كيف تحلّ المعضلات الفقهية في حركة النظام ؟
مشروع اللجنة الفقهية العليا في مؤسسة قائد الثورة الإسلامية
الرسالة المبكّرة
بتاريخ 11/10/1981 بعث الإمام الخميني الراحل برسالة جوابية إلى الشيخ الهاشمي الرفسنجاني، رداً على رسالة الأخير حول مسائل أساسية ترتبط بعمل مجلس الشورى الإسلامي. وفي هذه الرسالة كان الإمام قد خوّل من الوجهة الشرعية وانطلاقاً من موقعه كولي شرعي للدولة، مجلس الشورى تشريع القوانين التي لها صلة بضروريات حفظ النظام وتحقيق مصلحته العليا، على أن يكون طابع هذه القوانين مؤقتاً يرتبط بالموضوع الذي يستوجبه، ويزول بزواله، شرط أن يتم إصدار أمثال هذه القوانين التي تتبنى تشخيص الموضوع.
نقرأ في شطر من رسالة 11/10/1981، قول الإمام مخاطباً رئيس المجلس آنئذ هاشمي رفسنجاني: (يجوز لمجلس الشورى الإسلامي أن يسن (قوانين) مما له دخل في حفظ النظام الإسلامي، مما يكون فعله أو تركه موجباً لحصول الخلل في مسار النظام؛ ومما له ضرورة بحيث يكون تركه أو فعله مستلزماً للفساد، وكذلك ما يكون فعله أو تركه مستلزماً للحرج، ففي هذه المواطن جميعاً يجوز للمجلس أن يبادر بعد تشخيص الموضوع بواسطة أكثرية الأعضاء أن يسنّ ما له صلة بتلك المواطن، شرط التصريح بكون هذه الأحكام مؤقتة، بحيث تكون سارية طالما كان موضوعها متحققاً، وتسقط تلقائياً بارتفاع الموضوع.
أعطت الإجازة الشرعية هذه، مجلس الشورى الإسلامي، نافذة أوسع في توفير الحلول الشرعية والفقهية لعشرات وربما مئات المسائل اليومية التي يواجهها النظام، دون أن يجد حلولاً متوافرة لها في الرسائل العملية والمصنفات الفقهية، وكذلك في المعطيات الفقهية التي تسود حركة الاستنباط الاجتهادي في خطّه العام.
وطبيعة المشكلة تتمثل بتراكم المشكلات التي تحتاج إلى تفقيه في حركة الدولة والنظام، وفي مقابل ذلك غياب المواقف والأحكام الشرعية التي تأتي كحلول لتلك المشكلات.
كان مجلس الشورى وما يزال يقوم بجهد ملحوظ على طريق التفقيه من خلال توفير الصيغ التشريعية لعمل الحكومة وما تحتاج إليه من قوانين. بيد أن المشكلة برزت على صعيد عمل المجلس ــ خصوصاً في السنوات الأولى من عمر التجربة ــ بتلك القيود التي كان يضعها فقهاء مجلس حماية الدستور على حرية المجلس في سن القوانين والتشريعات، إذ كان يرد بعض التشريعات وفيها ما هو مهم في حاجة الدولة إليه، لما يراه من تعارضها مع أحكام الإسلام وتشريعاته.
وبدون أن نقع بشيء من المبالغة والتهويل، نجد أن معضلات البلد في حركة النظام، هي من التعقيد والكثرة، بحيث ما تزال تفتقر إلى الحلول الفقهية الكاملة، رغم تنوع الصيغ التي تتكفل تقديم الحلول الفقهية.
فهناك أولاً ما يقوم به مجلس الشورى الإسلامي، ولكن مشكلة المجلس أن تشريعاته تصطدم، خصوصاً في السنوات الأولى، مع قيود الفقهاء الستة.
ثم جاء تخويل الإمام الراحل للمجلس، كي يمارس دوراً أوسع في توفير الحلول الفقهية للمشكلات ولو من خلال صيغة الأحكام الثانوية غير الأولية.
وكان المسار الآخر الذي يضخ في جسم النظام وبنيته ما يحتاج إليه من حلول فقهية، هي استخدام الحاكم الشرعي الولي الفقيه لصلاحياته المباشرة.
ومع ذلك ظلت المشكلات تضغط على العقل الفقهي، الأمر الذي دفع الدولة إلى الضغط على المجلس في عام 1987 إلى زيارة الإمام، وهو يستمد العون منه في تجاوز هذه العقبة، فما كان من الإمام الراحل إلاّ أن دعا إلى ابتكار صيغة جديدة، تمثلت فيما عرفت بعدئذ بلجنة تشخيص المصلحة، إذ خوّل الإمام هذه اللجنة أن تضع حلولها للمشكلات العاجلة والملحة بعيداً عن مجلس الشورى ومجلس فقهاء حماية الدستور.
إن الصيغ الثلاثة الأخيرة كانت وما تزال تعبر في أغلب حلولها عن معالجات طارئة، وذلك بانتظار عمل أساسي ينتظر ان ينهض به العقل الاجتهادي، وهذه الصيغ تدخل في نطاق ما يعرف بصلاحيات الحاكم الشرعي في سن الأحكام في ضوء منطلق المصلحة، لا فرق في أن ينهض بنفسه في مباشرة هذه المهمة أو أن يوكل صلاحية ذلك إلى مجلس الشورى أو مجلس تشخيص المصلحة.
العقل الفقهي الجماعي
تتفق كلمة الفقه السياسي المنبثق من تجربة الدولة الإسلامية في ايران، على مشروعية الصيغ المشار إليها في توفير الحلول الفقهية للمشكلات. فالحكم الثانوي لا يختلف في المشروعية عن الحكم الأولي، والأحكام الصادرة عن الولي الفقيه، وان كانت لا تمثل عناصر فقهية ثابتة في الشريعة، إلاّ أنها شرعية وملزمة أيضاً من باب إطاعة ولي الأمر.
ومع ذلك كانت الحاجة وزالت قائمة للخروج قدر الإمكان من دائرة الأحكام الثانوية والأحكام المنبثقة من دائرة صلاحيات ولي الأمر، إلى دائرة الأحكام الأولية، بحيث لا يتم اللجوء إلى الأحكام الثانوية وما شابهها إلاّ أوقات الضرورة القصوى حين يتعذر على العقل الفقهي ان يجتهد في تحديد الحكم الأولي واستنباطه.
والحاجة إلى عقل فقهي اجتهادي تحال إليه معضلات النظام ومشكلات التجربة أخذت تتزايد بمرور السنين، إذ كلما زاد استقرار التجربة وترسخت ممارستها، كلما زادت الحاجة إلى وجود هذه العقل.
لقد كان واضحاً منذ البداية أن هذه المهمة ليس من الضروري أن ينهض بها فقيه واحد، بل ربما لا يكون بمقدور الفقيه الفرد ان ينهض بمهام البحث في عشرات بل مئات وألوف القضايا المستحدثة لوحده. على سبيل المثال، لنعد قليلاً إلى الوراء تحديداً إلى تلك المشكلات التي قد تحدث عنها رئيس القوة القضائية، وتعرضنا إلى بعضها في مقال نشر الاسبوع الماضي.
فهذه المشكلات التي تحتاج إلى اجابات فقهية، ما هي سوى أجهزة تعكس معاناة الأجهزة الأخرى في النظام، وبالذات السلطة التنفيذية التي تصطدم يومياً بعشرات القضايا المستحدثة.
تلك الخلفية وهذا الواقع الذي ما يزال يدفع يومياً بقضاياها المستحدثة دفعا السيد القائد آية الله الخامنئي للمبادرة إلى تشكيل نواة صلبة للعقل الفقهي المنشود، في تجربة ثرية، أحسب أن فيها الكثير من الدروس والعبر للمشتغلين في الحقل الفقهي، ولكل من صلة بالشأن الحوزوي من جهة، وبحركة النظام وحاجاته الدائمة من جهة أخرى.
لذلك كله، رأينا أن نسلّط الأضواء تفصيلياً على نواة العقل الفقهي من خلال الاصغاء إلى أحد الفقهاء الحاضرين في ذلك المجلس، حيث تتوفر الحلول الفقهية للكثير من المعضلات التي تطرأ على مسار النظام، مما وفقنا على نمإذج له، من خلال حديث الشيخ محمد يزدي رئيس القوة القضائية الذي نشرنا أمثلة له في الاسبوع الماضي.
انبثاق الفكرة
يعد الشيخ محمد المؤمن أحد الفقهاء البارزين من بين الفقهاء الستة الذين يتألف منهم مجلس حماية الدستور، وهو إلى جوار ذلك أحد الفقهاء الذين دأبوا على حضور جلسات المجلس الفقهي الذي يعقد بحضور السيد القائد ويتناول أبرز المعضلات الفقهية التي تواجه حركة النظام، فيضع لها الحلول على شكل خيارات يبتّ بها السيد القائد بنفسه بعد البحث والتناول.
وفي الواقع كانت فرصة ثمينة تلك التي تحدث فيها الشيخ المؤمن عن هذه التجربة الرائدة في لقاء مع مجلة (فقه أهل البيت) "بالفارسية" حيث دار الحوار التالي.
سؤال: سماحتكم من أعضاء لجنة الافتاء العليا التابعة للسيد القائد، والذي نرجوه أن نعرف متى بدأت هذه اللجنة بعملها، ومنذ متى وسماحتكم يحضر جلساتها؟
ــ الشيخ المؤمن: بعد انتخاب سماحة آية الله الخامنئي من قبل مجلس الخبراء، قائداً للجمهورية الإسلامية، اقترح عدد من الأصدقاء، حيث لم تكن قد مضت أربعون يوماً على وفاة الإمام (الخميني) رحمه الله تعإلى، أن من الأفضل أن نقترح على السيد القائد بأن يكون له بحث فقهي. حضرت عند سماحته في تلك الأيام، وعرضت عليه اقتراحين، قلت في الأول: من المناسب لسماحتكم أن تبدأوا درساً فقهياً على مستوى البحث الخارج، على أن يحضر الدرس مقرر جيد يقوم بتدوين البحوث وتقرير الدروس، ثم تقدم للطبع لتكون بمتناول يد الحوزة.
أجاب سماحته: الوقت ضيق الآن، فالزيارات كثيرة، ونحن في فصل الصيف، حيث دروس الحوزة معطلة، وإذا سنحت الفرصة وتوفر الوقت الكافي نشرع بالدرس إن شاء الله في بداية السنة الدراسية (الحوزوية) الجديدة.
أما الاقتراح الثاني الذي عرضته على سماحته، فقد كان مؤداه: أرى أن تعقد جلسة يحضرها السادة العلماء وفضلاء الحوزة العلمية، تطرح فيها البحوث التي لها صلة باحتياجات النظام، حيث يتم بحث المسائل ودراستها بحضور سماحتكم. ومن الأفضل ان يحضر هذه الجلسة الفقهية عدد من علماء قم الممحّضين في البحث والتدريس، ليكون من الممكن أن تنعكس بحوث هذه الجلسة وما تتداوله من آراء، في أجواء الحوزة ــ من خلال حضور علماء قم ــ ليكون ذلك باعثاً لأساتذة الحوزة كي يفكروا ويطرحوا في دروسهم القضايا العلمية التي هي محل ابتلاء فعلي.
قبل سماحته هذا الاقتراح، وقال: أنت شخصياً ستكون أحد حضار هذه الجلسة. ثم قدمت بين يدي سماحته عدداً من أسماء العلماء والفضلاء، كان من بينهم سماحة آية الله السيد محمود الهاشمي.
شكلت الجلسة الفقهية هذه بأمر مباشر من سماحته، وكانت في البداية تعقد مرتين في الاسبوع في ليالي الخميس وفي أيام الخميس أيضاً. بيد أنها عادت لتقتصر أخيراً على أيام الخميس فقط. وسبب ذلك أن بعض السادة صرفتهم مشاغلهم الدراسية في مدينة قم، عن الحضور في جلسة ليالي الخميس، مما آل إلى أن يقتصر الاجتماع الفقهي على أيام الخميس.
أعضاء الجلسة الفقهية
سؤال: من هم أعضاء هذه الجلسة الفقهية؟
ــ الشيخ المؤمن: أعضاء هذه الجلسة وحضارها، هم: فقهاء مجلس حماية الدستور (ست فقهاء)، الشيخ يزدي رئيس القوة القضائية، السيد جعفر كريمي، السيد محمد الهاشمي، الشيخ مهدوي كني، وسماحة السيد القائد.
والآن حيث جرى تغيير على تركيبة مجلس فقهاء الدستور، ما يزال حضار الجلسة على حالهم، من دون أن يطرأ أي تغيير، فالسيد الهاشمي كان يحضرها قبل ذلك وما يزال بعد أن أصبح عضواً في مجلس فقهاء الدستور، أما الشيخ محمدي كيلاني، فهم الآخر لا يزال يشارك فيها، رغم أنه لم يعد عضواً في مجلس فقهاء الدستور.
سؤال: ما هي المواضيع التي تطرح للدرس والتدأول في هذه الجلسة؟
ــ الشيخ المؤمن: تقسم الموضوعات التي تطرح إلى عدة أقسام، منها: الموضوعات الجديدة والمستحدثة. فالموضوعات التي لها سابقة في الفقه بيد أنها تحتاج إلى بحث جديد ودراسة مستأنفة لكي تتم الاحاطة بجميع جوانبها والانتباه إلى أبعادها كافة، وثمة قسم ثالث تمثله الموضوعات التي تعكس مشكلات فعلية في حركة النظام مما يجري الاستفتاء عليها من سماحة القائد أو أنها تطرح من قبل بعض حضار الجلسة من ذوي المسؤولية التنفيذية مما يواجههم في اطار مسؤوليتهم العملية.
سؤال: نرجو أن نقف على اسلوب العمل ومنهج التحقيق والبحث في هذه الجلسة؟
ــ الشيخ المؤمن: بعد أن يعيّن الموضوع الذي يجب يبحث يتطوع أحد الحضور أو يكلف باقتراح بقية أعضاء الجلسة بالبحث في الموضوع. إذ عليه أن يقدم إلى الجلسة حصيلة بحثه ودراسته للموضوع في كراسة (ملزمة) مكتوبة وبصيغة استدلالية موثقة. يصار بعدئذ إلى تكثير الكراسة التي تضم الإجابة وتقدم إلى بقية أعضاء الجلسة. بعد أن يتم بقية الأعضاء مطالعة المعد يتوفرون على إبداء نظراتهم النقدية أو اقتراحاتهم حوله في جلسة واحدة أو في عدد من الجلسات وذلك بما يقود إلى تكامل البحث وبنائه. إذا قبل الكاتب الباحث النظرات النقدية أو الاقتراحات يعود إلى بحثه لإصلاحه واعادة النظر فيه انطلاقاً من تلك الملاحظات والاضافات.
والاسلوب الذي تجري عليه الجلسة أن يتم البحث بشكل دقيق إلى الحد الذي يبعث على الاطمئنان خصوصاً بالنسبة لسماحة السيد القائد.
سؤال: بالنسبة لسماحتكم، ما هي المواضيع التي اشتغلتم ببحثها ودراستها حتى الآن؟
ــ الشيخ المؤمن: لقد أتاحت لي فرصة حضوري في هذه الجلسة منذ تأسيسها الوقت في أن أتوفر على بحث الكثير من المواضيع، كان من بينها: تشريح الميت وزرع الأعضاء، مباشرة غسل الميت بالآلة، موضوع الغناء، أحكام العدة للمرأة التي لا رحم لها، مبادرة الحكومة لممارسة أعمال تعود بمضايقة الحقوق الشخصية للأفراد، تصرف الشخص في ملكه بالشكل الذي يعود بالضرر على الآخرين، حق الحاكم في العفو عن حد السرقة، قراءة المرأة للقرآن أمام الرجل، وغير ذلك.
بعض هذه البحوث قمت بدراستها وطرحها في جلسة بمدينة قم في اطار اجتماع اقترحه بعض الفضلاء لبحث المسائل المستحدثة ثم، عدت لاستكمالها والتوفر على دراستها أكثر في الجلسة الفقهية التي تعقد بمشاركة السيد القائد.
سؤال: إذا أردنا أن نأخذ بنظر الاعتبار الانشغالات الكثيرة للسيد القائد، فكيف تنظر في مشاركته في هذه الجلسة، من الناحيتين الكمية والكيفية؟
ــ الشيخ المؤمن: فيما يتعلق بالحضور الكمي؛ بمعنى الحضور المباشر للسيد القائد، يجب أن اقول إن هذا الاجتماع قائم به، فإذا لم يحضر سماحته لا تعقد الجلسة. وبالرغم من كثرة أعماله والتزاماته، تجد ان حضوره في الجلسة تتسم بجدية كبيرة، وهو يشارك فيها بحب وشوق.
يحصل أحياناً وأن يحاول بعض أعضاء الجلسة أن يسوقوا الاعتذار لتعطيل الاجتماع، والحيلولة دون انعقاده، إلاّ أن سماحته يرفض ذلك. ويحصل أحياناً أخرى، وأن يقترح بعض أعضاء مكتبه بتعطيل الاجتماع، انطلاقاً من واقع الحرص على سماحته، مما يصيبه من ارهاق وتعب، إلاّ أنه يرفض ذلك أيضاً ولا يقبل به.
أما من الناحية النوعية، فالانصاف يدعوني للقول، ان سماحته يشارك في بحوث الجلسة بتأهيل عال ورؤية دقيقة، ويساهم من هذا المنطلق في ابداء الآراء. وهو شخصياً قد تبنى عدداً من المواضيع، وتصدى لدراستها وبحثها.
سؤال: توجد في اطار عمل السادة المراجع لجان مثل هذه، مما يطلق عليه بلجان الافتاء، والسؤال: بنظر سماحتكم بماذا تختلف هذه الجلسة عن تلك الجلسات؟
ــ الشيخ المؤمن: اعتقد شخصياً أن أهم ما تتميز به هذه الجلسة هو طبيعة عملها على الموضوعات، ونوع المسائل التي تطرق فيها. ففي جلسات الاستفتاء الأخرى، يلاحظ أن مدار العمل هي المسائل التي يستفتى بها مرجع التقليد، فيرى السيد المرجع ان ثمة ما يدعو إلى طرحها في تلك الجلسات وتناولها بالبحث.
واسلوب العمل في لجان الافتاء في محيط عمل المراجع، يكون على الأغلب بهذه الصيغة: تطرح المسألة، فيبدي المرجع رأياً معيناًن ثم يقوم الحضور بإبداء آرائهم انطلاقاً مما يتوفروا عليه من خلفيات علمية، بحيث تذكر أدلة المسألة على نحو محدود، ويصار أخيراً في بلورة الاجابة وصياغتها.
أما ما يحصل في الاجتماع الفقهي بحضور السيد القائد، ان كل عضو من الفقهاء الحاضرين يأخذ لوحده موضوعاً، يتوفر على دراسته وتتبعه، ثم يقدم الحصيلة في كراسة مستقلة، مشفوعة بذكر الأدلة، وببيان اجتهادي محكم. وبعد أن يطلع عليها بقية الفقهاء الحضور في الجلسة، تراهم يتناولونها ثم يطالعونها بالنقد الدقيق والبحث المتأني، وعلى كاتب البحث أن يدافع عن مبانيه أمام الاعضاء الآخرين، وطبيعة الأدلة التي استند إليها في بيان وجهة نظره الاجتهادية. لذلك كثيراً ما يحصل وأن تكون هذه الكراسة التي تضم حصيلة النظر الاجتهادي في الموضوع، بحاجة إلى اعادة نظر، وكتابة مستأنفة نتيجة لما وجه إلى البحث من نقد وملاحظات من قبل الأعضاء الآخرين.
ليس هذا وحده مما تتميز به هذه الجلسة الفقهية، بل يلحظ بشأنها أنها تبحث في الاغلب مواضيع جديدة، أو مسائل عملية هي موطن حاجة المجتمع وابتلاء النظام، تتطلب حلولاً وصيغ فقهية اجتهادية.
وأقول لعمر الحق، ان اعداد ملزمة دراسية مثل هذه مكتوبة بنظر اجتهادي استدلالي، هو عمل صعب، لا يمكن مقارنته بما ينهض به أعضاء لجنة الاستفتاء في اطار عمل السادة المراجع.
ثم ميزة أخرى لهذا التجمع الفقهي، تكتسب مضمونها وتأخذ محتواها من طبيعة تركيبة الأعضاء الحضور فيها، حيث يبرز واضحاً في اعمالها اتقاد إذهان الحضور ووعيهم النافذ بالزوايا المختلفة التي تحيط الموضوع المطروح للبحث. وإذا شئنا أن نعبر عن هذه الميزة باسلوب آخر، فيمكن أن نشير إلى أن شخص السيد القائد وبقية الفقهاء الحضور في الاجتماع، هم على صلة بوجه من الوجوه بالمسائل التنفيذية في حركة النظام ومسار الدولة، وبالتالي هم واقفون على نحو جيد بالصعوبات وما يكتنف التطبيق من عقبات واعون عليها. من هنا نلحظ ان اكثر الموضوعات التي تطرح في دائرة هذه الاجتماع الفقهي هي من الموضوعات المستعصية في حركة الدولة والمجتمع مما يحتاج إلى ابداء نظر فقهي بشأنها.
ومن الجلي الواضح، أنه كلما اتسمت معرفة الموضوع بالدقة اكثر، كلما جاء الاستنباط الفقهي والعمل الاجتهادي، أدق واكثر فاعلية ونفاذاً.
امداد النظام بالصيغ الفقهية
سؤال: هل تؤخذ نتائج البحوث في هذه الجلسة الفقهية، مرجعاً لعمل الاجهزة التنفيذية في الدولة؟
الشيخ المؤمن: أجل، ولكن طالما كان رأي السيد القائد هو الأساس، نجد أن هذه البحوث توضع بين يديه، فإذا حازت على رضاه، ووصل بشأنها إلى رأي جازم، تراه يعلن الموقف على أساس رأيه. فالملاك في مسائل النظام هو رأي السيد القائد، ولهذه الجلسة دور مهم في ذلك.
سؤال: إذا أخذنا بنظر الاعتبار النجاح الذي أحرزته هذه الجلسة، وكذلك الدرس الذي لسماحتكم مع مجموعة من تلامذتكم، فكيف تنظرون إلى أهمية الامتداد بهذه الممارسة، وتعميم هذه التجربة في نطاق الحوزة، وعلى مستوى الأساتذة والفضلاء فيها؟
الشيخ المؤمن: يجب على الحوزة أن تكون ــ كما يقول السيد القائد ــ المصدر الذي تأتي من خلاله صيغ الحلول لما يحتاج إليه المجتمع والنظام الإسلامي. فالحوزة هي التي يجب أن تجيب على الأسئلة والمعضلات، وهذه الاحتياجات هي الآن كثيرة، و الحوزة بوضعها الفعلي لا تستطيع ان تجيب عليها وتلبي حاجتها للحلول، خذوا على سبيل المثال، تجربة المجمع الفقهي في جدة في (المملكة العربية السعودية) حيث تساهم الجمهورية الإسلامية عضواً في المجمع، وقد اشتركت شخصياً في أعماله من خلال ثلاث دورات حتى الآن، تراه ــ للحق والانصاف ــ يطرح للتداول موضوعات جيدة، وهي جديدة إلى حد ما، وبعض ما يطرح في ذلك المجمع الفقهي، يعد جديداً ليس بالنسبة لحوزتنا وحدها فحسب، وانما أيضاً بالنسبة للمسؤولين التنفيذيين في الدولة كذلك.
صحيح أن مستوى البحث في اطار مجمع جدة لا ينسجم بالعمق الكبير، بيد أنه ــ والحق يقال ــ يعمل على مستوى جيد في البعد الذي يرتبط بطرح الموضوعات وعرض المشكلات الفقهية للمجتمع المعاصر، حيث يثابر على تنأول مسائل جديدة يطرحها على مائدة البحث الفقهي.والذي ينبغي لحوزتنا العلمية أن تبادر باتجاه هذا اللون من المسائل والموضوعات، وأن تتوفر على ابداء صيغ الحلول لها، بالمستوى الذي يليق من حيث الاتقان والاستدلال، بغنى الفقه الشيعي وثراءه، كما حصل في طبيعة مشاركة أعضاء وفد الجمهورية الإسلامية في مجمع جدة الفقهي، حيث نالت مساهمتهم العلمية الدقيقة اعجاب الحاضرين واستحسانهم.
والذي يؤسف له أن الحوزات لم تنفتح بعد ايجابياً على مثل هذا النمط من المواضيع الجديدة والمسائل المستحدثة. بيد أني سمعت أن آية الله الشيخ الوحيد (الخراساني) يعقد جلسة درس اسبوعي في كل يوم خميس يحضرها مجموعة من الفضلاء، يتم فيها بحث الفروع الفقهية، وقد استثمرت فرصة هذه الجلسة الاسبوعية المخصصة للبحث الفقهي (المفتوح) وقررت أن أحضرها في أحد ايام الخميس. ذهبت إلى تلك الجلسة وأنا أحمل معي الأسئلة والموضوعات التي كان من المقرر أن تطرح في المجمع الفقهي في مدينة جدة. قلت له، بحضور مجموعة الفضلاء التي حضرت ذلك الدرس: هذه هي الموضوعات التي من المزمع أن تطرح (من قبل الجمهورية الإسلامية الايرانية) في المجمع الفقهي في جدة، وأرى من الأفضل أن يتناولها سماحتكم لكي تخرج بصيغة أكمل وأنضج، وحتى نستطيع أن نتحدث بها في مجمع جدة، بشكل أقوى واسلوب أعمق وأفضل، مما يكسب موقف الجمهورية الإسلامية العزة، ويكشف في الوقت نفسه عن قوة فقه الشيعة وخصوبته، بيد أن الذي يؤسف له، أننا لم نحصل على جواب لهذه المبادرة حتى الآن، ولم يظهر أي رد فعل عليها من قبل آية الله الوحيد.
شخصياً أتوق إلى أن يكون لي بحث على هذه الشاكلة، بيد أن مشاغلي في ادارة الحوزة، قلل حتى من تلك الجلسات التي كانت لي مع مجموعة من فضلاء الحوزة، حيث كنا نطرح القضايا المستجدة.
آمل أن تتاح لي الفرصة مجدداً للاستمرار بجلسات البحث تلك.
اشارة المطهري والصدر
قبل (36 سنة) من الآن، على اثر وفاة المرجع الديني السيد البروجردي، تلاقت همم مجموعة من المعنيين بالشأن الديني، لاخراج مشروع دراسة عن المرجعية يشترك في اعدادها مجموعة الباحثين من الحوزة والجامعة. تمت الفكرة فعلاً، وخرجت المحاولة وهي تحمل عنوان (بحث حول المرجعية والعلماء)، ساهم في اعداد دراساتها السيد الطباطبائي، السيد أبو الفضل الموسوي، مجتهد زنجاني، الشهيد بهشتي، السيد محمود الطالقاني، السيد مرتضى الجزائري، والشهيد مرتضى مطهري.
كان الشهيد مطهري قد ساهم في هذه الدراسة ببحثين، الأول عن الاجتهاد، والثاني عن مشكلات الحوزة العلمية، باعتبارها المؤسسة الدينية الكبرى في المجتمع الشيعي.
في بحثه عن الاجتهاد، الذي كان ألقاه بداية الأمر في الجلسة الدينية المشهورة آنذاك في طهران بعنوان (حديث الشهر) الذي كان يتناوب على إلقائه بالإضافة إلى مطهري عدد آخر من الرموز، تطرق الشهيد مطهري إلى بواعث عدم القول بجواز تقليد الميت، فكان ان استخدم تحليلاً اجتماعياً بعيداً عن اللغة العلمية الفنية في الاستدلال.
ذكر من جملة تلك البواعث، بقاء ألوف المسائل التي ما تزال بحاجة إلى حلول، وبالتالي ضرورة أن يتحول المكلف فيها إلى الفقيه الحيّ، فمع كل حاجة جديدة في حياة الناس تدخل إلى عالم الفقه مسألة فقهية جديدة، تأتي من خلال بذل الفقيه الحي لجهده في استنباطها. يقول: يواجه المسلمون كل يوم مسائل جديدة في الحياة لا يعرفون موقفهم منها، وهذا يتطلب فقهاء أحياء ذوي أفكار حية حتى يجيبوا على المسائل.
يضيف: إن دراسة الكتب الفقهية وتتبعها خلال قرون مختلفة يكشف أن الكثير من احتياجات الناس الجديدة، ادخلت ــ بدورها ــ مسائل جديدة في الفقه، وقام الفقهاء بوضع الحلول لها.
ثم عاد ليتناول موضوع فاعلية الفقيه المعاصر في ممارسة الاجتهاد، من زاوية ما يعنيه الاجتهاد نفسه، وبالتالي، فإن المجتهد الحقيقي هو الذي أدرك هذا المعنى وانطلق من خلاله يمارس جهده الاجتهادي، وبنص تعبيره: ثم إن معنى الاجتهاد نفسه، يصح في تطبيق السنن الكلية على الجديد من الحوادث المتغيرة، فالمجتهد الحقيقي هو الذي أدرك هذا المعنى، وعرف كيف أن المواضيع تتغير مما يستتبع تغير أحكامها.
وفي بعد آخر من حديثه تحفظ الشهيد مطهري ــ قبل 36 سنة من الآن ــ على عمل الفقيه الذي يقصر ممارسته الاجتهادية على النظر باعمال الفقهاء الآخرين، ثم الاكتفاء باستبدال (احتياط باحتياط) أو التحول من (على الأقوى) إلى (على الأحوط).
كان مطهري يعتقد أن فقيهاً يمارس الاستنباط على هذه الشاكلة لا يستحق لقب أن يكون مجتهداً، بل لا معنى ــ بنظره ــ لكل هذا الكلام والضجة حول الاجتهاد، إذ كان معناه مقصوراً في هذه الحدود. وبنص تعبيره: إن مجرد إعمال النظر في القديم، الذي سبق للآخرين أن اعملوا فيه نظرهم، ومن ثم تبديل حكم من (على الأقوى) إلى (على الأحوط) أو العكس، هو أمر لا يستحق كل هذا الصخب والجدل.
أراد أن يقول إن المجتهد الحقيقي هو الذي يصرف همومه إلى قضايا واقعه ومجتمعه، ويخرج على طابع الاستعادة والتكرار، المواضيع الجديدة ــ اليوم ــ بالألوف، ولكي يأخذ الاجتهاد دوره الحقيقي، يجب أن يلج دائرة هذه الموضوعات، وينطلق من الواقع ولكن ليس (الواقع الساكن المحدود الذي كان يعيشه الشيخ الطوسي أو الذي كان يعيشه المحقق الحلي) كما ينص على ذلك الشهيد الصدر، بل الواقع الراهن المعاش فيما يدفع به من وقائع جديدة. فنحن نعيش واقعاً في الممارسة الفقهية لا يمكن انكاره كما يقول الشهيد مطهري يميل فيه (النظام الفقهي بشكل واضح إلى طرح المسائل بالطريقة التي كانت عليها قبل سبعة قرون والهروب من مواجهة المسائل التي نحتاج إليها اليوم وعدم الميل إلى كشف الطرق الأحدث والأعمق) في الممارسة الفقهية. (ختم نبوت ص49).
يقيناً إن العقل الفقهي الأعلى الذي يعمل في مدار مؤسسة السيد القائد هو بذرة طيبة قابلة للتعميم على أكثر من نطاق من أنطقة أجواء الفقاهة في الحوزات العلمية.
تعليقات الزوار