مقدمة:
عند البحث في الأنظمة السياسية والاجتماعية يطرح السؤال التالي: هل باستطاعة الشريعة والفقه بما يمتلكانه من أسس وأصول عامة وقابليات هائلة، تأسيس نظام سياسي واجتماعي؟ وهل تقع مثل هذه المسؤولية على الشريعة، أم أنها تفتقر لمثل هذه القدرة لأنها بالأساس لم توضع لتأسيس نظام معين؟ للأسف، وبرغم ما يمتلكه الدين والفقه من قابليات ومبادئ عظيمة، سعى البعض بدوافع مختلفة لترويج فكرة أن الشريعة والفقه لم توضعا لتأسيس نظام سياسي واجتماعي، بل إن هذه المسؤولية خارجة عن قدرتها؛ لأننا عندما نطلب من الشريعة والفقه القيام بهذه المهمة فإننا سنحملهما مسؤولية إضافية إلى مسؤولياتهما، ونحن لا نمتلك مثل هذا الحق. لكن هؤلاء غضوا عما يمكن أن يسببه فصل النظام السياسي والاجتماعي عن مبادئ وأصول الشريعة والفقه من تقليل لمكانة الدين والشريعة والفقه، وهذا ما لا يلائم الشريعة ولا يمكن القبول به.
الإمام الخميني (رحمه الله) بما يمثله من نموذج عمليّ للمسلمين وحسنة الهيئة في عصرنا، وسيف الله في مواجهة تحريف الباطل، سعى بجدٍ لإعادة هيئة الدين ومكانته في المجتمع من خلال طرحه لنظريات عظيمة عرضت الدين كأداة مؤثرة في رسم المبادئ العامة للحكومة والنظام الإسلامي، مما وجه صفعة قوية لجميع نظريات الباطل التي طرحها المغرضين والحاقدين والمتعصبين الجهلة والملحدين في الشرق والغرب، وأربك خطط المتحجرين بشكل لم يسبق له مثيل، وبالتالي تمكن سماحته من قيادة مسيرة إحياء النظريات الدينية إلى أقصى مراحلها، مما ممكنه من تأسيس نظام سياسي واجتماعي يستند إلى أصول الشريعة والفقه، فكان من المناسب في هذا البحث المختصر أن نتطرق إلى النظريات العظيمة التي طرحها هذا الإمام الهمام، الذي قاد في عصرنا الحاضر حركة إحياء دور الدين في تأسيس النظام السياسي والاجتماعي، لعله يؤدي الفائدة المطلوبة.
إن شاء الله
أنواع الرؤية نحو الدين:
توجد أنواع مختلفة من الرؤى تنظر إلى الدين من زوايا مختلفة سنشير هنا إلى أهمها:
1) الرؤية المغرضة:
تطرح هذه الرؤية عادة من قبل الغربيين المغرضين والمثقفين في الداخل التابعين لهم، إذ يرون ضرورة علمنة الدين وإبعاده عن إدارة الشؤون السياسية والاجتماعية؛ لأنهم يعتقدون أن الدين قد أدّى امتحانه من قبل وفشل في ذلك، لذا لا ينبغي أن نتوقع من الدين القدرة على تأسيس نظام اجتماعي وسياسي مرّة أخرى، لأنه سيكون توقعاً ليس في محله. فهم يقولون: إن الدين في مرحلة تاريخية معينة قد أدى امتحانه في هذا الموضوع ولم يوفق فيه، وأثبت التاريخ خطأ أفعاله ونظرياته؛ لذا لا يمكن للدين أن يتولى مرّة أخرى مهمّة تأسيس النظام الاجتماعي والسياسي، لأن هذا الفشل في الاختبار قد أدى إلى علمنة الدين، مما ينبغي علينا الآن تأييد مسألة علمنة الدين وعزله عن مهمة الحكومة والقيادة.
2) الرؤية المتحجرة البعيدة عن الدين:
تطرح هذه النظرية من قبل المتدينين المتحجرين، والتي لا زالت تطرح من قبلهم حتى الآن، فهي رؤية أحادية تنظر إلى الدين من زاوية واحدة وتغض عن الأبعاد الإسلامية الأخرى للدين؛ حيث أنها تنظر إلى الدين فقط من زاوية البعد الفردي والعبادي والمعنوي وتغفل عن أبعاده الحياتية والاجتماعية الأصولية .
وقد أدت هذه الرؤية الرجعية المتحجرة إلى توجيه ضربات موجعة إلى مكانة الدين، كانت أشد وأقسى من تلك الضربات التي تلقاها الدين من قبل الغربيين والمثقفين التابعين لهم.
3) الرؤية الحكومية الملتزمة بالدين:
في هذه الرؤية، ينظر إلى الدين من الزاوية الحكومية والاجتماعية والسياسية. فالدين يطرح نظرية السلطة والمقاومة والثورة، ويسعى باستمرار في ظل مسيرته العامة إلى تأسيس نظام سياسي واجتماعي، حيث يتكفل الدين والشريعة في هذه الرؤية، بمهمة تحقيق الأهداف الأخروية، وبمهمة تشكيل أمة قوية ذات مصالح دنيوية، أمة متحدة تجمعها إرادة قلبية واحدة، ويتكفل أيضاً برسم علاقة الفرد بربِّه، وبرسم علاقة المؤمنين بمصالحهم الدنيوية على المستوى الاجتماعي والسياسي.
فالحكومة في هذه الرؤية، لا تمثل نظرية شخصية، بل هي نظرية تستمد جذورها ومبادئها من تعاليم الدين ومبادئه.
ففي هذه الرؤية: «الدين يدعو إلى الاجتماع والاتحاد من زمن نوح عليه السلام وهو أقدم الأنبياء»[1].
و«أن الدين كان أول من أكد على تشكيل المجتمع والدولة»[2].
إن الشخص الذي يسعى لتشكيل الحكومة وتأسيس النظام، ينظر إلى الدين منذ البداية بنظرة حكومية يضعها في ميزان نظرياته وتصرفاته الملتزمة بالدين وتعاليمه. ومثل هذا الشخص في النظام الفقهي، يسعى إلى الاستفادة من الأصول والمبادئ المتعالية للدين، للتوصل إلى نظرية إسلامية عامة تستند أصولها على النتائج الفقهية الحاصلة في فروع الحكم الإسلامي. وبعد أن يتعرف هذا الشخص بشكل كامل على مبادئ الشريعة والفقه، يستنبط أحكاماً معينة، لا يجد بينها وبين المسائل الاجتماعية والسياسية ارتباطاً وثيقاً ومتلازماً فيعمل عندها إلى طرح نظرة كلية شاملة تجمع بين هذه الأحكام والمسائل السياسية والاجتماعية بالاستناد إلى مبادئ الشريعة والفقه، مما يمكنه من طرح نظرية عامة قادرة على تنظيم العلاقات السائدة في المجتمعات الإنسانية. فمثلاً، نحن نحتاج إلى نظام سياسي، وإلى نظام قانوني وحقوقي، وإلى نظام اقتصادي، مما ينبغي علينا القيام بمهمة تأسيس مثل هذه الأنظمة على ضوء نظرية إسلامية عامة في هذا المجال.
ويمكن أن نبين مثل هذا الارتباط الوثيق بين أحكام الدين، من خلال المثال التالي:
فمثلاً في مسألة تأسيس النظام السياسي الإسلامي، بالإضافة إلى حاجتنا إلى بعض مبادئ المعرفة كالإيمان بعقيدة التوحيد، فإننا نحتاج أيضاً إلى نظام يستند إلى هذه المبادئ في عمل المؤمنين، ويتمكن من تحقيق مبادئ الشريعة وسلوكها الاجتماعي القائم على أساس «محاربة الطاغوت» ومفاهيم أخرى مثل «الجبت» و «الوليجة» و « الولي» التي تظهر في ثقافة سلوك المؤمنين القائمة على بحر من المعارف العقائدية، لذا ينبغي أن تبرز هذه المسألة بوضوح في العلاقات الخارجية، والمعاملات والعلاقات السياسية والقضائية وغيرها. ولهذا الغرض ينبغي تأسيس النظام السياسي والاجتماعي حتى يتمكن من تطبيق هذه العقائد والأهداف الإلهية ويشيع هذه الأصول السلوكية بين أفراد المجتمع، وبهذا الشكل نستطيع أن نفهم جيداً بالكشف «الأنِّي» النظام السياسي والاجتماعي المنبثق من أصول هذه المعارف الدينية.
الإمام الخميني في قمة الرؤية الحكومية:
إن الإمام الخميني يقف في قمة الرؤية الحكومية نحو الدين، وفي مقدمة الداعين بحق إلى إقامة الحكومة الدينية، فقد كان يدعو المؤمنين إلى فهم الشريعة وتحليلها برؤية جديدة. وقبل البدء بتوضيح مبادئ النظريات التي طرحها الإمام في مسألة تأسيس النظام السياسي والاجتماعي على ضوء مبادئ الشريعة والفقه، ينبغي أن نشير أولاً إلى رأيه حول الرؤية المغرضة والرؤية المتحجرة للدين.
فيما يتعلق بالرؤية المغرضة، يقول الإمام:
«كان المستعمرون يدعون أن الإسلام غير قادر على الحكومة، ولا يمتلك تنظيمات حكومية، وحتى لو فرضنا وجود مثل هذه الأحكام عنده، فإنه لا يمتلك القدرة على تنفيذها، فالإسلام يختص بتشريع القوانين فقط. ومن الواضح أن هذا التبليغ يعد جزءاً من مؤامرة المستعمرين لإبعاد المسلمين عن السياسة وأساس الحكومة. وهذا الكلام يخالف عقيدتنا الأساسية، إذ نحن نعتقد بالولاية، ونعتقد بضرورة تعيين الخليفة أولاً، وقد تم تعيينه فعلاً، فهل أن تعيين الخليفة كان لتوضيح الأحكام، والحكومة لا تحتاج إلى خليفة؟ فلو كان الأمر كذلك لكان النبي قادراً على كتابة جميع هذه الأحكام في كتاب واحد، ووضعها بين أيدي الناس حتى يعملوا بها. إذن، يحكم العقل أن تعيين الخليفة كان لأجل الحكومة»[3].
ويقول الإمام في وصيته السياسية الإلهية:
«من المؤامرات المهمة في القرن الأخير، خصوصاً في العقود المعاصرة والتي ظهرت بشكل واضح خاصة بعد انتصار الثورة الإسلامية، هي الحملات الدعائية المحمومة وبأساليب مختلفة لبث اليأس بين الشعوب وخاصة الشعب الإيراني المضحي وإبعادهم عن الإسلام. فأحيانا يصرحون عن جهل أن أحكام الإسلام التي وضعت قبل ألف وأربعمائة سنة، لا يمكنها في العصر الحاضر إدارة الدول، أو يدعون أن الإسلام دين رجعي يعارض كل أنواع التطور ومظاهر الحضارة»[4].
«فادعاء معارضة الإسلام للتطور ... ليس سوى اتهام أبله».
أما بالنسبة للمثقفين التابعين للغرب، يقول الإمام:
«إن الأيادي الأجنبية, وحتى تبعد شبابنا والمثقفين المسلمين عن الإسلام، أخذوا يوسوسون في أذهانهم أن الإسلام لا يساوي شيئاً، وان الإسلام بعض من أحكام الحيض والنفاس، ورجال الدين هم من ينبغي أن يقرأوا الحيض والنفاس»[5].
«إن خطر المتحجرين والمتظاهرين بالدين الحمقى، ليس قليلاً في حوزاتنا العلمية. فعلى طلابنا الأعزاء أن لا يغفلوا لحظة واحدة عن التفكير بهذه الأفاعي المرقّطة بعناية، فهم المروجون للإسلام الأمريكي وأعداء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالاستكبار عندما يأس من القضاء بشكل كامل على رجال الدين والحوزات العلمية، اختار أسلوبين لتوجيه ضرباته الموجعة: أحدهما أسلوب التهديد والقوة، والآخر أسلوب الخدعة والنفوذ في القرن المعاصر. فعندما لم ينجح أسلوب التخويف والتهديد، عمل على تقوية أساليب النفوذ، فكانت أول وأهم مؤامراته الترويج لشعار فصل الدين عن السياسة، والتي للأسف حققت بعض النجاح في الحوزة وبين رجال الدين، حتى أصبح التدخل في السياسة تقليلاً لشأن الفقيه، وأصبح خوض المعركة السياسية يتبعه تهمة التبعية للأجانب»[6].
«أما الطائفة الثانية التي تؤدي دوراً مخرباً، وتنظر إلى الإسلام بمعزل عن السياسة والحكومة، فيجب أن نقول لهؤلاء الجهلة أن القرآن الكريم وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتضمنان أحكاماً في مجال الحكومة والسياسة أكثر من باقي المجالات؛ بل إن أكثر أحكام الإسلام العبادية، هي أحكام عبادية ـ سياسية أدت الغفلة عنها إلى ظهور مثل هذه المصائب. فنبي الإسلام قام بتأسيس حكومة كسائر الحكومات في العالم، لكن بدافع بسط العدالة الاجتماعية، كذلك خلفاء الإسلام الأوائل كانت لهم حكومات واسعة، وحكومة علي بن أبي طالب (عليه السلام) التي قامت بنفس الدافع وبشكل أوسع من سابقاتها، تعتبر من أوضح الواضحات في التاريخ»[7].
الإمام في فكره السياسي الذي يبين نظرية معينة، يرى أن انتقال المستعمرين من مرحلة التخويف إلى مرحلة النفوذ كان مؤثراً جداً، ويقول: لقد تمكنوا من تحقيق بعض المكاسب من سياسة فصل الدين عن السياسة، كما أشار سماحته أن الألم الذي تحمله من المتحجرين كان أشد قسوة من الضغوط والصعوبات التي تعرض لها من الآخرين.
وقد توقع الإمام وبين مثل هذا المسير الخاطئ، فقال إذا استمر هذا المسير بهذا الشكل، فسيتعرض الإسلام ورجال الدين إلى نفس الخطر الذي تعرضت له الكنيسة في السابق وقضى على اقتدارها وتأثيرها، ولكن بشكل آخر، مما يؤدي إلى ضربات مؤثرة إلى الإسلام سيبقى تأثيرها إلى الأبد.
وبهذا الشكل تمكن الإمام من كشف مظاهر المثقفين البعيدين عن الدين والمتحجرين المتظاهرين بالدين، ومن ثمّ طردهم من ساحة التأثير. فكان الإمام يتحدث من موضع فكري ورؤية سياسية أصيلة، طرحها بأدلة وبراهين علمية وإسلامية متقنة. ونحن نسعى لتقييم ومعرفة قائدنا الراحل، الذي رحل عنا ترافقه قلوب ملايين العاشقين!
وجود النظام السياسي والاجتماعي في الإسلام:
إن المجتمع الإسلامي كالمجتمعات الأخرى، يحتاج إلى نظام سياسي واجتماعي، وهذا النظام ينبغي أن يستند إلى تعاليم الشريعة.
النظام السياسي عبارة عن المنهج الذي يمكن بواسطته إدارة أمور المجتمع وتنظيمها في جميع المجالات السياسية والاجتماعية و... وإشاعة النظام في المجتمع. وإجمالاً، النظام الذي يتولى مهمة إدارة النظام الاجتماعي وفق قوانين وضوابط خاصة، ويتمكن من تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع ضمن هذا الإطار، ويطلق على هذا التنظيم العام اصطلاح «النظام».
إن نظرية النظام السياسي الإسلامي قد جاءت أصوله ومبادئه في أحكام الشريعة الإسلامية، ولم تكن مجرد نظرية شخصية، بل هي نظرية نشأت من نصوص الشريعة وتعاليمها؛ ولهذا السبب كان بعض العلماء أمثال الفارابي[8], وأبن سينا[9] و... يؤكدون على العنصر السياسي في الإسلام، وكانوا يعتقدون بضرورة أن يرأس هذا النظام السياسي شخصاً حكيماً عادلاً لا بديل له، بحيث ينقاد الجميع له ويمتثلون لأوامره ويسلمون لحكمه تسليماً قلبياً، ويجب أن يكون أفضل رتبة وشأناً ومقاماً من بقية أفراد المجتمع، فيكون كالقلب في الجسد، وبما أن القلب أشرف أعضاء الجسد رتبة، ينبغي أن يكون رئيس المدينة أفضلها شرفاً ورتبة. وعلى أهل المدينة أن يمتثلوا لأوامره وفقاً للنظام الحاكم فيها، وخدمته مباشرة أو بواسطة؛ لأن شرف أفراد المدينة يكمن في مقدار قربهم من حاكمهم ورئيسهم، وهذا القرب قرب معنوي وليس قرباً شبيهاً بالقرب من السلاطين المستبدين والحكام الطغاة. والسبب في ذلك، أن النظام السياسي في الإسلام يكتسب اقتداره ومكانته المتميزة من وجود الأمة، وهذا الاقتدار ينتقل إلى قائد النظام، ويمكن أن نلخص تبلور هذه المسألة بشكل عيني في ولاية الفقيه.
ونسعى إلى تحليل الفكر السياسي للإمام الخميني في باب النظام السياسي وتقييمه على ضوء الكليات التي أشرنا إليها.
حيث يرى الإمام الخميني في فكره السياسي الإلهي، عدم إمكانية إقامة الدين بدون وجود حكومة ونظام اجتماعي وسياسي، كما لا يمكن أبداً تحقيق الأهداف المتعالية للدين بدون وجود نظام اجتماعي وسياسي.
ونجد في الفكر السياسي للإمام الخميني، أن الدين والدولة مدغمان وممتزجان امتزاجاً تاماً، بحيث كان الإمام ينظر إلى الدين في قالب النظام والدولة، فهما برأيه توأمان، «الدين والملك توأمان»، وكذلك كان يرى أن «الإسلام دين ودولة».
السيرة النظرية للإمام بالنسبة للدولة والنظام:
أكثر نظريات الإمام في مسألة الدولة والنظام السياسي جاءت في كتاب الحكومة الإسلامية، المجلد الثاني من كتاب البيع والرسائل وتحرير الوسيلة. وسنسعى في هذا القسم إلى تبيين السيرة النظرية للإمام في باب الدولة والنظام السياسي.
يقول الإمام في كتاب البيع:
«إن الأحكام الإلهية سواء الأحكام المربوطة بالماليات أو السياسيات أو الحقوق لم تنسخ، بل تبقى إلى يوم القيامة ونفس بقاء تلك الأحكام يقتضي بضرورة حكومة وولاية تضمن سيادة القانون الإلهي وتتكفل لإجرائه ولا يمكن إلاّ بها، لئلا يلزم الهرج والمرج، مع أن حفظ النظام من الواجبات الأكيدة. واختلال أمور المسلمين من الأمور المبغوضة، ولا يقوم ذا ولا يسد عن هذا إلاّ بوالٍ وحكومة»[10].
وتتلخص الأصول التي اهتم بها الإمام في نظرية النظام السياسي، بالنقاط التالية:
1ـ أبدية الأحكام الإسلامية ودوامها: فالقوانين والأحكام الإلهية لا تتصف بصيغة قطعية أو مرحلية، وإنما تتسم رسالة القوانين الإسلامية، بكونها رسالة أبدية مستمرة. فأبدية واستمرارية صفة التحرر في الإسلام، لا تختص بعصر خاص أو مقطع من الزمان؛ بل هي صفة مستمرة في الإسلام إلى يوم القيامة، لأنه يريد أن يؤدي دوراً تكاملياً في حياة الإنسان. ولا ينبغي أن تتوقف هذه القوانين أبداً، فهي لا تختص فقط بعصر الرسول الأكرم والإمام الحجة ـ صلوات الله عليهما ـ بل ينبغي تطبيقها في جميع الأزمنة بلا استثناء. إذن، يعتبر بقاء وأبدية القوانين من أهم الأصول التي تبين ضرورة الحاجة إلى الحكومة والدولة.
«إن وجود مجموعة من القوانين لا تكفي لتحقيق الإصلاح في المجتمع، إذ لكي يؤدي القانون دوره في الإصلاح وسعادة البشرية، يحتاج إلى سلطة تنفيذية ومنفذ لها؛ ولهذا السبب عندما أرسل الله تعالى مجموعة القوانين ـ أي الأحكام الشرعية ـ أرسل حكومة ونظاماً تنفيذياً وإدارياً معها. فالرسول الأكرم كان على رأس التنظيمات التنفيذية والإدارية للمجتمع الإسلامي؛ بالإضافة إلى عمله في إبلاغ الوحي، وبيانه، وتفسير العقائد وأحكام الإسلام وتنظيماته، سعى أيضاً إلى تطبيق الأحكام الإسلامية وتأسيس التنظيمات الإسلامية حتى يتمكن من أقامة الدولة الإسلامية, ففي تلك المرحلة، لم يكتف ببيان القوانين الجزائية فقط، بل قام بتنفيذها أيضاً»[11].
ففي فكر الإمام السياسي، تعتبر الحكومة وسيلة لتنفيذ القوانين وتطبيقها، وبدون هذه الحكومة لا يمكن تطبيق هذه القوانين.
2ـ الحيلولة دون حدوث الفوضى الاجتماعية: إن وجود الحكومة الإسلامية القوية يساعد على منع حدوث الفوضى الاجتماعية؛ لذا يصبح من الضروري أن يتصدى المسلمون لتأسيس الأنظمة السياسية والقضائية والاجتماعية التي تستند إلى تعاليم الإسلام.
3ـ محافظة النظام الاجتماعي للمسلمين: ولا تتحقق هذه المسألة إلاّ في ظل وحدود حكومة ودولة قوية، كما أن الشريعة الإسلامية ترى أن المحافظة على النظام من أهم الواجبات، لأنها ترتبط بمسألة المحافظة على حرمة ومال وعرض الشخصيات الحقيقية والقانونية للأفراد.
3ـ الحيلولة دون حدوث الاختلال في أمور المسلمين: ينبغي المحافظة على عزة المسلمين وعدم التعرض لها، إذ يجب أن يبقى الإسلام فوق الجميع «إن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»[12].
وفي ذيل قاعدة نفي السبيل، يقول الإمام:
«بل من الممكن أن يكون المراد من نفي السبيل مطلقاً، فالمراد أنه تعالى لن يجعل للكافرين طريقاً وسبيلاً على المؤمنين، لا في التكوين ولا في التشريع، أما في التكوين فلأنه تعالى أيد رسوله صلى الله عليه وآله والمؤمنين بتأييدات كثيرة ومعنوية وصوريّة وإمداد من الملائكة والوعد بالنصر وغير ذلك مما توجب قوّة وشدّة واطمئناناً للجيش الإسلامي، وأما التشريع فلأنه لن يجعل الله للكافرين سلطة اعتبارية على المؤمنين»[13].
وضمن هذا الإطار العام، لم يكن الإمام الخميني يرى أن الفكر الإسلامي يقتصر على بعض الأمور العبادية والأخلاقية الصرفة؛ بل كان ينظر الإسلام برؤية حكومية شاملة تتجاوز النظرة السطحية التي تنظر إلى الإسلام ضمن إطار هذه الأمور فقط. فيقول:
«إن الإسلام ليس عبارة عن الأحكام العبادية والأخلاقية فحسب، كما زعم كثير من شبان المسلمين بل وشيوخهم وذلك للتبليغات المشئومة والمسمومة من الأجانب وعمالهم في بلاد المسلمين طيلة التاريخ لأجل إسقاط الإسلام والمنتسبين إليه عن أعين الشبان وطلاب العلوم الحديثة، وإيجاد التباغض والافتراق بين المسلمين قديمهم وحديثهم، وقد وقفوا إلى حد لا يتيسر لنا رفع هذه المزعمة والتهمة بسهولة وفي أوقات غير طويلة»[14].
وجوب استقرار النظام الإسلامي في فكر الإمام الخميني:
في الفكر المتعالي للإمام الخميني، نجد أن استقرار النظام السياسي يكون واجباً وضرورياً أبدياً، لعدة أسباب سنشير هنا إلى أهمها:
1ـ تطبيق أحكام الشريعة.
لا ينبغي أبداً ترك أحكام الشريعة أو تعطيلها؛ لأن ذلك سيؤدي إلى زوال عظمة الإسلام وفقدان الفكر الإسلامي لشموليته، مما سيجعل المعاندين للشريعة يظنون أن الإسلام لا يتضمن رؤية اجتماعية واقتصادية وسياسية.
«إن الدليل على ضرورة إقامة الحكومة هو ماهية وكيفية قوانين الإسلام (أحكام الشرع)، إذ أن ماهية وكيفية هذه القوانين تبين أنها شُرِّعت لأجل إقامة الدولة وإدارة المجتمع سياسياً واقتصادياً وثقافياً»[15].
وفي مورد آخر، يبن الإمام الخميني أن إقامة الحكومة الإسلامية يعد أمراً ضرورياً لتطبيق أهداف الإسلام وتعاليمه السمحاء، ويعتقد أن تحقيق مثل هذا الهدف المتعالي لا يمكن أن يحدث بسهولة أبداً، وإنما يحتاج إلى سعي متواصل لتحقيقه.
«بالطبع فإن تحقيق أهداف الإسلام في العالم، وخاصة برامجه الاقتصادية ومواجهة الاقتصاد العليل للرأسمالية الغربية والاشتراكية الشرقية، لا يمكن تحقيقه بسهولة دون إقامة الحكومة الإسلامية الشاملة. وأن القضاء على آثاره السيئة والمخربة يحتاج إلى وقت طويل، خاصة بعد استقرار نظام العدل والحكومة الإسلامية كالجمهورية الإسلامية الإيرانية، لكن طرح المشاريع والبرامج التي تبين اتجاه الاقتصاد الإسلامي ومنهجه، الساعية للمحافظة على مصالح المحرومين وزيادة مشاركتهم العامة ومحاربة الإسلام للمحتكرين، يعد أعظم هدية وتمثل بشرى تحرر الإنسان من أسر الفقر والفاقة»[16].
إن الإمام كان يرى نفسه مكلفاً بالتدخل لإسقاط الحكومة غير الإلهية وتأسيس الحكومة الإلهية، حتى يتمكن من تطبيق أحكام الشريعة. فهو يرى أن السلوك العرفاني والفقهي ممتزجة مع السلوك السياسي والاجتماعي وكانت نظريته الحكومية تؤكد على ضرورة أن يتصدى لقيادة الحكومة إنسان كامل، جامع، عظيم الشأن، يشعر بالمعاناة، ذكي، عادل، مدير ومدبّر، حتى يتمكن من اتباع السلوك الصحيح في المجال الاجتماعي القادر على خلق إنسان جديد إلهي ونوراني في المجتمع، ومحو صور الظلم والفساد والشهوة. ولذلك كان الإمام يعتقد أن الواجب الشرعي يحتم عليه المشاركة الفعّالة في المجالات الاجتماعية والسياسية حتى يتمكن من إيجاد مجموعة إلهية من المؤمنين، فعمد إلى القيام بالثورة الإسلامية حتى يتمكن من تحقيق هذه الولاية النورانية.
2ـ الاقتداء بالنبي باعتباره مؤسس الحكومة:
على ضوء القوانين الإسلامية التي تتضمن الشكل العام للحكومة، عمد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى إقامة الحكومة وتأسيس الدولة، وبالتالي كان ذلك بمثابة دعوته للمؤمنين إلى القيام بمثل هذا العمل، باعتباره أسوة تاريخية لهم.
«إن سنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسلوكه، يعتبر دليلاً على ضرورة إقامة الحكومة؛ لأنه أولاً قام بنفسه بإقامة الحكومة، والتاريخ يشهد بأنه أسس حكومة قام فيها بتطبيق قوانين الإسلام والعمل بأنظمته، وتولى إدارة أمور المجتمع، وأرسل الولاة إلى الولايات، وجلس للقضاء، وعيَّن القضاة؛ وثانياً نفَّذ أمر الله بتعيين خليفة بعده»[17].
في هذه الرؤية العظيمة الهادفة، نجد أن دولة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) التي أسسها بشكل رسمي في المدينة المنورة، كانت أول دولة تمثل نموذجاً بارزاً للدولة الإسلامية في التاريخ الإسلامي.
ويصف الإمام الخميني أفكار المتحجرين والمنحرفين ونظرياتهم المتخلفة، فيقول:
«أما الطائفة الثانية التي تؤدي دوراً مخرباً، وتنظر إلى الإسلام بمعزل عن السياسة والحكومة، فيجب أن نقول لهؤلاء الجهلة أن القرآن الكريم وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتضمنان أحكاماً في مجال الحكومة والسياسة أكثر من باقي المجالات؛ بل إن أكثر أحكام الإسلام العبادية هي أحكام عبادية ـ سياسية، أدت الغفلة عنها إلى ظهور مثل هذه المصائب. فنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) قام بتأسيس حكومة كسائر الحكومات في العالم، لكن بدافع بسط العدالة الاجتماعية. وكذلك خلفاء الإسلام الأوائل كانت لهم حكومات واسعة جداً، وحكومة علي بن أبي طالب (ع) ـ التي أسسها بنفس الدافع وبشكل أوسع من سابقاتها ـ تعتبر من أوضح الواضحات في التاريخ»[18].
«على الرغم من جميع الصعوبات والمشاكل وبالاعتماد على القيم والنقاط الايجابية والمشتركات، تمكن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) من تأسيس دولة قوية واحدة عن طريق اتخاذ دبلوماسية نشطة كانت تمثل نموذجاً رائعاً اختصت بشخصيته، حيث استطاع ضم القبائل ورؤساء المجتمعات الصغيرة إلى دولته من خلال إجراء هذه المفاوضات مع هذه القبائل، وعقد المعاهدات الحكومية مع رؤساء القبائل العربية، وإرساله رسلاً وممثلين عنه إليهم، مما أوجد موقفاً رائعاً لهذه الوحدة، استطاع من خلالها تأسيس دولة إسلامية عظيمة وصلت حدودها في فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز الربع قرن، إلى عمق أوربا وأقصى سواحل المحيطات، وقد أشار (غيوريغو) إلى أن حدود هذه الدولة من السنة الأولى للهجرة إلى السنة العاشرة، كانت تزداد يومياً بمعدل (822) كيلو متر مربع»[19].
وذكر جلال الدين الفارسي في كتابه (انقلاب تكاملي إسلام)، أن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما قام بتأسيس دولته، أحدث ثورة عظيمة، إذ أنه لم يعمد إلى تأسيسها كما هو المتعارف عن طريق القوة والغلبة، وإنما سعى أولاً إلى تكوين أمة واحدة ثم قام بعدها بتأسيس دولة قوية كانت تمثل في ذلك العصر نموذجاً لجميع الأمم الإسلامية.
«ومن هذه الجهة، كانت بداية تأسيس الدولة مقارنة لبداية النهضة في مكة، حيث عمل على بسطها وتقويتها من خلال زيادة أتباعها، لكن مع ذلك يمكننا تعيين مرحلة بارزة في عملية تأسيس الدولة، هي مرحلة المدينة. قد بدأت هذه المرحلة في الواقع قبل سنتين من بداية الهجرة، عندما أسلم عدد من حجاج المدينة، فبعث النبي «مصعب بن عمير»[20] رسولاً عنه إلى المدينة، ليضع الأسس الأولى لقيام النهضة فيها، ويؤدي فيها دور المعلم والمربي للمسلمين»[21].
«إن تأسيس الدولة في مرحلة المدينة لم تكن سوى استمراراً وإكمالاً للجهاد المستمر في تكوين الأمة الذي بدأ في مرحلة مكة؛ ولهذا السبب استمرت عملية المساعي التربوية لتكوين هذه الأمة المطلوبة»[22].
إن النتيجة التي يمكن استنباطها من دراسة السيرة النبوية في تاريخ الإسلام، تبين أن مسألة تأسيس الدولة قد تم طرحها منذ بداية الرسالة؛ إذ أن المفاهيم والمعاني الإسلامية المستبطنة من آيات القرآن الكريم، ومنهج الخطاب فيها، وأسلوب آيات الوحي وسياقها، كانت جميعها تشير إلى ضرورة الدولة وأهمية تأسيسها من قبل النبي الأكرم في أقرب فرصة ممكنة؛ لذلك أقدم النبي على وضع السياسات الأصولية لتحقيق هذا الهدف العظيم حتى يهيئ الظروف الملائمة لتأسيس الدولة. ومن هذه الجهة، كان الإمام الخميني يعتقد أنه يتأسى بالنبي الأكرم، فأقدم على تأسيس الدولة التي وضع أسسها الأولى من قبل الرسول الأكرم ومن بعده الإمام علي (عليه السلام) والخلفاء، وجعل منها منهجاً ونموذجاً يحتدى به من قبل المسلمين.
3ـ إحياء الشريعة:
إن الإمام الخميني في فكره السياسي، يعتقد أن إقامة الحكومة الإسلامية يؤدي إلى إحياء الشريعة، وإحياء الشريعة يعتبر أحد المسائل الضرورية والقطعية الأبدية التي يجب على المسلمين السعي لتحقيقها.
وفي كتاب (صحيفة نور)، يعتبر الإمام الخميني أن إقامة دولة الحق لأجل إحياء الشريعة، أمراً ضرورياً قطعياً، فيقول:
«إن هدفنا من إقامة الحكومة الإسلامية، هو نشر الدين الإسلامي واستمراره والمحافظة عليه»[23].
ونحن لهذا السبب نعتبر الإمام الخميني شخصية عظيمة بعثت في الإسلام حياة جديدة، وألهمت المسلمين دروس النهضة والعمل. فقد استطاع بنهضته الإسلامية أن يكشف النقاب عن وجوه العملاء والمستكبرين، ويكشف مؤامرات الاستكبار العالمي، وأن يقدم عن الإسلام صورة نموذجية، ثورية أصيلة.
«الآن وبعد أن تم وبتوفيق من الله وتأييده تأسيس الجمهورية الإسلامية التي وضع الشعب المؤمن الملتزم أركانها الأساسية، حيث نجد كل ما في هذه الحكومة الإسلامية هو الإسلام وأحكامه المتعالية، مما يضع على شعبنا العظيم مسؤولية العمل على تحقيق أهدافها بجميع الأبعاد والمحافظة عليها وحمايتها؛ لأن المحافظة على الإسلام تعتبر في مقدمة جميع الواجبات الأخرى، حيث سعى لتحقيق هذا الهدف جميع الأنبياء العظام من آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، وضحوا بأرواحهم في سبيله، ولم يثنهم عن أداء هذه الفريضة العظيمة أي مانع. واستقر على ذلك بعدهم الصحابة المؤمنون وأئمة الإسلام ـ صلوات الله عليهم ـ الذين بذلوا في سبيل المحافظة عليه أقصى ما أمكنهم حتى أرواحهم»[24].
فقد تمكن هذا الإمام العظيم إحياء الشريعة من خلال طرحه لنظرية الحكومة الإسلامية، وبعث في الحركات الإسلامية حياة جديدة، وأعاد للمسلمين عزّتهم المفقودة.
يقول العلامة الشهيد مطهري، حول هذا الموضوع:
«ماذا فعل الإمام؟ لقد أعطى لشعبنا شخصيته، وأعاد له ذاته الحقيقية وهويته الإسلامية، وتمكن من إخراجه من حالته الانهزامية والسبوعية. فكانت تلك أعظم هدية قدمها الإمام للشعب، إذ استطاع أن يعيد للشعب إيمانه المفقود، وجعله يستعيد إيمانه بقدراته. فقد صرح أن الإسلام هو الوحيد القادر على إنقاذكم، وأكد بشدة على أهمية الجهاد الإسلامي، وتحدث عن الواجب النوعي والديني وكذلك عن أجر الشهداء وثوابهم»[25].
وفي مورد آخر، يصف الشهيد مطهري ساحة الإمام بمحيي الشريعة، وعبّر عن سرّ نجاحه بالعبارات التالية:
«إن سرّ نجاح القائد يكمن في أنه حدد نضاله في إطار المفاهيم الإسلامية، فقد حارب الظلم ، لكنه حدده ضمن المعايير الإسلامية. كما سعى الإمام إلى ترويج هذا الفكر؛ إن المسلم لا ينبغي أن يسمح لنفسه بقبول الذلة، ولا ينبغي للمؤمن أن يذعن لأوامر الكافر؛ وسعى لمحاربة الظلم والجور والاستغلال، لكنها محاربة تحت لواء الإسلام وضمن المعايير والقوانين الإسلامية»[26].
«المسألة المهمة هي الوعي الإسلامي لشعبنا. ففي ظل هذه الصراعات، ظهرت مرة أخرى وبشكل متميز الروح والهوية الإسلامية لشعبنا، إذ أننا نلاحظ في عصرنا الحاضر وبشكل عام في جميع البلاد الإسلامية، ظهور حركة من الوعي واليقظة الإسلامية. فالشعوب الإسلامية ذاقت ذرعاً بمعايير النظريات الشرقية والغربية، وبدأت تبحث عن هويتها الحقيقية الأصيلة. فقد تجاوز المسلمون مرحلة الانهزامية ووصلوا إلى مرحلة استعادة الذات، مما جعل العالم الثالث يمرّ بمرحلة الولادة الجديدة وأصبح مستعداً لمواجهة الشرق والغرب»[27].
الملازمة بين إحياء الشريعة وإقامة الدولة:
من بين الأدلة المختلفة، كان الإمام الخميني يؤكد كثيراً على هذا الدليل، أن إحياء وإقامة الشريعة لا يمكن أن يتم إلاّ بوجود الحكومة الإسلامية، لهذا اعتبر الإمام أن تأسيس الدولة وإقامة الحكومة يعد من أهم الواجبات، وكان يعتقد أن «الحكومة من أحكام الإسلام الأولية بل هي مقدمة حتى على مسائل مثل الصلاة والصيام ...»[28].
وعلى هذا الأساس، يقول الإمام, (حول موضوع تأسيس الحكومة الإسلامية ووجوب إقامتها):
«فالقيام بالحكومة وتشكيل أساس الدولة الإسلامية من قبيل الواجب الكفائي على الفقهاء والعدول فإن وفق أحدهم بتشكيل الحكومة يجب على غيره الإتباع، وإن لم يتيسر إلاّ باجتماعهم عليهم القيام اجتماعياً»[29].
وفي مورد آخر، يقول الإمام في كتاب (الرسائل).
«إنا نعلم علماً ضرورياً بأن النبي المبعوث بالنبوة الختمية، أكمل النبوات وأتم الأديان بعد عدم إهماله جميع ما يحتاج إليه البشر حتى آداب النوم والطعام وحتى أرش الخدش لا يمكن أن يهمل هذا الأمر المهم الذي يكون من أهم ما يحتاج إليه الأمة ليلاً ونهاراً، فلو أهمل والعياذ بالله مثل هذا الأمر المهم، أي أمر السياسة لكان تشريعه ناقصاً وكان مخالفاً لخطبته في حجة الوداع، وكذا لو لم يعين تكليف الأمة في زمان الغيبة أو لم يأمر، على الإمام أن يعين تكليف الأمة في زمانها مع إخباره بالغيبة...»[30].
إن هدف الإمام من جميع الآراء والنظريات التي كان يطرحها، هو تطبيق الإسلام بشكل منظم قائم على نظرية إقامة الدولة، لأن الإسلام لن يحقق أهدافه بدون تأسيس الدولة:
«تقع علينا مسؤولية رفع الإشكال الذي نسبوه إلى الإسلام، وما لم نتمكن من إزالة هذا الإشكال عن الأذهان لن نتمكن من إنجاز أي عمل، لكن ينبغي أن نجبر أنفسنا والجيل القادم ونوصيهم أن يأمروا الجيل الذي يأتي بعدهم أيضاً، بالعمل على رفع هذا الإشكال الذي عملوا على إلصاقه بالإسلام من خلال الحملات الدعائية المغرضة لمئات السنين، وزرعه في أذهان الكثيرين حتى المتعلمين منهم، وعليهم التعريف برؤية الإسلام نحو العالم وأنظمته الاجتماعية، والتعريف بالحكومة الإسلامية، حتى يعرف الناس ما هو الإسلام وما هي قوانينه»[31].
وقد أدان الإمام الخميني موقف الأفراد الذين يتبنون النظريات الغربية عن الإسلام ويروجون لها في قبال نظرياته التي يطرحها عن الإسلام. ولم يقبل سوى الإسلام الثوري القادر على تغيير العادات الاجتماعية الخاطئة، وعمد إلى كشف وإدانة الأفراد الذين فسروا النصوص الدينية بفرضيات خاطئة، وعبر عنهم أنهم فرضوا آرائهم على الكتاب والسنة، وارتكبوا ظلماً وجفاءً عظيماً بحق الشريعة، وإنهم لم يأتوا لفهم الكتاب والسنة، بل جاءوا بفهم مسبق وأرادوا أن يفرضوا رأيهم على الكتاب والسنة.
وعلى هذا الأساس، كان الإمام يعتقد أن إقامة العدل والحق ونشر الدين في عصر الغيبة، هي مسؤولية الفقهاء، وذم بشدة النظريات التي تقيد الإسلام بعصر الحضور فقط، فطرح موضوع تطبيق الأحكام في عصر الغيبة أيضاً.
«منذ الغيبة الصغرى وحتى الآن أي بعد مضي ألف وأربعمائة سنه ويمكن أن تمر مئة ألف سنة أخرى، والمصلحة لا تقتضي أن يظهر الإمام الحجة، فهل تبقى أحكام الإسلام معطلة طيلة هذه الفترة الطويلة؟ وكل شخص يفعل ما يحلو له؟ وتعم الفوضى؟ وهل أن القوانين التي بذل نبي الإسلام في سبيل بيانها وتبليغها ونشرها وتطبيقها، الكثير من الجهود والمعاناة الشديدة طيلة ثلاثة وعشرين سنة، كانت تختص بفترة محدودة؟ وهل أن الله تعالى حدد فترة تطبيق أحكامه بثلاث وعشرين سنة فقط؟ وبعد الغيبة الصغرى، ترك الإسلام كل ما يرتبط به؟ إن الاعتقاد بمثل هذه المسائل أو إظهارها، أسوأ من الاعتقاد بنسخ الإسلام أو إظهاره. ولا يمكن لأي شخص أن يدعي مرة أخرى بعدم ضرورة الدفاع عن حدود الوطن الإسلامي وثغوره ووحدة أراضيه. أو لا ينبغي أن تجمع اليوم الضرائب والجزية والخراج والخمس والزكاة؟ وكل من يدعي عدم ضرورة إقامة الحكومة الإسلامية فهو منكر لتطبيق أحكام الإسلام، ومنكر لشمولية وأبدية أحكام الدين الإسلامي المبين».
كيفية تأسيس النظام من قبل الشريعة:
ما تحدثنا عنه حتى الآن، كان حديثاً عاماً عن قدرة الشريعة على تأسيس النظام، وسنتعرف الآن على كيفية تأسيس النظام من قبل الشريعة. فالإسلام ومنذ اللحظات الأولى لظهوره وضع لنفسه نظاماً خاصاً، وكان سبباً وأساساً لتأسيس النظام. وقد طرح الإسلام نفسه كدين للحياة، ونموذج للنظام السياسي الاجتماعي.
لكن المشكلة التي تواجهنا هنا، والتي أشار إليها الإمام الخميني نوعاً ما، هي أن الإسلام يظهر بنظام خاص تندمج فيه الأنظمة الأخرى للحكومة، وإنما ظل شكل هذا النظام مخفياً ضمن أحكامه العامة. واكتفى الإسلام بتوضيح كليات هذا النظام دون تعيين سماة خاصة به، فكانت هذه المسألة بمثابة صفة ايجابية للشريعة. إذ لو أشار الإسلام قبل 1400 سنة إلى نظام خاص، لكان ذلك نقصاً في الشريعة، ولم تكن هذه المسألة تتلائم مع الرؤية العامة للإسلام الذي يريد أن يؤدي دور المشرف باستمرار على البشرية، وحتى لو كان قد أشار إلى نظام خاص بالعصر الحاضر، لما كان كافياً لمواجهة المعوقات التي ستواجهه بعد ألف سنة أخرى. إذن، كان ينبغي الإشارة في الشريعة إلى كيفية تأسيس النظام بشكل يتلائم مع كافة الظروف ويمكن تطبيقه فيها.
وحول هذا الموضوع يقول الإمام علي عليه السلام:
«إن الله فرض لكم أشياء فلا تعتدوها وحدّ لكم حدوداً فلا تضيّعوها وسكت عن أشياء ولم يدعها نسياناً بل تفضلاً ورحمة»[32].
فمن المسلم به، أن أسلوب الحكومة كان من بين الأشياء التي كان من الأفضل السكوت عنه، لكن ليس بمعنى عدم بيان كلياته؛ لأننا إذا أمعنا النظر في آيات القرآن المجيد وروايات المعصومين (عليهم السلام) ، لوجدنا أن الموارد التي اختصت بموضوع السياسة والحكومة في الكتاب والسنة، كانت أكثر بكثير من موضوع الأخلاق والأمور العبادية. وحسب الفكر السياسي للإمام، حتى الأمور العبادية كانت ذات أبعاد سياسية وحكومية، بل إن الإسلام لم يفصل أبداً المجال الاجتماعي عن المجال السياسي.
«ولما كانت ديانة الإسلام كفيلة لجميع احتياجات البشر من أموره السياسية واجتماعاته المدنية إلى حياته الفردية، كما يتضح ذلك بالرجوع إلى أحكامه في فنون الاجتماعات وشؤون الاجتماع وغيرها، فلا محالة يكون لها في كل ما أشرنا إليه تكليف».
الآن وبعد أن تعرفنا على هذه الكليات، سنوضح المنهج الأساسي لاستنباط النظام من النصوص الدينية، حسب وجهة نظر الإمام الخميني:
ضرورة الاجتهاد
نظراً لشمولية أحكام الشريعة أصبحت عملية استنباط النظام من قواعد الشريعة بمساعدة الاجتهاد أمراً ممكناً وضرورياً ويسيراً، لأن الاجتهاد عبارة عن:
«تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد».
فيتضح من تعاريف الاجتهاد أنه، السعي في البحث عن الحكم الشرعي من المصادر المعتبرة للوصول إلى أحكام الشريعة في مجالات السياسة، الحكومة، الاقتصاد، الحقوق، و... وقد خصّص الإمام الخميني في كتاب (الرسائل) فصلاً مطولاً لهذا الغرض.
فنحن نجد في فكر الإمام الخميني، أنه يعتبر الاجتهاد بمثابة الرمز الذي يتمكن بواسطته الفقيه من استنباط الأحكام الخاصة بالحوادث الواقعة.
«المجتهد الحقيقي هو من يحصل على هذا الرمز، فيفهم كيف تتغير المواضيع، وبالطبع يتبدل حكمها؛ وإلا فمجرد التفكير بموضوع قديم تم البحث فيه، وكحدّ أقصى بتبديل الفتوى من (على الأقوى) إلى (على الأحوط)، أو تبديل عمل من (على الأحوط) إلى (على الأقوى)، لا يعد عملاً متميزاً ولا يحتاج إلى كل هذه الضوضاء والمبالغة».
ويقول الإمام الخميني حول فهم هذه الحقائق السياسية والحكومية:
«يجب على المجتهد أن يكون عالماً بمسائل زمانه، إذ من الصعب على الشعب والشباب وحتى العامة أن يتقبلوا كلام مرجعهم ومجتهدهم عندما يقول أني لا أبدي رأياً في المسائل السياسية. فمن خصائص المجتهد أن يكون عارفاً بوسائل التصدي للمؤامرات والتزييف الثقافي السائد في العالم، وعارفاً بالسياسة وحتى السياسيين والمعاملات التي يتعاملون بها، ومدركاً لمكانة وقدرة قطبي العالم الرأسمالية والاشتراكية وعارفاً بنقاط قوتهم وضعفهم، لأنهم في الواقع هم من يضعون إستراتيجية التحكم في العالم. من الخصائص الأخرى للمجتهد الجامع للشرائط، يجب أن يتحلى بصفات الذكاء والفطنة والفراسة اللازمة لقيادة المجتمع الإسلامي العظيم بل وحتى غير الإسلامي. وإضافة إلى صفات الإخلاص والتقوى والزهد، اللازمة لشأن المجتهد، يجب أن يكون مديراً ومدبراً بحق. فالحكومة بنظر المجتهد الحقيقي، تمثل الفلسفة العملية لجميع أحكام الفقه في جميع مجالات الحياة البشرية، وتمثل الصبغة العملية للفقه عند تعامله مع جميع المشاكل الاجتماعية والسياسة والعسكرية والثقافية. والفقه، يمثل النظرية الواقعية الكاملة لإدارة الإنسان والمجتمع من المهد إلى اللحد».
فالإمام، يعتبر الاجتهاد المطلوب من الفقهاء، عاملاً أساسياً في تأسيس الحكومة والنظام السياسي، فيقول:
«إن الهدف هو كيف نتمكن من تطبيق الأصول الثابتة للفقه في عمل الفرد والمجتمع، ونستطيع أن نجد الجواب الوافي لحل المشكلة، إذ أن مصدر خوف الاستكبار ينبع من هذه المسألة، أن يصطبغ الفقه والاجتهاد بالصبغة العملية والعينية، ويكتسب قدرة التعامل مع المسلمين».
كيفية الوصول إلى الاجتهاد المطلوب:
في الاجتهاد المطلوب ينبغي توفر عدد من العناصر الأساسية الضرورية، حتى نتمكن على ضوئها كشف واستنباط النظام المطلوب:
1ـ ضرورة فهم معاني المفردات في الشريعة.
أحد الموارد المهمة التي يمكن بحثها في هذا الموضوع هو فهم معاني المفردات في الشريعة، فحسب ما تتصف به الشريعة من نظرة شمولية وعامة للعالم وإشرافها على جميع المجالات والظروف، فإنها تضع عادة كليات وأصول متقنة، ثم تطلب من مخاطبيها فهم ودراسة هذه الكليات والأصول، للوصول إلى التفاصيل ومعاني مفرداتها بما يتلائم مع مقتضيات الظروف والمجالات المختلفة. فمثلاً عندما تتحدث الشريعة عن وجوب الدفاع وتهيئته العدّة اللازمة للحرب، فإنها لا تتحدث بتفاصيل معنى كلمة (العدة) وما الذي ينبغي تهيئة في القرن الخامس والسادس و... الهجري؛ بل تجعل من فهم معنى كلمة العدة مقتضاها للعمل ومنهجاً للتعامل عند البشر، نظراً لضرورة الحكومة والسياسة و... وما يتبعها من متطلبات جديدة، ينبغي الرجوع إلى الكتاب والسنة والعقل لنتمكن من إيجاد حل لجميع المشاكل التي تواجهنا، وقد ترك الشارع الحكم في هذا المجال للعقل القادر على استنباط الحكم المطلوب من خلال التسلح بملكة الاجتهاد والرجوع إلى الروايات والنصوص الإسلامية.
ويمكن الوصول إلى هذه المفردات من خلال الفقه والاجتهاد، ولهذا نجد أن الفقه يمتلك القدرة والقابلية اللازمة على الإجابة عن متطلبات الحضارات العظيمة. والتاريخ يشهد دائماً أن علمائنا ومجتهدينا القدماء كانوا يسعون دائماً للإجابة عن متطلبات كل عصر. والمجتهد الذي تمكن من القيام بهذا العمل بشكل أفضل، هو من تمكن من فهم معاني هذه المفردات أفضل من غيره، واليوم ينبغي على الحوزات العلمية أن تهتم بهذه المسؤولية الإلهية المهمة، وعليهم أن ينظروا إلى الفقه برؤية تمكنهم من تحقيق هذه المسألة.
«أما بالنسبة لمنهج الدراسة والتحقيق في الحوزات، فإني أعتقد بالفقه المتعارف واجتهاد الجواهري، ولا أجيز الإعراض عنه. فالاجتهاد بالمنهج القديم هو الصحيح، لكن هذا لا يعني عدم التجدد والبحث في الفقه الإسلامي؛ لأن الزمان والمكان عنصران مهمان في الاجتهاد، فالمسألة التي كان لها في السابق حكم معين، يمكن أن تحصل نفسها حسب الظاهر على حكم جديد تبعاً للعلاقات السائدة على السياسة والاجتماع والاقتصاد في نظام معين. وهذا يعني أن المعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، قد جعلت من نفس الموضوع الأول ـ الذي لم يتغير حسب الظاهر عما كان في السابق ـ موضوعاً جديداً حقاً، مما يتطلب حتماً حكماً جديداً».
فالرؤية الشاملة للاجتهاد أصبحت أمراً ضرورياً لفهم معاني المفردات بما يتلائم مع مقتضيات الزمان، ولذا نجد الشاعر (إقبال) يعبر عن مثل هذا الاجتهاد بالقوة المحركة للإسلام.
«يتعرض إقبال إلى الموضوع الذي طرحه (الشاطبي) في كتاب (الموافقات) عندما قال: إن الفقه الإسلامي يحفظ خمسة أشياء: الدين، النفس، العقل، الروح، والمال، فيسأل: إذا كان الطلاق بيد الرجل مطلقاً، وكان ذلك يؤدي في بعض الموارد إلى ارتداد المرأة، فهل هذا الوضع يمثل نوعاً من المحافظة عن الدين والإيمان في شبه القارة الهندية؟! ينبغي علينا تعيين بعض الأصول، ثم نؤسس المجتمع وفق هذه الأصول، وبعدها نعمل على تطبيق الأحكام الفقهية بما يتلائم معها. فإذا ما وجدنا في مورد معين خطأ في قانون معين من جهة المحافظة على الدين، فينبغي أن نصلح القانون بما يتلائم مع أصل المحافظة على الدين، لا أن نجتهد في مورد واحد فقط، ونترك الرؤية الشاملة للمسائل المختلفة».
2ـ معرفة المواضيع السياسية والحكومية.
إن المواضيع في الواقع هي الأشياء التي نحمل عليها الأحكام حتى تكتسب شرط الفعلية؛ أي نثبت فعلية الأحكام في ظل هذه المسألة، ولهذا تقع مسألة معرفة الموضوع في مرتبة متقدمة على الحكم، خاصة المواضيع السياسية والحكومية التي ينبغي على الفقه معرفتها وإرجاعها إلى أحكامها الأصلية، لذا يكون الفقيه الأكثر اطلاعاً على المواضيع السياسية والحكومية، الأقدر على استنباط المطالب والمواضيع الخاصة بالنظام الاجتماعي من مفردات القواعد العامة.
«إن عمل الفقيه والمجتهد هو استنباط واستخراج الأحكام، لكن اطلاعه وإحاطته بالمواضيع أو ما يصطلح عليه رؤيته نحو العالم، له تأثير كبير في فتاواه. فالفقيه يجب أن يكون عارفاً تماماً بالمواضيع التي يريد إصدار الفتوى فيها».
«وحتى في وقتنا هذا توجد في فقهنا بعض الموارد التي أفتى فيها الفقهاء بشكل قاطع على وجوب وضرورة شيء معين، فقط بسبب أهمية الموضوع؛ أي رغم عدم وجود دليل نقلي صريح وكافي من آية أو حديث، وكذلك عدم وجود إجماع معتبر عليه، وإنما قطع الفقهاء أن الحكم الإلهي في هذا المورد يجب أن يكون هكذا، نظراً لأهمية الموضوع، ومعرفتهم لمبادئ الإسلام من كونه لا يترك المواضيع المهمة بلا تكليف، كما حصل في فتاواهم في مسألة ولاية الحاكم والمسائل المتفرعة عنها. فلو لم يقفوا على أهمية الموضوع، لما أصدروا هذه الفتوى، وإنما أصدروا هذه الفتوى بمقدار اطلاعهم على أهمية الموضوع. ويمكن أن نجد موارد أخرى نظير هذا المورد، لم يفت فيه الفقهاء بسبب عدم إدراكهم لضرورة وأهمية الموضوع».
وحول ضرورة معرفة الموضوع، يقول الإمام الخميني:
«أما الرجوع إلى العرف في تشخيص الموضوع فصحيح لا محيص عنه إذا كان الموضوع مأخوذاً في دليل لفظي أو معقد إجماع»[33].
أما اليوم ونظراً لظهور الحكومة الإسلامية واستقرار النظام السياسي الإسلامي، وتطبيق حكومة الإسلام والسياسة، فمن جهة ندعي أن الشريعة لها قابلية الانطباق على النظام السياسي والقدرة على تنظيمه، وقادرة على إدارة المجتمع البشري، لكننا من جهة أخرى، عندما ننتقل إلى مرحلة التطبيق، نلاحظ الكثير من النواقص والعيوب التي لا يمكن معرفتها ورفعها إلاّ من خلال مسألة معرفة الموضوع وتشخيصها.
3ـ استخراج النظام بإتباع المنهج
منذ الأزمنة الغابرة، المفكرون السياسيون مهتمون جداً بمسألة منهجية الحصول على المعلومات واستخراجها، وقد أكد الإسلام أكثر من غيره على موضوع تعيين المناهج ومنهجية البحث. وقد ظهر علماء أمثال الفارابي[34]، أبن سينا[35]، ابن مسكويه[36]، ابن رشد، ابن الهيثم, وغيرهم، اهتموا بشدة بمسألة إتباع المنهج في مجال الحصول على المعلومات النظرية، وطرح النظريات الخاصة بهذه المسألة. وقد اهتم الفقهاء أيضاً بالمنهج كأحد الوسائل المهمة والأساسية؛ لأن معرفة خصوصيات ومسائل كل عالم وكيفية الحصول عليها يعد أمراً ضرورياً جداً.
فنحن اليوم لا يمكننا الاكتفاء بإتباع المناهج القديمة المستهلكة غير الفعالة، ونكتفي فقط بظواهر الكتاب «رؤية الأفراد المتمسكين بظواهر ألفاظ الكتاب والسنة، وأفكارهم لا تتجاوز حد مفهوم ظواهر الألفاظ ويفكرون بطريقة متحجرة. فكثير من هؤلاء الإفراد، يحبون الإسلام حقاً، وما التزامهم بظواهر القرآن والحديث، إلاّ عن شعورهم بالالتزام الديني، ولكن عيب منهجهم يكمن في نوع معرفتهم بالإسلام، وبالتالي لا يمكنهم أبداً الإجابة عن مسائل الفرد والمجتمع في جميع الأزمنة وفي كافة حدود الجغرافية البشرية، وسيعجزون عن الإجابة عن الكثير من المسائل، لأن ظواهر القرآن والحديث لن تكون كافية أبداً للإجابة عن جميع هذه الأسئلة».
ولهذا السبب، عندما نريد اليوم استخراج النظام السياسي المطلوب، ينبغي أن نتجاوز المناهج المتعارفة، وننتخب منهجاً وأسلوباً مفيداً وفعالاً.
وعلى كل حال ، لمنهج الاستنباط أهمية كبيرة وفعالة في الفقه، والمنهج أو Method هو فرع من النطق أو علم البيان الذي يعلمنا كيفية إظهار وبيان المواضيع والنظريات التي نسعى لتحقيقها، وكيف نتمكن بواسطته أن نطبق عملياً صفات النشاط والفعالية والفائدة في الفقه.
إن منهج استخراج المعلومات في الفقه، يمثل طرح نظرية معينة وملاحظة مدى تطابقها مع الحقائق العينية، وتتبلور هذه المناهج في التطبيقات العملية. ومجال التطبيق العملي في الفقه يمثل عمومية المواضيع التي تظهر بصورة ثابتة أو متغيرة في مقاطع زمنية ومرحلية، حيث تمثل مجال عمل الفقيه، وتحفزه للغور فيها والبحث عما يطلبه. إن خاصية المنهج في استخراج المعلومات من الفقه بأسلوب فعال ومتلائم مع مقتضيات الزمان، تكمن في كونه يظهر الفقه بمثابة وسيلة عامة لإدارة المجتمع والحكومة والسياسة.
والحقيقة أن المنهج المتبع الآن، غير قادر على تحقيق مثل هذا الهدف السامي، رغم التحسينات التي أجرت عليه «ينبغي عليكم معرفة الطريق المختصر والآمن والكثير الفائدة، ثم هيئوا بعدها الوسائل اللازمة للحركة من هذا الطريق. فلا مجال للتردد هنا! لكن إذا ما أصررتم على ذلك، وقلتم إنا نذهب دائماً من هذا الطريق، والآن أيضاً سنذهب منه، فمن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى فشله، وتعرضه لضربة موجعة. فلا ينبغي أن يظهر التحجر في الحوزات، إذ أن أكثر العلماء تجديداً في نظرياتهم، كانوا الأكثر فائدة للطلاب».
«إن فقهنا كان يتضمن التجديد دائماً، إذ كان فقهاؤنا طيلة ألف ومئتي سنة الماضية يجددون في فقههم الاستدلالي والاجتهادي. وكل من يتعرض للانحراف عن خط التجديد الصحيح، كان معروفاً ويشار إليه بالبنان، وكان معلوماً أنه سيقع في الاشتباه؛ لأنه لم يعرف الأطر الصحيحة للتجديد. وهذه الأطر، هي إطار الفكر الديني، وإطار القيم الحوزوية، وإطار القيم العلمية؛ أي أن الابتعاد عن القيم العلمية لن يكون تجديداً؛ بل نوع من الإهمال. ولحسن الحظ المنهج الفقهي المتبع اليوم في الحوزات العلمية، وهو منهج علمي منظم ومحسن، فهذا الموضوع مهم جداً وينبغي الاهتمام به».
إن التشخيص الحديث للمنهج القائم على المعلومات الجديدة المستنبطة بأسلوب صحيح، يعتبر في ظل الصعوبات الموجودة في العصر الحاضر أمراً ضرورياً وقطعياً وحتمياً وأبدياً، لعملية تقييم النقاط الأساسية في الكتاب والأحاديث والأخبار. وينبغي لهذا الغرض تأسيس المجامع واللجان العلمية المؤلفة من خيرة فضلاء الحوزة الفعالين، والعمل على الاستفادة من الأحكام القيمة في الكتاب والسنة، لاستنباط نظام سياسي وعسكري واجتماعي.
المناهج المتبعة في استخراج المعلومات:
إن حصول التحول في المناهج الفقهية مرتبط بهذه النقطة المهمة، أن المنهج الفقهي والاجتهادي الحديث ينبغي أن يكون مزيجاً من المنهجين التاليين:
1ـ المنهج العلمي
2ـ منهج علم الاجتماع
أما المنهج العلمي فهو غالباً منهج استقرائي, ويظهر هذا المنهج العلمي في الفقه في قالب السلوكية التي يقع فيها اصطلاحات مثل الربا، إعطاء الرشوة، الاختناق، الظلم، الزنا و.... ، في مستوى واحد مع اصطلاحات أخرى مثل التعاون، المساعدة، الصلح، الصدق وبقية الأساليب المسالمة، وهنا يتركز السعي أكثر على الملاحظة وتسجيل الأحداث، لأن هذا المنهج الاستقرائي الذي يمثل إتباع النظرية العلمية في المجال الفقهي، يعتبر هذا الموضوع مهماً جداً بالنسبة للمسائل الحكومية، والمتطلبات الاجتماعية، والأنظمة الإدارية و...
وعلى نحو الإجمال، يمكن التعبير عن المنهج العلمي بأنه «عبارة عن الحصول على نظام مقنن، أو الأصول العامة التي يمكن بواسطتها بيان وتوضيح الأمور الحادثة ضمن إطار معين. إذن، المنهج العلمي لا يهتم بالظواهر المنفصلة والمتفرقة، بل يهتم بالقوانين أو الخطط العامة. وليس المقصود من إتباع المنهج العلمي الوصول إلى فهرس من الأمور الحادثة المنفردة، بل الهدف منه الوصول إلى قاعدة عامة عن مبادئ الأمور».
وفي هذا المنهج، تكون للملاحظة المتكررة وللتجربة تأثير كبير، خاصة في المجال الفقهي. فالرؤية العلمية تمثل نظاماً منسجماً ومتناغماً، من يمتلك مثل هذا الفكر يعتبر صاحب رؤية خاصة تصبح منشأ إلهام مستمر له في جميع مؤلفاته وكتابته، كما هو الحال في رؤية الإمام الخميني نحو الفقه، حيث كتب الإمام كتابه (تحرير الوسيلة) باتباع مثل هذا المنهج العلمي والحكومي وفق نظام معين. فالفقه والقواعد الفقهية الفعالة لا يمكن أن تخرج عن إطار هذه الدائرة.
أصول العمل في المنهج العلمي الاجتهادي:
في المنهج العلمي الاجتهادي، ينبغي على المجتهد الأخذ بنظر الاعتبار عدد من النقاط الأساسية:
1ـ التعريف الدقيق للاصطلاحات المطلوبة: فمثلاً فيما يرتبط بالوقف وكيفية تطبيقه في الأنظمة الدينية، ينبغي على المجتهد أن يستنبط تعريفاً دقيقاً عن الوقف، الواقف، الموقوف به، الموقوف له، الموقوف عليهم و...، لأنه في غير هذه الصورة لا يمكن لعمله أن يكون بشكل منظم ومنسجم وذو هدف معين.
2ـ القيام بتحقيق اجتهادي: فمثلاً فيما يرتبط في المورد السابق (الوقف) يجب الأخذ بنظر الاعتبار بعامل التحقيق الاجتهادي، وينبغي على المحقق الاجتهادي أن يهتم في تحقيقه بالأصول الثابتة والمتغيرة، الأصول الكلية والجزئية، الأصل والفرع، وتطبيق الفروع على الأصول.
3ـ ابتعاد المحقق عن الأحكام المسبقة: أي ينبغي على المجتهد أن يجتنب العمل بالآراء الناشئة عن الاضطراب الفكري والأحكام الضيقة الخاصة بظروف معينة، وفي الواقع ينبغي عدم إطلاق الأحكام قبل عملية الاجتهاد.
4ـ ابتعاد المحقق الاجتهادي عن المصالح الشخصية أثناء التحقيق.
5ـ أن يكون الموضوع الخاص بالتحقيق الاجتهادي مفيداً وذا تطبيقات عمليه في الواقع.
منهج علم الاجتماع:
المنهج الآخر الذي يؤدي دوراً مهماً وفعالاً في عملية إيجاد فقه النظام، هو منهج علم الاجتماع؛ لأن الفقه ليس سوى تبيين أحكام الشريعة في باب المجتمع، وما لم تحصل المعرفة التامة عن المجتمع لن يمكنه أداء مثل هذا الدور.
«إن علم الاجتماع بمفهومه الواسع، يرتبط بدراسة الإنسان في المجتمع، وعالم الاجتماع يتعامل مع جميع العناصر المرتبطة بالوضع الاجتماعي، ويسعى لإيجاد النماذج السلوكية المنسجمة للحصول على فرضيات حول طبيعة المؤسسات الاجتماعية».
والهدف من هذا المنهج هو: دراسة وتحليل الأنظمة الإنسانية ثم إصدار الأحكام العامة بما يتناسب مع المجتمعات واحتياجاتها. فمثلاً إذا ما شخص الفقيه كيف ينشأ سلوك هذه المجتمعات بالنسبة لكل حادثة، فإنه سيتمكن من إصدار حكمه بالنسبة لشكل المجتمعات، آخذاً بنظر الاعتبار جوهر تطابق الشريعة مع الأمكنة والأزمنة والمجتمعات المختلفة. وهذا ما يمثل المنهج المتبع في عملية الاستنباط الفقهي بالنظر إلى الحقائق الاجتماعية.
خواص الاجتهاد الممنهج:
يتميز الاجتهاد الممنهج بثلاثة خصائص عامة وهي:
1ـ إضفاء الصبغة التطبيقية على الفقه.
2ـ كسب القدرة على التطبيق.
3ـ القدرة على الإجابة عن الاحتياجات.
إضفاء الصبغة التطبيقية على الفقه:
إن المناهج المذكورة تقع ضمن نظام عمل متعالٍ وممتاز حداً، وهي عبارة عن رؤية شاملة لجميع مسائل ومجالات الحياة البشرية، وغالباً ما يحفزنا مثل هذا السعي والحركة على تبيين ووصف النظام الحكومي المطلوب. ونظراً لقلة النصوص ووجود المحكم والمتشابه، أو العام والخاص فيها، تجعل من المناهج المذكورة ومنهجية الفقه هي المنهج المطلوب الذي يساعدنا على كشف المجالات المجهولة حتى الآن.
«إن قلة النصوص وسعة نطاق الإسلام وتطاول القرون، جعلت فقهاء الإسلام ينجحوا في كشف معظم فنون وأدوات الاستنباط في علم الحقوق، حيث أن الفهم التام لهذه الأدوات سيفتح إلى حد كبير الطريق لتطبيق أصول العدالة في القضايا اليومية».
«طبقاً للمنهج العملي فإن الفعالية والقدرة وما يثمر عنها من نتائج تجعل منهج المعرفة يساعدنا على فهم أفضل للظواهر، ويبعدنا عن السذاجة والبساطة في التفكير، ويمكننا من فهم علاقة العلة والمعلول للحوادث التي تظهر ضمن النطاق المطلوب، بحيث يبعدنا عن الانخداع والتسليم للأوهام والإدعاءات الواهية، والمعرفة التي تهمنا هنا، هي التي تساعدنا في الوصول إلى الهدف وإنجاز العمل».
إذن، يجب أن نعمل على تغيير المناهج والأساليب الفقهية القديمة، ولا نكتفي بها فقط؛ لأن الاكتفاء بالمناهج المحدودة والمتعلقة بالعهود الماضيةـ سيجعلنا نغفل عن الحقيقة.
«ما السبب الذي يمنع فضلائنا وفقهائنا ومحققينا من تطوير هذا المنهج وتحسينه وإكماله؟ وإلاّ ستؤثر بعض المسائل على المسائل الأخرى وتزيلها، وستتغير الكثير من النتائج، مما يتطلب تغيير الكثير من المناهج والأساليب، فإذا ما تغيرت هذه المناهج، ستتغير تبعاً لها الأجوبة على هذا المسائل أيضاً، وسيصبح الفقه بشكل آخر. فاليوم، لا ينبغي أن يكتفي المحقق بالبحث في نفس الموضوع الذي بحث فيه الشيخ الأنصاري مثلاً، فلا يكتفي أن يزيد في عمق هذا البحث؛ بل ينبغي على المحقق أن يجد آفاقاً جديدة، وقد حدث هذا الأمر في الماضي أيضاً، فالشيخ الأنصاري مثلاً، قد اكتشف مسألة الحكومة وأبدعها من خلال النسبة بين دليلين، ثم جاء بعده الآخرون وعمدوا إلى تعميق البحث وتوسيعه ومناقشته».
إذن تكون النتيجة المهمة الأولى، هي إيجاد تحول ماهوي وعملي في الفقه. فالمواضيع الفقهية تعتبر تبعاً للتحولات الحاصلة في الحياة الاجتماعية، مما يؤدي إلى تغيير في ماهيتها، ويحدث هذا التغيير في المقولات العرفية بصورة تدريجية، وبشكل مخفي وغير محسوس، كما هو الحال في مسألة النقد، حيث كان سابقاً بشكل مسكوكات معدنية، ثم تحولت إلى عملة ورقية، وهكذا أخذت هذه المقولة تتعرض للتحول الماهوي باستمرار، لذا العملة النقدية في هذه الأزمنة تختلف عما كانت عليه قبل خمسمائة أو ألف سنة، ولا تشتركا معاً إلاّ بالاسم فقط، أما ماهيتها فقد طرأت عليها تغييرات محسوسة، فالفقه يتغير ويتحول باستمرار بالتناسب مع التحولات والتغييرات الماهوية والموضوعية، وتتغير معها ماهية الفقه أيضاً وتتعرض للتحول والتبدل؛ أي تتعرض للتحول والتبدل دون حدوث تغير في محتوى الشريعة وانطباق المعلومات المستنبطة مع روح الشريعة.
كسب القدرة على التطبيق:
النتيجة الأخرى للتطبيق، هي القدرة على تطبيق المسائل المتغيرة حسب مقتضيات الزمان مع تعاليم الشريعة. فمن الناحية العملية، يتم الاستفادة من عملية التطبيق في دراسة وتحليل عمل المؤسسات والنظريات السياسية في البلاد في المراحل التاريخية المختلفة، وإيجاد نقاط التشابه والاختلاف التي يمكن أن تظهر تبعاً للأوضاع والظروف الاجتماعية السائدة في الحكومات المختلفة، حيث تتلخص القدرة التطبيقية على استخراج واستنباط حكمها من النصوص الدينية والفقهية.
ففي مقام الاستنباط، يتعامل الفقيه مع ثلاثة أنواع من القوانين:
1ـ القوانين الثابتة في الشريعة: كالصلاة والصوم والحج و... فهي قوانين ثابتة أبدية، لا تتعرض للتغيير أبداً.
2ـ القوانين المفسرة للوحي: فمثلاً جاءت مسألة الدية في القرآن الكريم بصورة عامة، لكن تطرح معها قوانين تعتبر مفسرة للوحي وتبين المقدار المحدد في مسألة الدية.
3ـ القوانين المتغيرة، التي تتغير تبعاً للتحولات والتغييرات الاجتماعية، مثل: الكمبياله، الضمان الاجتماعي، السرقفلية، زرع الأعضاء، نظام المدينة والمواطنة.
وحول هذا الموضوع يقول آية الله الميرزا النائيني[37]:
«اعلم أن مجموعة الوظائف الخاصة بالنظام والمحافظة على الدولة وسياسة أمور الأمة، إما أن تكون أحكاماً أولية متكفلة بأصل جدول الأعمال الخاص بالوظائف النوعية، أو ثانوية تتضمن العقوبات الخاصة بمخالفة الأحكام الأولية، وعلى كل تقدير، لن تخرج عن هذين القسمين، سواء بالضرورة، أو بالنصوص التي تعين وظيفتها العملية بشكل خاص، وحكمها موجود في الشريعة المطهرة، أو بدون النصوص، حيث تكون وظيفتها العملية غير معينة لعدم اندراجها تحت ضابطة وميزان خاص، وتوكل إلى الرأي والترجيح النوعي. ومن الواضح أننا لازلنا في القسم الأول، لا يمكننا تصور حدوث تغيير واختلاف فيه باختلاف الأعصار والأمصار، ولا يمكن تصور وظيفة وسلوك خاص به والتعبد بنص شرعي إلى قيام الساعة. كما أن القسم الثاني، يكون تابعاً للمصالح ومقتضيات الأعصار والأمصار ويختلف ويتغير تبعاً لاختلافها».
القدرة على الاستجابة للمتطلبات اللازمة:
الشريعة لا تختص بمرحلة عصر النـزول فقط، وإنما نـزلت لجميع العصور والمراحل الزمنية فلو أردنا تفسير الشريعة بما يتلائم مع أوضاع وظروف عصر النـزول فقط لما استطعنا فهم المتطلبات أو استنباطها، وإنما تحتاج هذه العملية إلى الاستفادة من منهج وأسلوب فعال في استنباطها، وهذه المسألة تتطلب بدورها أمراً مهماً آخر هو إيجاد حلقة وصل بين الفقه والعلوم المعاصرة، وقد تمكنت نظريات الإمام الخميني من الإجابة عن الكثير من هذه المتطلبات.
النتيجة:
النتيجة التي خلصنا إليها من الأقسام السابقة، هي أننا لا نستطيع التمسك بالظواهر، لأن الجهود على الظواهر لا يساعدنا في استنباط الأحكام الحكومية والنظام الاجتماعي والنظام الحكومي.
«في الماضي وعندما كان الشيعة مستبعدين عن الحكومة، لم يهتم الفقهاء كثيراً بذلك القسم من الفقه أو المعرفة الدينية الذي يتضمن بشكل عام الأحكام الاجتماعية أو الحكومية، ويتناول مسألة التنظيم الاجتماعي؛ بل إن بعضهم لم يكن يهتم أساساً بالأحكام الاجتماعية، التي يقتصر موضوعها على المجتمع، مثل الأحكام المتعلقة بتأمين القوة الدفاعية في حد التصدي للأعداء، وأحكام قتال الكفار والمشركين، الدعوة إلى الإسلام، الصلح، إنقاذ المستضعفين من سلطة الطواغيت، العمل على إقامة الحكومة الإسلامية، وتلك التي كان سيد الشهداء يطلق عليها الإصلاح في أمة جده، واهتم الشارع المقدس بها كثيراً، لكنها لم تكن مورد اهتمام الفقهاء الماضين».
أما فيما يتعلق باستفادة فقه الحكومة من العلوم الأخرى، فينبغي القول: يختص الفقه بالقسم الأعظم من النصوص الإسلامية, فالمذاهب الفقهية، قد وسعت مناهجها الأساسية لتشمل المجالات المختلفة في هذا العلم، وجمعوا مجموعة لا بأس بها. وتقريباً يذعن الجميع بهذه النقطة أن النصوص الإسلامية قد تضمنت المجالات العلمية المختلفة، بحيث كل واحدة من هذه المجالات يكمل بعضها البعض، لذا من الضروري الاستفادة من العلوم الأخرى كعلم النفس، علم الاجتماع، والطب و... في عملية الاستنباط الفقهي القائم على نظام خاص. وهذا الموضوع يتطلب في حد ذاته بحثاً مستقلاً.
ــــــــــــــــــــــ
[1] العلامة الطباطبائي، تفسير الميزان، ج4، ص92.
[2] نفس المصدر.
[3] ولاية الفقيه أو الجهاد الأكبر، ص80.
[4] صحيفة انقلاب، قسم الوصية، عن (صحيفة قدس)، ص99.
[5] الإمام الخميني، ولاية الفقيه والحكومة إسلامية، ص 80.
[6] الإمام الخميني، صحيفة انقلاب، البيان الثالث للثورة، ص74.
[7] المصدر السابق، ص100.
[8] أبو نصر محمد الفارابي ولد عام (260 هـ/874 م) في فاراب (أرض خراسان), وتوفي عام(339 هـ/950 م) فيلسوف مسلم أتقن العلوم الحكمية، وبرع في العلوم الرياضية،يسير سيرة الفلاسفة المتقدمين، وكانت له قوة في صناعة الطب. سمي الفارابي "المعلم الثاني" نسبة للمعلم الأول أرسطو والإطلاق بسبب اهتمامه بالمنطق لأن الفارابي هو شارح مؤلفات أرسطو المنطقية.
[9] هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، الملقب بالشيخ الرئيس، (370 هـ. 980 م) (427 هـ. 1037م) فيلسوف، طبيب وعالم، ومن عظام رجال الفكر في الإسلام ومن أشهر فلاسفة الشرق وأطبائه.
[10] الإمام الخميني، كتاب البيع، ج2، ص461.
[11] الإمام الخميني، ولاية الفقيه والحكومة إسلامية ، ص: 26.
[12] من لا يحضره الفقيه، ج: 4, ص: 343.
[13] الإمام الخميني، كتاب البيع، ج: 2، ص: 541 ـ 542.
[14] المصدر السابق، ص440.
[15] الإمام الخميني، ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية، ص: 32.
[16] الإمام الخميني، صحيفة انقلاب، قسم البيان الأول للثورة، (عن صحيفة قدس)، ص34.
[17] الإمام الخميني، ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية، ص28.
[18] الإمام الخميني، وصيت نامه سياسي الهي.
[19] ذبيح الله منصوري، پيامبري كه از نو بايد شناخت، ص41.
[20] مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، اختاره الرسول أن يكون سفيره إلى المدينة, يفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة, ويدخل غيرهم في دين الله, ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم، وبها كان أول سفير للإسلام.
[21] جلال الدين الفارسي، انقلاب تكاملي إسلام، ص106.
[22] المصدر السابق، ص107.
[23] صحيفة نور، ج: 8، ص:20.
[24] الإمام الخميني، وصيت نامه سياسي الهي.
[25] الشهيد مطهري، پيرامون انقلاب إسلامي، ص: 94 ـ 95.
[26] المصدر السابق، ص: 41.
[27] المصدر السابق، ص: 93.
[28] الإمام الخميني، صحيفة انقلاب، منشور روحانيت، ص: 80.
[29] الإمام الخميني، كتاب البيع، ج: 2، ص: 544.
[30] الإمام الخميني، الرسائل، ص: 101.
[31] الإمام الخميني، ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية، ص: 177.
[32] نص كلام الإمام أمير المؤمنين(ع) في نهج البلاغة: (إِنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْكُمُ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ لَكُمْ حُدُوداً فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَنَهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاء فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ لَكُمْ عَنْ أَشْيَاء وَلَمْ يَدَعْهَا نِسْيَاناً فَلاَ تَتَكَلَّفُوهَا).
[33] الإمام الخميني: البيع: 1/331.
[34] تقدمت الإشارة إليه.
[35] أيضا تقدمت الإشارة إليه.
[36] أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب المشهور بابن مسكويه (932-1030) فيلسوف ومؤرخ وشاعر فارسي بارز من أبناء مدينة الري في إيران الحالية. كان ناشطاً في الميدان السياسي زمن الدولة البويهية، حيث كان موظفاً رسمياً في تلك الدولة وعمل في بغداد وأصفهان ومدينة الري.
[37] محمد حسين بن عبد الرحيم النائيني، ولد في مدينة نائين التابعة لمحافظة أصفهان سنة 1273هـ، نشأ في أسرة علمية دينية معروفة. درس المبادئ وبعض أوليات العلوم في قرية نائين، ثم هاجر إلى أصفهان، فأكمل فيها المقدمات، ثم حضر في الفقه لدى الشيخ محمد باقر الأصفهاني، وفي الأصول على الميرزا أبو المعالي الكلباسي، وفي الحكمة والكلام لدى الشيخ جهانكير. هاجر إلى العراق، واستقر في مدينة سامراء سنة 1303هـ، وحضر درس السيد إسماعيل الصدر، ودرس السيد محمد الفشاراكي الأصفهاني، ثم أخذ يحضر درس المجدد والشيرازي ولازمه حتى وفاته سنة 1312هـ، ثم لازم درس السيد إسماعيل الصدر حتى وفاته عام 1314هـ، وهاجر معه إلى مدينة كربلاء المقدسة في تلك السنة، وبقي معه عدّة سنين فيها. انتقل بعد ذلك إلى النجف الأشرف، واستقل بالتدريس بعد وفاة الآخوند الخراساني، وكان مجلسه حافلاً برجال الفضل، ازدادت حوزته اتساعاً في عهد شيخ الشريعة الأصفهاني. أصبح المرجع الديني في النجف الأشرف بعد وفاة شيخ الشريعة، فرجع إليه الناس في التقليد والفتوى إلى جانب السيد أبو الحسن الأصفهاني. تميز النائيني عن أقرانه وعلماء عصره بمكانته العلمية الخاصة بينهم، حيث شكلت آراؤه ونظرياته مرجعاً لكثير من المسائل وخاصة في الفكر الأصولي لا غنى للدارس من التعرض إليها أو الاعتماد عليها، فخط بذلك معالم مدرسة أصولية، عرفت بمدرسة "النائيني". توفي في النجف الأشرف سنة 1355هـ، ودفن هناك. أبرز مؤلفاته: رسالة لعمل المقلّدين، وحواش على العروة الوثقى، ورسالة في اللباس المشكوك، ورسالة في التعبدي والتوصلي، وتقريرات بحثه في الأصول المسمى أجود التقريرات لتلميذه السيد الخوئي، وتنبيه الأمة وتنـزيه الملة.
تعليقات الزوار