المكان: مدينة قم‏

 

المخاطب: همدان (حجت)، ميرزا جواد

 

المصدر: صحيفة الإمام، ج‏1، ص: 36

 

التاريخ: 7 تير 1314 ﻫ.ش/ 27 ربيع الأول 1354ﻫ.ق‏

 

الموضوع: وصايا عرفانية- اخلاقية، وتأييد الأهلية الفلسفية- العرفانية لأحد الطلبة

 

بسم الله الرحمن الرحيم‏

 

سبحانك اللهم وبحمدك يا مَنْ لا ترتقي إلى ذروة كمال أحديته آمال العارفين، ويقصر دون بلوغ قدس كبريائه أفكار الخائضين، جلّتْ عظمتك من أن تكون شريعةً للواردين، وتقدست أسماؤك من أن تصير طعمةً لأوهام المتفكرين. لك الأحدية الذاتية في الحضرة الجمعية والغيبيّة، والواحدية الفردية في التجليات الأسمائية والاعيانية، فأنت المعبود في عين العابدية والمحمود في حال الحامدية. ونحمدك اللهم بألسنتك الذاتية في عين الجمع والوجود على آلائك المتجلّية في مرائي الغيب والشهود، يا ظاهراً في بطونه وباطناً في ظهوره.

 

ونستعينُك ونعوذُ بك من شرّ الوسواس الخنّاس، القاطع طريق الإنسانية، السالك بأوليائه في مهوى جهنم الطبيعة الظلمائية، اهدنا الصراط المستقيم الذي هو البرزخية الكبرى ومقام أحدية جمع الأسماء الحسنى.

 

وصلّ اللهم على مبدأ الظهور وغايته، وصورة أصل النور ومادته- الهيولى الأولى - والبرزخ الكبرى الذي دنا فرفض التعيُّنات فتدلّى فكان قاب قوسي الوجود وتمام دائرة الغيب والشهود أو أدنى الذي هو مقام العَماء، بل لا مقام هنا على الرأي الأسنى (لا يستطيع أحد أن يصطاد العنقاء بل هي الشرك الذي يصطاد الصقور).

 

وعلى آله مفاتيح الظهور ومصابيح النور، بل نورٌ على نور، غصن[1] الشجرة المباركة الزيتونة والسدرة المنتهى وأصلهما، وجنس الكون الجامع والحقيقة الكلية وفصلهما، سيّما خاتم الولاية المحمدية ومُقبض[2] فيوضات الأحمدية الذي يظهر بالربوبية بعد ما ظهر آباؤه (عليهم السلام) بالعبودية جوهرة كنهها الربوبية بعدما ظهر آباؤه (عليهم السلام) بالعبودية، خليفة الله في الملك والملكوت وإمام أئمة قطّان الجبروت، جامع أحدية الأسماء الإلهية ومظهر تجليات الأوّلية والآخرية، الحجّة الغائب المنتظر، ونتيجة مَنْ سلف وغَبَر- أرواحنا له الفداء وجعلنا الله من أنصاره والعن اللهم أعداءهم، قُطاع طريق الهداية، السالكين بالأمم مسلك الضلالة والغواية.

 

وبعد، فإنّ الإنسان ممتاز من سائر الموجودات باللطيفة الربانية والفطرة الإلهية- فطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناسَ عَليها- وهذه بوجهٍ هي الأمانة المشار إليها في الكتاب العزيز الإلهي: ﴿إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السموات والأرض والجبال فأبَيَنَ أن يَحْملنَها وأشفقْنَ منها وحَمَلَها الإنسان﴾. وهذه‏ الفطرة هي فطرة توحيد الله في المقامات الثلاثة، بل رفض التعّينات وإرجاع الكُلّ إليه وإسقاط الإضافات حتى الأسمائية وإفناء الجُلّ لديه. ومَنْ لم يصل إلى هذا المقام، فهو خارج عن فطرة الله وخائن في أمانة الله، وجاهل بمقام الإنسانية والربوبية، وظالم لنفسه والحضرة الإلهية.

 

ومعلوم عند أصحاب القلوب من أهل السابقة الحُسنى، أنّ حصول هذه المنزلة الرفيعة والدرجة العَلية، لا يمكن إلّا بالرياضات الروحية والعقلية والخواطر القُدسية القلبية بعد طهارة النفس عن ارجاس عالم الطبيعة وتزكيتها، فانّ هذا مقام (لا يمسه إلّا المطهرون).

 

وصرف الَهمّ إلى المعارف الإلهية، وقَصْر الطرْف على الآيات والأسماء الربوبية عقيب صيرورته إنساناً شرعيّاً بعد ما كان إنساناً بشرياً بل طبيعياً. فاخرجي أيتها النفس الخالدة إلى الأرض لاتباع هواك من بين الطبيعة المظلمة المدهشة الهيولانية، وهاجري إلى الله مقام الجمع، والى رسوله مظهر أحدية الجمع، حتى يدركك الموت بتأييد الله تعالى فوقع أجرك عليه، وهذا هو الفوز العظيم والجنة الذاتية اللقائية التي لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

 

واعلمي أنك ظهرت من مقام جامعية الأسماء والبرزخية الكبرى، وأنت غريب في هذه الدّار ولابد لك من الرجوع إلى الوطن، فاحْببي وطنك فإنه من الإيمان- كما أخبر به سيد الإنس والجان.

 

إيّاك ثم إيّاك- والله تعالى معينك في أولاك وأُخراك- أن تصرف همّك إلى حصول الملاذّ الحيوانية الشهوية، فإنّ هذا شأن البهائم، أو الغلبة على أقرانك وأشباهك حتى في العلوم والمعارف، فإن هذا شأن السباع، او الرياسات الدنيوية الظاهرية وصرف الفكر والتدبير إليها فإنّ هذا مقام الشياطين، بل ولا تجعل نصب عينك صورة النسك وقشورها، ولا اعتدال الخُلق وجُودتها، ولا الفلسفة الكلية والمفاهيم المبهمة، ولا تنسيق كلمات أرباب التصّوف والعرفان القشرية وتنظيمها، وإرعاد أهل الخرقة وإبراقها، فانّ كل ذلك حجاب في حجاب وظلمات بعضها فوق بعض، وصرف الهّم إليها اخترام وهلاك، وذلك خسران مبين وحرمان ابدي وظلمات لا نهاية لها، بل يكون همّك التوجه إلى الله تعالى والى ملكوته في كل حركاتك وسكناتك وأنظارك وأفكارك، فإنك مسافر إلى الله- تعالى- ولا يمكن لك هذه المسافرة بقدم النفس، بل لابّد وأن يكون بقدم الله ورسوله، فإن المهاجرة من بيت النفس لا يمكن بقدمها. فكلّما كان قدمك قدم النفس، ما خرجت بعدُ من بيتك، فلست مسافراً، وقد عرفت أنك غريب مسافر.

 

وهذه وصيّتي إلى نفسي القاسية المظلمة البطالة وإلى صاحبي الموفق ذي الفكر الثاقب في العلوم الظاهرة والباطنة والنظر الدقيق في المعارف الإلهية، العالم الفاضل النقّاد والروحاني الآغا ميرزا جواد الهمداني- بلغه الله غاية الأماني- فإني ولعَمر الحبيب مع أنّه لستُ من أهل العلم وطلابه قد ألقيت إليه ما عندي من مهمّات أصول الفلسفة الإلهية المتعالية، وشطراً مما استفدت من المشايخ العظام- أدام الله ظلّهم- وكتب أرباب المعرفة وأصحاب القلوب- رضوان الله عليهم- وقد بلغ بحمد الله- تعالى- مرتبة العلم والعرفان وسلك مسلك العقل والإيمان، وهو سلّمه الله لطيف السرّ والقريحة، نقيّ القلب، سليم الفطرة، جَيّد الرؤية، متردٍّ برداء العلم والسداد وعلى الله التوكل في المبدأ والمعاد.

 

ولقد أوصيته بما وصّانا أساطين الحكمة والمشايخ العظام من أرباب المعرفة، أن يضنّ بأسرار المعارف كلّ الضنّ على غير أهله من ذوي الجحد والاعتساف، والضالّين عن طريق الحقّ والإنصاف، فإنّ هؤلاء السّفَهاء قرائحهم مُظلمة، وعقولهم مُكدّرة، ولا يزيدهم العلم والحكمة إلّا جهالة وضلالة، ولا المعارف الحقَة إلّا خسراناً وحيرة، وقد قال- تعالى شأنه-: ﴿ونُنَزّلُ من القرآن ما هو شفاء ورحمة ... ولا يزيدُ الظالمينَ إلّا خَسَارا﴾.

 

وإياك ثم إياك أيها الأخ الروحاني والصديق العقلاني وهذه الأشباح المنكوسة المّدعين للتمدّن والتجدّد، وهم الحُمُر المُستَنْفَرة والسّباع المفترسة والشياطين في صورة الإنسان، وهم أضلّ من الحيوان، وأرذل من الشيطان، وبينهم- ولَعَمْر الحقيقة- والتمدّن بون بعيد، إن استشرقوا استغرب التمدن، وإن استغربوا استشرق، فرّ منهم فرارك من الأسد، فإنهم أضرّ على الإنسان من الآكلة للأبدان.

 

وأكرر التماسي ووصيتي أن تذكرني عند ربك- تعالى شأنه- ذكراً جميلًا (رَبَّنا آتنا في الدّنيا حَسَنَةً وفي الآخرة حَسَنَةً وقنا عَذابَ النّار) وجَنّبنا عن مخالطة السّفَلة الأشرار بحقّ محمد وآله الأطهار- صلوات الله عليهم.

 

حرّره العبد العاصي المذنب السيد روح الله بن السيد مصطفى الخميني، غفر الله تعالى- لهما وجزاهما وإخوانه المؤمنين جزاءً حسناً. في صبيحة يوم السبت لثلاث بقين من ربيع المولود سنة أربع وخمسين وثلاث مئة بعد الألف من الهجرة القُدسية النبوية- صلى الله عليه وآله.

 

ـــــــــــــــ

 

[1] إفراده باعتبار المعني.

 

[2] بالقاف والباء الموحّدة .