فاطمة الزهراء (عليها السلام) في فكر الإمام الخامنئي (دام ظله)

عظمة الزهراء (عليها السلام)

ولدت بنت النبي (صلى الله عليه وآله) الكريمة في السنة الخامسة للبعثة طبقاً للقول المشهور، وعلى هذا فإن عمر فاطمة الزهراء (عليها السلام) حين الاستشهاد كان 18 عاماً. وقيل إنّ ولادة هذه السيّدة الكريمة كانت في السنة الثانية أو السنة الاُولى للبعثة، فيكون الحدّ الأكثر لعمرها 22 أو 23 عاماً. ولو أخذتم جميع القيود التي يمكن أن تحيط بالمرأة (خاصّة في تلك الفترة حيث كانت القيود أكثر)، فعند ذلك ترون العظمة التي أثبتتها هذه السيدة المكرّمة في تلك الظروف وخلال هذا العمر القصير، وبالطبع إنّني لا أتمكّن أن أتكلّم عن الجوانب المعنوية والروحية والإلهية لتلك السيدّة الكريمة، فأنا أصغر من أن أدرك تلك الاُمور، وحتّى لو استطاع شخص إدراك ذلك، فإنّه لا يستطيع وصفها وبيانها كما هو حقّها، فتلك الجوانب المعنوية هي عالم آخر. وقد روي عن الإمام الصـادق (عليه السلام) انّه قال: «إنَّ فاطـمة كـانت مُحـدَّثة» أي أنَّ الملائكة كانت تنـزل عليها وتأنس معها وتحدّثها. وهناك روايات عديدة في هذا المجال. وإنّ كونها محدّثة لا يختصّ بالشيعة فقط، فالشيعة والسنّة يعتقدون أنّه كان هناك أشخاص في صدر الإسلام ـ أو من الممكن وجودهم ـ كانت تحدّثهم الملائكة، ومصداق هؤلاء في رواياتنا هي فاطمة الزهراء (عليها السلام). وقد ورد في هذه الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) بأنّ الملائكة كانت تأتي فاطمة الزهراء (عليها السلام) وتتحدّث معها وتقرأ عليها آيات اللّه. وكما انّ هنـاك تعبير في القرآن حول مريم (عليها السلام) في الآية «إنّ اللّه اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين» فإن الملائكة كانت تخاطب فاطمة الزهراء (عليها السلام) وتقول: «يا فاطمة إنّ اللّه اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين».

إنّ هذه المسائل المعنوية لها ارتباط كبير بالفضائل العملية، ارتباط بما ينجم عن جهد فاطمة الزهراء (عليها السلام) وهذا المقام لا يعطى مجّاناً وبلا سبب. فعمل الإنسان له تأثير كبير في إحراز الفضائل والمناقب المعنوية.

البنت التي ولدت في لهيب الجهاد المرير للنبي (صلى الله عليه وآله) في مكّة، والتي أعانت أباها وواسته في شعب أبي طالب، كانت فتاة عمرها حوالي 7 ـ 8 سنوات أو أقل أو أكثر بعدة سنوات (حسب اختلاف الروايات)، ومع ذلك تحمّلت تلك الظروف، مَنْ الّذي يرفع عن وجهها غبار الهمّ في تلك الظروف حيث توفّيت خديجة وأبو طالب والنبي لوحده بلا مواس، والجميع كانوا يلوذون به؟ فلا خديجة ولا أبو طالب، في تلك الظروف الصعبة، وفي ذلك الجوع والعطش والبرد والحر الذي استمرّ ثلاث سنوات في شعب أبي طالب «وهي من الفترات الصعبة في حياة النبي (صلى الله عليه وآله)» حيث كان يعيش عدد من المسلمين في شقّ جبل وهم في حالة إبعاد إجباري، في تلك الأحوال تحمّلت هذه الفتاة المشاكل فكانت كالمنقذ للنبي (صلى الله عليه وآله)، واُمّ لأبيها، وممرضة عظيمة لذلك الإنسان العظيم. فقد واست النبي (صلى الله عليه وآله) وتحمّلت العناء وعبدت اللّه وعزّزت إيمانها وهذّبت نفسها وفتحت قلبها للمعرفة والنور الإلهي. وهذه هي الاُمور التي توصل الإنسان الى الكمال.

وبعد الهجرة؛ وفي بداية سنين التكليف تزوّجت فاطمة الزهراء(عليها السلام) من علي بن أبي طالب (عليه السلام). ولعلّكم جميعاً تعرفون البساطة وحالة الفقر التي مرّت بها فاطمة الزهراء (عليها السلام) بعد زواجها وهي بنت الشخص الأوّل في العالم الإسلامي، والحاكم على اُولئك الناس.

عظمة الزهراء (عليها السلام)

إنّ الإنسان كلّما فكّر وتدبّر أكثر في أحوال الزهراء الطاهرة (عليها السلام) يحتار أكثر، وحيرة الإنسان ليست ناجمة عن كيفية تمكّن هذا الكائن الإنساني من نيل هذه الرتبة من الكمالات المعنوية والمادّية في سني الشباب ـ وهي بالطبع حقيقة تثير الحيرة أيضاً ـ بل من القدرة العجيبة التي استطاع الإسلام بها أن يبلغ بتربيته الرفيعة الى درجة تُمكِّن إمرأة شابّة كسبت هذه المنـزلة العالية في تلك الظروف الصعبة. فعظمة هذا الكائن وهذا الإنسان الرفيع تثير العجب والحيرة وكذلك عظمة الرسالة التي أظهرت هذا الكائن عظيم القدر وجليل المنـزلة.

جوانب من حياة فاطمة الزهراء (عليها السلام)

إنّ حياة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في جميع الأبعاد كانت مليئة بالعمل والسعي والتكامل والسمو الروحي للإنسان، وكان زوجها الشاب في الجبهة وميادين الحرب دائماً، وكانت مشاكل المحيط والحياة قد جعلت فاطمة الزهراء (عليها السلام) مركزاً لمراجعات الناس والمسلمين. وقد أمضت البنت المعينة للنبي (صلى الله عليه وآله) حياتها بمنتهى الرفعة في تلك الظروف، وقامت بتربية أولادها الحسن والحسين وزينب وإعانة زوجها علي (عليهم السلام) وكسب رضى أباها النبي (صلى الله عليه وآله)، وعندما بدأت مرحلة الفتوحات والغنائم لم تأخذ بنت النبي ذرّة من لذائذ الدّنيا وزخرفها ومظاهر الزينة والاُمور التي تميل لها قلوب الشابّات والنساء. وكانت عبادة فاطمة الزهراء (عليها السلام) عبادة نموذجية، يقول الحسن البصري الذي كان أحد العبّاد والزهّاد في العالم الإسلامي حول فاطمة الزهراء (عليها السلام) بأنّ بنت النبي عبدت اللّه ووقفت في محراب العبادة الى درجة (تورَّمت قدماها)، ويقول الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) بأنّ اُمّه وقفت تعبد اللّه في إحدى الليالي حتّى الصبح (حتى انفجر عمود الصبح). ويقول الإمام الحسن (عليه السلام) انّه سمعها تدعو دائماً للمؤمنين والمؤمنات، وتدعو للناس وتدعو للمشاكل العامّة للعالم الإسلامي، وعند الصباح قال لها: «يا اُمّاه أما تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك، فقالت: يا بنيّ الجار ثمّ الدار».

إنّ جهاد تلك المكرّمة في الميادين المختلفة هو جهاد نموذجي، في الدفاع عن الإسلام وفي الدفاع عن الإمامة والولاية، وفي الدفاع عن النبي (صلى الله عليه وآله) وفي المعاشرة مع أكبر القادة الإسلاميين وهو أميرالمؤمنين الذي كان زوجـها. وقد قال أمـيرالمؤمنين (عليه السلام) مرّة بشأن فاطمة الزهراء (عليها السلام): «ما أغضبتني ولا خرجت من أمري». ومع تلك العظمة والجلالة، فإن فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت زوجة في بيتها، وإمرأة كما يقول الإسلام، وعالمة رفيعة في محيط العلم. وعن الخطبة التي قالتها فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مسجد المدينة بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله) قال العلاّمة المجلسي: إنّ على كبار الفصحاء والبلغاء والعلماء أن يجلسوا ويوضّحوا كلمات وعبارات هذه الخطبة. فقد كانت قيّمة إلى هذه الدرجة. ومن حيث الجمال الفنّي فإنّها كانت مثل أجمل وأرفع كلمات نهج البلاغة وفي مستوى كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام). ذهبت فاطمة الزهراء (عليها السلام) ووقفت في مسجد المدينة وتكلّمت ارتجالاً أمام الناس حوالي ساعة كاملة بأفضل وأجمل العبارات وأصفى المعاني. هكذا كانت عبادتها وفصاحتها وبلاغتها وحكمتها وعلمها ومعرفتها وحكمتها وجهادها وسلوكها كزوجة وكاُمّ، وإحسانها الى الفقراء. فمرّة أرسل النبي (صلى الله عليه وآله) رجلاً عجوزاً فقيراً الى بيت أميرالمؤمنين (عليه السلام) وقال له أن يطلب حاجته منهم، فأعطته فاطمة الزهراء (عليها السلام) جلداً كان ينام عليه الحسن والحسين حيث لم يكن عندها شيئاً غيره، وقالت له أن يأخذه ويبيعه ويستفيد من نقوده. هذه هي شخصية فاطمة الزهراء(عليها السلام) الجامعة للأطراف. إنها اُسوة للمرأة المسلمة.

التأسي بالزهراء (عليها السلام)

لقد كانت كل مساعي أمير المؤمنين (عليه السلام) خالصة لله وللإسلام، فهو اُمثولة رجال التعبئة، وإنني اُهيب بمقاتلي التعبئة في بلادنا العلوية الفاطمية أن يجعلوا أمير المؤمنين (عليه السلام) قدوة لهم، فإنّه (عليه السلام) أفضل وأعظم قدوة للتعبويين المسلمين في كل أرجاء العالم، ثم أن فاطمة الزهراء (عليها السلام) وهي إبنة قائد الإسلام العظيم والحاكم المقتدر في زمانه رغم كل الذين تقدّموا لها ومن بينهم المتموّلين والشخصيات، إلاّ انها انتخبت ـ أي أن الله انتخبه وهي كانت راضية بالإنتخاب الالهي وفرحة بذلك ـ هذا الشاب الذي وهب حياته مرضاة لله وقضى عمره في الجهاد، ثم تعيش معه بتلك الصورة حيث كان أميرالمؤمنين (عليه السلام) راضٍ بكل وجوده عنها، وعبارات أميرالمؤمنين (عليه السلام) لها ـ والتي لا اُريد ذكرها في يوم العيد هذا ـ في أواخر حياتها خير دليل على ذلك.

فصبرت وربّت بنيها ودافعت عن حق الولاية دفاع المستميت وتحمّلت في ذلك كل ذلك العذاب وتلك المصائب ثم استقبلت تلك الشهادة العظيمة بكل رحابة صدر. فهذه هي فاطمة الزهراء (عليها السلام).

إن الإنسان ليشعر ـ في السنوات الخمسة عشر الأخيرة ـ بفورة محبة الزهراء (عليها السلام) في قلوب أبناء هذه الاُمة المؤمنة الثورية المخلصة الحزب اللهية، فكان اسمها يتردد في الجبهات خلال الحرب، وفي فترة الصلح والإعمار أيضاً وكذا في الاستعداد لمواجهة الأعداء. هذه الحالة موجودة ولله الحمد.

ان هذا التوسّل جيد وذو قيمة، وأن الزهراء (عليها السلام) لتحب هذه الروح الجهادية بأية صورة ممكنة وهذه بشرى للشباب التعبويين في هذا البلد، فكما أنهم يحبّون الزهراء (عليها السلام) كذلك يتحركون طبقاً لإرادتها وميولها ويسلكون طريقها التي هي سبيل الله وسبيل العبودية ﴿وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم﴾.

اللهم لا تحرمنا حبّ الزهراء (عليها السلام) وولايتها في الدنيا والآخرة بحق محمد وآل محمد واهدنا بنور الزهراء المطهّرة، اللهم زد حبّها في قلوبنا يوماً بعد يوم، وأمتنا على حب آل النبي (صلى الله عليه وآله)، واحشرنا يوم القيامة على حب آل النبي.