القضية الفلسطينية في فكر ومواقف الإمام الخامنئي (دام ظله)

تحتل القضية الفلسطينية عموماً، وقضية الانتفاضة تحديداً، موقعاً متميزاً في فكر ومواقف سماحة آية الله العظمى ولي أمر المسلمين السيد علي خامنئي، وفي ما يلي قراءة في شذرات من هذه المواقف نعرضها وفق التالي:

إعادة الاعتبار للعنوان الإسلامي للقضية الفلسطينية

ثمة إصرار لدى سماحته على إعادة الاعتبار للعنوان الإسلامي لا بالمعنى السياسي فحسب، وإنما بالمعنى الديني أيضاً. ذلك "أن فلسطين هي جزء من الأرض الإسلامية، ولدى المذاهب الإسلامية.. وبإجماع الفقهاء: ان اقتطعت أرض من أراضي المسلمين واحتلتها دولة معادية للإسلام، فواجب الجميع الشرعي أن يسعوا ويجاهدوا من أجل إعادة هذا الجزء المغتصب إلى الجسد الإسلامي".

وبها الاعتبار، تخرج القضية الفلسطينية أولاً عن كونها قضية سياسية إلى كونها قضية دينية بامتياز، وتصبح مسألة تحريرها التزاماً وإنفاذاً للحكم الشرعي، وهذا ما يرتقي بها إلى مرتبة القضايا المقدسة، كما يجعلها مسؤولية إسلامية عامة لا يمكن لأي مسلم أن يغض النظر عنها.

وثانياً، من شأن هذا الاعتبار أيضاً أن يحصنها في مواجهة الألاعيب السياسية التي تبقى تخضع لموازين ومعادلات القوى والمصالح. بكلام آخر، أن العنوان الديني يحافظ على الطابع المبدئي للقضية الفلسطينية ويجعلها، بالتالي، خارج لعبة المساومات السياسية وغير السياسية.

ومن نافل القول، ان الطابع المبدئي للقضايا هو ما يمنحها أفقها الاستراتيجي والتاريخي الممتد عبد الزمن، بحيث لا تكون مهمة التصدي لها مهمة جيل من الأجيال، وإنما مهمة تاريخية تقع على كل المعنيين بها، وهذا بدوره يحرر هذه القضية من ربقة رهانات الظروف والضغوطات الطارئة، بحيث يغدو أي انكفاء انكفاءً تكتيكيا لا تنازلا مصير وتاريخيا.

وثالثاً، فإن هذا العنوان يخرج القضية الفلسطينية من كونها مهمة أو مسؤولية داخلية: "فالمسألة ليست داخلية، فلو فرضنا أن لا أحد من الشعب الفلسطيني انتفض بوجه الصهاينة، فسيبقى المسلمون خصماً للكيان الصهيوني وحماته، لأن الأمر مرتبط بفلسطين. فكيف وان الشعب الفلسطيني قام وانتفض اليوم". وهذه النقطة في غاية الأهمية، ذلك أن واحداً من الأهداف الاستراتيجية للحروب العدوانية للصهاينة على الدول العربية، كانت تتمثل في السعي المستمر إلى تحويلها من قضية إسلامية إلى قضية قومية أولاً ومن ثم تحويلها من قضية قومية إلى قضية وطنية ثانياً، ومن ثم تحويلها من قضية وطنية إلى مجرد مسألة أو شأن داخلي إسرائيلي.

والسعي الإسرائيلي المستمر هذا، إنما يستهدف في الحقيقة إفقاد القضية الفلسطينية الكثير من عناصر قوتها الاستراتيجية عبر تقليص مخزون طاقتها الاستراتيجي وتفكيك وعزل أبعادها الجيو ــ سياسية والجيو ــ استراتيجية، وبذلك يسهل احتواؤها وضبطها وتوجيه ضربة نهائية لها.

والأخطر أن نجاح الصهاينة في تحويل القضية الفلسطينية إلى مجرد شأن داخلي، سيؤدي حتماً إلى تحويلها من قضية اغتصاب واحتلال إلى مسألة شغب شعب وتمرد وعصيان وعمليات إرهاب تقوم بها مجموعة اتنية ضد الدولة التي تعيش في كنفها، وبذلك تغدو هذه الدولة وكأنها هي الكيان الشرعي، ويصبح صاحب الحق هو المعتدي.

القضية الفلسطينية كعامل توحيدي للأمة

يؤكد سماحته "ان أعداء الإسلام كانوا جادين دوماً في إقامة الحواجز القومية والمذهبية بين المسلمين لإبعادهم عن توحدهم، ومن ثم للسيطرة على مقدراتهم". ولذا "أقاموا هذه الدولة ــ الكيان الاسرائيلي ــ في هذه المنطقة الحساسة التي تعد قلب العالم الإسلامي، حيث أن افريقيا تعد غربي العالم الإسلامي وآسيا والشرق الأوسط هي منطقة شرقي العالم الإسلامي، وهي تعد نقطة الوصل والمرور بين آسيا وأفريقيا وأوروبا"، وهم، أي المستعمرون، انما "أقاموا الكيان الصهيوني من أجل استمرار سلطتهم.. وأن تكون سداً مانعاً أمام أي دولة إسلامية يمكنها أن تنشأ في المنطقة، كما في الدولة العثمانية سابقاً (...) ولهذا فإن كل مفكري العالم الإسلامي والحكام والأحرار، وكل أولئك الذين لم تتلوث أيديهم بسياسة أميركا، يعتقدون بضرورة التصدي للكيان الصهيوني، وذلك انطلاقاً من شعورهم بمصالح بلادهم".

من هنا، فإن ضرب هذا الكيان، حتى بمعيار المصالح الاستراتيجية لبلدان المنطقة، بشلك مدخلاً ضرورياً لإعادة اطلاق دينامية التوحيد في أوصال هذه الأمة الممزقة. فكما زرع هذا الكيان كان عامل تفتيت لها، فإن نزعه من جذوره يسهل على نحوٍ كبير إعادة توحيد لها.

فشل الحسابات الاسرائيلية

يذهب سماحته إلى أن كل حسابات الصهاينة خصوصاً خلال العقد الأخير من القرن الفائت "كانت ترتكز على مبدأ هو أن شعب فلسطين لم تعد لديه القدرة والروح للمواجهة"، إلا أن "حساباتهم ثبت خطأها"، وبذلك انقلبت المعادلة رأساً على عقب. ذلك أن "الجيل الصاعد في فلسطين اليوم اختار طريق ذات الشوكة عن قناعة ورضى، متحملاً أنواع المصائب، وسار على درب الصبر والمقاومة من أجل مستقبل مطمئن بالنصر.. إن انتفاضة المسجد الأقصى هي بداية منعطف كبير في نضال الشعب الفلسطيني، والمقاومة الفلسطينية جربت سبلاً وفجاجاً عديدة.. وتوصلت بعد تراكم كل التجارب إلى نتيجة واضحة هي أن السبيل الوحيد للتخلص من براثن القتلة المجرمين وحماتهم يكون بالجهاد والمقاومة المستمرة. والرأي العام الإسلامي يجمع على تأييد هذا السبيل...".

والسبب المباشر لهذه النهضة المباركة هو "أن هزيمة العدو الصهيوني في جنوب لبنان قدمت درساً كبيراً لأبطال انتفاضة الأقصى، فقد قرأوا في هذا الدرس بحنكة وذكاء رموز انهيار العدو واندحاره في الأرض المحتلة"، هذا إلى جانب "فشل مشاريع الاستسلام".

ماذا تعني عودة الانتفاضة، بالاستناد إلى ما تقدم؟ إنها تعني جملة أمور رئيسة، أبرزها التالي:

أولاً، ان الانتفاضة الحالية تتلف عن الانتفاضة السابقة.

فإذا كانت الانتفاضة السابقة قد وقعت في فخ المساومات، وفي فخ التهويل، ما أدى إلى وقوفها، فإن الانتفاضة الحالية تنطلق وهي مزودة بدرسين رئيسين: الأول، ان العدو الصهيوني يمكن قهره، وتجربة المقاومة في لبنان خير دليل على ذلك، والمهم هنا، هو كيف تراكم الانجازات، الواحد تلو الآخر، وكيف تعيد تأطير الصراع إلى أطره ومرتكزاته المبدئية التي تضرب جذورها في تعاليم ومبادئ وسنن الإسلام الشريف، وان تدرك ان الصراع هو أولاً وأخيراً صراع ارادات قبل أن يكون شيئاً آخر.

ثانياً، لقد جرب الفلسطينيون خيار المفاوضات ليكتشفوا بأنفسهم، وأن بعد سنين مديدة، أن عدوهم يلعب ورقة المفاوضات لتقطيع الوقت، ولاستثماره في تهديد القدس، ووضع اليد على المزيد من الأراضي والموارد الفلسطينية. بكلمة واحدة ان ما كان يراهن الفلسطينيون للحصول عليه من المفاوصات لم يكن إلا سراباً، وإذا كان سراباً، وإذا كان ثمة ايجابية له، هو انه كشف للمرة الأخيرة حقيقة هذا الكيان. من هنا، أدرك الفلسطينيون أن لا خيار حقيقياً أمامهم، ومهما كانت كلفته إلا خيار الانتفاضة. وهذا الذي كان.

بل أكثر من ذلك وفي ضوء ما تقدم، وبالنظر إلى تفاعلات حدث الانتفاضة، ومن قبله حدث انتصار المقاومة في المنطقة، على مختلف الصعد السياسية والمعنوية والسيكلوجية والإعلامية، باتت الانتفاضة تلعب دوراً استراتيجياً في إعادة صياغة معادلات الصراع الغربي.. الاسرائيلي وفق مبادئه الأصلية. وبهذا المعنى، فإن الانتفاضة استطاعت أن توجه ضربة استراتيجية إلى انجازات رئيسة للعدو الصهيوني ليس أقلها أعادة وضع الصراع في اطاره الحقيقي والموضوعي، أي بوصفه صراعاً قومياً وإسلامياً وتاريخياً بامتياز.

من هنا، وبمعزل عن الاعتبارات الايديولوجية والفقهية لمواقف سماحة ولي أمر المسلمين السيد الخامنئي، من الانتفاضة، فإن هذه المواقف برهنت بالملموس كم تشكل رهانات حقة بامتياز.