بالسَّنَدِ المُتَّصِلِ إلى فَخْرِ الطّائِفَةِ وَذُخْرِها مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الكُلَيْني ـ رضوان الله عليه ـ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى، عَنْ أحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عيسى، عَنِ ابْنِ مَحْبُوب، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنان، عَنْ أبي حَمْزَةَ الثُمالِي، عَنْ أَبي جَعْفَرَ عليه السَّلام قالَ: «مَكْتُوبٌ فِي التَّوراةِ الَّتي لَمْ تُغَيَّر أَنَّ مُوسى عليه السَّلام سَأَل رَبَّهُ فَقالَ: يا رَبِّ أَقَريبٌ أنْتَ مِنّي فَأُناجيك، أمْ بَعيدٌ فَأُناديكَ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ: يا مُوسى أَنَا جَليسُ مَنْ ذَكَرَنِي. فَقالَ مُوسى: فَمَنْ في سِتْرِك يَوْمَ لا سِتْرَ إِلاّ سِتْرُكَ. فَقالَ: الَّذينَ يَذْكُرُونَني فَأَذْكُرُهُمْ وَيَتحابُّونَ فِيَّ فَأُحِبُّهُمْ فَأُلئِكَ الَّذينَ إِذا أرَدْتُ أنْ أُصيبَ أهْلَ الأرْضِ بِسُوءٍ ذَكَرْتُهُمْ فَدَفَعْتُ عَنْهُمْ بِهِم»[1].
الشرح:
يفهم من هذا الحديث الشريف بأن التوراة الرائجة بين اليهود محرّفة ومزورة. وإن محتوى التوراة الصحيحة يتواجد عند أهل البيت ـ عليهم السلام ـ. ويعرف أيضاً من منطويات التوراة والإنجيل المتداولين ـ لتدني مستواهما على جميع الأصعدة ـ إنهما ليسا بحديث إنسان عادي، بل إنه حديث ينسجم مع أوهام بعض أهل الشهوات وذوي الأهواء النفسية.
يقول المحدث المحقق المرحوم المجلسي: «كان الغرض من السؤال عن آداب الدعاء مع علمه بأنه أقرب إلينا من حبل الوريد بالعلم والقدرة والعِليّة أي تحب أن أناجيك كما يناجى القريب أو أناديك كما ينادى البعيد؟ وبعبارة أخرى إذا نظرت إليك فأنت أقرب من كل قريب، وإذا نظرت إلى نفسي أجدني في غاية البعد عنك فلا أدري في دعائي أنظر إلى حالي أو إلى حالك؟. ويحتمل أن يكون السؤال للغير أو من قبلهم كسؤال الرواية»[2] انتهى كلامه.
في الإحاطة القيوميّة لله تعالى
من المحتمل أن النبي موسى عليه السلام ـ في الحديث المذكور ـ يعرض عجزه عن كيفية دعائه لله تعالى فيقول: إلهي أنت منزّه من الاتصاف بالقرب والبعد حتى أدعوك دعاء من يكون دانياً أو قاصياً، فأنا متردّد في أمري ولا أجد دعاءاً يليق بعظمتك وجلالك. فاسمح لي أن أناديك، وعلّمني كيفية ندائك واهدني إلى ما يتناسب ومقام قدسك في هذا المجال.
فأتي الجواب من مصدر الجلال والعزّة: بأنني حاضر حضور القيومية في جميع النشآت وأن هذه العوالم بأسرها حاضرة لديّ. أنا جليس من يذكرني ونديم من يتحدث معي.
وبالطبع أن ذاته المقدس لا يتصف بالقرب والبعد وأنّ له إحاطة قيوميّة، وسعة وجوديّة تعمّ جميع دائرة الوجود وكافة سلسلة الموجودات.
وما ورد في الآيات الشريفة من الكتاب الإلهي الكريم من توصيف الحق المتعالي بالقرب مثل قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)[3] وقوله ـ عزّ من قائل ـ (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)[4]. وغيرها من الآيات فمن باب المجاز والاستعارة. لأن ساحته المقدسة تتنزه عن القرب والبعد الحسيان والمعنويان. إذ يستلزم ذاك ـ القرب والبعد الحسيان والمعنويان ـ نوع من التحديد والتشبيه، والحق المتعالي منزّه عن ذلك، بل إن حضور قاطبة الموجودات أمام وجوده المقدس، حضور تعلّقي، وإحاطة ذاته المتعالية لكل دقائق الكائنات وسلسلة الموجودات، إحاطة قيّوميّة وهذا الحضور وهذه الإحاطة يختلفان عن الحضور الحسي والمعنوي وعن الإحاطة الظاهريّة والباطنيّة.
ويستفاد من هذا الحديث وبعض الأحاديث الأخرى رجحان الذكر ـ ذكر الله ـ الخفيّ، واستحباب الذكر السرّي والقلبي، كما يقول الله سبحانه أيضاً في الآية المباركة (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً)[5].
وجاء في الحديث الشريف أنه لا يعلم أحدٌ ثواب ذكر الله سبحانه، إلاّ الله تعالى لعظمته وكِبَره. وقد يكون الإجهار في الذكر وإظهاره راجحاً في بعض الحالات والمقامات ولدي طُروّ بعض العناوين، مثل الذكر لدي أهل الغفلة لكي ينتبهوا.
ففي الحديث الشريف من الكافي قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلام الذَّاكِرِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الغَافِلِينَ، كَالمُقَاتِلُ فِي المُحَارِبِينَ[6].
ونقل عن عدة الداعي للشيخ ابن فهد: «قالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلم: مَنْ ذَكَرَ اللهَ فِي السُّوقِ مُخْلِصاً عِنْدَ غَفْلَةِ النَّاسِ وَشُغْلِهِمْ بِما فِيهِ كَتَبَ اللهُ لَهُ ألْفَ حَسَنَةٍ وَغَفَر اللهُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ مَغْفِرَةً لَمْ تَخْطُرْ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ»[7].
وكذلك يستحب الإجهار بالذكر في أذان الأعلام والخطبة وغيرها.
فصل: خصائص ذكر الله تعالى
يستفاد من هذا الحديث الشريف، أن لذكر الله والتحابّ بين الأشخاص في سبيل الله، خصائص: إحداها ـ وهي الأهم ـ أن ذكر العبد لله، يبعث على ذكر الله لعبده، كما نطقت بهذا المضمون أحاديث أخرى أيضاً. ويقابل هذا الذكر النسيان، قد قال سبحانه وتعالى عن الناسي في القرآن (كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)[8].
فكما أن نسيان الآيات والعمى الباطني عن رؤية مظاهر جمال الحق وجلاله يسبب عمىً في العالم الآخر، يكون التذكّر للآيات والأسماء والصفات وتذكّر الحق سبحانه وجماله وجلاله باعثاً على حِدّة في البصيرة، وإزاحة للحجب، بقدر قوة التذكر ونورانيته.
هذا وأن تذكر آيات الحق سبحانه، وصيرورته ـ هذا التذكر ـ ملكة ـ راسخة ـ في الإنسان يجعل لبصيرته قوّة، فيرى من خلال الآيات، جمال الحق.
وأن تذكّر الأسماء والصفات يبعث على مشاهدة الحقّ في تجلّيات أسمائه وصفاته. وأن تذكر الذات عزّ شأنه من دون حجاب الآيات والأسماء والصفات، يوجب رفع الحجب بأسرها ومشاهدة الحبيب من دون غشاء وحجاب.
ويعتبر هذا ـ التفسير ـ واحداً من التوجيهات والتفسيرات للفتوحات الثلاثة التي هي قرة عين العرفاء والأولياء وهي:
الفتح القريب. الفتح المبين. الفتح المطلق. الذي هو فتح الفتوح.
وكما أن التذكّرات الثلاثة ـ المذكورة ـ تزيل الحجب الثلاثة، وكذلك التحابب بين الناس في الله سبب لمحبة الله، وتكون نتيجته رفع الحجب حسب ما يقوله العرفاء الشامخون.
ومن الواضح أن للتحابب بين الناس مراتب ودرجات، كما أن للحبّ في الله من جهة الخلوص والخلوِّ من الشوائب مراتب كثيرة ودرجاتٍ عديدةٍ أيضاً، والحب الخالص التام هو الحب المحض الفارغ من شوب كثرات الأسماء والصفات، وهو الموجب لحصول الحب التام. والمحبوب المطلق في الشريعة العشاق، لا يكون محجوباً عن الوصال، ولا يبقى بينه وبين محبوبه حجاباً.
وبهذا البيان نستطيع أن نوفّق بين سؤالي النبي موسى عليه السلام، لأنه ـ عليه السلام ـ عندما سمع من حضرته تعالى بأنه ـ عزّ وجل ـ جليس من ذكره، وسمع من محبوبه، أُمنّيته من الوعد بالوصال والوصول إلى الجمال، أراد أن يستقصي أهل الوصال حتى ينهض بالمسئولية مع كافة الشؤون المتوجبة عليه، فقال: «فَمَنْ في سِتْرِكَ يَوْمَ لا سِتْرَ إِلاّ سِتْرُكَ لِي؟ وَمَنْ يَكُونُ فِي سِتْرِكَ، بَعْدَ إَنّ تَخَلَّصَ مِنَ التَعَلُّقِ بِغيْرِكَ، وَحَطَّمَ قُيُودَ الحُجَبِ، وَوَصَلَ إِلَى جَمَالِكَ الجَمِيلِ؟» فقال هم طائفتان: الذين يذكرونني ابتداءً، والذين يتحابّون لأجلي حيث يكون تذكراً في مظهر جمالي التام، الذي هو الإنسان. إنهما ـ طائفتان ـ في مأمني وجلسائي وأنا جليسهم.
فتبين أن لهذين الطائفتين خصلة واحدة عظيمة، ولها نتاج عظيم آخر، إذ أنهم يذكرون الله فينقلبوا ـ بذكرهم له ـ محبوبين للحق المتعالي ونتيجته أنهم يستقّرون في ستره سبحانه وملجأه يوم لا ستر فيه، ويختلي بهم الحق عز وجل في المحلّ الأرفع.
ومن خصال هاتين الطائفتين أن الله سبحانه يرفع لكرامتهم، العذاب عن عباده بمعنى أنه ما دامت الطائفتان تعيشان بين العباد، لا يُنزل الله سبحانه العذاب على الناس.
فصل: في الفرق بين مقام التفكر والتذكر
اعلم أن التذكّر من نتائج التفكّر، ولهذا يعتبرون مقام التفكر مقدماً على مقام التذكر. يقول العارف عبد الله الأنصاري «التَّذَكُّر فَوْقَ التَّفَكُرِ، فَإِنَّ التَّفَكُّر طَلَبٌ وَالتَّذَكُّر وُجُودٌ» إذ أن التفكر طلب للمحبوب والتذكر حصول للمطلوب. فما دام الإنسان يطلب ويبحث يكون محجوباً عن مطلوبه وعندما يصل إلى محبوبة يتحرّر من عناء البحث والتفتيش.
إن قوّة التذكّر وكماله، يرتبطان بقوة التفكر وكماله. والتفكر الذي يفضي إلى التذكر التام للمعبود، لا يساوي الأعمال الأخرى ولا يقاس في الفضيلة بها. ففي الأحاديث الشريفة أن تفكّر ساعة أفضل من عبادة سنة واحدة أو ستين عاماً أو سبعين عاماً. ومن الواضح أن الغاية من العبادات وثمرتها المهمة، حصول المعرفة والتذكر للمعبود الحق. وستُحصل على هذه الخاصيّة من التفكّر الصحيح، أحسن من الحصول عليها عن طريق العبادة.
إذ لعلّ تفكر ساعة واحدة، يفتح أبواباً من المعارف على السالك، لا تفتحها عبادة سبعين سنة، أو إن في تفكر ساعة واحدة تذكّر للإنسان بحبيبه سبحانه، ما لا يحصل من المشاق والمساعي المجهدة فترة سنين عديدة مثل هذا التذكّر.
واعلم أيها العزيز أن تذكر الحبيب، والتفكر فيه دائماً، يثمر نتائج كثيرة لكافة الطبقات.
أما الكُمّلون والأولياء والعرفاء فإن تذكر الحبيب في نفسه، غاية آمالهم وفي ظلّه يبلغون جمال حبيبهم. هَنِيئاً لَهُمْ.
وأما عموم الناس والمتوسطين منهم، فهو أفضل مصلح للأخلاق والسلوك وللظاهر والباطن.
إذا عاش الإنسان مع الحق سبحانه وتعالى في جميع الأحوال وكافة المستجدات، وشاهد نفسه أمام الذات المقدس عزّ شأنه، لأحجم عن الأمور التي تسخط الله، وردع نفسه عن الطغيان. إن المشاكل والمصائب المنبثقة من النفس الأمارة والشيطان الرجيم قد نشأت عن الغفلة عن ذكر الحق وعذابه وعقابه. إن الغفلة عن الحق تضاعف كدورة القلب، وتمكّن النفس والشيطان من التحكّم في الإنسان وتسبّب زيادة المفاسد على مرّ الأيام.
وأن التذكر للحق جلّ شأنه يبعث على صفاء النفس وصقلها، ويجعلها مظهراً للمحبوب ويوجب صفاء الروح ونقائها، ويحرّر الإنسان من أغلال الأسر، ويُخرج حب الدنيا الذي هو رأس الخطايا ومصدر السيئات من القلب، ويجعل الهموم هماً واحداً، والقلب نظيفاً وطاهراً لورود صاحبه ـ الحق جلّ وعلا ـ.
فيا أيها العزيز مهما تتحمل من الصعاب في سبيل الذكر والتذكر للحبيب ـ الحق سبحانه ـ كان ذلك قليلاً. روّض قلبك على التذكر للمحبوب، لعل الله يجعل صورة القلب، صورة لذكر الحق، وكلمة لا إله إلا الله الطيبة، الصورة النهائية والكمال الأقصى للنفس، فإنه لا زاد أفضل منه للسلوك إلى الله، ولا مصلح أحسن منه لعيوب النفس، ولا رفيق أجدى منه في المعارف الإلهية.
فإذا كنت طالباً للكمالات الصورية والمعنوية، وسالكاً لطريق الآخرة ومهاجراً ومسافراً إلى الله، اجعل قلبك معتاداً على تذكّر المحبوب، واعجن قلبك مع ذكر الحق تبارك وتعالى.
فصل: في بيان أن الذكر التام هو الذكر البالغ إلى كل أطراف المملكة (جسم الإنسان)
إن ذكر الحق والتذكر لذاته المقدس من صفات القلب، وإن القلب إذا تذكر ترتبت عليه ـ القلب ـ جميع الفوائد المذكورة للذكر، ولكن الأفضل أن يعقب الذكر القلبي، الذكر اللساني. وإن أفضل وأكمل مراتب الذكر كافّة هو الذكر الساري في نشآت مراتب الإنسانية، والجاري على ظاهر الإنسان وباطنه، سرّه وعلنه.
فيكون الحق سبحانه مشهوداً في سرّ الوجود، وتكون الصورة الباطنية للقلب والروح، صورة تذكر المحبوب. ويطغى على الأعمال القلبية والقالبية ـ الظاهرية ـ التذكر لله سبحانه. وتنفتح الأقاليم السبع الظاهرية، والممالك الباطنية، على ذكر الحق، وتتسخّر لتذكر الجميل المطلق. بل لو أن حقيقة الذكر تحوّلت إلى صورة باطنية للقلب، وانفتحت مملكة القلب على يديه ـ الذكر ـ لجرى حكمه في كل الممالك والأقاليم ـ القوى الجسمية الظاهرية والباطنية ـ ولكانت حركة وسكون العين واللسان واليد والرجل، وأفعال كل القوى والجوارح مع ذكر الحق. ولم تقم ـ القوى الظاهرية والباطنية في جسم الإنسان ـ بإنجاز ما يخالف الوظائف الشرعية المقررة. فتكون حركاتها وسكناتها مبدوّة ومختومة بذكر الحق، وتَنْفُذُ (بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا)[9]في جميع أطراف المملكة ـ جسم الإنسان بما فيه القوى الظاهرية والباطنية ـ.
وفي النتيجة يتحول الإنسان إلى حقيقة الأسماء والصفات، بل إلى صورة اسم الله الأعظم، ومظهره. وهذه هي الغاية القصوى لكمال الإنسان ومنتهى رجاء أهل الله. وكلما حصل انخفاض عن هذا المستوى الرفيع، وقلّ نفوذ الذكر ـ في الإنسان ـ انتقص وبنفس النسبة من كمال الإنسان، وأثّر نقصان كل من الظاهر والباطن، في الآخر، لأن نشآت وجود الإنسان مترابطة ومتأثرة بعضها ببعض.
ومن هنا يعلم أن ذكر الحق بالنطق واللسان الذي يعدّ من أقل مراتب الذكر، يكون مجدياً ونافعاً أيضاً لأنه:
أولاً: قام اللسان بوظيفته بواسطة ذكره وإن كان هذا الذكر قالباً لا روح له.
وثانياً: يمكن أن يصير هذا الذكر باللسان سبباً لتفتّح لسان القلب أيضاً بعد فترة من المواظبة على ذكر اللسان والاستمرار عليه بشروطه.
قال شيخنا الكامل العارف الشاه آبادي ـ روحي فداه ـ يجب أن يكون الإنسان الذاكر مثل المعلم الذي يريد أن يعلم الطفل الصغير الذي لم ينطق بعد الكلمات، حيث يكرر الكلمة، حتى ينفتح لسان الطفل وينطق الكلمة، ثم نرى المعلم يداعب الطفل ويردد الكلمة بمثل ما سمعها من الطفل فيزول تعب المعلم وكأن مددا يبلغه من الطفل. كذلك الذاكر يجب أن يعلم قلبه الذكر إذا لم ينفتح لسانه ـ القلب ـ على الذكر. وسبب تكرار الذكر هو انفتاح لسان القلب على الذكر. وآية انفتاحه ـ لسان القلب ـ أن لسان الفم يتبع القلب، فيزول نصب تكرار الذكر وعنائه. في البدء كان اللسان ذاكرا والقلب استمد الذكر منه، وبعد انفتاح لسان القلب بالذكر، يتبعه لسان الفم، ويستمد اللسان منه ـ القلب ـ الذكر، أو من الغيب.
ولا بُدَّ من معرفة أن الأعمال الظاهرية الصورية لا تليق بمقام الغيب، ولا تحشر في عالم الملكوت، إلاّ إذا بلغها من باطن الروحانية ولُباب القلب مدداً، ووهبها حياة ملكوتية، ولا يكون ذلك إلاّ بالنفحة الروحية التي هي بمثابة الروح والباطن، لصورة خُلوص النية، والنية الخالصة، وبموجبها يحشر الجسم في عالم الملكوت ويعتبر لائقاً للقبول في مقام الغيب القدسي. ولهذا أورد في الروايات الشريفة أن قبول الأعمال على قدر توجه القلب. ومع كل ذلك أيضاً يكون الذكر باللسان محبوباً ومستحباً، ويقود الإنسان في نهاية المطاف إلى الحقيقة. ومن هذا المنطلق ورد في الأحاديث الشريفة مدح عظيم للذكر اللساني. وقليلاً ما تجد موضوعاً يشتمل على أحاديث كثيرة مثل موضوع الذكر. وقد أثنت أيضاً الآيات الكريمة كثيراً على ذكر الله باللسان. وإن كانت هذه الآيات غالباً ما تتحدث عن الذكر القلبي أو الذكر مع الروح، ولكن تذكر الحق في كل مرتبة محبوب ومطلوب. ونحن نختم الكلام في هذا المقام بعرض بعض الأحاديث الشريفة للتيمّن والتبرك.
فصل: في ذكر بعض الأحاديث في فضل ذكر الله
في الكافي بِسَنَدٍ صَحيح عَنِ الفُضَيْلِ بْنِ يَسارِ قالَ: قالَ أبُو عَبْدِ اللهِ عليه السَّلام: «ما مِنْ مَجْلِسٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ أبْرارٌ وَفُجّارٌ فَيَقُومُونَ عَلى غَيْرِ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وجلَّ إِلاّ كانَ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ»[10].
من الواضح أن الإنسان عندما تنكشف عليه يوم القيامة، النتائج العظيمة لذكر الله، ويرى نفسه بعيداً عنها، ويعلم بأنه قد حرم من نعم كثيرة، ولا يستطيع تداركها، تستولي عليه الحسرة والندامة. فيجب على الإنسان أن يغتنم الفرصة ولا يُخلي مجالسه ومحافله من ذكر الله.
الكافي بِسَنَدٍ مُوَثَّقٍ عَنْ أبي جَعْفَرٍ عليه السَّلام: مَنْ أَرادَ أنْ يَكْتالَ بِالْمِكْيالِ فَلْيَقُلْ إذا أرادَ أنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِه. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى المُرْسَلينَ * وَالْحَمْدُ لِلِّهِ رَبِّ العالَمينَ}[11].
وَنُقِلَ عَنِ الإِمَامِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلام بأَنَّ أَمِيرَ المُؤمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْونَ يَومَ القِيَامَةِ كَيْلَهُ تَامّاً مِنَ الثَّوَابِ فَلْيَتْلُوا هذِهِ الآيَاتِ المُبَارَكةِ ـ سبحان ربك إلى آخره ـ فِي دَبْرِ كُلِّ صَلاةٍ[12].
وَعَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلام مُرْسَلاً، كَفَّارَاتُ المَجَالِسِ أَنْ تَقُولَ عِنْدَ قيَامِكَ مِنْهَا سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ[13].
الكافي بِإِسْنادِهِ عَنْ ابْنِ فَضّالٍ رَفَعَهُ قَالَ: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِعِيسى عَلَيْهِ السَّلام: يَا عِيسى اذْكُرْنِي فِي نَفْسِكْ أذْكُرْكَ في نَفْسِي وَاذْكُرْنِي فِي ملأك أذْكُرْكَ فِي ملأ خَيْرٍ مِنْ مَلأ الآدَميّينَ. يا عيسى ألِنْ لي قَلْبَكَ وَأكْثِرْ ذِكْري فِي الخَلَواتِ وَاعْلَمْ أنَّ سُرُوري أنْ تُبَصْبِصَ إِلَيَّ وَكُنْ فِي ذلِكَ حَيّاً وَلا تَكُنْ مَيِّتاً» [14].
«التبصبص» هو حركة ذنب الكلب نتيجة الخوف أو الطمع. وهذا كناية عن شدّة الالتماس والمسكنة. و(كُنْ فِي ذلِكَ حَيًّا وَلا تَكُنْ مَيِّتاً) بمعنى انتباه القلب وحضوره. الكافي بِإِسْنَادِهِ عَنْ أبِي عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلام: قالَ «إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: مَنْ شُغِلَ بِذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي مَنْ سَأَلَنِي»[15].
عَنْ أحْمَد بْنِ فَهْدٍ في عُدَّة الدّاعي عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلّى الله عليه وأله وسلم قالَ: «... وَاعْلَمُوا أنَّ خَيْرَ أعْمالكُمْ [عِنْدَ مَليكِكُمْ] وَأزْكاها وَأرْفَعَها في دَرَجاتِكُم وَخَيْرَ ما طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ذِكْرُ اللهِ سبحانه وتعالى فَإِنَّه أخْبَر عَنْ نَفْسِه فَقالَ: أَنَا جَليسُ مَنْ ذَكَرَنِي»[16].
إن الأحاديث المأثورة في فضل ذكر الله وكيفيته وآدابه وشرائطه تفوق استيعاب هذه الصفحات. والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.
ــــــــــــــــ
[1] أصول الكافي، المجلد كتاب الثاني، الدعاء، باب ما يجب من ذكر الله في كل مجلس، ح4.
[2] مرآة العقول، المجلد 12، ص122.
[3] سورة البقرة، آية: 168.
[4] سورة ق، آية: 16.
[5] سورة الأعراف، آية: 205.
[6] أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الدعاء، باب ذكر اللّه عز وجل في الغافلين، ح1.
[7] عدة الداعي، ص242.
[8] سورة طه، آية 126.
[9] سورة هود، آية: 41.
[10] أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الدعاء، باب ما يجب ذكر الله في كل مجلس، ح 1.
[11] أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الدعاء، باب ما يجب ذكر الله في كل مجلس، ح 3.
[12] جامع الأحاديث، كتاب الصلاة، ح 3487.
[13] وسائل الشيعة، المجلد 15، ح 28901.
[14] أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الدعاء، باب ذكر اللّه في السر، ح 3.
[15] أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الدعاء، باب الاشتغال بذكر اللّه، ح 1.
[16] عدة الداعي، ص238.
تعليقات الزوار