لقد شكّلت الحكومة الإسلامية الهم المركزي للإمام على طول حياته السياسية حيث نظر إلى الواقع الإسلامي، في ظل غياب هذه الحكومة، وكمّ التنظيرات الاستعمارية الهائل المفسّر لغيابها، ومقولة فصل الدين عن السياسة، وخمول الفقه الإسلامي حول موضوع القيادة الإسلامية في زمن الغيبة، فوجد أنّ غياب هذه الحكومة هو في الواقع تعطيل للرسالة الإسلامية وقيمتها الكبرى، وعلى خلفية هذه الرؤية بدأ الإمام مسيرته المضنية للنهوض بالواقع الإسلامي إلى مستوى الحكومة والدولة, وتمنّى قبل أكثر من ثلاثين سنة تحقيق هذا الحلم عبر كتابه الشهير (الحكومة الإسلامية) الذي كان في الأساس مجموعة محاضرات ألقاها في منفاه في مدينة النجف الأشرف على طلابه، ولقد قال في خاتمة هذا الكتاب: (لقد كلّفنا بتقديم أطروحة الحكومة الإسلامية على الناس, ونتمنّى أن تحدث هذه الأطروحة في نفوس الناس يقظة وحماساً ووعياً، ترتكز عليه أسس ودعائم الدولة الإسلامية الحديثة)[1].

 

منذ ذلك التاريخ بدأ الإمام يؤسس الوعي الإسلامي في الوسط الديني والحوزوي على الإسلام الحاكم، وعلى القانون الإسلامي، والسلطة المنفّذة له، فبلور أطروحة ولاية الفقيه، وناقش نظام الحكم الإسلامي، ومواصفات الحاكم الإسلامي وشكّل الحكومة الإسلامية ومؤسساتها ونظام الضرائب، وقال ما نصّه: (وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا)[2].

 

ويقول الإمام أيضاً: (علينا أن نسعى بجد لتشكيل الحكومة الإسلامية ونبدأ عملنا بالنشاط الدعائي ونتقدم فيه، ففي كل العالم على مرّ العصور كانت الأفكار تتفاعل عند مجموعة من الأشخاص، ثم يكون تصميم وتخطيط، ثم بدء العمل)[3].

 

لقد تفاعلت أفكار الإمام تلك وتجاوزت مراحل التصميم والتخطيط، ودخلت مرحلة الثورة، ومن ثم نجاح هذه الثورة التي شكّلت أول حكومة إسلامية بعدها ولتبدأ الجولة الإسلامية مخاضها الأصعب بعد الانتصار، وقد أعطى الإمام شكلاً ومضموناً خاصاً لهذه الدولة وأقامها على مؤسسات قيادية، وحدد شخصيتها الإسلامية من خلال الدستور، ولقد حدد الدستور سياسة هذه الدولة الداخلية والخارجية، وأكّدت نصوصه الصريحة على مبدأ الاستقلال السياسي، ورسم الخطوط العامة لمبدأ هذا الاستقلال، وأخذت الدولة على عاتقها عبر مواد هذا الدستور دعم مستضعفي العالم في الفقرة السادسة عشر من المادة الثالثة، ولقد أكّد الدستور أيضاً قيادة الفقيه العادل لهذه الدولة وتشخيصه من قِبَل مجلس الخبراء.

 

لقد جسّد دستور الدولة الإسلامية، روح العقيدة الإسلامية وأسس على ضوء الفكر الإسلامي، المقاوم للظلم والاضطهاد الداخلي والخارجي، كما أنّ مواد الدستور ومقرّراته أخضعت للفقه الإسلامي الثوري الذي يحدد توجّهات الدولة وحركتها.

 

ولقد استطاع الإمام بعد جهاد وجهود أن يضفي الطابع الثوري الإسلامي على الدولة التي سعى إليها، إذ إنه كان يقول: (ولكن الأعداء أظهروا الإسلام بغير هذا المظهر، فلقد رسموا له صورة مشوّهة في أذهان العامة من الناس، وغرسوها حتى في المجاميع العلمية، وكان هدفهم من وراء ذلك إخماد جذوته وإطفاء طابعه الثوري الحيوي)[4].

 

ولا يمكن للإسلام أن يكون بغير هذا الطابع الثوري, ولا يمكن للدولة الإسلامية أن تأخذ صفتها إذا جرّدت عن هذا الطابع الثوري.

 

يقول الشهيد مطهري: (إنّ الإسلام لا ينفصل عن الثورة, وإنّ بذور الثورة موجودة في التعاليم الإسلامية؛ ولهذا السبب، فإن الاستفهام يطرح نفسه للمسلمين الثوار: ماذا يجب أن نختار في المستقبل: الثورة الإسلامية أم الإسلام الثوري؟).

 

ويجيب الشهيد مطهري على هذا السؤال بالقول : (الثورة الإسلامية تعني تلك الطريقة التي هدفها الإسلام والقيم الإسلامية، لذلك فإن الانتفاضة والثورة تستهدف تثبيت واستقرار القيم الإسلامية لا غير، وبتعبير آخر، فإن القتال يعتبر وسيلة وليس هدفاً في هذا المستقبل، غير أنّ هنالك مجموعة من الناس يخلطون بين الثورة الإسلامية، والإسلام الثوري، أي: أن هدفهم هو القتال والثورة، وأما الإسلام فهو وسيلة لهذه الثورة)[5].

 

وفي أحلك الظروف والأوقات لا يمكن للدولة الإسلامية ـ ما يرى الإمام الخميني ـ أن تتخلّى عن صفتها الثورية، أي: صفتها المقاومة للضغط والابتزاز والظلم الدولي، حتى إذا تلى هذا الضغط والابتزاز بمقاطعة سياسية ودبلوماسية، كما حصل على إثر فتوى الإمام بقتل المرتد( سلمان رشدي) بسبب كتابه( الآيات الشيطانية).

 

إذ إنّ الإمام واجه محاولة المقاطعة تلك بالقول: أن ( لا ضرورة أبداً أن نهتمّ في هذه الظروف والأجواء بعلاقات وروابط واسعة، إذ قد يتصور الأعداء أننا أصبحنا نهتم بالعلاقة بهم، بحيث أننا نسكت ولا نحرك ساكناً)[6].

 

وإزاء الحصار الاقتصادي الذي فرض على الدولة الإسلامية بعد وقت قصير من تأسيسها كان يقول: (ماذا نصنع بالعلاقات مع الذين يريدون نهبنا، فهل علاقاتنا معهم غير علاقات الناهب بالمنهوب؟، ولماذا؟ فليغلقوا الأبواب، وليحاربونا اقتصادياً)[7].

 

ومن هنا يتّضح أنّ الدولة القائمة على الإسلام المحمدي الأصيل لا يمكن إلا أن تكون دولة ثورية، ما دامت القوى الدولية الناهبة والظالمة موجودة، وستستمر هذه الثورية حتى ظهور الإمام المنتظر(عج).

 

يقول الإمام: (ونأمل أن تكون هذه الثورة مشعلاً إلهياً بحيث تبعث إلى إيجاد انفجار عظيم في بلاد المستضعفين المظلومين وأن تشكّل حركة في العالم وتنطلق ثورة تستمر حتى تتصل بطلوع فجر ثورة بقية الله الأعظم أرواحنا له الفداء)، يقول أيضاً: (إنّ حربنا كانت حرب الحق ضد الباطل فلا نهاية لها، حربنا كانت حرب الفقر ضد الغنى، وحربنا كانت حرب الإيمان ضد الكفر، وهذه الحرب مستمرة منذ آدم إلى نهاية الحياة)[8].

 

إنّ الحقيقة الثورية للفكر الإسلامي والدولة الإسلامية التي أسست عليها تشكّل إجابة جديدة على تساؤل طالما ردد في المحافل السياسية والمنابر الإعلامية حول الثورة والدولة في إيران، فالسؤال الذي تردد بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران هو: إنّ الإمام أثبت أنه رجل ثورة، فهل يثبت أنه رجل دولة؟ ولقد بقي هذا السؤال يطرح بصيغ متعددة وفي أوقات مختلفة، هل حان وقت الانتقال من الثورة إلى الدولة؟

 

لقد اعتاد السياسيون في العالم على طرح مثل هذه الأسئلة إزاء أي ثورة في العالم بعد تجاوزها مرحلة الانتصار؛ لأنه من غير الممكن وفق المقاييس العالمية السائدة أن تكون مرحلة ما قبل الانتصار تكراراً لمرحلة ما بعده أي: مرحلة الدولة، ولابدّ للدولة وفق هذه الرؤية التقليدية أن تندمج في النظام الدولي إما خاضعة وتابعة لهذا النظام، وإما أن يقوم الصراع بينهما وبين أعدائها على صيغ تفاهمية غير مباشرة، وبحيث تفرز هذه الصيغ مناطق مفتوحة، ومناطق مغلقة لهذا الصراع، وهذا المنطق الأخير ربما لا ينطبق على دول بحدود الدولة الإسلامية في إيران، إنه يتماشى فقط مع الدول الكبرى وفيما بينها وفق التقاليد الدولية السائدة، ولذا فإن سؤال: الانتقال من الثورة إلى الدولة، يعني فيما يعنيه الاندماج المجرد للدولة والتخلّي عن دورها الثوري، ودائماً ما يتردد طرح هذا السؤال متزامناً مع ما يشار حول سياسة الانفتاح على الغرب، وتكون النتيجة عدم تعايش الانفتاح مع الثورة، وسيشطب أحدهما الآخر، فإما الانتفاح والتعايش والاندماج الخاضع، وإما الثورية.

 

إنّ هذا المقياس التقليدي السائد يُعدّ مقياساً مغلوطاً مع حالة إيران الإسلامية الثورية من وجهة نظر الإمام؛ لأن شكل الدولة في إيران، قام وتأسّس على تقنين المهمة الثورية وتجذيرها دستورياً ومؤسساتياً وقانونياً، وذلك من خلال الفكر الإسلامي المحمدي الأصيل الذي لا ينفصل عن المعنى الثوري, وعبر إشراف الإمام الذي ساهم بضخ البلاد بمؤسسات ثورية تشكّل ضمانة لخط الثورة الاستقلالي سياسياً عن الشرق والغرب، وبناءً على ذلك فإن سياسة التكتيك الثوري لا تحقق معنى الانفتاح والانغلاق الذي يثير دائماً سؤال الانتقال من الثورة إلى الدولة، وربما أنّ موقف الإمام من الحرب المفروضة التي شنّها نظام صدام حسين يعتبر خير نموذج لهذا التكتيك.

 

يقول الإمام في هذا الإطار: (طبعاً نحن معترفون أنّ موانع كثيرة وجدت مع طريق التنفيذ بحيث اخترنا أن نغيّر أسلوبنا وتكتيكنا, فلماذا نستصغر أنفسنا وشعبنا ومسؤولي بلدنا ونوجز كل العقل وتدبير الأمور في تفكير الآخرين؟)[9].

 

ومن هنا يتّضح أنّ مرحلة الانتقال (القدرية) من الثورة إلى الدولة في ثورات العالم لم تحصل في تجربة إيران الإسلامية إلا بالشكل الذي قنّنته سياسة الثورة داخل مؤسسات الدولة، لينتج عن هذا التقنين ما أسميناه بالدولة الثورية التي يجب أن لا تخضع في كل الظروف إلى ألاعيب الدبلوماسية العالمية ـ كما يرى الإمام ـ وهو يقول في نفس خطابه المذكور: (خلاصة الكلام أنه يجب علينا وبقطع النظر عن الغرب المحتال والشرق المعتدي ودون أن نشغل بالنا أبداً بالدبلوماسية التي تحكم العالم، أن نكون بصدد تحقيق الوجود العملي الإسلامي.

 

وإلا فما دام الفقه مختزناً في الكتب وصدور العلماء، فلن تواجه ناهبي العالم أية مشكلة)[10].

 

إنّ (هذا الارتقاء عمودياً بالمعنى الرياضي للكلمة، أنه لولبي بحيث تصّاعد الأمة فيه من خلال دوائره، وكل واحدة منها تشكّل مرحلة تطوّرية من مراحل صعود المشروع الحضاري الإسلامي باتجاه مَثَله الأعلى الربّاني، وتتكامل فيها الدعوة بالثورة والدولة، وتحتضن الثورة المرتقبة الدعوة والدولة، وترتفع الدولة إلى الدعوة والثورة فتدفعهما باتجاه حركة تصاعدية جديدة.

 

وهكذا يتطور المشروع الإسلامي وينمو بحركة الأمة وعبورها التاريخي ليعمّ العالم، وتتحقق أهداف الاستخلاف الإلهي للإنسان على الأرض.

 

وهكذا تتوحّد الدعوة والتبليغ والثورة والدولة في مدار واحد فلا تكتفي إحداهما بذاتها أبداً. وتغدو الدعوة دائمة والثورة دائمة والحكومة مستمرة والنمو والتوسّع والتقدم)[11].

 

لقد اتّضح أنه ما بين مرحلة الثورة ومرحلة الدولة، لا توجد انعطافة حاسمة تؤثّر على المضمون الثوري، ففي حالة الدولة الإسلامية ستكون الانعطافة تقنينية وبما تعطي المعنى الثوري قوةً وتنظيماً، وتبعده عن الاجتهاد اللامنضبط الذي قد يؤدّي به إلى السلبية، والتحوّل إلى الدولة لا يعني بأي شكل من الأشكال التراجع عن المبادئ الإسلامية الثورية تحت ضغط رغبة الاندماج في المحيط الدولي والاندماج مع العرف الدبلوماسي الدولي السائد، فهذا الاندماج سيفقد الدولة قيمتها الفكرية ومبادئها الرسالية، كما أنه سيُربك مبرر وجودها؛ لأنها قامت في الأساس لمقاومة الظلم الذي يمثله النظام الدولي وقواه الكبرى وتقاليده الدبلوماسية، وبالتأكيد أنّ هذه الدولة بالمقابل تعمل وفق تقاليدها الخاصة النابعة من سياستها الاستقلالية وتأسيس نظام للعلاقات المتكافئة وغير القائمة على مبدأ الاستغلال.

 

ونظام العلاقات هذا يتيح للدولة الإسلامية الثورية فرصة الحوار وإقامة العلاقات السياسية والتجارية والاقتصادية مع أي طرف في العالم على أسس متوازنة هي التي تحددها وتضع ضوابطها.

 

وعليه لاحظنا أنّ تجربة إيران الإسلامية استطاعت خلال تجربة الإمام أن تمارس علاقاتها مع معظم دول العالم، وفق ضوابطها، وإذا كانت دول العالم الكبرى ترفض أو تتردّد في الاستجابة إلى هذا النوع من العلاقات المتكافئة، فإن أغلبية دول العالم الصغرى والمتوسطة، وتلك الدول الكبرى البعيدة نوعاً ما عن منطق الظلم بشكله الأميركي والسوفييتي السابق تعاملت مع الدول الإسلامية وفق منطق التفاهم والتوازن الذي تسعى إليه، وإذا كانت هذه التجربة تُدلّل على شيء، فهي تُدلّل على أنّ الساحة الدولية ليست ساحة مقفلة بقيود وضغوط رموز الغرب والشرق الكبار، بل إنّ وجود الدولة الإسلامية الثورية شكّل متنفّساً للعديد من دول العالم؛ لكي تبحث عن صيغ معدّلة لعلاقاتها وبالقدر الذي يوفّر لها نوعاً من الاستقلالية والتخلّص من الضغوط.

 

وهذا بالضبط ما يفسّر ـ من جهة ثانية ـ ازدياد وتيرة الضغط الأميركي والأوروبي الغربي على إيران، ومحاولة إدخالها في دوامة جديدة كلما تجاوزت دوامة قديمة، والهدف الأكبر يتمثل دائماً بإفشال تجربتها، قبل أن تتجذّر وتتكرّس وتتحوّل إلى نموذج يدفع حلفاء الغرب إلى التمرّد على الضغوط، أو الإنفلات من القبضة الحديدية إلى شكل آخر من أشكال العلاقة الذي لا يرضى الكبار، إذ من الخطأ اعتبار كل دول العالم محكومة إلى قوانين التبعية لرموز هذا العالم، كما أنه من الخطأ اعتبار الدول التابعة هي على نفس المستوى والوتيرة والدرجة والشكل من التبعية.

 

لقد شكّلت الدولة الإسلامية الثورية في إيران متنفّساً للبعض داخل الدبلوماسية الدولية، وشكّلت في أحيان أخرى محفّزاً لرفض أشكال هذه المعادلة الصعبة وآثارها العنيفة في مصادرة استقلال الآخرين، ولقد استفادت من نموذج إيران الإسلامي الثوري دول عديدة لتُحقّق وضعاً دبلوماسياً أو اقتصادياً أو سياسياً أفضل مما كانت عليه في السابق في فناء النظام الدولي، وأصبح في ظل وجود الدولة الإسلامية الثورية في العالم العديد من الحكّام من يتحدّثون عن ضغط شعوبهم كسبب لرفض بعض السياسات الدولية.

 

إذاً، لا انتقال من الثورة إلى الدولة في تجربة إيران الإسلامية ـ وفقاً لتصوّر الإمام ـ إنما تقنين الثورة داخل الدولة لتتحوّل إلى دولة إسلامية ثورية، تمارس نفس سياسة الثورة وتؤدّي نفس مبادئها، بعدما اتخذت هذه السياسة وهذه المبادئ صفتها الدستورية والقانونية، ومن هنا بالذات جاء الخلط في خطاب الإمام بين مفردات الثورة الإسلامية، والدولة الإسلامية، حتى بعد انتصار الثورة وتحوّلها إلى جمهورية ودولة، لا بل حتى في وصيّته السياسية الإلهية إذ يقول: (أي فخر يفوق ويسمو على أنّ أميركا رغم كل ادّعاءاتها واستعراضاتها الحربية، ورغم كل تلك الدول المستعبدة لها والسيطرة على الثروات الهائلة للشعوب المظلومة العاجزة، وامتلاكها لكل وسائل الإعلام أصبحت عاجزة ذليلة أمام الشعب الإيراني الغيور ودولة حضرة بقية الله أرواحنا لمقدمه الفداء).

 

ويقول الإمام أيضاً: (ولا شك في أن سر بقاء الثورة الإسلامية هو نفس سر النصر، ويعرف الشعب سر النصر وستقرأ الأجيال الآتية أنّ ركنيه الأصيلين هما: الدافع الإلهي والهدف السامي للحكومة الإسلامية )[12].

 

من هنا يتّضح أنّ الدولة الإسلامية تساوي في خطاب الإمام الثورة، والثورة تعني الدولة، إلا أنّ للدولة تكتيكها السياسي، وطبيعة عملها الخاص في السياسة الخارجية، وتمارس دورها الثوري حتى من خلال منظومة العلاقات التي تحددها هي، ويقول الإمام الخميني: (وصيتي إلى وزراء الخارجية في هذا الزمان والأزمنة التالية أنّ مسؤوليتكم كبيرة جداً, إنّ في صلاح وتحول الوزارة والسفارات، وإن في السياسة الخارجية لحفظ الاستقلال ومصالح البلد والروابط الحسنة مع الدول التي لا تنوي التدخل في أمور بلدنا، واجتنبوا بكل صلابة كل أمر فيه شائبة التبعية بكل أبعادها، ويجب أنّ تعلموا أن التبعية في بعض الأمور بالرغم من أنه يمكن أن يكون لها ظاهر خادع أو منفعة وفائدة في الحاضر إلا أنها في النتيجة تجر جذر البلد إلى الدمار، واسعوا في تحسين العلاقات مع الدول الإسلامية وإيقاظ رجال الحكم وادعوا إلى الوحدة والاتحاد فإن الله معكم)[13].

 

لقد مارست الدولة الإسلامية في إيران دورها في تجسيد مبادئ الإسلام الثورية في الداخل، وعلى صعيد السياسة الخارجية، وفي تصدّيها للضغوط والابتزازات والتحرشّات الدولية خلال سنوات الإمام، وهي بالتالي تحوّلت إلى مركز لحركة المشروع الإسلامي في أبعاده المختلفة، وبما لا يدع مجالاً للكلام السياسي عن مرحلة الثورة والانتقال منها إلى مرحلة الدولة، فهذا اللون من ألوان الكلام والتفكير إذا كان له مصاديق إزاء الثورات الأخرى، فهو لا يمكن أن يكون مقياساً للدولة الإسلامية في إيران من وجهة نظر الإمام، والانتقال إذا كان له معنى فهو ـ كما أسلفنا ـ معنى تقنيني للمضمون الثوري الإسلامي في النص الدستوري، وفي المؤسسة الإسلامية الثورية داخل الدولة، ومعنى له علاقة بأساليب عمل الدولة وساحات الانطلاق أمامها، إلا أنّ أعداء التجربة الإسلامية غالباً ما يوحون بأن معنى الانتقال من الثورة إلى الدولة يساوي خضوع هذه الدولة إلى النمط الدبلوماسي التبعي، وغالباً ما يقرن هذا الانتقال بمعنى التعايش مع الغرب، وإلا من وجهة نظر هؤلاء الأعداء فإن الدولة الإسلامية تعيش العزلة الدبلوماسية والفشل السياسي والدبلوماسي!!

 

وعبر هذه الإيحاءات السياسية والإعلامية يراد ممارسة الضغط النفسي على التجربة الإسلامية.

 

ويراد وضع حد لنفوذها السياسي الخارجي, وإفشال نظام علاقاتها الخارجية القائم على التوازن وتحقيق المعنى السياسي الاستقلالي, ويراد لها أن تسقط تحت ثقل الضغوط الممارسة إزاءها في أحضان الغرب والنظام الدولي، ونمط تقاليد الدبلوماسية السائدة، ويراد لها إذا لم يتحقق هذا السقوط بمعناه الاحتوائي أن تهتزّ من الداخل في ظل هذا الدفق الإعلامي اللامتناهي من الأفكار المسمومة التي تطرق يومياً آذان الشعب الإيراني المسلم.

 

لقد نجح الإمام الخميني ومن خلال تكثيف خطابه الثوري أن يؤسّس الدولة الإسلامية الثورية, واستطاع أن يبلور شخصية وسياسة ومضمون حركة الدولة، وبما يعطيها الديمومة الثورية كركيزة للمشروع الإسلامي، وكنتيجة بعد غياب لتواصلية الخطاب الثوري الإسلامي الذي أوضح الإمام منهجيته وصفاته وملامحه ومكوّناته، ومواصلة لسياسة الكشف التي يقوم بها هذا الخطاب، ومن ثم إشاعة الوعي الثوري في العالم، ولقد مثّلت ثلاثية (الخطاب الإسلامي الثوري، والدولة الإسلامية الثورية، والوعي الإسلامي الثوري)، جدلية حركة المشروع الإسلامي النضهوي المتصاعدة إلى حد الصراع اليومي المفتوح الذي لا يهدأ بين الحالة الإسلامية بكل أشكالها من جهة، وبين الدول الكبرى الاستعمارية وعملائها وأدواتها من جهة ثانية.

 

من هنا لابدّ من القول: إنّ هذه الرؤية الإستراتيجية، رافقها فعل تأسيسي استراتيجي هو الصانع لهذه الرؤية، والمرجع الذي تقوم على أساسه؛ ولذلك لابدّ لنا أن نستعرض التأسيس الاستراتيجي في حياة الإمام السياسية نظرياً وعملياً، والذي أطلق الإمام استشرافاته على ضوئه.

 

وهذا الكلام يقودنا بالتأكيد إلى حركة الإمام بدءاً بالدولة الإسلامية، وانتهاءً بالوصية السياسية الإلهية، ومروراً بالخطاب الثوري والوعي الثوري الذي أصبح فيما بعد مصدراً جدلياً من مصادر الفعل الإسلامي المؤثّر في الساحة الإسلامية، وفي الساحة العالمية وأخذ يتصاعد بشكل لا غبار عليه كحصيلة واضحة لمجمل عوامل التأسيس المذكورة.

 

وإذا كان لنا أن نحدد خطوط هذه الحركة وأن نسلّط الأضواء عليها ولو بسرعة، لابدّ أن نبدأ بتشكيل الدولة الإسلامية التي أرسى أسسها الإمام الخميني.

 

فالإمام ولكي يعطي هذه الدولة سمة الثورية الدائمة سعى إلى بنائها بطريقة تختلف تماماً عن الدولة التقليدية.

 

وبمعنى آخر: إنه أعطاها صفة المؤسسة في كل مجال من مجالاتها، وأدخل الأطر الثورية لكل مفاصل هيكلها التقليدي هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإنه شحن هذا الهيكل بأكبر قدر من المؤسسات الثورية كمؤسسة الحرس الثوري التي تحوّلت فيما بعد إلى وزارة من وزارات الدولة، ومؤسسة جهاد البناء التي تحوّلت هي الأخرى إلى وزارة فيما بعد أيضاً، ومؤسسة الشهيد وعدد آخر من المؤسسات التي تحقق حضوراً مكثّفاً للجمهور في هيكل الدولة، وبالتالي حضوراً اضطرارياً في سياساته الداخلية والخارجية.

 

ولكي يوسّع ويكثّف من حضور الجمهور الإيراني في شؤون الدولة، لم يكتف الإمام بما اتخذه من آليات عمل وسياسات تعبوية للجمهور في كيان الدولة، إنما هو أقدم على إجراء لم يسبقه إليه قائد ثوري في التاريخ إطلاقاً، ألا وهو إجراء مراقبة الجمهور لمسيرة الدولة السياسية، فلقد ترك الإمام نصوصاً على شكل وصايا عامة تقوم بشحن الجمهور بطاقة تحريضية هائلة للقيام بهذه المراقبة، وكل ذلك من أجل ألاّ يسمح للدولة الإسلامية أن تسقط في يوم ما تحت ثقل الضغوط التي تواجهها في نمط الدولة التقليدية البعيدة عن ممارسة الدور الثوري، أو المرهونة بالتزامات معيّنة تحول دون ممارسة مهّمتها الثورية التي تعتبر في نظر الإمام الخميني مهمة دائمية لها، ولا يماكن أن تتخلّص منها بأي شكل من الأشكال.

 

لكي نقف سوية على نص من هذه النصوص التحريضية، فلنقرأ ما يقول الإمام: (الآن وقد ارتفعت الموانع بحمد الله تعالى وتوفّرت أجواء حرّة لتدخل جميع الشرائح الاجتماعية، فلم يبق أي عذر، ومن الذنوب الكبيرة التي لا تغتفر، في أمر المسلمين.

 

على كل شخص بمقدار استطاعته وبمستوى تأثره أن يكون في خدمة الإسلام والوطن، وأن يحول بجد دون نفوذ عملاء القطبين المستعمرين، والمنبهرين بالغرب والشرق، والمنحرفين عن منهج الإسلام العظيم.

 

وليعلموا أنّ أعداء الإسلام والدول الإسلامية، وهم القوى الكبرى، والناهبون الدوليون يتغلغلون تدريجياً وبمهارة في بلدنا والبلاد الإسلامية الأخرى، ويوُقِعون الدول طعمة للاستعمار بِيَد أبناء شعوب هذه الدول أنفسهم، كونوا مراقبين يقظين وعندما تشعرون بأول خطورة تغلغل هبّوا للمواجهة ولا تمهلوهم، والله معينكم، وحافظكم)[14].

 

هذا النص المأخوذ من وصية الإمام الخميني هو تكرار لمئات النصوص التي أطلقها هذا القائد محرّضاً فيها الجمهور على أداء مسؤولياتهم أزاء الجمهورية الإسلامية أولاً، وعلى مراقبة مسيرة هذه الجمهورية ثانياً، فالإمام وبحسّه السياسي البارع يدرك أنّ الزمن عادة يترك آثاره في انخفاض قوة الاندفاع الثوري، الأمر الذي قد يؤدّي إلى تسلل الانتهازيين أو أزلام الاستعمار إلى مؤسسات الدولة.

 

ولكي لا يحصل هذا الأمر، فالضمانة هو الشعب الذي يجب أن يقوم بدور المراقبة الدائمة؛ لأنه هو الذي دفع ثمن هذا الإنجاز العظيم، وهو المستهدف بعد الإسلام من أي محاولة يراد لها أن تحرف مسار الثورة الإسلامية وتعطي الفرصة للناهبين الدوليين للتسلل من جديد.

 

هكذا إذاً يبدو فعل الإمام واضحاً في تأسيس هيكل الدولة، فهو أرادها دولة يحرّكها ويقودها الحضور الشعبي اليقظ على الدوام, وبمعنى آخر: أنه أسّس الدولة الثورية بكل ما تحتاجه من مقومات، وبكل ما تحتاجه أيضاً من ضمانات مستقبلية.

 

وهذا هو السر الذي جعل هذه الدولة تصمد أمام هذا الكم الهائل من الحروب والمؤامرات الدولية التي تعرّضت لها على طول مسيرتها، والتي مازالت تتعرض لها بعناوين متعددة، وذرائع ومبررات مختلفة، تارة بالعنوان النووي وأخرى عبر إثارات الحدود المفتعلة مع الجيران وتارة ثالثة عبر الضغط الاقتصادي المتواصل، ومن ثم الضغط النفسي والإعلامي الذي لم تتوقف عجلته منذ قيام الثورة الإسلامية.

 

لاشك أنّ الدولة الثورية التي أسّسها الإمام هي الدولة الثورية الإسلامية المدارة من قِبَل الخبراء الإسلاميين والجهاز المرجعي والقوة القضائية التي يمثّلها العلماء، والمعزّزة بحضور الجمهور الدائم، ولاشكّ أنّ مثل هذا التأسيس ترك وسيترك فعلاً هائلاً في الساحة العالمية، وبالتالي فإن مجرد وجود الدولة الإسلامية وممارسة دورها اليومي في المواجهة سيعزّز من واقع الصحوة الإسلامية، وسيدفع بهذه الصحوة إلى فعل ثوري، وسيؤدّي ذلك إلى جدلية الوعي الثوري.

 

 

 

_________________________

 

[1] الحكومة الإسلامية، الخاتمة.

 

[2] المصدر السابق، ص 49.

 

[3] المصدر نفسه، ص 119.

 

[4] المصدر السابق، ص 8.

 

[5] مجلة الثقافة الإسلامية، العدد(51).

 

[6] في خطاب بتاريخ 21/3/1989م.

 

[7] في خطاب له حول تدخلات أميركا في إيران، عام 1400هـ.

 

[8] الوصية الإلهية ـ السياسية.

 

[9] في 21/3/1989م.

 

[10] في 21/3/1989م.

 

[11] الدكتور سمير سلمان، الإمام الخميني والمشروع الحضاري الإسلامي.. قراءة في خطاب الصراع والاستنهاض، ص 35.

 

[12] الوصية الإلهيةـ السياسية.

 

[13] المصدر نفسه.

 

[14] المصدر السابق.

 

 

 

دراسات الكاتب:

 

الخطاب الثوري.. البنية، الثوابت، الملامح [1]

 

الخطاب الثوري.. البنية.. الثوابت.. الملامح[2]

 

الإمام الخميني والمنهج الثوري

 

الدول الكبرى.. النظام الدولي..

 

الغرب والحضارة الغربية خطوط المواجهة.. وشروط التفاعل

 

التخريب الثقافي والفكري: الجامعة ـ الحوزة

 

القيادة الإسلامية

 

الإمام الخميني والإعلام

 

الإمام الخميني رجل القرن العشرين، ورجل القرن الحادي والعشرين

 

الجذر المعتقدي للاستشراف الخميني

 

الإمام الخميني والنظام الدفاعي