بسندي المتّصل إلى ثقة الإسلام محمَّد بن يعقوب الكلينيِّ ـ رضوان الله عليه ـ من عدَّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمَّد بن خالد، عن أبيه، عن هارون بن الجَهْم، عن المفضَّل، عن سَعْدٍ، عن أبي جعفرٍ عليه السلام قالَ: «إنَّ القُلوبَ أرْبَعَةٌ: قَلْبٌ فيه نَفاقٌ وَإيمانٌ وَقَلْبٌ مَنْكوسٌ، وَقَلْبٌ مَطْبُوعٌ، وَقَلْبٌ أزْهَرُ أجْرَدُ. فَقُلْتُ مَا الأزْهَرُ؟ قَالَ: فِيهِ كَهَيْئَةِ السِّرَاجِ، فَأَمَّا الْمَطْبُوعُ فَقَلْبُ المُنَافِقِ، وَأمَّا الأزْهَرُ فَقَلْبُ المُؤْمِنِ، إنْ أعطاهُ شَكَرَ وَإنْ ابتُلاَهُ صَبَرَ، وَأمَّا الْمَطْبُوعُ فَقَلْبُ المُشْرِك، ثُمَّ قَرَأَ هذِهِ الآيَةَ:[أَفَمَنْ يَمْشي مُكِباً عَلى وَجْهِهِ أهْدى أمَّنْ يَمْشي سَويّاً عَلى صِراطً مُسْتَقيمٍ] فَأَمَّا الْقَلْبُ الَّذي فيه إيمانٌ وَنِفاقٌ فَهُمْ كانُوا بِالطّائِفِ فَإنْ أدْرَكَ أحَدَهُمْ أجَلُهُ عَلى نِفَاقِهِ هَلَكَ، وَإنْ أدْرَكَهُ عَلى إيْمَانِهِ نَجا»[1].

 

 الشرح:

 

«المنكوس» أي المقلوب يقال: نَكَسْتُ الشَّيْءَ أنْكُسُهُ نَكْساً: قَلَبْتُهُ على رَأْسِهِ، وفي الصحاح الْوَلَدُ المَنْكُوسُ: الَّذي يَخْرُجُ رِجْلاَهُ قَبْلَ رَأْسِهِ، وقريب إلى هذا المعنى ما في الآية الشريفة «مُكِبّاً عَلى وَجْهِه» وقد استشهد عليه الصلاة والسلام بهذه الآية، لأن الإكباب هو السقوط على الوجه، وهو كناية عن أن قلوب أهل الشرك، مقلوبة، وإن حركتهم وسيرهم تكون على غير الصراط المستقيم، كما يأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.

 

و «المطبوع» أي الْمَخْتومُ، وَالطَّبْعُ بِالسُّكونِ: الخَتْمُ، وَبالتَّحْرِيكِ الدَّنَسُ وَالْوَسَخُ. فإذا كان بمعنى المختوم كان كناية عن عدم تغلغل كلمة الحق والحقائق الإلهية في قلوبهم، ورفضها لتقبل تلك الحقائق، ولا يكون بمعنى أن الحق سبحانه يحجب ألطافه الخاصة عن تلك القلوب، وإن كان هذا التفسير أيضاً صحيحاً. ولكن المعنى الأول هو الأنسب.

 

و «الأزْهَرُ» : الأبْيَضُ الْمُسْتَنيرُ كَما عَن «النِّهَايَةِ». وفي «الصِّحاح»: (الأَزْهَرُ: الْنيّرُ وَيُسَمَّى الْقَمَرُ الأَزْهَرَ، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِِ: الأَزْهَرَانِ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَرَجُلٌ أزْهَرُ أيْ أبْيَضُ مُشْرِقُ الْوَجْهِ وَالْمَرْأَةُ: الزَّهْرَاءُ).

 

و «الأجْرَدُ»: الَّذِي لَيْسَ فِي بَدَنِهِ شَعْرٌ. وفي «الصِّحاح»: الجُرْدُ: فَضاءٌ لا نَباتَ فيهِ. وهذه كناية من عدم تعلّق قلبه بالدنيا أو من خلوّه من الغلّ والغشّ.

 

ونحن سنذكر ما يتناسب والمقام عند شرحنا للحديث الشريف، ضمن مقدمة وفصول عديدة.

 

 مقدمة: في الترغيب من إصلاح النفس

 

إعلم أن للقلب في شريعة الإسلام ولدى الحكماء والعرفاء، معانٍ مختلفة، وأن بيان حقيقة القلب والمصطلحات المختلفة فيه، ومراتب القلوب ودرجاتها، خارج عن وظيفة هذا الكتاب، وغير ناجع لنا كثيراً أيضاً. فالأحسن أن نقتصر أيضاً على ذلك الغموض الموجود في الروايات الشريفة، المشتملة على ذكر القلب ونتجاوزه، كما فعلته تلك الروايات. ونذكر ما هو لنا هامّ وضروري.

 

لابد من معرفة أن السعي في سبيل إصلاح القلب الذي يكون في صلاحه أو فساده أساس السعادة والشقاء، أهمّ من البحث عن حقيقة القلب وعن المصطلحات الرائجة فيه[2]، بل قد يسبّب الانشداد إلى المصطلحات الواردة في القلب، والأبحاث المذكورة من حوله، والغور فيها، الغفلة عن القلب نهائياً والتأخر في إصلاحه، وإنه قد يصير أستاذاً في شرح حقيقة القلب وماهيّته والمصطلحات المذكورة من قبل الحكماء والعرفاء في القلب، ولكن قلبه والعياذ بالله سيكون مقلوباً ومنكوساً. مثل الإنسان الذي يعرف خصائص الأدوية وآثارها الضارة أو النافعة، ويشرح كل واحد من ذلك بصورة جيدة، ولكنه لا يكون على حذر من الأدوية الضارة، ولا ينتفع من الأدوية المجدية، فمن المسلّم أن مصير إنسان كهذا رغم إلمامه الواسع بالأدوية، الهلاك، ولن ينقذه علمه أبداً.

 

إننا ذكرنا سابقاً بأن العلوم بأسرها تكون للعمل، حتى علوم المعارف الإلهية حيث لها انعكاسات عملية أيضاً. ونقول هنا بأن علم أحوال القلوب وكيفية صحّتها ومرضها وصلاحها وفسادها، من العلوم التي تعدّ مقدمة للعمل، وأداة لعلاج القلب وإصلاحه. وأما الإحاطة بهذه الأمور واستيعابها لا يعتبر من الكمالات الإنسانية.

 

إذن لابد للإنسان أن يركّز انتباهه على إصلاح القلب، ويجعل مبتغاه، إكماله حتى ينال منتهى السعادة الروحانية، والمراتب العالية الغيبية. وإذا ما كان هو أيضاً من أصحاب العلوم والدقائق والحقائق، لكان همّه الوحيد في غضون سيره في الآفاق والأنفس تحسين حالاته النفسية، فلو كانت الحالة النفسيّة من المهلكات لأصلحها، ولو كانت من المنجيات لبذل الجهد في سبيل تكميلها.

 

 فصل: في بيان مصدر أقسام القلوب ومراتبها

 

إعلم أن التقسيم المذكور في الحديث الشريف للقلوب، تقسيم كلي ومجمل، وأن لكل قسم من القلوب الأربعة مراتب ودرجات، سواء كان من ناحية الشرك والنفاق أو من ناحية الإيمان والكمال. ومن الظاهر أن هذا التقسيم للقلوب يكون على أساس تبلورها وتحركها حسب التحرك المعنوي دون التحرك من منطلق الفطرة والسجيّة، حتى لا يحصل التهافت والتضارب بين هذه الرواية التي تقسم القلوب، وبين أخبار الفطرة التي تقول بأن كل قلب ومولود يولد على فطرة التوحيد، وإن الشرك والنفاق طارئان وعرضيان، رغم صحة القول بأن الشرك والنفاق أيضاً من الفطرة على ضوء بعض البيانات حيث يكونا نتاج ظروف تربوية واجتماعية ترتبط بالفطرة، من دون أن يؤدي مثل هذا الكلام إلى الجبر المستحيل كما لا يبقى مجال حينئذٍ للتضارب بين روايات الفطرة وهذه الرواية التي نحن بصدد شرحها.

 

ولكن الاحتمال الأول ـ مصدر أقسام القلوب التحرك المعنويـ هو الأقرب إلى البرهان والأصوب إلى الاعتبار. وقد سبق منا القول بأن الإنسان مادام موجوداً في هذا العالم ـ عالم الهيولى والتغير والتبدل الجوهري والصوري والعرضي ـ يستطيع أن ينقذ نفسه من كل مرتبة من مراتب النقص والشقاء والشرك والنفاق، ويبلغ بها مراتب الكمالات والسعادات الروحية والروحانية.

 

ولا يتضارب هذا المعنى المذكور، مع الحديث المعروف «الشَّقِيُّ شَقِيٌّ في بَطْنِ أُمِّهِ»[3] لأن الحديث الشريف لا يدل على أن السعادة والشقاء ذاتيان للإنسان غير قابلين للجعل ـ بالجعل المركب ـ بل يدل على معنى ينسجم مع الدليل والبرهان، حيث ثبت في محله أن الشقاء عائد إلى النقص والعدم، والسعادة إلى الكمال والوجود، وإن ما يمتّ إلى الشجرة الطيبة الوجود فهو من الذات الحق المقدس، إما على أساس طريقة أفضل المتأخرين، وأكمل المتقدمين، نصير الملّة والدين خواجة نصير الدين الطوسي قدس الله نفسه، من تسلسل الأسباب والمسببات. وإما على أساس طريقة أعظم الفلاسفة بصورة مطلقة الشيخ صدر المتألهين من الظاهر والمظهر والوحدة والكثرة. وإن ما يعود إلى النقص والعدم فهو من شؤون الشجرة الخبيثة الماهية التي هي دون مستوى الجعل.

 

ونستطيع أن نقول بأن المقصود من «بطن الأم» الذي تستند السعادة والشقاء إليه، حسب ما ورد في الحديث الشريف، هو عالم الطبيعة المادية، حيث يكون أُمّاً لكل شيء مادي ومشيمة لتربية ما هو من الطبيعة، ولا نستطيع أن نفسر بطن الأم حسب المتفاهم لدى الناس ـ من رحم الأم ـ لأن الظاهر من الرواية هو السعادة الفعلية في بطن الأم، مع العلم بأن السعادة التي تعد من الكمالات والفعاليات، لا تتوفر للنفوس الهيولائية على نحو الفعلية فعلاً، وإنما تكون على أساس الاستعداد والأهلية والقوة، وعليه يكون الظاهر من الحديث هو أن السعيد، يكون في بطن أُمّه سعيداً بالفعل، في حين أن الدليل الفلسفي يقودنا إلى السعادة على نحو بالقوّة. فلا بد من مخالفة ظاهر الحديث الشريف.

 

ولمّا كان شرحنا للحديث متطابقاً مع البراهين، كان من المتعين تفسير الحديث الشريف على ضوء ما بيناه أو ما يؤول إليه.

 

وعلى أي حال إن الإسهاب في هذا الموضوع وعرض الأدلة الوافية، خارج عن وظيفة هذا الكتاب. ولكن القلم قد يطغى، ويجري على خلاف المقصود.

 

 في بيان وجه حصر أقسام القلوب في الأربعة المذكورة في الرواية

 

قال بعض: إن سبب انحصار أقسام القلوب في الأربعة هو: أن القلوب إما أن تتحلّى بالإيمان أولاً. وعلى الأول إما أن تتصف القلوب بالإيمان بكل ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو تتصف ببعض ما يعتبر في الإيمان دون بعض؟ فالأول هو قلب المؤمن والثاني هو القلب المكتنف بالإيمان والنفاق وهو إما يعلن الإيمان ويظهره أو لا؟ فعلى الأول يكون القلب منافقاً وعلى الثاني يكون مشركاً.

 

وهذا التحليل لا ينسجم مع الحديث الشريف الظاهر في أن القلب الواحد فد يؤمن في الحقيقة بكل ما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وقد ينافق.

 

وإذا أراد أحد أن يبرر الأقسام الأربعة، فالأفضل أن يقول: إن القلب إما أن يؤمن بكل ما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أولا؟ وعلى الثاني إما يُظهر إيمانه أم لا؟ وعلى الأول إما أن يستقر فيه الإيمان من دون تزلزل، أو يؤمن حيناً، ويتراجع حيناً آخر رغم إفصاحه عن الإيمان أيضاً.

 

ويستفاد من ذيل هذا الحديث أن توبة من يتحول من الإيمان إلى الكفر والنفاق تكون مقبولة، مهما نقض التوبة، وكررّ مثل هذا التراجع والتحول.

 

وفي حديث آخر في كتاب أصول الكافي بسنده إلى الإمام جعفر عليه السّلام قالَ: «الْقُلوبُ ثَلاثَةٌ: قَلْبٌ مَنْكُوسٌ لاَ يَعَي شَيْئاً مِنَ الخَيْرِ وَهُوَ قَلْبُ الكَافِرِ، وقَلْبٌ فِيهِ نُكْتَةٌ سَودَاءٌ فَالْخِيرُ وَالشَرُّ فِيهِ يَعْتَلِجانَ فَأيّهُما كَانَتْ مِنْهُ غَلَبَ عَلْيَه، وَقَلْبٌ مَفْتُوحٌ فِيهِ مَصابِيحٌ تَزْهَرُ وَلاَ يَطْفَأُ نُوَرَهُ إلى يَومِ القِيامَةِ وَهو قَلْبُ المُؤْمِنِ». [4]

 

ولا تتنافى هذه الرواية مع الحديث الشريف السابق، لأن القسم الأول من هذه الرواية يعم قسمين من ذلك الحديث هما: قلب المشرك والمنافق، لأن قلوب هؤلاء الطوائف الثلاثة: المشرك، المنافق، الكافر، منكوسة، وهذا لا يتنافى مع كون «النكس» من الصفات الظاهرة لقلب المشرك والكافر وكون «المطبوع» من الصفات الظاهرة لقلب المنافق. ولهذا خص الحديث السابق كلاً من المنكوس والمطبوع بقسم من القلوب الأربعة.

 

فصل: في بيان حالات القلوب

 

ونحن نقدم الحديث عن قلب المؤمن حتى يتبين وضع القلوب الأخرى عند مقارنتها مع قلب المؤمن.

 

لا بد من معرفة أنه قد ثبت بكل وضوح في العلوم الفلسفية العالية والمعارف الإلهية الحقة أن حقيقة الوجود، هي حقيقة النور، وإنهما عنوانان يحكيان عن حقيقة بسيطة واحدة، من دون أن يكون هناك تكثّر وتعدّد. وثبت أيضاً أن كل ما يعدّ كمالاً وتماماً فهو عائد إلى الوجود بعينه. وهذا من المبادئ الأساسية المباركة التي من تشرّف بها واستوعبها، تنفتح عليه أبواب المعارف. وأما نفوسنا الضعيفة فهي قاصرة وعاجزة حقاً عن إدراك تلك الحقيقة اللهم إلا إذا توفرت له نجدة غيبية، وتوفيق أزلي إلهي.

 

ومن الواضح أيضاً أن الإيمان بالله من نوع العلم ومن الكمالات المطلقة، وحيث أنه من الكمالات فهو أصل الوجود، وأصل حقيقة النور والظهور، وما لا يكون من الإيمان وتوابعه، فهو خارج عن نطاق الكمالات النفسية الإنسانية، وملحق بظلمات الأعدام والماهيات.

 

في بيان أن قلب المؤمن أزهر

 

إذن: تبين أن قلب المؤمن أزهر. وفي «الكافي» الشريف بسنده إلى أبي عبد الله الصادق عليه السّلام قال: قَالَ لَنا ذاتَ يوم تَجِدُ الْرَّجُلَ لا يُخْطىءُ بِلامٍ وَلاَ واوٍ خَطِيباً مُصْقِعاً ولقَلْبِهِ أشَدّ ظُلْمَةً مِنْ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، وَتَجِدَ الرَّجُلَ لا يَسْتَطِيعَ أنْ يُعَبّر عَمَا فِي قَلْبِهِ بِلِسانِه وَقَلبِه يَزْهَرُ كَمَا يَزْهَرُ المَصْباحَ[5].

 

وإنه أيضاً يسلك الصراط المستقيم، وينتهج في سيره الروحاني الجادة السوية الإنسانية. وذلك:

 

أولاً: لم يخرج قلب المؤمن من الفطرة التي فطرها الله والتي عجنها الحق المتعالي وخمّرها، بيديه الجماليّة والجلالية فترة أربعين صباحاً، وعليه ينتهج قلب المؤمن على ضوء فطرة التوحيد التي هي التوجه والانشداد إلى الكمال المطلق والجمال التام، ولا محالة يكون هذا السير الروحاني لقلب المؤمن من مرتبة الفطرة المخمّرة حتى منتهى الكمال المطلق من دون أدنى اعوجاج وانحراف. وهذا هو الطريق الروحاني المستقيم، والجادّة المستويّة الغيبية. وأما القلوب الأخرى فهي خارجة عن فطرتها ومجانبة للسبيل المستقيم. وقد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه رسم على الأرض خطاً مستقيماً ثم رسم خطوطاً متقاطعة للخطّ المستقيم ثم قال أن الخط المستقيم هو صراطي ومنهجي.

 

في بيان أن المؤمن على الصراط المستقيم

 

وثانياً: إن المؤمن يتبع الإنسان الكامل. ولمّا كان الإنسان الكامل مظهراً لجميع الأسماء والصفات، ومربوباً للحق المتعالي بالإسم الجامع، لم تكن لإسم غلبة على آخر في التصرف في الإنسان الكامل، وكان ـ الإنسان الكامل ـ مثل ربهِ المتعالي وجوداً جامعاً من دون تفوق مظهرية اسم على آخر. وإحتوى على مقام الوسطية والبرزخية الكبرى، وتم سيره على الصراط المستقيم الطريق الوسط الذي هو الاسم الجامع. وأما الكائنات الأخرى فيكون كل واحد منها مظهراً لإسم من الأسماء المحيطة أو غير المحيطة، ومتصرفاً فيه، ويكون مبدئه ومعاده نفس ذلك الإسم. وأما الإسم المقابل له ففي الغيب والباطن، ولا يتصرف في ذلك الكائن إلا من خلال أحديه جميع الأسماء، ولا يسمح لنا المقام شرح ذلك. فإذن الحق المتعالي في مقام الإسم الجامع ورب الإنسان، على الصراط المستقيم كما ورد في القرآن الكريم (إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [6]. بمعنى مقام الوسطية والجامعية من دونِ غلبة صفة على أخرى، وظهور أسم دون آخر.

 

ويكون مربوب الذات المقدس الموجود في مقام الوسطية والجامعية على الصراط المستقيم أيضاً، من دون ترجح مقام على مقام، وشأن على شأن. كما يطلب هذا المر بوب، في معراجه الصعودي الحقيقي، ولدى منتهى وصوله إلى مقام القرب، بعد عرضه العبودية على الذات المقدس، وإرجاع كل عبادة وعبودية من كل عابد إلى الذات المتعالي، وحصر الإعانة في جميع مقامات القبض والبسط في ذاته جلّ جلاله بقوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) يطلب هذا المربوب قائلاً (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ). وهذا الصراط هو الصراط الذي يهيمن عليه رب الإنسان الكامل، على وجه الربوبية والظاهرية ـ الإظهار والخلق ـ ويكون دور الإنسان الكامل، المربوبية والمظهرية ـ المخلوق ـ.

 

وأما الموجودات الأخرى، والسائرون إلى الله، فلا تنتهج الصراط المستقيم، بل تنزع إمّا نحو جانب اللطف والجمال، أو نحو جانب القهر والجلال.

 

وأما المؤمنون فلما كانوا تابعين في مسيرتهم للإنسان الكامل وواضعين خطاهم في موضع أقدامه وسائرين على ضوء نور هدايته ومعرفته، ومستسلمين للذات المقدس للإنسان الكامل، غير معتمدين على أنفسهم خطوة واحدة في سيرهم الروحاني إلى الله، فلما كان المؤمنون كذلك يسلكون أيضاً الصراط المستقيم، ويكون حشرهم مع الإنسان الكامل، ووصولهم تبعاً لوصول الإنسان الكامل، شرط محافظتهم على صفاء قلوبهم من تصرّف الشياطين والإنية والأنانية، بل ويستسلمون في المسير كلياً للإنسان الكامل ومقام الخاتّمية.

 

في بيان مكائد الشيطان

 

ومن التصرفات الخبيثة للشيطان، إضلال القلب وإزاغته عن الصراط المستقيم وتوجيهه نحو فاتنة أو شيخ مرشد. ومن إبداع الشيطان الموسوس في صدور الناس، الفريد من نوعه، هو أن مع بيان عذب ومليح، وأعمال مغرية، قد يعلق بعض المشائخ بشحمة أذن فاتنة جميلة ويبرر هذه المعصية الكبيرة بل هذا الشرك لدى العرفاء، بأن القلب إذا كان متعلقاً بشيء واحد، استطاع أن يقطع علاقاته مع الآخرين بصورة أسرع، فيركّز كلّ توجهه أولاً على الفتاة الجميلة بحجة أن القلب ينصرف عن غيرها وأنه منتبه إلى شيء واحد ثم يقطع هذا الارتباط الوحيد ويركّز قلبه على الحق المتعالي. وقد يدفع الشيطان بإنسان أبله نحو إنسانٍ أبله، نحو محيّا مرشد مكّار وحش، بل شيطان قاطع للطريق ويلتجئ في تبرير هذا

 

الشرك الجليّ إلى أن هذا المرشد هو الإنسان الكامل، وإنه لا سبيل للإنسان في الوصول إلى مقام الغيب المطلق إلا بواسطة الإنسان الكامل المتجسد في المرآة الأحدية للمرشد، ويلتحق كّل منهما حتى نهاية عمرهما بعالم الجن والشياطين: حيث يفكر المرشد في جمال معشوقه ومفاتنه، وهذا الإنسان البسيط بتركيز الانتباه على محيا مرشده البائس المنكوس حتى آخر حياته. فلا تنسلخ العقلة الحيوانية عن هذا المرشد، ولا يبلغ الإنسان الأبله الأعمى إلى منشوده ومبتغاه.

 

ولا بد من معرفة أن المؤمن لمّا كان سيره في هذا العالم معتدلاً، وقلبه سوياً، وتوجّهه نحو الله وصراطه مستقيماً، كان في ذلك العالم أيضاً صراطه مستقيماً وواضحاً، وجسمه معتدلاً وصورته وسيرته وظاهره وباطنه في صورة الإنسان وهيئته. وعند مقارنة قلب المشرك مع قلب المؤمن، نستطيع أن نفهم موقع قلب المشرك ومصيره، فحيث أن قلبه قد خرج عن الفطرة الإلهية، وانحرف عن النقطة المركزية للكمال، وعن بحبوحة النور والجمال، وابتعد عن التبعية للهادي المطلق والولي الكامل، وانشغل بأنيته وأنانيته بالدنيا وزخارفها، لم يحشر المشرك في العوالم الأخرى في سيرة الإنسان وصورته المعتدلة، وإنما يحشر في صورة حيوان منكوس الرأس، لأنه الهيئة والصورة في ذلك العالم تتبع القلوب، وأن الظاهر هناك ظلّ لباطن الإنسان هنا، وأن القشر انعكاس للبّ وأن موادّ ذلك العالم لا تأبى الأشكال الملكوتية الغيبية، كما هو شأن المواد في هذا العالم التي لا تقبل الأشكال المختلفة. وقد ثبت كل ذلك في محلّه بالدليل والبرهان.

 

فالقلوب التي أعرضت عن الحق والحقيقة، وخرجت عن فطرتها المستقيمة وأقبلت على الدنيا، ألقت بظلالها على ذلك العالم حيث يخرج أصحابها هناك من الاعتدال ويكونون منكوسين، ومتجهين نحو عالم الطبيعة والدنيا التي تعتبر أسفل السافلين. فمن المحتمل أن يمشي بعض مكباً على وجهه وتكون ساقه نحو الأعلى ويمشي بعض على بطنه، وبعض على يديه ورجليه، كما كان اتجاهه في هذا العالم (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[7]. فمن الممكن أن هذا الاستعمال المجازي في هذا العالم المجازي، يتحول إلى واقعية وحقيقة في عالم الحقائق والظهور للروحانيات والغيبيات.

 

لقد فَسّرت الأحاديث الشريفة: «الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ» المذكور في نهاية هذه الآية المباركة بالإمام أمير المؤمنين عليه السّلام والأئمة المعصومين عليهم السلام:

 

عن الكافي بإسناده عن أبي الحسن الماضي عليه السّلام قال: قُلْتُ: أفَمَنْ يَمْشي مُكِبّاً عَلى وجْهِهِ أهْدى أمْ مَنْ يَمْشي سَوِيّاً على صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟ قالَ: «إنَّ اللهَ ضَرَبَ مَثَلاً، من حَادَ عَنْ وِلاَيَةِ عَلِيٍّ عليه السّلام كَمَنْ يَمْشي عَلى وَجْهِهِ لا يَهْتَدِي لأَمْرِهِ، وَجَعَلَ مَنْ تَبِعَهُ سَوِيّاً عَلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَالصِّراطُ الْمُسْتَقِيمُ أميرُ الْمُؤْمِنين عليه السّلام» [8].

 

وعن الفضيل قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبي جَعْفَرَ عليه السّلام الْمَسْجدَ الحَرامِ وَهُو مُتَّكىءٌ عَلَيّ فَنَظَرَ إلَى النَّاسِ وَنَحْنُ عَلَى بَابِ بَنِي شَيْبَةَ فَقالَ يا فُضَيْلُ هكَذا كَانُوا يَطُوفُونَ فِي الجاهِلّيةِ لاَ يَعْرِفُونَ حَقْاً وَلاَ يَدِينُونَ دِيناً يا فُضَيلُ أنْظر إلَيْهِم مُكبّينَ عَلَى وُجُوهِهِمَ لَعَنَهَمُ الله مِنْ خَلْقٍ مَسَخَهُمْ رَبَّهُمْ مُكِبّينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ ثُمّ تَلا هذه الآية «أَفَمَنْ يَمْشِي ـ الخ» مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أهَدْى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَويّاً عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يَعْنِي عَليّاً عَلِيه السّلام وَالأوْصياء عَلَيهمُ السَّلام. [9]

 

ونحن قد ذكرنا بأن الإنسان الكامل يمشي في سيره الباطني الغيبي على الصراط المستقيم، وأما بيان أن الإنسان الكامل بنفسه يكون صراطاً مستقيماً، فهو خارج عن مقصدنا وهدفنا فعلاً.

 

تتيمم: في بيان قلب المنافق، واختلافه مع قلب المؤمن

 

تبيّن من الفصل السابق وضع قلب المؤمن والمشرك بل الكافر أيضاً. وتبّين حال قلب المنافق لدى المقارنة مع قلب المؤمن أيضاً. فإن قلب المؤمن لم يخرج من فطرته النقية الناصعة الطاهرة، وكلما يُلقى عليه من الحقائق الإيمانية والمعارف الحقة يتلقّاها بالقبول، ويبقى الانسجام بين الطعام والمتغذي، بين المدرك ـ بفتح الراء ـ والمدرك ـ بكسر الراء ـ من المعارف والحقائق من جهة ومقام الفطرة للقلب من جهة أخرى. ولهذا عبر عن قلب المؤمن في حديث آخر منقول في كتاب «الكافي» الشريف بـ «المفتوح»[10] وهذا الفتح وإن أمكن أن يكون إشارة إلى إحدى الفتوحات الثلاثة، ولكنه أيضاً يتناسب مع هذا المعنى الذي ذكرناه.

 

وأما قلب المنافق، فبما أنه قد علقت فيه الأقذار والظلمات التي تتنافى مع فطرة الإنسان مثل التعصّب الجاهلي، والخلق الذميم، وحبّ النفس والجاه وغير ذلك مما لا تتناسب مع الفطرة، غدا مختوماً ومغلقاً ومطبوعاً ورافضاً لتقبل كلام الحق نهائياً، ومضاهياً لصفحة سوداء لا تجدي النقوش معها والرسوم عليها، مع العلم بأن تمسكه بالديانة والتظاهر بها، وسيلة شيطانية لتسيير أموره وتطوير دنياه.

 

ولابد من معرفة أن قلب المشرك والمنافق منكوس ومطبوع، كما هو واضح، ولكن اختصاص كل من القلبين بأحدهما من أجل أن المشرك لدى عبادته يخشع قلبه لغير المعبود الحقيقي ولغير الكمال المطلق، فيكون لقلبه خاصيتان وخصوصيتان أحدهما الخضوع الصادق المتمثل في العبادة ثانيتها أنه لمّا كان هذا الخضوع للناقص والمخلوق، كان سبباً للنقص والكدر في القلب، فيكون قلبه منكوساً، وهذه صفة بارزة للمشرك. وأما المنافق فهو في الحقيقة قد يكون مشركاً فيساوي المشركين في انتكاس قلبه، ويمتاز عليهم أيضاً بخصوصيّة أخرى ـ تذكر بعد قليل ـ. وقد يكون المنافق كافراً وجاحداً في الواقع، لجميع الشرائع، فهو أيضاً منكوس القلب، ولكن تتوفر فيه خصوصية أخرى بارزة أكثر هي أنه يصغي إلى الحق بحسب الظاهر ويعيش مع أهل الحق، وتطرق سمعه أحاديث الحق كما تطرق سمع المؤمنين كلمات الحق ولكن المؤمنين لصفاء باطنهم تكون قلوبهم مفتوحة فيلتقونها بالقبول التام، وأما المنافقون فلأجل الكدر والظلمات المحيطة بقلوبهم تكون قلوبهم مطبوعةً ومختومة فترفض تلك الكلمات وتجحدها.

 

ثم إن تعرّض الحديث لخصوص صفتين من صفات المؤمن (إنْ أَعْطاهُ شَكَرَ وَإن ابْتَلاهُ صَبَرَ) من أجل أن لهاتين الصفتين من صفات المؤمنين خصائص ومزايا لا تتواجد في غيرها من الصفات، فإنهما من أمّهات الصفات الجميلة، وتتفرّع منهما صفات جميلة أخرى. ونحن قد ذكرنا شيئاً قليلاً منهما عند شرحنا لبعض الأحاديث المتقدمة.

 

ومن أجل أن هاتين الصفتين ـ أيضاً ـ من صفات الجلال والجمال، القهر واللطف، المتجلّيتان بالعطاء والابتلاء. فإن الابتلاء وإن كان من صفات اللطف والجمال، ولكنه حيث يكون ظاهراً بالقهر، جعل منه. كما ذكرنا في بحث أسماء الحق وصفاته. والمؤمن ينهض دائماً بالعبودية بين هذين التجلّيين.

 

ختام: في بيان أن الغفلة عن الحق المتعالي تبعث على إنتكاسة القلب

 

تبين من العرض المتقدم أن النفوس المنكبّة على الدنيا، والملتهية بتعميرها والمنصرفة عن الحق، تكون منكوسة، رغم أنها

 

تعتنق الإيمان بالمبدأ والمعاد، لأن المقياس في انتكاس القلوب، هو الغفلة عن الحق والانشغال بالدنيا وتعميرها. وهذا الإيمان بالمبدأ والمعاد إما لا يعدّ إيماناً وعقيدة كما ذكر في شرح بعض الأحاديث السابقة، أو أن الإيمان يكون ناقصاً وبسيطاً جداً، وعليه لا يتنافى مع انتكاس القلب، بل أن من يظهر الإيمان بالغيب والحشر والنشر، ولا يخشى من ذلك، وأن إيمانه لا يدفع به إلى عمل الجوارح والأركان، يكون مثل هذا الإنسان منافقاً ولا يكون مؤمناً. ويمكن أن يكون مَثَل هؤلاء المؤمنين الشكليين، مَثَلَ قوم كانوا بالطائف ـ كما ورد في الحديث إن أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك وإن أدركه على إيمانه نجا ـ ونعوذ بالله من زوال هذا الإيمان الذي ليس له لُبُّ وجوهر ولا هيمنة له في مُلك الجسم، ومن انتقال الإنسان من هذه الدنيا على النفاق، وحشره مع المنافقين. وهذا من الأمور الهامة التي لا بد أن تذعن لها نفوسنا الضعيفة، ونهتم بها ونكون حريصين على تعميق الإيمان في الظاهر والباطن والسّر والعلن، وكما ندّعي الإيمان في قلوبنا نجهد أنفسنا على هيمنة الإيمان على الظاهر أيضاً، حتى يتجذر الإيمان في القلب ولا يزول أمام عائق ومانع أو أي تغيير وتبديل، إلى أن يتمّ تسليم هذه الأمانة الإلهية، والقلب الطاهر الملكوتي الذي تخمر بالفطرة الإلهية إلى الذات المقدس من دون أن تمتد إليه يد الشيطان والخيانة والحمد لله أولاً وآخراً.

 

ــــــــــــــــ

 

[1] أصول الكافي، كتاب الإيمان والكفر، باب في ظلمة قلب المنافق، ح2.

 

[2] إعلم أنه ليس المقصود من هذا العرض عدم جدوى علم الأخلاق ومنجيات النفس ومهلكاتها، بل المقصود أن يكون مقدمة للعمل وليس بشيءٍ مستقل حتى يستنزف منا الوقت في سبيل تجميع المصطلحات ويمنعنا من بلوغ الهدف (منه عفى عنه).

 

[3] الجامع الصغير، ج2، ص37.

 

[4] أصول الكافي، المجلد الثاني، باب في ظلمة قلب المنافق، كتاب الإيمان والكفر، ح3..

 

[5] أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب في ظلمة قلب المنافق، ح1.

 

[6] سورة هود، آية: 56.

 

[7] سورة الملك، آية: 22.

 

[8] أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب الحجة، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ح91.

 

[9] روضة الكافي، ح434.

 

[10] وقلب مفتوح فيه مصابيح تزهر. أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب في ظلمة قلب المنافق، ح3 ص423.