بالسَّند المتّصل إلى الشيخ الأجلّ والثّقة الجليل محمّد بن يعقوب الكلينيِّ ـ رضوان الله عليه ـ عن عدَّة من أصحابنا، عن أحمدَ بن محمّد، عن ابن محبوب، عَنْ عمر بنِ يزيدَ، عن أبي عبد الله قال: «فِي التَّوراةِ مَكْتوبٌ يَا بْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعبَاَدتِي أملأُ قَلْبَكَ غِنىً، وَلاَ أكِلُكَ إلى طَلَبكَ، وَعَلَيَّ أَنْ أَسُدَّ فَاقَتَكَ وَأمْلأَ قَلْبَكَ خَوْفاً منِّي. وَإِنْ لا تَفَرَّغْ لِعِبادَتِي أَمْلأ قَلْبَكَ شُغْلاً بِالدُّنْيَا ثُمَّ لا أسُدُّ فَاقَتَكَ وَأَكِلُكَ إِلَى طَلَبِكَ»([1]).

 

الشرح:

(تفرّغ لكذا) على وزن تفعّل بمعنى أنفق وقته جميعاً ولم يبق شيء حتى ينشغل بشيء آخر. وتفرغ القلب للعباده، معناه إخلاؤه من الانتباه لأي شيء آخر حتى ينشغل بالعبادة خاصة.

 وَمَلأ الإناءَ ماءً وَمِنَ الماءِ وَبِالمَاءِ: وَضَعَ فِيهِ بِقَدْرِ مَا يَأخُذُهُ. وَأكِلُ صيغة مُتَكَلِّم مِنْ يَكِلُ وَكَلَ إِلَيْهِ الأَمْرَ أي سَلَّمَهُ وَفَوَّضَهُ وَتَرَكَهُ إلَيْهِ وَاكتَفى بِهِ. أسُدُّ صيغة متكلمٍ أيضاً مِنْ سَدَّ يَسُدُّ سَدّاً ومِنْ بَابِ نَصَرَ نَقيضُ الفَتْحِ. الفاقة أي الحاجة والفقر. واملأ قلبك خوفاً مني، الظاهر أنه ـ أَمْلأُ ـ صيغة متكلم لوحده. ويستبعد أن تكون صيغة أمر معطوفة على أول الكلام. ونحن سنذكر ما يتناسب من الشرح والبيان حول هذا الحديث الشريف من فصول إن شاء الله.

 

فصل: كيفية حصول التفرغ للعبادة

 اعلم أن التفرغ للعبادة يحصل من تكريس الوقت والقلب بها. وهذا من الأمور المهمة في باب العبادات. فإن حضور القلب من دون تفريغه وتكريس الوقت له غير ميسور، والعبادة من دون حضور القلب، غير مجدية. وما يبعث على حضور القلب، أمران: أحدهما: تفريغ القلب والوقت للعبادة. ثانيهما: إفهام القلب أهمية العبادة. والمقصود من تفريغ الوقت هو أن الإنسان يخصّص في كل يوم وليلة وقتاً للعبادة ويوطّن نفسه على العبادة في ذلك الوقت، رافضاً الانشغال في ذلك الوقت بأي عمل آخر.

 إن الإنسان إذا اقتنع بأن العبادة من الأمور الهامّة، وأنها أكثر أهميه بالنسبة إلى الأمور الأخرى، بل لا مجال للمقارنة بين العبادة والأمور الثانية الأخرى، لحافظ على أوقات العبادة وخصص لها وقتاً.

 ونحن بعد هذه اللمحة الخاطفة من أهمية العبادة، نشرح نبذة من أهميتها. وعلى أي حال لابد للإنسان المتعبد، أن يوظف وقتاً للعبادة. وأن يحافظ على أوقات الصلاة التي هم أهمّ العبادات وأن يؤديها في وقت الفضيلة، ولا يختار لنفسه في تلك الأوقات عملاً آخر. وكما أنه يخصص وقتاً لكسب المال والجاه والدراسة والبحث، كذلك لابد أيضاً من تخصيص وقت للعبادات، حتى يكون خاليا من أي عمل آخر، ويتيسّر له حضور القلب الذي هو بمثابة اللبّ والجوهر. ولكن إذا فرضنا بأن شخصاً مثلي تكلّف من أداء صلاته، ورأى بأن العبادة من الأمور الزائدة، لأجّل صلاته إلى آخر الوقت، ولآتى بها بكل فتور ونقص، لما يرى حين التهيؤ لأداء الصلاة، أن هناك أموراً أخرى في نظره أهمّ منها، وأنها تتزاحم مع هذه الأمور الهامة، فيفضّل غير الصلاة عليها. ومن المعلوم أن مثل هذه العبادة لا نورانية لها، بل تكون مثار سخط الهي، وأنه مستخف بالصلاة ومتهاون في أمرها. أعوذ بالله من الإستخفاف بالصلاة وعدم الاكتراث بها.

 وإن هذا الكتاب، لا يسع عرض الأخبار المأثورة في المستخفين بالصلاة. ولكننا سنذكر بعضها للاتعاظ والاعتبار:

 عن محمّد بن يعقوب بإسنادِه عن أبي جعفرٍ عليه السلام قال: «لاَ تَتَهَاوَنْ بِصَلاَتِكَ فَإِنَ النَّبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلم قالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: لَيْسَ مِنِّي مَنِ اسْتَخَفَّ بِصَلاَتِهِ، لَيْسَ مِنِّي مَنْ شَرِبَ مُسْكراً، لاَ يَرِدُ عَليَّ الحَوْضَ لا وَاللهِ»([2]).

 وبإسنادِهِ عن أبي بصيرٍ قالَ: قالَ أبو الحسن الأوَّل عليه السلام: «لَمّا حَضَرَتْ أبِيَ الوَفَاةُ قَالَ لِي: يَا بُنَيَّ لاَ يَنالُ شَفَاعَتَنَا مَنِ اسْتَخَفَّ بالصَّلاَةِ»([3]).

 والأخبار كثيرة في المقام، ويكفي هذان الحديثان لمن يريد أن يعتبر ويتعظ. ويعلم الله وحده حجم المصيبة العظمى الناشئة من الانقطاع عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والخروج من تحت ظل حمايته كما ورد في الحديثين الشريفين! كما أن الله يعلم مستوى الخذلان، عندما يُمنى الإنسان بالحرمان من شفاعة رسول الله وأهل بيته العظام!

 لا تظن بأن أحدا يرى رحمة الحق سبحانه، ووجه الجنة، من دون شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحمايته ورعايته! والآن أنتبه إلى أن تقديم أي عمل بسيط، بل المصلحة الموهومة على الصلاة التي هي قرّة عين الرسول صلّى الله عليه وآلة وسلم، والوسيلة الرفيعة لنزول رحمة الحق، وأن إهمالها وتأخيرها إلى نهاية وقتها من دون مسوّغ، وعدم المحافظة على حدودها، أليست هذه الأمور من التهاون والاستخفاف بالصلاة؟ فإن كان هذا من التهاون في الصلاة، فاعلم، حسب شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشهادة الأئمة الأطهار عليهم السلام، أنك قد خرجت عن ولايتهم، ولا تنالك شفاعتهم.

 انتبه، إذا أردت شفاعتهم، ورغبت في أن تكون من أُمّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، اهتم بهذه الوديعة الإلهية، وعظّم من أمرها، وإلاّ فأنت تواجه العقاب والعاقبة السيئة. إن الله تعالى وأولياءه في غنى عن أعمالي وأعمالك، فيُخشى أنك إذا لم تهتم بها، أدى إلى تركها وينتهي الأمر إلى جحودها فتصير من الأشقياء المؤبدين والهالكين الدائمين.

 والأهم من تفريغ الوقت، تفريغ القلب، بل إن تفريغ الوقت، مقدمة لتفريغ القلب أيضاً، وذلك أن الإنسان لدى اشتغاله بالعبادة، يجرد نفسه من هموم الدنيا وأعمالها، وينقذ قلبه من الأوهام المتشتتة، والأمور المختلفة، ويفرغ فؤاده نهائياً، ويخلّصه مرة واحدة للتوجه إلى العبادة والمناجاة مع الحق المتعالي. ولو لم يفرغ القلب من هذه الأمور، لما حصل لقلبه ولعبادته التفرغ. ولكن شقائنا في أننا نترك كل أفكارنا المتشتتة، وأوهامنا المختلفة إلى وقت العبادة، وعندما نكبّر تكبيرة إحرام الصلاة، فكأننا فتحنا باب المتجر، أو دفتر الحساب، أو كتاب الدرس، ونرسل قلبنا للانصراف إلى أمور أخرى، ونغفل كلياً عن العمل العبادي، وعندما ننتبه للعبادة نجد أنفسنا في نهاية الصلاة!.

 وفي الحقيقة إنه لمن الفضيحة أمر هذه العبادة، ومما يبعث على الخجل أمر هذه المناجاة.

 عزيزي: اجعل مناجاتك مع الحق سبحانه بمثابة التحدث مع إنسان بسيط من هؤلاء الناس؛ فكيف انك إذا تكلمت مع صديق، بل مع شخص غريب انصرف قلبك عن غيره، وتوجّهت بكل وجودك نحوه، أثناء التكلم معه، فلماذا إذا تكلمت وناجيت ولي النعم، ورب العالمين، غفلت عنه وانصرفت إلى غيره؟ هل إن العباد يُقدَّرون أكثر من الذات المقدس للحق؟ أو أن التكلم مع العباد أغلى من المناجاة مع قاضي الحاجات؟

 نعم أنا وأنت، لا نعرف ما هي المناجاة مع الحق سبحانه؟ إننا نرى التكاليف الإلهية كلفة، وفرضاً علينا، ومن الواضح أنه متى ما أصبح شيء ما حملاً ثقيلاً على الإنسان وعلى شؤون حياته، لما أعتبر عنده ذلك الشيء ذا بال وأهميه. إنه لا بد من إصلاح الينبوع، والعثور على الإيمان بالله، وبكلمات أنبيائه حتى يتم إصلاح الأمور. إن كل تعاستنا من ضعف الإيمان ووهن اليقين. إن إيمان السيد ابن طاووس رضي الله عنه، يدفعه للاحتفال بيوم بلوغه، لأن الحق المتعال قد رخّص له بالمناجاة، وزيّنه بزينة التكليف والخطاب. فلاحظ بكل دقه أيّ قلب هذا الذي يحمل هذا القدر الكبير من النور والصفاء. إذا لم يكن عمل هذا السيد الجليل حجة لك، فعمل سيد الموحدين وأولاده المعصومين حجة عليك، فتأمل في حياتهم وكيفية عباداتهم ومناجاتهم، حيث كان لون وجه بعضهم يتغير لدى حلول وقت الصلاة، وتضطرب فرائصه خشية أن يخطأ في الواجب الإلهي، رغم أنهم كانوا معصومين.

 اشتهر عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أن سهماً قد أصاب قدمه المبارك، فلم يستطع أن يتحمّل ألم انتزاعه من رجله، فقام وصلى وفي أثناء اشتغاله بالصلاة، انتزع السهم ولم ينتبه أصلاً.

 عزيزي: إن هذا الموضوع ـ عدم إدراك الألم حين التوجه إلى شيء ـ ليس من الأمور الممتنعة، فإن له أمثلة كثيرة في الأمور العادية من حياة الناس.

 إن الإنسان عند هيجان الغضب أو المحبة، يغفل عن كل شيء. قال أحد أصدقائنا الموثوقين (عندما اصطدمت مع جمع من الأوباش في مدينة أصفهان، تصورت في أثناء المعركة وضربهم لي بأنهم يضربونني بأيديهم ولم أفهم أكثر من ذلك، وبعد أن وضعت المعركة أوزارها، علمت بأنهم قد طعنوني بالسكين طعنات، وطرحوني في فراش المرض لأيام) ووجه ذلك معلوم أيضاً، فإن النفس عندما تلتفت بصورة تامّة إلى شيء تغفل عن مُلك البدن، وتتوقف القوى الحسيه عن العمل وتتحّول الهموم إلى همّ واحد. إننا نشعر بأنفسنا حين السجال في الكلام والجدال في البحث ـ نعوذ بالله ـ بالغفلة عما يحدث في المجلس. ومع الأسف إننا نتوجه نحو كل شيء توجهاً تاماً، الا نحو عبادة الله، ولهذا نستبعد مثل هذا التوجه الكامل في العبادة نحو الله سبحانه.

 وعلى أي حال إن تفريغ القلب من غير الحق يعدّ من الأمور المهمة، التي يجب على الإنسان أن يحققها مهما كلف الثمن، والسبيل إلى تحصيله ميسور وسهل‏، فمع قدر قليل من الانتباه والمراقبة نستطيع أن ننجزه ونحققه.

 يجب على الإنسان الذي يريد السلوك إلى الله من إمساك الخيال فترة من الزمان، وإلجامه عندما يريد أن يتحول من غصن إلى غصن آخر ـ ويتشتت ـ وبعد مضي فترة من المراقبة، يُدَجَّن الخيال ويهدأ وتزول عنه حالة التشتت ويصير الخير من عادته ـ والخير عادة ـ فينصرف فارغ البال إلى التوجه نحو الحق والعبادة.

 والأهم من كل ذلك والذي يجب أن نجعل الأمور الأخرى مقدمة له، هو حضور القلب الذي هو روح العبادة، والذي ترتبط به حقيقة العبادة، ومن دونه لا يكون له أهمية، ولا تقع مقبولة في ساحة المتعالي، كما ورد في الروايات الشريفة:

 في الكافي: بإسناده عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أنَّهُما قالا: «إنّما لَكَ مِنْ صَلاَتِكَ مَا أَقْبَلْتَ عَلَيْهِ مِنْهَا، فَإِنْ أَوْهَمَها كُلَّها أوْ غَفَلَ عَنْ آدَابِهَا لُفَّتْ فَضُرِبَ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا»([4]).

 وَرَوَى الشَّيخُ الأقدم محمّدُ بنُ الحسن ـ رضوان الله عليه ـ في التَّهذيب بإسناده عن الثُّماليِّ قالَ: «رَأيْتُ عَلِيَّ بْنَ الحُسَيْنِ عليهما السلام يُصَلِّي فَسَقَطَ رِداؤُهُ عَنْ مَنْكِبهِ فَلَمْ يُسَوِّهِ حَتّى فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ. قَالَ: فَسَألْتُهُ عَنْ ذلِكَ، فَقالَ: وَيْحَكَ أَتَدْرِي بَيْنَ يَدَيْ مَنْ كُنْتُ؟ إِنَّ العَبْدَ لاَ يُقْبَلُ مِنُهُ صَلاَةٌ إلاّ مَا أقْبَلَ عَلَيْهِ مِنْهَا. فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ هَلَكْنَا. قَالَ: كَلاَ، إِنَّ اللهَ مُتَمِّمٌ ذلِكَ لِلْمُؤمِنينَ بالنَّوافِلِ»([5]).

 وعن الخصال: بإسناده عن عليّ عليه السلام في حديث الأربعمائة قالَ: «لا يَقومَنَّ أحَدُكُمْ فِي الصَّلاةِ مُتَكَاسِلاً وَلاَ نَاعِساً، وَلاَ يُفَكِّرَنَّ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّمَا لِلْعَبْدِ مَنْ صَلاَتِهِ مَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ مِنْهَا بَقَلْبِهِ»([6]).

 والأخبار في هذا المضمار كثيرة. وهكذا بالنسبة إلى فضيلة توجه القلب. ونحن نذكر بعضها في المقام ونكتفي به، فإنه كاف لمن أراد أن يعتبر ويتعظ.

 عن محمّد بن عليّ بن الحسين صدوقِ الطائفة بإسناده عن عبد الله بن أبي يَعْفورٍ قالَ: قال أبو عبد الله عليه السلام: «يا عَبْدَ اللهِ إذا صَلَّيْتَ فَصَلِّ صَلاَةَ مُوَدِّعٍ يَخافُ أَنْ لاَ يَعُودَ إلَيْهَا أبَداً، ثُمَّ اصْرِفْ بِبَصَرِكَ إِلَى مَوْضِعِ سُجودِكَ، فَلَو تَعْلَمُ مَنْ عَنْ يَمِينكَ وَشِمالِكَ لأَحْسَنْتَ صَلاَتَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ يَرَاكَ وَلاَ تَرَاهُ»([7]).

 وبإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث أنَّهُ قالَ: «لأُحِبُّ لِلرَّجُلِ المُؤْمِنِ مِنْكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَة فَرِيضَةٍ أَنْ يُقْبِلَ بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ وَلاَ يَشْغُلَ قَلْبَهُ بِأَمْرِ الدُّنْيَا، فَلَيْس مِنْ عَبْدٍ يُقْبلُ بِقَلْبِهِ فِي صَلاَتِهِ إِلَى اللهِ تَعالى إلاّ أَقْبَلَ اللهُ إلَيه بِوَجْهِهِ وَأَقْبَلَ بِقُلوبِ المُؤمِنينَ إلَيْهِ بِالمَحَبَّةِ بَعْدِ حُبِّ اللهِ إيَاهُ»([8]).

 انتبه ما أعظم هذا الخبر الباعث على الفرح والسرور، الذي يخبر به الصادق من آل محمد عليهم السلام المؤمنين، ومع الأسف إننا نحن المساكين المحجوبين عن المعرفة، المحرومين من التوجه إلى الحق المتعالي، لا نعرف شيئاً عن صداقة ذاته المقدس لنا وإقباله علينا ونقيس الصداقة مع الحق على الصداقة مع العباد. إن أهل المعرفة يقولون بأن الحق المتعالي يرفع الحجب لمحبوبه، ويعلم الله ما في هذا الرفع للحجب من الكرامات ! إنه غاية آمال الأولياء، وأقصى أُمنياتهم هو رفع هذه الحجب.

 إن أمير المؤمنين عليه السّلام وأولاده المعصومين يسألون الله سبحانه في المناجاة الشعبانية قائلين:

 «إلهي هَبْ لِي كَمَالَ الانْقِطَاع إلَيْكَ، وَأَنْرَ أَبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِياءِ نَظَرهَا إلَيْكَ، حَتَّى تَخْرِقَ أَبْصَارُ القُلُوبِ حُجَبَ النُّورِ، فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ العَظَمَةِ، وَتَصيرَ أَرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعزِّ قُدْسِكَ»([9]).

 إلهي أيَّة بصيرة هذه البصيرة القلبية النورانية التي سألها أولياؤك، ورجوك أن يصلوا إليك بها؟

 إلهي ما هذه الحجب النورانية التي يتداول ذكرها على ألسنة أئمتنا المعصومين عليهم السلام؟. إلهي ما هو معدن العظمة والجلال وعز القدس والكمال، الذي يكون منتهى طلب هؤلاء الكبار، ونحن منه محرومون حتى عن استيعابه العلمي فكيف بتذوقه وشهوده؟ إلهي نحن عبادك المسودة وجوههم والمظلمة أيامهم، لا نعرف شيئاً عدا طعامنا وشرابنا وراحتنا وبغضنا وشهوتنا، ولا نفكر يوماً في معرفة هذه الأمور، فانظر إلينا بلطفك، وأيقظنا من سُباتنا وأزل عنا هذا السُكر الذي قد غشينا.

 وعلى أية حال يكفي لأهل المعرفة هذا الحديث الواحد، حتى ينفقوا جل عمرهم، لتحصيل الحب الإلهي، ويتمتعوا بالإقبال على الله. ولكن أمثال الذين لا يكونون جياد هذه الساحة وفرسان هذا الميدان نتشبث بأحاديث أخرى:

 عن ثواب الأعمال: بِإِسناده عَمَّن سمع أبا عبد الله عليه السلام يَقولُ: «مَنْ صَلّى رَكْعَتَيْنِ يَعْلَمُ مَا يَقولُ فِيهِما، انْصَرَفَ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ ذَنْبٌ إلاّ غَفَرَ لَهُ»([10]). وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: «رَكْعَتانِ خَفيفَتانِ في تَفَكُّرٍ خَيْرٌ مِنْ قِيامِ لَيْلَة»([11]).

 

فصل: مراتب حضور القلب

 بعد أن علمت أن حضور القلب في العبادات، جوهر العبادة وروحها، وأن نورانية العبادة مع مراتب كمالها، مرتبطتان بحضور القلب ومراتبه، لابد من معرفة مراتب حضور القلب وهي أن بعضها تختص بأولياء الحق سبحانه، وتكون أيدي الآخرين قاصرة عن الوصول إلى قمتها. وبعضها متيسره الحصول والتحقق لكافة الناس أيضا.

 ولابد من معرفة أن حضور القلب، ينقسم بصورة عامة إلى قسمين مهمين:

 أحدهما: حضور القلب في العبادة. والآخر حضور القلب في المعبود وقبل شرح هذا الموضوع، لابد من ذكر مقدمة هي:

 يقول أهل المعرفة ـ العرفاء ـ إن العبادات بأسرها، ثناء للمعبود ولكن كل منها ثناء للحق سبحانه، بواسطة نعت من النعوت أو اسم من الأسماء إلا الصلاة فإنها ثناء للحق مع جميع الأسماء والصفات. وقد تقدم منا الكلام لدى شرح بعض الأحاديث وقلنا بأن ثناء المعبود من الفطرة التي جبل عليها جميع الناس، والتي تقضي بلزوم الثناء على المعبود، والخضوع للكامل المطلق والجميل المطلق والمنعم المطلق والعظيم المطلق. وحيث أن أحداً لا يستطيع أن يكتشف كيفية ثناء الذات الأحدى المقدس، لأنه قائم على معرفة الذات والصفات، وكيفية ارتباط عالم الغيب بعالم الشهادة، وعالم الشهادة بعالم الغيب، وأن هذه المعرفة غير متيسرة لكل أحد إلا عن طريق الوحي والهام الإلهي ولهذا كان العبادات بشكل عام توقيفية، وبيد الحق سبحانه، ولا يحقّ لأحد أن يشرّع من عنده، ويبدع عبادة كما لا اعتبار لأساليب التواضع والاحترام المعهودة عند الناس أمام الكبار والسلاطين، أمام عظمة ساحة قدس رب العالمين. فلا بد للإنسان أن يفتح سمعه وعينه ويتلقى كيفية العبادة والعبودية من الوحي والرسالة، من دون أن يتصرّف هو بنفسه.

 فبعد أن علمنا بأن العبادة هي الثناء على المعبود، اعلم بأن حضور القلب كما أشير إليه ينقسم إلى قسمين مهمين:

 أحدهما حضور القلب في العبادة، والآخر حضور القلب في المعبود.

 أما حضور القلب في العبادة، فله أيضاً مراتب، وعمدتها مرتبتان:

 إحداهما: حضور القلب في العبادة إجمالاً: وهو أن الإنسان لدى إنجازه لعبادة ـ مهما كانت هذه العبادة من الطهارة مثل الوضوء والغسل أو من قبيل الصلاة والصيام والحج وغيرها من الأمور العبادية ـ يعرف إجمالا بأنه يثني على المعبود، رغم عدم معرفته أي ثناء يثني أو أي اسم من أسماء الحق يدعو.

 لقد كان شيخنا العارف الكامل الشاه أبادي روحي فداه ـ يضرب مثالاً على حضور القلب في العبادة على سبيل الأجمال، بأن شخصاً ينظم قصيدة في مدح أحد ثم يعطيها لطفل لا يستوعب معناها أبداً، لكي يلقيها أمام ذلك الممدوح، ثم يُفهم الطفل بأن هذه القصيدة قد نظمت في مدح ذلك. فعندما يقرأ الطفل هذه القصيدة، يعلم إجمالاً بأنه يثني على الممدوح رغم جهله لكيفية ثنائه عليه. ونحن الذين أيضاً بمثابة الأطفال نمدح الحق، من دون أن نعرف ما هي أسرار هذه العبادات؟ وما هي الأسماء التي ترتبط بها هذه العبادات؟ وكيف تكون هذه العبادات ثناءاً للحق جل وعلا؟ ولكن لابد وأن نعرف إجمالاً بأن كل واحد من هذه العبادات، ثناء على الكامل المطلق والمعبود المطلق والممدوح المطلق، على الشكل الذي أثنى هو بنفسه على نفسه، وأمرنا أن نثني أمام ساحته المقدسة بنفس هذه الكيفية.

 والآخر من مراتب حضور القلب، هو حضور القلب في العبادة بصوره تفصيلية. ولا تتيسر لأحد المرتبة الكاملة منها إلا للخلص من أوليائه، ولأهل المعرفة، ولكن بعض المراتب الدانية منها متيسرة الحصول للآخرين، حيث تكون المرتبة الأولى منها هي الإلتفات إلى معاني الألفاظ في مثل الصلاة والدعاء. وقد أشير إلى هذه المرتبة في رواية مأثورة عن (ثواب الأعمال) سابقاً. (في صفحة 392 من هذا الكتاب).

 والمرتبة الأخرى أن يعرف حسب الإمكان أسرار العبادة، ويعلم كيفية ثناء المعبود في كل من الأوضاع والأحوال.

 إن أهل المعرفة قد بيّنوا شيئاً قليلاً من أسرار الصلاة والعبادات الأخرى، واستفادوا حسب الإمكان من أخبار المعصومين عليهم السلام، وإن كان فهم الحقيقة بأسرها غير متيسر إلاّ للقليل من الناس، وما تيسّر فهمه، فهو غنيمة لأهله.

 وأما حضور القلب في المعبود: فله مراتب أيضاً وعمدتها مراتب ثلاثة:

 إحداها حضور القلب في تجلّيات الأفعال. ثانيها حضور القلب في تجلّيات الأسماء والصفات وثالثها حضور القلب في تجلّيات الذات. ولكل واحدة من هذه المراتب الثلاث بصورة كلية أربع مراتب:

 المرتبة العلمية، المرتبة الإيمانية، المرتبه الشهودية، المرتبة الفنائية. والمقصود من حضور القلب في تجلّيات الأفعال العلمية، هو أن الشخص العابد السالك يدرك عن يقين وبرهان بأن مراتب الوجود كافة، ومشاهد الغيب والشهود بأسرها، قبس من فيوضات تجلي الذات الأقدس، وأن من أدنى مرتبة في عالم الطبيعة إلى مبدأ الملكوت الأعلى والجبروت الأعظم، حاضر عند ساحة قدسه، بحضور واحد، وأن الجميع شعاع مظهر مشيئته كما ورد في الحدث الشريف المنقول عن الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام: «خَلَقَ اللهُ المَشيَّةَ بِنَفْسِهَا ثُمَّ خَلَقَ الأشْيَاءَ بِالمَشِيَّةِ»([12]). فالمشية تكون بنفسها مظهراً للذات، وسائر المجودات مخلوقه بها. ونحن لسنا بصدد الاستدلال على هذا المعنى الشريف. فإذا علم العابد هذا المعنى عن علم ودليل، فهم بأنه هو وعبادته وعلمه وإرادته وقلبه وحركات قلبه وظاهره وباطنه والجميع حاضرون في ساحة قدسه بل الكل عين الحضور.

 وإذا سَجّل مع قلم العقل هذا المعنى الثاني بالدليل، على لوح القلب، واعتقد عبر الترويض العلمي والعملي، بهذه القضية اليقينية الإيمانية، لبلغ حضور القلب مرتبة تجلي الإيمان. وبعد حصول الكمال لهذا الإيمان والمجاهدة والترويض والتقوى الكاملة للقلب، تشمله الهداية الإلهية، ويحصل في قلبه قدراً من تجليات الأفعال بالعيان والشهود، ثم يتكامل حتى يصبح القلب كلياً مرآة للتجليات، ويحصل للسالك الصعق والفناء. وهذه هي المرتبة الأخيرة للحضور، التي تنتهي إلي فناء الحاضر في تجليات الأفعال. وكثير من أهل السلوك يبقون في هذا الصعق إلى الأبد ولا يصحون.

 وإذا كان قلب السالك مؤهلاً لأكثر من ذلك من جراء إشعاع الفيض الأقدس في عالم الأزل، يصحو السالك من الصعقة، ويحصل له الإنس ويعود إلى عالمه ويكون مورداً لتجلّيات الأسماء، ويطوي تلك المراتب الأربعة، ويصل إلى مرحلة الفناء في الصفات، وبمناسبة عينه الثابتة يفنى في اسم من الأسماء الإلهية. وإن كثيراً من أهل السلوك يبقون في هذا الفناء الأسمائي ولا يصحون. ولعل الكلمة القائلة «إنَّ أوليائي تَحْتَ قبابي لا يَعْرِفُهُمْ غَيْري»([13]). إشارة إلى هؤلاء الأولياء.

 وإذا كان هناك استعداد أكثر من جراء تجلي الفيض الأقدس في عالم الأزل، يحصل للسالك بعد الصعقة والفناء، الأنس أيضاً ويصحو، ويصير محلاً للتجليات الذاتية ويطوي المراحل الأربعة حتى مرتبة الفناء الذاتي، والصعق الكلي فينتهي السير إلى الله ويحصل الفناء التام.

 قال بعض أن الآية الكريمة (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)([14]). تشير إلى هذه الطائفة من أولياء الله والسالكين إليه وأجرهم لا يكون إلا على الذات المقدس تبارك وتعالى.

 وقد يتفق أن يفيق السالك من فناءه فينهض حسب استعداده، وقدر إحاطة عينه الثابتة، لهداية الناس (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ)([15]). وإن كانت عينه الثابتة تابعة للاسم الأعظم، لاختتمت به دائرة النبوة ـ كما اختتمت بالنبي المعظم الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يوجد شخص أخر من الأولين والآخرين ومن الأنبياء والمرسلين، كانت عينه الثابتة، تابعة للاسم الأعظم وكان ظهور ذاته بجميع الشؤون ـ ولهذا حصل له صلى الله عليه وآله وسلم ظهور بجميع الشؤون وحصلت الغاية من الظهور في الهداية، وتم الكشف الكلي، واختتمت النبوة بوجوده المقدس.

 وإذا فرضا أن شخصاً من أولياء الله تبعاً لذات النبي المقدس وهدايته سبحانه، بلغ نفس المقام المقدس، لكان كشفه عين النبي، إذ لا يجوز التكرار في التشريع. فإذن انتهت دائرة النبوة في وجوده المقدس. صلى الله عليه وآله وسلم ووضع اللبنة الأخيرة في دائرة النبوة، كما ورد في الحديث.

 ولابد من معرفة أن العبادات والكيفيات المعنوية لها، تختلف كثيراً من شخص لآخر من أصحاب المقامات المذكورة وتتفاوت، حيث يكون لكل منهم حظّ ونصيب من المناجات مع الحق المتعالي، مالا يكون لغيره الذي لم يبلغ ذلك المقام. ومن الواضح أن ما حصل للأمام الصادق عليه السلام لدى العبادة لا يمكن أن يحصل للآخرين.

 لقد نقل عن كتاب (فلاح السائل) للسيد ابن طاووس قدس الله سره ـ أنه قال: «فَقَدْ رُويَ أَنَّ مَوْلاَنَا جَعْفَرَ بنَ محمَّد الصادقَ عليه السّلام كانَ يَتْلُو القُرآن في صَلاَتِهِ فَغُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمّا أفَاقَ سُئِلَ: مَا الَّذِي أَوْجَبَ مَا انْتَهَتْ حَالُكَ إِلَيْهِ؟ فَقالَ مَا مَعْنَاهُ: مَا زِلْتُ أُكَرِّرُ آياتِ القُرْآنِ حَتّى بَلَغْتُ إِلَى حَالٍ كَأَنَّنِي سَمِعْتُهَا مُشَافَهَةً مِمَّنْ أَنْزَلَهَا عَلَى المُكَاشَفَةِ وَالعِيانِ، فَلَمْ تَقُمِ القُوَّةُ البَشَرِيّةُ بِمُكَاشَفَةِ الجَلاَلَةِ الإِلهِيَّةِ»([16]).

 والحالة التي كانت تحصل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لم تحصل لأحد من الكائنات كما ورد في الحديث المشهور (لِي مَعَ الله حالٌ لا يَسَعَهُ مَلَكُ مُقَرَّبٌ وَلا نَبِيٌ مُرْسَلٌ)([17]). وعليه أترك هذا الموضوع الذي لا حظ لي فيه إلاّ الألفاظ، وأشير إلى أن المهمّ لأمثالنا المحرومين من مقامات الأولياء، أن لا نجحد هذه المقامات بل نسلّم بها فإن في التسليم لأمر الأولياء فوائد كثيرة وفي الإنكار والعياذ بالله مفاسد. اللَّهُمَّ إِنِّي مُسَلِّمٌ لأَمْرِهِمْ ـ صلواتُ الله عليهم أجمعين ـ.

 

فصل: بيان بعض أسرار العبادة وتجسيم الأعمال

 اعلم أنه لا يتم حضور القلب في العبادات، إلا بعد تفهيم القلب لأهمية العبادات، وهو لا يتيسر إلاّ عند استيعاب أسرارها وحقائقها. ومن الواضح أن ذلك لا يحصل لنا، ولكنني أذكر منها بالمقدار الذي يتناسب مع فهم أمثالي مستفيداً من أخبار أهل بيت العصمة عليهم السلام، ومن كلمات أهل المعرفة، بالمقدار الذي ينسجم مع حجم هذا الكتاب.

 اعلم ـ كما أشرنا مرّات ـ أن لكل من الأعمال الحسنة والأفعال العبادية صورة باطنية ملكوتية، وأثر في قلب العابد، أما الصورة الباطنية فهي التي تعمّر العوالم البرزخية والجنة الجسمانية، لأن أرض الجنة قاع خالية من كل شيء كما ورد في الحديث، وأن الأذكار والأعمال موادّ إنشاء وبناء لها. كما ورد في الحديث أيضاً. وإن الآيات الكثيرة من الكتاب الشريف الإلهي، تدل على تجسّم الأعمال مثل قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه)([18]). ومثل قوله تعالى: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا)([19]).

 والأخبار الدالة على تجسم الأعمال والصور الغيبية الملكوتية مذكورة في أبواب مختلفة. ونحن نكتفي بذكر بعضها:

 روى الصدوقُ ـ قُدِّسَ سِرُّهُ ـ بإسناده عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: «مَنْ صَلّى الصَّلَواتِ المَفْروضاتِ في أَوَّلِ وَقْتِهَا وَأَقَامَ حُدودَها، رَفَعَهَا المَلَكُ إِلَى السَّماءِ بَيْضاءَ نَقِيَّهً تَقولُ: حَفِظَكَ اللهُ كَمَا حَفِظْتَنِي، اسْتَوْدَعَنِي مَلَكٌ كَرِيمٌ. وَمَنْ صَلاّها بَعْدَ وَقْتِهَا مِنْ غَيْرٍ عِلَّةٍ وَلَمْ يُقِمْ حُدودَها، رَفَعَهَا المَلَكُ سَوْداءَ مُظْلِمَةً وَهِيَ تَهْتِفُ بِهِ ضَيَّعْتَنِي ضَيَّعَك اللهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي وَلاَ رَعَاكَ اللهُ كَمَا لَمْ تَرْعَنِي»([20]).

 ويستفاد من هذا الحديث الشريف مضافاً إلى تحقق الصورة الملكوتية للعمل، حياة الصورة الملكوتية وشؤونها الحياتية أيضاً، وهذا ضرب من البرهان على تجسم الأعمال. والأخبار تدل على أن لجميع الموجودات حياة ملكوتية، وأن عالم الملكوت كله حياة وعلم. (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ)([21]).

 وفي الكافي بإسناده عن أبى عبد الله في حديث طويل: «إذا بَعَثَ اللهُ المُؤمِنَ مِنْ قَبْرِهِ خَرَجَ مَعَهُ مِثالٌ يِقْدُمُ أَمَامَهُ، كَلَّمَا يَرَى المُؤْمِنُ هَوْلاً مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ القِيَامَةِ قَالَ لَهُ المِثالُ: لاَ تَفْزَعْ وَلاَ تَحْزَنْ وَأَبْشِرْ بالسُّرورِ وَالكَرَامَةِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتى يَقِفَ بَيْنَ يَدَي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُحَاسِبُهُ حِساباً يَسيراً وَيَأْمُرُ بِهِ إِلَى الجَنَّةِ وَالمِثالُ أَمَامَهُ، فَيَقولُ لَهُ المُؤْمِنُ: يَرْحَمُكَ اللهُ نِعْمَ الخَارِجُ، خَرَجْتَ مَعي مِنْ قَبْرِي وَمَا زِلْتَ تُبَشِّرُنِي بِالسُّرُور وَالكَرَامَةِ مِنَ اللهِ حَتّى رَأيْتُ ذلِكَ، فَيَقُولُ: مَنْ أنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا السُّرُورُ الَّذِي كُنْتَ أَدْخَلْتَهُ عَلَى أخيكَ المُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا، خَلَقَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ لأُبَشِّرَكَ»([22]).

 وفي هذا الحديث الشريف أيضاً دلالة واضحة على تجسّم الأعمال في نشأة الآخرة. كما ذكر الشيخ الأجل بهاء الدين قدس سره أيضاً إثر ذكره لهذا الحديث: (وقد ورد في بعض الأخبار تجسم الاعتقادات أيضاً فالأعمال الصالحة والاعتقادات الصحيحة تظهر صوراً نورانية مستحسنة موجبة لصاحبها كمال السرور والابتهاج، والأعمال السيئة والاعتقادات الباطلة تظهر صوراً ظلمانية مستقبحة توجب غاية الحزن والتألم كما قاله جماعة من المفسرين في قوله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) ويرشد إليه قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه). ومن جعل التقدير ليروا جزاء أعمالهم ولم يرجع ضمير يره إلى العمل فقد بعد عن الحق)([23]). انتهى كلامه رفع مقامه الشريف.

 وفي هذا المقام كلام غريب صدر من بعض المحدثين الأجلاّء والأولى عدم ذكره، وهو ينبع من توهم المنافاة بين القول بتجسم الأعمال، والقول بالمعاد الجسماني مع أن هذا الكلام ـ تجسّم الأعمال ـ يؤكد المعاد الجسماني وكلمة تمثّل في هذا الحديث الشريف تعطي نفس المعنى التمثل المذكور في قوله تعالى:

 (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)([24]). والذي هو التمثل بالصورة الجسمانية حقيقة، وليس بمعنى الوهم والخيال والرؤيا في المنام. وليس من المستحسن صرف أمثال هذه الآيات والروايات عن ظاهرها لأجل عدم انسجام مضمونها مع عقولنا، رغم مطابقتها للبرهان القاطع المذكور في محله، وموافقته لمذهب الحكماء والفلاسفة. فإن من أفضل الأمور التسليم أمام ساحة قدس الحق المتعالي والأولياء المعصومين والإذعان إلى الآيات الشريفة والروايات المباركة.

 فعلم أن كل عمل مقبول لدى ساحة قدس الحق المتعالي صورة بهية حسنه تتناسب معه من الحور أو القصور أو الجنان العالية أو الأنهار الجارية. ولا يوجد كائن على صفحة الوجوب جزافاً، بل هناك ارتباطات عقليه بينها لا يدركها إلا الكملين من الأولياء. وعلى أي حال إن هذا الموضوع يتطابق مع مقاييس العقل والبراهين الفلسفية. ثم بعد أن عُلم بأن الحياة في عالم الآخرة ولذّاتها ترتبط بأعمال تنتقل صورها الكمالية إلى ذلك العالم، وإن تلك الأعمال عبادات قد اكتشفها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبر أمتّه بها، وأن كمال العبادة وحسنها منوط بالنية وتوجه القلب والمحافظة على شرائطها، وأنه إذا فقدت العبادة هذه الأمور أو بعضها، سقطت عن الاعتبار، بل كانت لها صورة بشعة مشوّهة يلقاها الإنسان في عالم الآخرة، كما يستفاد من الأخبار والأحاديث.

 بعد أن علمت هذه الأمور، على كل إنسان مؤمن بعالم الغيب وبأحاديث الأنبياء والأولياء وأهل المعرفة، وذوي الرغبة في الحياة الأبدية، أن يصلح أعماله مهما كلفت من مشقة وجهد وترويض للنفس حيث يجب عليه بعد موافقة ظواهر أعماله للقواعد الاجتهادية أو فتوى الفقهاء رضوان الله عليهم السعي في سبيل إصلاح سيرته وباطنه، وبذل الجهد حتى يأتي بالفرائض على الأقل مع توجه القلب، ويجبر عيوبها بالنوافل. كما ورد في الأحاديث الشريفة، أن النوافل تجبر الفرائض وتبعث على قبولها.

 في العِلَل: بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنَّما جُعِلَتِ النّافِلَةُ لِيَتِمَّ بِهَا مَا يَفْسُدُ مِنَ الفَرِيضَةِ([25]).

 وروى الشَّيخ ـ قُدِّس سِرُّه ـ بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «يُرْفَعُ لِلرَّجُلِ مِنَ الصَّلاةِ رُبْعُها أوْ ثُمْنُهَا أَوْ نِصْفُهَا أَوْ أَكْثَرُ بِقَدْرِ مَا سَها([26])، وَلكِنَّ اللهَ تَعَالى يُتِمُّ ذلِكَ بِالنَّوافِلِ»([27]).

 ومن هذا القبيل روايات كثيرة. ومن المعلوم أننا لا نخلو من السهو والنسيان وتشويش في الحواس والأمور الأخرى التي تتنافى مع الصلاة أو مع كمالها، وقد شرّع الله بلطفه الكامل النوافل حتى تجبر نقيصتها، ومن اللازم وبقدر الإمكان إن لا نغفل عن هذا الأمر ولا نترك النوافل.

وعلى أي حال أيها العزيز، أفق قليلاً من الغفلة، وتأمل في أمرك، وانظر في صحيفة أعمالك، واخشَ من أعمال تظن أنها صالحه مثل الصلاة والصوم والحج وغيرها، في حين أنها تكون سبب عنائك وذُلّك في ذلك العالم. فحاسب نفسك ما دامت الفرصة مؤاتية، وزن عملك بيدك، وزنه في ميزان شريعة أهل البيت وولايتهم، وتبين من صحته وفساده وكماله ونقصه، وأجبره ما دامت الفرصة سانحة، والمُهلة باقية. وإن لم تحاسب نفسك هنا ولم تصحّح أعمالك فستحاسب هناك، ويوضع ميزان الأعمال أمامك، فتواجه مصائب عظمى. إتق الله في ميزان عدله، ولا تغترّ بشيء، ولا تترك الجد والاجتهاد، وراجع صحيفة أعمال أهل البيت عليهم السلام المعصومين من الخطأ وتأمل فيها، حتى تعرف بأن الأمر صعب والطريق ضيق ومظلم.

 أنظر إلى هذا الحديث الشريف وانتبه إلى تفاصيل من خلال هذا الإجمال.

 عن فخر الطائفة وسندها وذخرها وعمادها محمَّد بن النُّعمان المفيد ـ رضوان الله عليه ـ في الإرشاد: عن سعيدِ بن كُلثومٍ، عن الصادق بن جعفرِ بن محمَّد عليه السلام قالَ: وَاللهِ مَا أكَلَ عَليُّ بْنُ أبِى طالِب عليه السّلام مِنَ الدُّنْيا حَراماً قَطُّ حَتّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، وَمَا عَرَضَ لَهُ أَمْرانِ كِلاَهُمَا ِللهِ رضاً إلاّ أخَذَ بِأَشَدِّهِمَا عَلَيْهِ فِي بَدَنِه (دينه ـ خ ل) وَمَا نَزَلَتْ بِرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم نازلَةٌ قَطُّ إلاّ دَعَاهُ ثِقَةً بِهِ، وَمَا أَطَاقَ أَحَدٌ عَمَلَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ وَجِلٍ كَانَ وَجْهُهُ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ يَرْجُو ثَوابَ هذِهِ وَيخافُ عِقابَ هذِهِ.

 وَلَقَدْ أَعْتَقَ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ مَمْلوكٍ فِي طَلَبِ وَجْهِ اللهِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ مِمّا كَدَّ بِيَدَيْهِ وَرَشَحَ مِنْهُ جَبِينُهُ. وَإِنَّهُ كَانَ لَيَقوتُ أَهْلَهُ بِالزَّيْتِ وَالخَلِّ وَالعَجْوةِ، وَمَا كَانَ لِبَاسُهُ إِلاّ كَرابيسَ إذا فَضَلَ شَيْءٌ عَنْ يَدِهِ دَعا بِالجَلَمِ فَقَصَّهُ.

 وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ وُلْدِهِ وَلاَ أَهْلِ بَيْتِهِ أَحَدٌ أَقْرَبُ شَبَهاً بِهِ فِي لِبَاسِهِ وَفِقْهِهِ مِنْ عَلِيِّ بن الحُسَيْنِ عليهما السّلام، وَلَقَدْ دَخَلَ أبو جَعْفَرٍ عليه السّلام ابْنُهُ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ بَلَغَ مِنَ العِبَادَةِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ، فَرَآهُ قَدِ اصْفَرَّ لَوْنُهُ مِنَ السَّهَر وَوَمَضَتْ عَيْنَاهُ مِنَ البُكَاءِ وَدَبِرَتْ جَبَهَتُهُ وَانْخَرَمَ أَنْفُهُ مِنَ السُّجودِ وَوَرِمَتْ سَاقَاهُ وَقَدَمَاهُ مِنَ القِيامِ فِي الصَّلاَةِ.

 وَقَالَ أَبو جَعْفَرٍ عليه السّلام: فَلَمْ أَمْلِكْ حِينَ رَأيْتُهُ بِتَلْكَ الحالِ إلاّ البُكاءَ فَبَكَيْتُ رَحْمَةً لَهُ فَإِذَا هُوَ يُفكِّرُ، فَالتَفَتَ إِلَىَّ بَعْدَ هُنَيْئَةٍ مِنْ دُخُولِي فَقالَ: يَا بُنَيَّ أَعْطِنِي بَعْضَ تِلْكَ الصُّحُفِ الَّتِي فِيهَا عِبَادَةُ عَليِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ عليه السّلام، فَأَعْطَيْتُهُ فَقَرَأ فِيهَا شَيْئاً يَسيراً ثُمَّ تَرَكَهَا مِنْ يَدِهِ تَضَجُّراً وَقَالَ: مَنْ يَقْوى[عَلَى] عِبَادَةَ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَاِلبٍ عليه السّلام([28]).

 وعن أبي جعفر عليه السلام: كانَ عليُّ بْنُ الحُسَيْنِ عليهما السلام يُصَلِّي فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ألْفَ رَكْعَةٍ وَكَانَتِ الرِّيحُ تُمَيِّلُهُ مِثْلَ السُّنْبُلَةِ([29]).

 عزيزي: فكّر قليلاً في هذه الأحاديث الشريفة، وانظر إلى الإمام الباقر عليه السلام المعصوم الذي بكى من شدّة وكيفية عبادة أبيه. والى الإمام السجاد عليه السلام رغم شدّة محافظته على العبادة وكمالها والتي بعثت على بكاء ابنه الإمام الباقر عليه السلام، أنه صلوات الله عليه قرأ شيئاً يسيراً من صحيفة عمل جده علي بن أبي طالب عليه السّلام، وأظهر عجزه. ومن المعلوم أن الجميع عاجزون عن عبادة مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام وأن الناس عاجزون عن عبادة المعصومين عليهم السّلام، ولكن لا يجوز للإنسان العاجز عن نيل المقام العالي أن يترك العبادات نهائيا.

 لا بد من معرفة أن هذه العبادات ـ والعياذ بالله ـ لا يكون عبثاً، بل إن إبداء أهل المعرفة الحقيقيين العجز والذل وإلحاحهم في الدعاء والمسألة، من أجل أن الطريق ضيق ومحفوف بالمخاطر، وأن مضاعفات الموت، صعبة للغاية. إن حالة اللامبالاة هذه التي نعيشها تكون نتيجة ضعف إيماننا ووهن عقيدتنا وجهلنا.

 إلهي أنت واقف على حقيقتنا، وعالم بقصورنا وتقصيرنا، وضعفنا وعجزنا. أنت غمرتنا برحمتك قبل أن نسألها. وابتدأتنا بنعمك، وتفضّلت علينا من دون طلب والتماس. نحن نعترف بتقصيرنا وكفرنا لآلائك اللامتناهية، ونجد أنفسنا من المستحقين لعذابك الأليم، ودخول الجحيم ولا نملك شيئاً يسعفنا ووسيلة تعيننا، إلاّ ما عرفتنا به على لسان أنبيائك من التفضّل والترحّم وسعة جودك ورحمتك، فقد عرفناك بهذه الصفات حسب فهمنا واستيعابنا. فماذا تصنع مع حفنة تراب إن لم ترحمه وتتفضل عليه؟

 أَيْنَ رَحْمَتُكَ الوَاسِعَةُ؟ أَيْنَ أَيَادِيكَ الشّامِلَةُ؟ أيْنَ فَضْلُكَ العَمِيمُ؟ أَيْنَ كَرَمُكَ يَا كَرِيمُ؟

 

فصل: في بيان أن التفرغ في العبادة يوجب الغنى في القلب

 لا بد من معرفة أن الغنى من الأوصاف الكمالية للنفس، بل يكون من الصفات الكمالية للموجود بما أنه موجود، ولهذا، يكون الغنى من الصفات الذاتية للذات الحق المقدس جلّ وعلا، وإن الثروة والأموال لا توجب الغنى في النفس، بل نستطيع أن نقول إن من لا يملك غنىً في النفس، يكون حرصه تجاه المال والثراء والمنال أكثر، وحاجته أشد. ولمّا لم يكن أحد غنياً حقيقياً أمام ساحة الحق جلّ جلاله المقدسة الغنى بالذات، وكانت الموجودات كلها من أدنيها وهو التراب إلى ذُروة الأفلاك، ومن والهيولى الأولى إلى الجبروت الأعلى، فقيرة ومحتاجة، لهذا كلما كان تعلق القلب إلى غير الحق، وتوجّه الباطن نحو تعمير المُلك والدنيا أشدّ، كان الفقر والحاجة أكثر، أما الحاجة القلبية، والفقر الروحي، فواضح جداً، لأن نفس التعلق والتوجه فقر. وأما الحاجة الخارجية التي تؤكد بدورها الفقر القلبي، فهي أيضا أكثر، لأن أحداً لا يستطيع النهوض بأعماله بنفسه، فيحتاج في ذلك إلى غيره. والأثرياء وإن ظهروا في مظهر الغنى ولكنهم بالتمعن يتبين أن حاجتهم تتضاعف على قدر تزايد ثرواتهم. فالأثرياء فقراء في مظهر الأغنياء، ومحتاجون في زيّ من لا يحتاج.

 وكلّما اتجه القلب نحو تدبير الأمور وتعمير الدنيا أكثر، وكان تعلقه أشد، كان غبار الذل والمسكنة عليه أوفر، وظلام الهوان والحاجة أوسع، وعلى العكس كلّما رَكَلَ بقدمه التعلق بالدنيا، حوّل بوجه قلبه إلى الغنى المطلق، وآمن بالفقر الذاتي للموجودات، وعرف بأن أحداً من الكائنات لا يملك لنفسه شيئاً، وأن جميع الأقوياء والأعزّاء والسلاطين قد سمعوا بقلوبهم أمام ساحة الحق المقدسة من الهاتف الملكوتي، واللسان الغيبي، الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)([30]). كلما استغنى الإنسان عن العالمين أكثر، وبلغ مستوى استغنائه درجة لا يرى لمُلك سليمان قيمة، ولا يأبه بخزائن الأرض عندما توضع بين يديه مفاتيحها. كما ورد في الحديث أن جبرائيل قد هبط من قبل الله تعالى بمفاتيح خزائن الأرض لخاتم النبيين صلّى الله عليه وآله وسلم، فتواضع صلوات الله وسلامه عليه ورفض قبولها وافتخر بفقره.

 ويقول علي بن أبي طالب عليه السّلام لابن عباس وَإنّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لأهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرادَةٍ تَقْضمُهَا([31]) ويقول الأمام علي بن الحسين عليه السّلام «أَسْتَنْكفُ أنْ أَطْلُبَ الدُنيا مِن خَالِقَهَا فَكَيفَ بِطَلَبِهَا مِن مَخْلُوقٍ مثلي».

 وورد في كتاب (سلسلة الرعية الكبرى) لنجم الدين، بعد الأيمان المغلظة: لو خيروني بين ثروة الدنيا وجاهها مع الجنة وحورها وقصورها، وأرادوا مني مجالسة الأغنياء من جهة، وبين البؤس في الدنيا والشقاء في الآخرة وأرادوا مني مجالسة الفقراء من جهة أخرى، لاخترت الفقراء وابتعدت عن عار مجالسة الأغنياء والنار خير من العار. نعم إن أهل الحق يعرفون أن التوجه نحو خزائن الدنيا والمال والجاه والمجالسة مع أهلها يسبّب أي نوع من الكدورة والظلام في القلب؟ وكيف يبعث على الوهن والفتور في العزيمة، ويوجب الفقر والحاجة لدى القلب وفقره، ويصرفه عن الانتباه إلى النقطة المركزية الكاملة بصورة مطلقة؟ ولكن عندما أعطيت ـ أيها العزيز ـ القلب إلى أهله والبيت إلى صاحبه وأعرضت عن غيره ولم تدفع البيت إلى الغاصب، تجلّى فيه صاحبه. ومن المعلوم تجلي الغَنيّ المطلق، يدفع إلى الغني المطلق، ويغرق القلب في بحر العزة والغِنى، فيمتلأ من الغنى وعدم الاحتياج {وَلِلّهِ العِزَّةُ وَلِرَسولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}([32]) وينهض صاحب البيت بإدارة أموره، ولم يترك الإنسان إلى نفسه، وإنما يتدخل ويتصرف في جميع شؤون عبده، بل يصبح هو سمعه وبصره ويده ورجله، وتتحقق ثمرة التقرب بالنوافل، كما ورد في الحديث الشريف عن الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث: «وَإِنَّهُ لَيَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّافِلَةِ حَتّى أحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَع بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ـ الحديث»([33]). فتوصد باب فقر العبد وفاقته نهائياً ويستغني عن العالمين.

 ومن المؤكد أنه يرتفع من وراء هذا التجلي الخوف من جميع الكائنات، ويحلَّ الخوف من الحق المتعالي محله، وتملأ القلب عظمة الحق وهيبته، ولا يرى لغير الحق عظمة واحتشاماً وتصرّفاً، ويدرك حقيقة (لا مُؤثر فِي الوُجودِ إِلاَّ الله) بكل قلبه. وقد أشير في هذا الحديث الشريف إلى بعض هذه المطالب التي ذكرناها (تَفَرَّغْ لِعِبَادَتي أملأ قَلْبَكَ غنىً ـ الخ) وهذا التفرغ القلبي لأجل العبادة يسمو بالإنسان رويداً رويداً إلى أعلى مراتب حضور القلب للعبادة.

 هذه نبذة من الآثار التي تترتب على العبادة كما ذكرناها.

 فلو أن القلب غفل عن الاشتغال بالحق وأهمل التفرغ في التوجه نحوه لغدت هذه الغفلة أساس كل الشقاء، وينبوع جميع النقائص ومبعث كافة الأمراض النفسية، وبسبب هذه الغفلة يحول بين القلب والحق المتعالي ظلامٌ داكن وكدورة شديدة وحجب غليظة تمنع من تغلغل نور الهداية فيه، وتحرمه من التوفيقات الإلهية، وينعطف القلب مرة واحدة إلى الدنيا وملذاتها من تعمير البطن والفرج. ويغشاه حجاب الأنانية والإنية، وتطغى النفس، ويكون تحرك صاحب هذه النفسية من خلال الترفع والأنانية، ويبدو ذله الذاتي وفقره الحقيقي ويبتعد في كل حركاته وسكناته عن ساحة الحق المتعالي، ويكون نصيبه الخذلان. كما تولى الحديث الشريف بيانه: (وَأَنْ لاَ تَفْرَغْ لِعبَادَتِي أَمْلأُ قَلْبَكَ شُغْلاً بِالدُّنْيَا ثُمَّ لاَ أَسُدُّ فَاقَتَكَ وَأَكِلُكَ إِلَى طَلَبِكَ).

 

تنبيه:

لابد من معرفة أن المقصود من إيكال الأمر إلى العبد ـ أَكِلُكَ إلى طَلَبِكَ ـ، ليس بمعنى تفويض الأمر إليه، لأن هذا المسلك لدى العرفاء والفلاسفة ومذهب الحق باطل وممتنع. إذ لا يوجد كائن خارج عن نطاق تصرف الحق سبحانه، وحيطة قدرة ذاته المقدس، ولا يوكل إليه شيءٌ من تدبير أموره. لكن العبد لمّا ينصرف عن الحق ويتوجه إلى الدنيا وتتحكم فيه الطبيعة وتتغلب عليه الأنانية ويبرز فيه العجب والذاتية والمحورية، يُعبر عن ذلك بإيكال الأمر إلى العبد. وأما الإنسان الذي يولي وجهه نحو الحق والملكوت الأعلى، ويغمر جوانب قلبه نور الحق، فلا محالة تكون تصرفاته حقاً، بل يتحول في بعض المراحل وجوده إلى وجود الحق. كما أشير إلى بعض هذه المقامات في الحديث الشريف المذكور في الكافي عند عرضه لبعض آثار التقرب إلى الله بالنوافل. والله العالم.

 ــــــــــــــــــ

 ([1]) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب العبادة، ح1.

 ([2]) فروع الكافي، المجلد الثالث، ص 269 ـ 270.

 ([3]) فروع الكافي، المجلد الثالث، ص 269 ـ 270.

 ([4]) فروع الكافي، المجلد الثالث، ص 363.

 ([5]) وسائل الشيعة، المجلد الرابع، الباب الثالث من أبواب أفعال الصلاة، ح 6 وح 4.

 ([6]) وسائل الشيعة، المجلد الرابع، الباب الثالث من أبواب أفعال الصلاة، ح 6 وح 4.

 ([7]) وسائل الشيعة، المجلد الرابع، الباب الثاني من أبواب أفعال الصلاة، ح5.

 ([8]) وسائل الشيعة، المجلد الرابع، الباب الثاني من أبواب أفعال الصلاة، ح6

 ([9]) مفاتيح الجنان، المناجات الشعبانية.

 ([10]) وسائل الشيعة، المجلد الرابع، الباب الثاني والثالث من أبواب أفعال الصلاة، ح7 وح5.

 ([11]) وسائل الشيعة، المجلد الرابع، الباب الثاني والثالث من أبواب أفعال الصلاة، ح7 وح5.

 ([12]) أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب التوحيد، باب أن الإرادة من صفات الفعل، ج4.

 ([13]) أخبار العلوم، المجلد الرابع، ص256.

 ([14]) سورة النساء، آية: 100.

 ([15]) سورة المدثر، آيات: 1 و2.

 ([16]) فلاح السائل ص107.

 ([17]) كتاب أحاديث المثنوي.

 ([18]) سورة الزلزلة، آيات: 7 ـ 8.

 ([19]) سورة الكهف، آية: 49.

 ([20]) وسائل الشيعة، المجلد الثالث، الباب الثالث من أبواب المواقيت، ح 17، ص90.

 ([21]) سورة العنكبوت: آية: 64.

 ([22]) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الأيمان والكفر، باب إدخال السرور على المؤمنين، ح8.

 ([23]) أربعين الشيخ البهائي ص 200، شرح حديث 33 عن مرآة العقول ج 9 ص 94.

 ([24]) سورة مريم، آية: 17.

 ([25]) وسائل الشيعة، المجلد الثلث، باب 17 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، ح 10.

 ([26]) قوله (بقدر ما سها) أن المقصود من هذا الحديث الشريف كما هو في الروايات الأخرى، هو أنه يرتفع من الصلاة ويقبل منها بقدر توجه القلب. فقوله (بقدر ما لها) لأجل بيان أصل النسبة وليس لبيان القدر المرفوع. ويحتمل أن يكون السهو بمعنى سكون القلب ولينه لأن السكون قد يكون بمعنى اللين كما ذكره الجوهري. (منه عفى عنه).

 ([27]) وسائل الشيعة، المجلد الثالث، الباب 17 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، ح 12.

 ([28]) الإرشاد ص255 ـ 256.

 ([29]) الإرشاد ص256.

 ([30]) سورة فاطر، آية: 15.

 ([31]) الخطبة 224 من نهج البلاغة.

 ([32]) سورة المنافقون، آية: 9.

 ([33]) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب من أذى المسلمين، ح8.