سماحة الشيخ محمد يزبك يتذكر:

2007-08-21

الإمام الخميني بنى بدولته حلم الأنبياء والرسل

حاوره: حسان بدير

في الذكرى المئوية لولادة الإمام الخميني (قده) تعود الذاكرة إلى البدايات الأولى التي شرع فيها سماحة الإمام أشرعة الثورة نحو المستضعفين في الأرض ووجه سفن الحرس نحو لبنان لإنقاذه من براثن العدوان الصهيوني. إلى هذه الذاكرة جلسنا مع الوكيل الشرعي للإمام الخامنئي في لبنان الشيخ محمد يزبك ليحدثنا عن الذكريات وما اختزنته من مواقف عاشها الإمام الخميني في النجف والحوزة وخطوة خطوة نحو إشراقة شمس الثورة في إيران وسقوط الطاغوت، مع هذه الذكريات جلسنا فكان هذا الحصاد:  

* لو أردنا العودة بالذاكرة إلى اللقاء الأول الذي تشرفتم فيه بلقاء سماحة الإمام الخميني، لماذا كان هذا اللقاء، وما هي الأسس التي أرساها بالنسبة لكم؟

إن الذاكرة عندما تنتقل إلى ذلك الزمن البعيد في تاريخه، القريب الحاضر في معطياته، وذلك عندما تم التشرف الأول بلقاء الإمام الخميني حيث كان لي الشرف أن أكون مع الأخوة في هذا اللقاء الذي جاء بعد لقاءات متكررة، حيث الساحة اللبنانية تشهد ذلك الصراع المؤلم داخليا، ومما زاد الألم الاجتياح الاسرائيلي للبنان، فكان من الطبيعي أن يجتمع الأخوة ويتباحثوا أمرهم لمواجهة قوى الاحتلال الاسرائيلي وخصوصا بعدما مد الإمام يده وأرسل انفاسه الذكية الطيبة، التي كانت تتجسد بطلائع التعبئة العامة من الحرس الثوري الإسلامي الذين جاؤوا للدفاع عن لبنان وعن سوريا، وليوجهوا بدعوة من الإمام الصراع نحو العدو الاسرائيلي، وقد اجتمعنا وتدارسنا ووضعنا خطة للعمل في مواجهة هذا العدو، فأحببنا أن يبارك هذا العمل من قبل الإمام، لأن مشروعية هذا العمل بحسب اعتقادنا لن تكون إلا من خلال القيادة الحكيمة الواعية والمتمثلة بشخصية ومرجعية الإمام الخميني (قده)، والتقينا تحت هذا السقف وانطلقنا من أجل أن يبارك لنا الإمام هذه الخطوات، وأيضا من أجل نستلهم منه غذاء لروحنا وتجديدا لعزيمتنا للجهاد من أجل مرضاة الله عز وجل.

وكنا ننتظر هذا اللقاء ومن ورائنا أيضا كان المؤمنون ينتظرون نتائج هذا اللقاء، ولهذا كان اللقاء على درجة كبرى من الأهمية لأنه الأول في هذا المجال مع القائد، ولما تشرفنا بزيارته كان النور المتلأق في جبينه هو الذي شغلنا أكثر ونقلنا من عالم إلى عالم آخر، فهو المصداق للأحاديث الشريفة "جالسوا من يذكركم الله. . . وينقلكم من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة".

في تلك اللحظات شعر الأخوة بهذا الشعور، وبعد كلمات تحدث بها الأخ سيد شهداء المقاومة الإسلامية السيد عباس الموسوي (رض)، بين يدي الإمام معبرا عن الولاء والطاعة والبيعة الكاملة لما اتفقنا، وردّ عليه الإمام بكلمات مختصرة كعادته وكما هو شأن "العلماء ورثة الأنبياء"، إنهم لا يكثرون من الكلام وإنما يطلقون من الكلمات التي تعبر عن مضامين واسعة، فبعد أن رحب الإمام وبارك اللقاء وأكد في ظل النعمة الإلهية، وعنى بذلك الثورة الإسلامية، أن علينا جميعا أن نحفظ هذه النعمة وهذه الهدية الإلهية التي خص الله بها الشعب في إيران كانت نتيجة الجهاد الأكبر للشعب الإيراني الذي واجه الطاغوت متوكلا على الله عز وجل ، وكان الطاغوت محمد رضا بهلوي (الشاه) يمثل قوة كبيرة لأنه امتداد لأمريكا في المنطقة، وأيضا كان مكلفا بدور الشرطي للمنطقة، لهذا كانت امكاناته كبيرة ولكن هذه القدرات والامكانات سقطت أمام عزيمة هذا الشعب وأمام التضحية والفداء والدم، وانتصر الإسلام بأبطاله وأبنائه وبمجاهديه، وأنتم في لبنان ـ يتابع سماحة الإمام ـ عليكم أن تنطلقوا من الصفر، ولا تغرقوا في مسائل وشعارات أخرى تبعدكم عن الهدف وإنما عليكم أن تنطلقوا من الصفر متوكلين على الله عز وجل، وما دمتم مع الله فإن الله معكم، وما تواجهونه في لبنان ليس بأكبر من امكانيات محمد رضا بهلوي، لذا لا تحسبوا لهؤلاء أي حساب وعليكم أن تلتفتوا إلى الله وأن ترجوا رضى الله سبحانه وتعالى، وما دمتم في عين الله فلابد أن يكون الله هو الحامي والناصر، فكانت وصية الإمام الالتزام بالتقوى والسير نحو الله عز وجل من أجل أداء تكليفنا بين يدي الله، وأما ما يتحقق فهو بعين الله عز وجل فإن شاء أن يحقق النصر فليكن وإن شاء أن يبتلينا بشيء فليكن، المهم أن نؤدي تكليفنا بين يدي الله سبحانه وتعالى.

هذه مضامين ذلك اللقاء الذي كان بالنسبة إلينا زادا روحيا ومعنويا كبيرا مازلنا نعيشه في كل لحظة نتأمل فيها كما أراد الإمام صادقين بين الله عز وجل، وأن نكمل المسيرة مع الإمام كما أراد، هذا هو الذي استوحيناه من تلك الجلسة، وهذا زاد بالنسبة لنا ولك مجاهد ومؤمن، فإن عليه أن يتزود بهذه الروحية الأنبياء والرسل والأئمة (ع).  

خرج من الحوزة ليصنع امة

* هل لك أن تحدثنا عن الفترة التي تعرفتم فيها إلى سماحة الإمام الخميني في النجف الأشرف؟

تعرفت إلى الإمام في النجف الأشرف عام 68ـ 69 وما بعد، لأن الإمام كان هناك وكان مرجعا من مراجع الأمة الإسلامية، وكان من عادة الطلبة التشرف في أيام العطل بزيارة المراجع ليتزودوا من وصاياهم وكلماتهم أو ليأخذوا أجوبة عن استفساراتهم، ولذا كنت مع الأخوة نذهب ونتشرف باللقاء مع الإمام، وفي هذه اللقاءات العامة عايشنا المحنة التي عاشها الإمام مع الطلبة عندما أقدمت السلطة العراقية على إبعادهم عن النجف الأشرف وكان لي مع بعض الأخوة في بيت الإمام شبه اعتصام لأجل أن نسمع ماذا يريد الإمام وماذا يقرر في موضوع تهجير الطلبة من النجف الأشرف، وكان أيضا لي شرف أن أشارك مع بعض الأخوة في صلاة الجماعة التي كان يقيمها الإمام في مدرسة "بروجردي" في صحن مولانا أمير المؤمنين الإمام علي (ع).

يومها كان الإيرانيون من خاصة الإمام يتحدثون عن أمل كبير بالانتصار وأن الإمام لديه عزيمة بالأمل والعودة إلى إيران، ولكن من الطبيعي أن هذا الحديث في ذلك الوقت ومع كل الظلام الذي كان موجودا، كان بمثابة الأمل والنظرية والتمني، وربما يكون بعيدا عن التصديق مع الواقع القائم، حيث الإسلام في هذا العالم أصبح غريبا والدعوة إلى حكومة إسلامية فيها مجازفة، ولا يمكن أن يعترف الغرب والشرق بدولة لا تنتمي إلى الغرب أو الشرق.

هذا الذي كنا نعيشه ونتباحث فيه، لكن نحن كنا نعيش مع تفكيرنا الصغير والإمام كان يعيش مع رؤيته الكبيرة، وكان بشفافيته وروحه الطاهرة يرى ذلك المستقبل، وكان لديه الأمل الكبير بالعودة.  

استشهاد السيد مصطفى من الألطاف الإلهية

* كيف عاش الإمام الخميني لحظة استشهاد نجله سماحة السيد مصطفى؟

كنا بالنجف عندما سمعنا نبأ استشهاد السيد مصطفى الخميني (رض) جئنا كطلبة لبنانين لنشارك في التشييع ودخلنا دار الإمام وجلسنا في داره المتواضعة جدا، وكان الإمام جالسا بصبره وثباته لا يهزه شيء، ولقد شدّنا إليه بذلك الموقف لنتعلم منه كيف نواجه المصاعب والآلام والشدائد، ما رأينا من الإمام إلا الجميل، وكما هو عادته لا يتحدث إلا بمقدار الواجب، وكان يجيب بمقدار السؤال ليس أكثر. وطبيعي أن الإمام أمام الوضع الذي حصل بشهادة السيد مصطفى وأيضاً أمام ما كان يحصل كل يوم في إيران من سقوط لشهداء، شعرنا بأن السيد مصطفى ليس عنده أغلى من الشهداء الذين يسقطون، وهذا الذي علمنا كيف يكون القائد عندما ينظر إلى الجميع بعين واحدة، وكيف يحتسب ولده أو الآخرين بين يدي الله سبحانه وتعالى. هذا كان موقفا مميزا جدا، وهذا ليس شعوري فقط، بل كان شعورا عاما عند الأخوة. وبعد ذلك عرفنا أن الإمام كان على صبره، ولكن ذلك الصبر وذلك السكوت كان لهما ذلك البعد الذي فهمناه أخيرا بعد عودته المباركة إلى إيران. 

* كيف عشتم حادثة خروج سماحة الإمام من النجف ووصوله إلى طهران؟

عندما سمعنا أن الإمام خرج من النجف ـ وأذكر أنه كان يوم أربعاء ـ متجها إلى الكويت وعاد إلى بغداد واتجه باتجاه باريس. ولما سألنا بعض الذين لديهم متابعة بهذا الشأن حول تسفير الإمام من العراق أجابونا بأن الحكومة العراقية طلبت من الإمام أحد أمرين، إما أن يكف عن الجهاد في مواجهة "الشاه" وإما أن يخرج من العراق، لأنه حصل يومها توافق بين الحكومة العراقية وبين الشاه، وبمقتضى هذا التوافق، فإن العراق تكفل لإيران بأن يمنع الإمام الخميني من مواصلة جهاده من ارض العراق، أو الأمر الآخر أن يترك العراق ويختار بلدا آخر. وكان من الطبيعي أن الإمام اخذ على نفسه أن يقاوم الطاغوت والظلم دون أن يهدأ لحظة من اللحظات، لذلك اختار أن يترك النجف الأشرف ويرحل عن مقام جده أمير المؤمنين (ع)، ليقوم بخدمة شعبه وأهله، ويؤدي تكليفه بين يدي الله سبحانه وتعالى. وسمعنا أن الإمام لما طلب منه أن يكف عن نشاطه قال: إذا لم يستقر بي البقاء في فرنسا فسأنتقل من مطار إلى آخر ولن أتراجع عن مواجهة الطاغوت. هذا الأمر ترك في قلوب محبي الإمام وخاصة في روح الشهيد الصدر وتلامذته الأمل الكبير بالنصر، وكنا نجلس في تلك اللحظات قبل الدرس حيث كانت تدور أحاديث حول سفر الإمام الخميني، وكيف أنه كان في النجف مغمورا كمرجع أو كعالم ولكن بعد خروجه وهذا الإعلام الذي وجه عليه أصبح الجميع يفهم من هو الإمام، وخصوصا بعد التظاهرات التي كانت تحصل في إيران، وأن الإمام وجه بيانا للشعب الإيراني، وأن الشريط الفلاني وصل إلى الشعب الإيراني، هذه المسائل كانت تتابع من خلال الطلبة، وتنتشر بيننا جميعا وكنا نعيش هذه الأمور لحظة بعد أخرى.

يومها كان الجو العالم في الحوزة ليس هو الجو الذي يأمل أن الشمس ستشرق بالانتصار وإنما كان يعيش حالة الهروب الدائم، وأنا رأيت وشاهدت أن الشعب العراقي والشباب المؤمن والمثقف في العراق تأثروا كثيرا بخروج الإمام وخصوصا بعدما منع من الدخول إلى الكويت وبعد خروجه إلى باريس، وهذا كان قنبلة حوّلت الشعب، وأخذت الشعب من واقع إلى واقع آخر، لكن الكل كان ينتظر إلى أين سيصل الإمام! هناك من قلبه على الإمام وخائف، وهناك من يقول إن الأمور لن تصل إلى نتيجة، فلماذا عاد الإمام إلى طهران واستطاع أن يسقط الطاغوت حدث هناك تحول على مستوى الحوزة حتى على مستوى الشعب العراقي، وحتى في المسجد والأماكن العامة، وشعر الناس بأن الإسلام قادر على أن يقود الحياة من جديد وخصوصا للذين كانت لديهم علاقة مع الشهيد السيد الصدر الذي كان يركز دائما على أن الإسلام قادر على أن يقود الحياة، والتجربة التي خاضها الإسلام من قبل تجربة عظيمة فيمكن لهذه التجربة إن تتكرر من جديد. 

الشهيد الصدر: قامت دولة الأنبياء

* ما هي العلاقة التي كانت تربط الشهيد الصدر بسماحة الإمام الخميني، وكيف عاش الشهيد انتصار الثورة؟

من الطبيعي أن الشهيد الصدر كانت له علاقة مع الإمام وما يمثله من موقع وزعامة وإمامة ومرجعية، فكان لديه علاقة شخصية ويمكن لهذه العلاقة أن تكون محدودة، ولكن كانت العلاقة الفكرية والرؤية المشتركة بين الإمام والشهيد الصدر واحدة، وهذا ما برز في كلماته أن الأمة بحاجة إلى قائد والآن الإمام الخميني هو القائد الفذ العظيم وعلى الجميع أن يذوبوا قيادة الإمام، وهنا أتذكر في ليلة 11 شباط 79 كنا ننتظر الدرس بعد صلاة العشاء في البحث الخارج، وقدوم السيد الصدر، فجاء في تلك الليلة متبسما فرحا، فما أن جلس ونحن نحضر للاستماع فإذا بالشهيد الصدر، بعد الحمد والثناء والصلاة على محمد وآله يقول: "الآن وأنا في طريقي إليكم أخبروني بأن آخر قلاع للشاه في إيران قد سقطت على يد الإمام الخميني.. وما تحقق على يد الإمام هو حلم الأنبياء".

وبارك للإمام صاحب العصر (عج) والإمام الخميني والشعب الإيراني والمسلمين، وقال: "احتفاءً بهذا الانتصار نعلق الدرس إلى الغد"، وهذا يجعلنا على يقين بأن الشهيد الصدر كان يرى أن طموحاته تتجسد في قيادة الإمام الخميني، ولهذا اعتبر نفسه جنديا وابنا للإمام الخميني (قده).