيه يسعى لتكون: ﴿كَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾[8].
ولأن كان السيد مصطفى في رحيله دفعةً للثورة، فقد كان أحمد أيضاً لأن روحه النقية وهي تغادر هذا العالم، تلج في روح الثورة.
ونحن نسأل الله سبحانه (الذي قبض إليه الروح المطمئنة) أن يجعل ذلك في صلاح أمرنا فـ(يا من لا تبدّل حكمته المسائل)[9] أن تجعل ذلك سبباً في ازدهار كلمتك العليا وتثبت أركان الثورة الإسلامية في الداخل لتؤتي ثمارها المرجوّة في الخارج.
الذين يذكرون تلك الحادثة المؤسفة في رحيل الحاج مصطفى سنة 1356[10] يتذكرون الآثار الطيبة التي تركتها الحادثة في تقدم عجلة الثورة وتحقق انتصارها.
أللّهم فاغفر له واسكنه فسيح جناتك.
فإذاً كان العلماء باقون ما بقي الدهر، إذا كان هذا العالم حافظاً لأسرار الإمام الراحل، وحافظاً لإمامته وحافظاً لولايته على المسلمين، فإن أفضل طريق لتخليده هو إنضاج ثمار الثورة لتؤتي أكلها ليس في داخل إيران بل وخارجها أيضاً، لأن الله على كل شيء قدير.
وإن الشيء الذي بإمكانه أن يشمل العالم يجب ألاّ يكون مرهوناً بالطبيعة. والعالم الذي يستطيع في حياته أو بعد مماته أن يشمل العالم يجب ألاّ يكون مرهوناً بطبيعة هذا العالم، لأن الذي يعيش في أسر الطبيعة لن يستطيع أن يؤدي رسالة ما وراء الطبيعة.
فعندما لا يُسمع نداء غيبي من أحد فأنه لن يكون أثر غيبي، فالطبيعة لا تتأثر بالطبيعة إلاّ عابراً.
ولكن الطبيعة تتأثر بما وراء الطبيعة ويكون هذا الأثر مستمراً.
وإنّ الذي بإمكانه أن يحفظ الأثر في الطبيعة هو الله سبحانه وحده.
وعندما لا يكون الفعل إلهياً فإنه لا يبقى لأن: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾[11] و ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾[12].
إنّ آخر ذكرى لنا من هذا العظيم أعني الحاج أحمد الخميني هي حضوره في الاجتماع الخامس لمجلس الخبراء (اسفند 1373 ﻫ.ش)[13].
وقد اشترك معهم في افتتاح سدّ الخامس عشر من خرداد، ولم يلبث بعد ذلك إلاّ قليلاً فلبّى دعوة الحق فعرجت روحه إلى الملأ الأعلى حيث﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ﴾[14].
إنه من أولئك: ﴿الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[15].
إنّ روح الخميني وأبناء الخميني ترفرف فوق أرض إيران الإسلام.. فأينما قرعت باباً من الأبواب طالعتك صورة الراحل العظيم... إنها تنطق بالحق لتقول أنه هو الذي أعاد إلى هذه الأرض المترامية العزّة والكرامة والإنسانية.
عندما يكون التنافس في الروح والسمو والتقرب إلى الله بالتقوى يكون دعاء المؤمن: ربنا ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾[16].
ولكن عندما يكون التنافس في الدنيا الزائلة والسلطان تتوهج ثقافة الإيمان لتوحي للؤمن قائلة: (كن ذنباً ولا تكن رأساً)[17]، فهاجس الرئاسة هاجس مطرود في دينا الإيمان والتقوى لأن التنافس فيها سوف يؤدي بالناس إلى الندم والى التضرّع يوم القيامة: ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ﴾[18].
قد يصل العمل بالإنسان أن يخاطبه الله قائلاً: ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾[19]هذا في عالم المادّيات ولكن في عالم الروح يأتي النداء الإلهي: ﴿فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ﴾[20]و﴿سَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾[21]ولكن شرط ذلك لن يتحقق إلا بتحمل المسؤولية الكبرى التي تشير لها الآية: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾[22].
ولقد كان الراحل عظيماً وكانت ذكراه عظيمة نسأل الله أن يخلد ذكرهما ما بقي الدهر.
أللّهم إنا نسألك أن تجعل هذا المكان الطاهر من البيوت التي: ﴿أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ﴾[23] وألاّ ينطفئ هذا النور الذي أضاء القلوب.. وأن تطفئ يا رب النار التي يقودها الأعداء لحربنا فإنك قلت وقولك الحق: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ﴾[24].
ــــــــــــــــــــ
[1] بحار الأنوار: 28/302 الرواية 48.
[2] التوبة، الآية: 128.
[3] بحار الأنوار: 1م164 ح2.
[4] التوبة، الآية: 40.
[5] نهج البلاغة: الحكمة: 139.
[6] إرشاد القلوب للديليمي/ 296، مجمع الزوائد 9/181، الصواعق المحرقة/ 115، كنز العمال 7/107.
[7] لقمان، الآية: 20.
[8] التوبة، الآية: 40.
[9] الصحيفة السجادية.
[10] 1978م (المترجم)
[11] القصص، الآية: 88.
[12] الرحمن، الآية: 26 ـ 27.
[13] 1994م.
[14] ص، الآية: 50.
[15] المؤمنون، الآية: 11.
[16] الفرقان، الآية: 74.
[17] بحار الأنوار: 75/226 ح95.
[18] المؤمنون، الآية 106.
[19] هود، الآية: 46.
[20] البقرة، الآية: 148.
[21] آل عمران، الآية 133.
[22] الفرقان، الآية: 74.
[23] النور، الآية: 36.
[24] المائدة، الآية: 64.
تعليقات الزوار