الوظائف الأساسية للحوزات
بسم الله الرحمن الرحيم
عند شروعه في بحث الخارج، تعرض آية الله العظمى السيد الخامنئي للوظائف الأساسية للحوزات العلمية، كالتالي:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين..
جرياً على العادة اليومية، سأذكر اليوم رواية لكي نتبرّك بأنوار معارف أهل البيت (عليهم السلام) إن شاء الله، وهذه الرواية من "نوادر الراوندي" عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام)، وهذا السند يعدّ من الأسانيد المعتبرة لمن قَبِل بسند كتاب "الجعفريات".
ونحن تكلمنا فيما سبق، وبمناسبات عديدة، عن سند كتاب "الجعفريات" أو "الأشعثيات" ـ وهو يُعرف بالإسمين ـ وذكرنا روايات فضل الله بن علي الحسني الراوندي الذي يعدّ من أعلام وكبار علماء الشيعة في القرن الخامس والسادس وصاحب كتاب "النوادر" وكتب أخرى..
وأغلب أحاديث هذا الكتاب هي أحاديث كتاب "الأشعثيات" والتي رواها هو.
وقد قلنا فيما سبق إن كتاب "الأشعثيات" أيضاً يحتوي على الروايات التي يرويها محمد بن محمد بن الأشعث عن موسى بن إسماعيل، وموسى بن إسماعيل يرويها عن إسماعيل بن موسى بن جعفر (ع) عن أمير المؤمنين (ع) وعن رسول الله (ص)، وهذا السند هو سند إعلائي جداً.
بالطبع فإن بعض الروايات قبل وبعد محمد بن محمد بن الأشعث مشكوك فيها، ولكن البعض، كالمحدّث النوري (رض) وبعض الأعلام والآخرين، يصرّون على أن هذا السند من الأسانيد الجيدة.
والمرحوم الشيخ آغا بزرك الطهراني (رحمة الله عليه) ينقل عن المرحوم الشيخ الأخوند (رض) أنه كان يقول في مجلس إفتائه: إنه لا يمكن لأي فقيه أن يفتي قبل مراجعة كتاب "المستدرك" للمحدّث النوري (رض). لأن الفحص عن المعارض والحجة و... متوقف على هذا الكتاب.
وأصل كتاب "المستدرك" أيضاً هو نفس "الأشعثيات" وقد أضيفت بعد ذلك روايات كثيرة من كتب ومصادر أخرى. وعلى هذا فإن البعض قد قبل ـ وبهذا السند الذي ذكرناه ـ روايات الأشعثيات بشكل كامل.
فإذا قبل أحد بهذا السند وقال باعتباره ـ كما بحثنا سابقاً ولا يستبعد أن يكون كذلك ـ عندها ستكون روايات "فضل الله بن علي الراوندي" التي رُويت في كتاب النوادر معتبرة.
وبهذه المقدمة حول السند، أذكر روايتين أو ثلاث روايات أخلاقية لكي يتم الإنتفاع منها إن شاء الله. وهنا يروي المرحوم المجلسي عدة روايات من كتاب "النوادر" أذكر اليوم بعضها بمناسبة البدء بالدراسة.
إن إحدى الروايات التي ينتهي سندها الى النبي الأكرم (ع) هي هذه الرواية:
قال رسول الله (ص): "السابقون الى ظل العرش طوبى لهم"، وذلك لأن العرش الإلهي هو أمر معنوي ويمثل الحد الأعلى من عظمة الذات الربوبية المقدسة. ومعنى السبق الى العرش هو لجوء العبد الى مولاه في أعلى درجة ممكنة. وإن أرقى شيء يمكن افتراضه للعبد هو لجوؤه الى ظل عرش الله سبحانه وتعالى.
ثم يُسأل النبي (ع): يا رسول الله، ومَن هم؟ فيقول رسول الله (ص): "الذين يقبلون الحق إذا سمعوه" أي أن السابقين الى العرش يتصفون بعدة صفات، الأولى: هي قبولهم للحق، والثانية: "ويبذلونه إذا سُئلوا" أي أنهم إذا سُئلوا عن الحق فإنهم يقومون بتبيانه من دون خوف أو تحفّظ. ويكفي لو تطبّق هاتان الجملتان في عالم اليوم الذي يغرق في الفساد ـ والذي توجد فيه من دون شك أذهان وقلوب وضمائر وعقول حية وواعية ـ وهؤلاء يستطيعون فهم الحق والحقيقة ويعرفون ما هو الحق. الحق هو الشيء الذي يقوم عليه أساس الخلق {ما خلقناهما إلا بالحق}، الحق هو ذلك الشيء الذي يجب أن يكون، وهو ذلك الشيء الذي كان جهاد كل المجاهدين العظماء في التاريخ من أجل الوصول إليه. والحق هو الشيء الذي لو عُرف واتُبع وتحقق لما بقي أي انحراف ولا أي اعوجاج في العالم. إذاً فالحق أمر في غاية الأهمية، فبمقدار ما يتحقق الحق تزول الإنحرافات، فهل هذا شيء قليل؟
ولو أن أصحاب الفهم الذين يعيشون في عالم اليوم ـ الغارق في الفساد ـ عرفوا الحق بأكمله أو شطراً منه أو حتى كلمة واحدة منه ويقبلوها ويبينوها للذين هم بحاجة إليها، فسترَون أية واقعة ستقع وأي تغيير عظيم سيحدث في العالم وفي حياة البشرية.
إن مشكلاتنا اليوم ناشئة من أن الأهواء النفسية والقيود البشرية والأغلال التي في أعناق البشر، هي التي أثقلت كواهلهم "والأغلال التي في أعناقهم" ولا تسمح لهم بمعرفة الحق أو تقبّله في حال معرفته وتبيانه للذين هم بحاجة إليه، وهذا هو موضع الخلل. فإذا تحقق هذا الأمر (تقبّل الحق وتبيانه) فسترَون أي تغيير سيحدث.
إذاً، فمن المناسب حقاً القول "السابقون الى ظل العرش طوبى لهم". وهذا عمل شاق جداً، طبعاً إن هناك ـ للحق في المقياس العالمي ـ مَن يعرف الحق، ومَن ينشره، ومَن يمنعه، ومَن يبخل به، ومَن يرفضه، ومَن يكفر به، ومَن يخفيه.
وإن للحق في مقياس المجتمع الذي نعيش فيه معالم وآثار ومصاديق وجزئيات وخصوصيات أخرى. وكل هذه الأمور والخصوصيات لها أهمية أيضاً. فلا ينبغي أن يقال إن فلاناً ـ الذي أنكر على المستوى العالمي ـ سواء كان حق النبوة أو حق التوحيد أو أحقية الفكرة الفلانية بأنه ملعون بينما نخرج عن هذا الحكم شخصاً يعيش هنا ـ في المجتمع الإسلامي ـ ويرى حقيقة ولكنه يحاول كذاك الشخص (المنكر لحق النبوة والتوحيد) إنكارها وإخفائها وعدم الدفاع عنها أو حينما تعرض عليه يبادر برفضها (فلا فرق بين الإثنين)، فقد جاءت في الرواية كلمة "الذين" والتي يعتبر كل أحد وفي أي مكان من العالم وفي أي مقياس مصداقاً لها.
الثالثة: "ويحكمون للناس كحكمهم لأنفسهم" وهذه إحدى مصاديق الحق الشاقة والمرهقة جداً، فبعض أقسام الحق ليس فيها كثير من المرارة بالنسبة لبعض الناس بل إنها لذيذة عند مذاق أهل الحق. أما ذلك الحق الذي يعتبر مرّاً بمذاق الجميع، وفي كل مكان، فهو هذا المصداق من الحق (الذي جاء في هذه الفقرة من الرواية) والذي لو عمل به أحد بصفته إحدى المصاديق المهمة جداً للحق فإنه سيكون قد أثبت جدارته وأدى امتحانه بشكل جيد جداً.
"ويحكمون للناس كحكمهم لأنفسهم" أي أنهم يجب أن يحكموا للناس بنفس ما يحكمون به لأنفسهم ولا يرَون فرقاً بينهم وبين الآخرين. وهذه من الأمور الشاقة جداً على نفس الإنسان. وهذا الحديث الشريف سواء بدليل ما نملكه نحن الطلبة اليوم من مكانة إجتماعية خاصة ببركة الثورة الإسلامية وسواء قبل إقامة نظام الجمهورية الإسلامية وعلى طول تاريخ الفقاهة الشيعية وما كان يملكه علماء الشيعة من مكانة إجتماعية مرموقة بشهادة جهادهم ومواقفهم التاريخية أو الأحداث التي وقعت من أجل إقامة الحق والجهاد ضد الباطل، يعتبر ـ بالنسبة لنا ـ حديثاً تربوياً ومهماً جداً.
تذكّروا هذا الحديث دوماً، وعلى طلاب العلوم الدينية والمعممين والعلماء أن لا ينسَوا هذه الكلمات الثلاث أبداً:
أولاً: أن يقبلوا الحق أينما وجدوه، بطبيعة الحال مع التشخيص السليم ويكون ـ بينهم وبين الله ـ خالياً من أية شائبة نفسية.
ثانياً: كلما سُئلوا عن الحق وطُلب منهم تبيانه وإعلانه فلا يتوانَوا في ذلك.
ثالثاً: أن يساووا بين أنفسهم وبين الناس في الحكم، أي أنهم وكما يحكمون للناس ـ سواء كان الحكم بمنفعة الناس أو ضررهم ـ يجب أن يحكموا لأنفسهم كذلك. وهذه تعتبر تقريباً واحداً من أشق وأبرز مظاهر الحق.
الحديث الآخر بنفس ذلك السند أيضاً عن علي (ع) قال: "قيل لرسول الله (ص): ما الذي يباعد الشيطان منا"، أي ما هي الأمور التي تُبعد الشيطان عنا؟ بالطبع أنتم تعرفون أن الشيطان هو أعمّ من إبليس، الشيطان هو القوى التي تخلق الشر والفساد والإنحراف والتي تقوم بحرف الإنسان بصور وقوالب مختلفة، فتارة تظهر بصورة إنسان، وتارة بصورة غير إنسان، وأحياناً تتمثل في الأهواء النفسية ومرة يكون إبليساً.
والأبالسة هم طائفة من الشياطين الذين وردت قصتهم في القرآن الكريم، كما في قصة آدم. وهؤلاء طائفة كبيرة من الشياطين ولكنهم ليسوا وحدهم، هؤلاء شياطين الجن. وهناك شياطين الإنس الذين يكونون أكثر خطراً في بعض الأحيان.
إذاً ما هي الأمور التي تبعد الشيطان عنا؟ فقال رسول الله (ص): "الصوم لله يسوِّد وجهه"، لأن الصوم يقمع الغرائز الجسدية المضللة ويمنعها من الطغيان.
"والصدقة تكسر ظهره"، لأن الصدقة هي إيثار من الإنسان فيما يملك. "والحب في الله تعالى والمواظبة على العمل الصالح يقطع دابره".
وهاتان الخصلتان هما أهم من تينك اللتين سبقتهما، وإحدى هاتين الخصلتين هي الحب في الله والتي تعني توجيه العواطف ولا سيما عاطفة الحب وجهة إلهية.
فإن كنتم تحبون أحداً فليكن ذلك الحب لله لا للدنيا؛ والروايات الواردة في مسألة "الحب والبغض في الله" هي كثيرة ومفصلة، وفي كتاب "الكافي" يوجد باب في هذا الموضوع كما توجد روايات كثيرة في كتب الأحاديث الأخرى.
الخصلة الثانية "المواظبة على العمل الصالح" فليس المهم أن تقوموا بالعمل الصالح مرة واحدة لأن الجميع يفعل ذلك، بل المهم أن يواظب الإنسان على العمل الصالح، أي يواصل ويستمر على القيام بذلك العمل كما تقرأ في دعاء كميل "والدوام في الإتصال بخدمتك" فعلى الإنسان أن يكون متصلاً بخدمة الباري على الدوام، وهذا الإستمرار والتداوم هو شيء له أهمية كبيرة جداً.
وإذا قام الإنسان بهذين الأمرين ـ الذين يمثل أحدهما الجانب العاطفي ويمثل الآخر الجانب العملي ـ فسوف يقطع دابره، أي أنه سيتم القضاء على الأهواء النفسية من الجذور.
"والإستغفار يقطع وتينه"، فمن جملة الأمور التي تقضي على الشيطان هو الإستغفار وطلب المغفرة من الباري عز وجل والذي تكرر في مواضيع عديدة من القرآن الكريم.
وللإستغفار ثمرة ونتيجة أينما كان، وقد ذكرت في الآيات والروايات آثار الإستغفار أيضاً.
وروح الإستغفار وطلب العفو من الله سبحانه وتعالى هي شيء مهم جداً لأنها تعني عدم غفلة الإنسان عن أخطائه وزلاته، فمن يبرئ نفسه من الخطأ والمعصية ويتصور أنه لم يرتكب عملاً سيئاً فسوف لا يفكر في الإستغفار فنفس الإهتمام بأمر الإستغفار يعني اعترافنا بالخطأ والنقص والمعصية والقصور والتقصير. إذاً فالإستغفار هو أمر ضروري لكل إنسان، لأن من الطبيعي أنه لا يوجد إنسان لم يرتكب ظلماً أو ذنباً أو صدر منه تقصير {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة}، إن الله سبحانه وتعالى يتجاوز عن ذنوب العباد، لأن الله لو كان يؤاخذ العباد بظلمهم وذنوبهم لما بقي منهم أحد على وجه الأرض، ففي قوله تعالى {ما ترك عليها من دابة} المراد بالدابة طبعاً هي الدابة الإنسانية لأن البحث في الآية الكريمة يدور حول الإنسان.
وعلى هذا فإن أخطاءاً تصدر منا بصورة مستمرة مردها الى الأهواء النفسية كما أن بعضها ناشئ من الجهل وقصر النظر.
إذاً فالهدف من الإستغفار هو الإلتفات الى الذنوب المرتكبة ولازمه تصحيح العمل، فيجب على كل إنسان تصحيح عمله بصورة مستمرة، وإذا ما تواجد ذلك فسوف يتم التكامل.
وعلى هذا فإن الشرط الأساسي لكمال الإنسان هو وجود حالة التصحيح هذه والتي يعدّ الإستغفار أحد عواملها المهمة. ولهذا أوليت أهمية كبيرة جداً للإستغفار.
الرواية الثالثة: وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله (ص): "أوصي أمتي بخمس: بالسمع والطاعة..."، فعادة يأتيان بـ "السمع والطاعة" معاً في الموارد الأخرى، ولكنهما جاءا هنا منفصلين عن بعضهما. فمن الواضح أن "السمع والطاعة" يستعملان هنا بمعنى واحد فـ "السمع" هنا ليس بمعنى "الطاعة".
السمع هنا يعني الإستماع والمبالاة وأول شيء يمتلكه الوسط العلمي الشيعي هو المبالاة (الإهتمام)، بما يدور حوله من قضايا وأحداث، ولعل السمع الوارد في هذا الحديث يشير الى هذا المعنى، فلا يمكن ولا يصح ترك الأمور على حالها، ولا يصح أن يقال نحن لا نستطيع عمل شيء أو ليس لنا علاقة بهذه الأمور؛ فهذا الأساس المبارك (أي الثورة والنظام الإسلامي) قام وتأسس لأن ذلك الرجل الإلهي (الإمام الراحل) كان يختلف عن الآخرين اختلافاً أساسياً، فهو لم يقل أبداً لا علاقة لي بهذه الأمور، في حين أن كثيراً من الناس يرى ما يقع من أحداث في المجتمع ـ طبعاً كان البعض لا يرى حتى تلك الأحداث ولا يفهمها ولا تلفت نظره ـ ولكنه يقول لا علاقة لي بها وإنني مشغول. إلا أن ذلك الرجل العظيم (الإمام الخميني) لم يقل يوماً لا علاقة لي بما يحدث، ولهذا صار إماماً للناس وللأمة، والإمامة كانت حقه المسلّم.
فأول شيء هو "السمع" وبعد ذلك "الطاعة" ولكن هذه الطاعة لمن يجب أن تكون؟ الطاعة لـ "مَن له الطاعة"، "ومَن حقه الطاعة"، ولا يقبل التمرد والعصيان من أي شخص وفي أي موقع كان، وإن الأمة الإسلامية لا تكون قد عملت بوصية النبي الأكرم (ص) إلا أن تلتزم بالطاعة عندما تصبح الطاعة واجباً شرعياً ملقى على عاتقها.
وفي مقابل الطاعة هناك العصيان، وقد جاء العصيان في آية محذّرة في القرآن الكريم، والتي قرأتها مراراً وبمناسبات مختلفة وهي {وعصيتم الرسول}، فكان هذا العصيان أحد الأسباب التي أدت الى هزيمة المسلمين في معركة أحد، فالمسلمون يطيعوا أمراً واحداً من أوامر النبي (ص) فوقعت تلك الفاجعة.
وقد شاهدنا في عهد الجمهورية الإسلامية أنه في أي مورد شوهد فيه عصيان فقد وقعت فاجعة، وفي أي أمر كانت فيه طاعة كان ينتهي الى الخير والبركة والصلاح.
وبعد ذلك يقول النبي (ص) "والهجرة"، طبعاً إن لهذه الهجرة مراحل، فحينما أمر رسول الله (ص) الناس بالهجرة لعله كان يهدف الى تأسيس المدنية الإسلامية التي كانت تستلزم أن يخرج الناس من حياة البدو التي كانوا يعيشونها في جزيرة العرب ويشكلوا حياة مدنية. فما دام الناس لا يعيشون حياة إجتماعية أو على شكل تجمعات أو بتعبير آخر "حياة مدنية"، فلا يمكن تطبيق الأحكام الإلهية في أوساطهم ولا يمكن الوصول بهم الى هدف معين.
فالمرحلة الأولى هي الهجرة الى "دار الهجرة" وبعد ذلك الهجرة الى المدن حيث كان النبي (ص) يأمر العشائر والقبائل الرحّل بالهجرة إليها. وإذا لم يهاجروا فلا يُعطَون من الغنائم شيئاً حتى وإن شاركوا في الجهاد، وهذه المسألة تعتبر في رواياتنا جزءاً من مباحث كتاب الجهاد والتي سنصل إليها إن شاء الله.
والهجرة تعني وجوب عدم البقاء في مكان واحد، ومن الممكن أن يكون مصداق هذه الهجرة بالنسبة لطلاب العلوم الدينية والفضلاء المحترمين في الحوزات العلمية في عصرنا هذا، هو الهجرة الى أكناف البلاد الإسلامية لنشر وتبليغ المفاهيم الإسلامية؛ فهناك البعض ممن يتمكن من الإستقرار في مدينة ما وإرشاد أهلها وهدايتهم، ولكنهم كالمئات أو الآلاف من أمثالهم بقوا في قم من دون أن يترتب أي أثر على وجودهم، وأقصى ما يقومون به هو إلقاء درس والذي إذا لم يدرسوه لحضر هؤلاء العشرون أو الثلاثون نفراً ـ الذين يحضرون هذا الدرس ـ عند أستاذ آخر وسمعوا نفس الدرس من ذلك الأستاذ.
فلعل أحد مصاديق الهجرة اليوم هو هذا الذي ذكرناه، وفي الوقت الحاضر توجد في بلادنا مدن ـ فضلاً عن القرى ـ هي بحاجة الى عالم دين، فعلى علماء الدين الذهاب الى تلك الأماكن من دون شروط مسبَّقة، لأن البعض يقول لنا: يجب أن تتوفر لنا الإمكانيات والتسهيلات أولاً لكي نذهب الى هناك.
إنني لا أقول إنه لا حاجة الى الأمور المادية ومتطلبات الحياة بل إن الحاجة الى تلك الأمور قائمة يقيناً، ولكن يجب اعتبار تلك الأمور المادية ضمن المتطلبات القهرية وعدم افتراضها شرطاً مسبَّقاً، فلا بد من التحرك وبذل الهمم.
وبطبيعة الحال إن هذا ليس أمراً فردياً لأنه من الممكن أن يتيقن منكم خمسون نفراً بأنه أصبح واجباً عليهم الذهاب الى المدن الأخرى من أجل تبليغ الإسلام، فيذهبون من أجل ذلك، إلا أن هذه الحركة سوف تتوقف بعد ذلك.
فلا بد من إيجاد حركة في الحوزة العلمية بـ"قم" وبالتبع في سائر الحوزات العلمية، وأن يشارك الجميع وأن يصبح هذا الأمر متواصلاً ومستمراً، وعلى إدارة الحوزة وأكابرها والشخصيات المتنفذة فيها أن يبادروا الى القيام بهذا الأمر وليبدأوا بأنفسهم أولاً. ولو أن بعض الأكابر يذهبون الى مدن أخرى بدلاً من البقاء في قم لكان وجودهم هناك أكثر فائدة وأكثر عطاءاً، وهذا يصدق حتى على أكابر العلماء أيضاً.
فقد لاحظنا كيف أن عالماً كالمرحوم آية الله الميلاني (رض) جاء الى مدينة مشهد قادماً من كربلاء القريبة من النجف الأشرف وأقام حوزة علمية كبيرة هناك ـ في مشهد ـ في الوقت الذي كان الكثيرون من أمثاله في كربلاء والنجف.
حقاً إن وجود آية الله الميلاني (رض) كان من النعم الإلهية على الحوزة العلمية في مشهد، فقد جاء الى مشهد وكان بـإمكانه البقاء الى آخر عمره في كربلاء، فكان عالماً بين عدد من العلماء من أقرانه بل من الممكن أن بعضهم كان متقدماً عليه من بعض الجوانب ـ حتى وإن لم يكونوا متقدمين عليه من الناحية العلمية، ولكنهم كانوا متقدمين عليه من جهات أخرى ـ إلا أنه جاء الى مشهد وأصبح منشأ للخير والبركة.
إذاً فهذا الأمر يجري حتى على الشخصيات أمثال آية الله الميلاني، فلا بد من التصدي لمسألة تجمع وتراكم العلماء في مكان واحد، فمن مصاديق الهجرة هو الهجرة الى الأماكن التي تحتاج الى عالم دين والى المدن والحوزات الكبيرة والصغيرة.
ومن الممكن أن تكون إحدى مصاديق الهجرة في الوقت الحاضر هي الهجرة لتبليغ الإسلام ونشره خارج البلاد أو في المؤسسات الحكومية وفي الدوائر والمصانع وفي الأماكن التي يطلب إليهم الذهاب إليها وتوجد رغبة في وجودهم فيها.
النقطة الرابعة (والجهاد) والجهاد هو أمر واسع وعمل عام وشامل ونافع لا ينضب، وهو يتحقق بصورة وأشكال مختلفة، وقد قلنا في أول كتاب الجهاد إن معيار الجهاد ليس السيف ولا ميدان الحرب فحسب، إن معيار الجهاد هو ما يقال في اللغة الفارسية بـ "مبارزة" مثالاً كأن يقال: هل فلان مجاهد أم لا؟، فهناك صنفان من الكاتب والعالم والجامعي وطالب العلم والمجتمع، مجاهد وغير مجاهد. ويلزم في الجهاد أمران، الأول: الجد والجهد والتحرك، فالإنسان لا يستطيع أن يجاهد وهو في فراشه أو قابع في عقر داره لأن الجهاد يجب أن يكون فيه جد وجهد، وبالرغم من أن الجهاد في النفس له بعض المجالات ولكن نأتي هنا بالأمثلة التي تتعلق بالجهاد في المجالات الإجتماعية.
إذاً، الشرط الأول للجهاد هو بذل الجد والجهد والتحرك.
ثانياً، أن يكون الجهاد والكفاح ضد عدو، فلا معنى للكفاح والجهاد مع عدم وجود عدو، وعلى هذا فإن قوام الجهاد شيئان، الأول: بذل الجد والجهد، والثاني: وجود العدو.
فمَن يجد ويجهد ويتحرك ضد الدولة الإسلامية فهذا ليس جهاداً أو كفاحاً بل هو فتنة وإخلال، ومن بذل جهده وجده ضد حكومة الحق والصلاح فعمله هذا فتنة وليس جهاداً، بل هو محاربة لدولة الحق سواء كان بصورة كتابة أو قول أو كتاب أو منشورات أو إشاعات أو افتعال السلبيات، وكل هذه الأمور هي صور لبذل الجد والجهد ضد دولة الحق، وهي فتنة وتضليل وبعض أشكالها تعدّ محاربة.
وإن كان هذا الجد والجهد ضد عدو الله ورسوله وأوليائه (ع) فيعدّ جهاداً في سبيل الله وهو الجهاد الذي دعا إليه رسول الله (ص). إذاً فالتقاعس والبطالة والكسل واللامبالاة هي أمور لم تُرَد من أمة النبي (ص).
والنقطة الأخيرة هي "والجماعة"، ثم قال النبي (ص): "ومن دعا بدعاء الجاهلية فله جثوة من جثاء جهنم"، فما هي الجاهلية؟ الجاهلية هي النظام الذي كان سائداً قبل الإسلام، وكل نظام غير إسلامي هو نظام جاهلي وكل مَن دعا الى هذا النظام فله جثوة (حجر) من جثاء جهنم، وهذا قد جاء على لسان رسول الله (ص). إذاً فالأمر ليس بهزل فيجب علينا نحن الطلبة وعلى الحوزات العلمية أن تتذكر هذه النقاط التي ذكرناها وإنني قرأت هذه الروايات الثلاث اليوم لأؤكد على الإهتمام بالتهذيب والأخلاق في الحوزات العلمية.
أيها السادة لو أن أحداً أصبح عالماً مجتهداً، بلغ المراحل العلمية العليا، ولكنه ليس على استعداد لقبول الحق وتغلبت عليه الأهواء النفسية، وأخفت رغباته الشخصية عنه الواضحات، فلا نفع في وجوده للعالم الإسلامي أبداً بل هو مضر ويكون أشد ضرراً من الجهل أحياناً.
ولو أن شخصاً كان أعلم وأفقه الناس ولكنه لا يستطيع إدراك أن النظام الإسلامي اليوم في إيران الإسلامية قام على أساس الحق، ولا يستطيع أن يفهم كيف قضى هذا النظام على ذلك النظام الذي كان قائماً على المعصية والفسق والفجور والظلم؛ لنفترض أن هذا الإنسان كان على مستوى عالٍ من الناحية الفقهية، مع أن هذا ليس بعلم بل جهل، وهو ليس بنور بل هو ظلام، فلو كان نوراً لَهداه الى الحق. ولو أننا شاهدنا أشخاصاً في الحوزة العلمية ـ وهم بحمد الله قلة قليلة ـ على استعداد لسحق المصالح العامة إرضاءاً لأهوائهم النفسية، على استعداد لعدم مسايرة النظام الإسلامي بل أكثر من ذلك على استعداد ـ لا سمح الله ـ لمعاداة ومواجهة هذا النظام، فإن شاهدنا أمثال هؤلاء يجب علينا أن نعير أهمية أكبر لتهذيب النفس.
فعندما نرى أن هناك علماً موجوداً في الحوزات العلمية إلا أن هذا التحرك والنشاط لا يساهم ـ كما ينبغي ـ في ملء الفراغات التي يعاني منها النظام الإسلامي، عند ذلك يجب أن نهتم بمسألة التهذيب الأخلاقي. لماذا؟ لأنه إذا سادت الأخلاق وتهذيب النفس في الحوزة العلمية وأوجدت الصفاء الروحي، عندها لا بد لكل كلمة تقرأ أن تكون في منفعة الناس.
إنني أود التأكيد على مسألة التهذيب لأن حوزاتنا مليئة بالشباب الطاهرين المخلصين، ويندر أن يعيش مثل هذا العدد الكبير من الشباب في مكان واحد، كما هو الحال في الحوزة العلمية بـ"قم"، فهناك الآلاف من الشباب الصالحين الذين أعرضوا عن زخارف الدنيا الدنية والذين يعتبر بعضهم حقاً مصداقاً لهذه الفقرة من دعاء الندبة "شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها".
وإن لتجمع كل هذا العدد من الشباب فرصة ممتازة، وإحدى مسؤوليات الحوزة العلمية هي:
أولاً: تثبيت وحفظ وتعميق الروح المعنوية والصفاء الروحي الموجود لدى طلبة العلوم الدينية الشباب.
ثانياً: العمل على تكميل وتربية تلك الروح وذلك النقاء المعنوي وصقلهما. وأنا أرجو أن ينصبّ الإهتمام في جميع الحوزات العلمية الى هذه النقطة، وهذا لا يعني عدم وجود ذلك ولكن أرجو أن يكون التوجه والإهتمام بها أكبر وأكثر. إن عالَم اليوم هو عالم فساد، وهذا الفساد آخذ بالإستشراء في جميع أرجاء العالم ولا يوجد أمامه سد أو حصار سوى التبليغ والتبيين الصحيح.
فمَن هم الذين يجب أن يقوموا بهذا التبليغ الصحيح؟ إن هذا التبليغ يقوم به أناس هم أقوياء وصامدون، أي هؤلاء الشباب والعلماء الذين يدرسون المعارف الدينية ويتعلمونها ويبينونها للناس. فيجب أن يكون هؤلاء ـ من الناحية الأخلاقية ـ أقوياء جداً وصامدون ولا يمكن التأثير عليهم.
أما النقطة الأخرى التي تعتبر الأساس الثاني في الحوزات فهي مسألة التطور والتدبر ومواكبة الركب العلمي.
وما أود قوله لكم أيها السادة هو أن الخصوصية الأساسية لفقهائنا العظام من قبيل صاحب الجواهر (ره) ـ حيث أننا قد أسمينا فقهنا، حسب تعبير الإمام (رض) بـ "الفقه الجواهري" ـ هي أنهم كانوا أصحاب تغيير في الفكر الفقهي الذي كان رائجاً في زمانهم، فالمرحوم صاحب الجواهر (ره) من الأشخاص الذين يولون عناية كبيرة للإجماع والشهرة، وبعض الفقهاء لم يولوا هذا القدر من الأهمية للشهرة والإجماعات المنقولة إلا أن صاحب الجواهر يعتمد عليهما كثيراً في مختلف المسائل؛ ولكن بالرغم من ذلك فإن هذا الرجل كان يمتلك أفكاراً جديدة، فهو لديه فتاوى؛ وفي المواضع التي لم يصل كلامه الى حد الفتوى فإنه يقترب بالكلام من الفتوى، وإحدى تلك المسائل هي مسألة الجهاد الإبتدائي في عصر الغيبة، فالمعروف والمشهور بين المتأخرين بأنه غير مشروع، ولكنه يبحث المسألة بشكل فتكون نتيجة بحثه هي المشروعية، وهو يقول إن لم يكن إجماع في البين؛ وهذا هو الإبداع. والمرحوم صاحب الجواهر (ره) هكذا في مختلف المسائل.
والفقيه الذي يمتلك مثل هذه الروح يمكنه أن يكون قدوة وبارزاً وعظيماً. المرحوم آية الله البروجردي (رض) الذي وصل الى قمة الفقاهة الشيعية في زمانه كان من هذا القبيل، والإمام الراحل (رض) أيضاً كان من هذا القبيل.
فيجب أن تكون روح التتبع العلمي موجودة في الحوزة العلمية. ومن الممكن أن لا يتم إعداد مواد بقدر الفتوى، فلا بأس بذلك فليواصلوا البحث العلمي.
وإنني أرى في بعض الأحيان أن بعض الأشخاص يطرحون أفكاراً جديدة في بحث من الأبحاث الفقهية فيهاجمون من هنا وهناك لطرحهم هذه الأفكار.
وأخيراً قام بعض الفقهاء الأفاضل من أصحاب الأفكار الجديدة بطرح بعض الأفكار التي لا ضير في طرحها. فيجب أن يكون تحمل الحوزة العلمية كبيراً للإستماع للأفكار الجديدة حتى لو لم تصل الى حد ليفتي هذا الفقيه بذلك، لأنه من الممكن أن يضيف عليها فقيه آخر شيئاً وينفي. ولهذا فإنني أوصيت فضلاً وعلماء من قم أن يقوموا بـإعداد وإصدار مجلة فقهية تُطرح فيها الأفكار والآراء الفقهية الجديدة، ولكن أولئك العلماء لم يقوموا بهذا العمل. إلا أن مجموعة من الشباب قاموا بـإنجاز عمل في هذا المجال، وهذا العمل وإن كان ليس هو المشروع المثالي والأساسي إلا أنه قابل للثناء والتقدير لأنه يمثل خطوة في هذا السبيل، وبالرغم من هذا فإن إنجاز ذلك المشروع الكبير ما زال ممكناً أيضاً، ولو كانت توجد مجلتان أو ثلاث مجلات فقهية في حوزة قم فإن ذلك ليس بكثير، وأن تكون مجلة خاصة بالفلسفة والكلام، وبحمد الله توجد مجلة كلامية في الحوزة العلمية بـ"قم" إلا أنها تُنشر بكميات قليلة ومن الممكن أن يكون الكثير منكم قد سمع باسمها إلا أنه لم يرها، ولكنني ـ والحمد لله ـ قد رأيتها وأشكر القائمين على إصدارها. هكذا يجب أن تكون العلوم حيث تطرح الأفكار الجديدة في الحوزة العلمية يوماً بعد يوم وأهم جميع العلوم والمقدم عليها جميعاً هو الفقه ثم العلوم الأخرى..
النقطة الثالثة: هي ضرورة أن تكون الحوزة العلمية في الخط الأمامي لحركة المجتمع العظيمة. وكما شاهدتم فإن مراجعنا العظام ـ سواء في حياة الإمام (رض) أو بعد رحيله وحتى اليوم ـ كالمرحوم آية الله العظمى السيد الكلبايكاني (رض) والمرحوم آية الله العظمى المرعشي النجفي (رض) والمرحوم آية الله العظمى الشيخ الأراكي (رض) ـ كانوا دوماً في الخط الأمامي، فقد كانوا يتقدمون على الآخرين في كل أمر مهم من أمور المجتمع، ففي يوم الإنتخابات (مثلاً) كان المرحوم السيد الكلبايكاني والسيد المرعشي (رض) من أول المبادرين الى الإدلاء بآرائهم في الصباح، وهذا الموقف هو موقف رمزي لأنه بالإمكان الإدلاء بالرأي عصراً إلا أنهم كانوا يدلون بآرائهم صباحاً، وكما كنتم تشاهدون كان يفعل ذلك أيضاً.
هكذا كان مراجع قم، كانوا في الخط الأمامي دوماً، في الأمور الأساسية، في الحرب، والتواجد في جبهات القتال، وترغيب الناس للتواجد في جبهات القتال، وفي القضايا الإقتصادية ونحو ذلك من الأمور كانوا دوماً من المبادرين والمتقدمين فيها، وهكذا يجب أن تكون الحوزة العلمية.
وإن ذلك الإنسان الذي يعيش في الحوزة وتكون نظرته الى النظام الإسلامي والى أحكام القرآن التي تطبّق في هذا النظام، وكذا الى الحكومة الإسلامية التي قامت ببركة جهاد هذا الشعب نظرة غير جدية فإن ذلك الإنسان ـ أياً كان ـ هو عنصر أجنبي على الحوزة.
الحوزة العلمية الشيعية ليست هكذا، فيجب على الجميع ـ في الحوزة ـ أن يعتبروا أنفسهم في الصفوف الأمامية ولا سيما طلبة العلوم الدينية الشباب الذين كانوا ـ ولله الحمد ـ هكذا دوماً. فعلى الفضلاء والطلبة الشباب وكبار الحوزة والأساتذة المحترمين الذي كان لهم موقع في الصفوف الأمامية في جميع الأمور والجوانب، أن يبقَوا دوماً في تلك الصفوف والمواقع، وإن شاء الله وببركة الإرشادات الدينية لعلماء الدين الكبار وحاملي رايات علوم الدين سوف يتمكن هذا النظام من أن يتكامل يوماً بعد يوم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعليقات الزوار