نظرات في رؤية القائد للغزو الثقافي (قراءة في كتاب الغزو الثقافي)

مرت على الحياة الاسلامية مرحلة تاريخية مضيئة من الازدهار والتطور الثقافي والعلمي والحضاري، شملت جميع‏ أبعاد حركة الأمة والمجتمع. وقد كان الغرب خلال تلك المرحلة التي امتدت لقرون طويلة مستغرقاً في حالة نوم‏ عميق خضع خلالها لأجواء سلبية مظلمة، وسيطرت عليه ثقافة الكسل والاسترخاء والتعب، وعشعشت في داخله قيم ‏التخلف والجهل والظلام. لكن المشهد، على ما يبدو، قد انعكس، وتبدلت صوره وتلاوينه المختلفة، فدخل المسلمون ‏في أجواء التخلف نفسها. وقد كان ذلك نتيجة طبيعية لانشغالهم عن فهم حقائق التطور الرباني ونواميسه في التواصل ‏والانفتاح الواعي والمدروس على الاخر، وانهماكهم في ملذات الحياة الدنيا، وانسياقهم وراء ترهات الحياة وأباطيل‏ الوجود. وقد أدى بهم ذلك الى العودة للوراء، ووقوعهم فريسة سهلة تحت سيطرة الغزو الثقافي والسياسي والاقتصادي ‏للآخر الذي استمر في فرضها عليهم، منذ بدايات الغزو الصليبي وحتى يومنا الحالي، الذي نشهد فيه طغيان اعلى‏مراحل هذا الغزو لبلادنا الاسلامية تحت شعارات انسانية وهمية ومزيفة. وفي هذا المجال، شكلت مقولة «الغزو الثقافي‏» انموذجاً عملياً للجدل الذي دار ولا يزال دائراً بين مختلف القوى ‏والتيارات الثقافية والسياسية، العربية والاسلامية، على مستوى التحقق من وجود هذا النوع من الغزو حيث لا يزال ‏بعضهم يشكك بوجوده أصلاً ثم فهم طبيعته، ومرتكزاته العملية، وأساليب مواجهته. وقد انهمكت دوائر ثقافية أو حتى سياسية كثيرة عندنا بتسخين أو تخفيف حدة التعامل مع هذه المسالة الهامة، التي تتصل كما قلنا بالتقدم ‏والتطور (أو التأخر) الحضاري الاسلامي ككل، خصوصاً بعد ان عاد الاسلام المحمدي الاصيل الى الساحة الواسعة،وتجذرت امتداداته الحية في صلب الواقع، واستانف دوره الحضاري الرائد بعد انتصار الثورة الاسلامية المباركة في ‏ايران عام 1979م. بقيادة الامام الخميني الراحل (قدس).

وبديهي ان ينصب الاهتمام الراهن حول علاقة الاسلام بالثقافات الاخرى ومنها الثقافة الغربية المهيمنة حاليا وتتركز الدراسات الفكرية على ضرورة دراسة مواقع الغزو الثقافي والاعلامي المعاصر واجوائه ورموزه، باعتباره اهم الاسلحة ‏التدميرية التي يعمل الاخر على الاستفادة القصوى من تاثيراتها السلبية على عالمنا الاسلامي، وتحريكها ضده من اجل ‏الابقاء على تخلفه وهامشيته في مواقع الحياة جميعها، والتحذير من المشاركة العملية الفاعلة الى جانب الغرب في بناء الحضارة الانسانية. ويبدو هذا الامر أكثر وضوحاً أمامنا من خلال فهمنا لطبيعة القاعدة التي بنت (وتبني) الثقافة الغربية عليها وجودها باستمرار، وهي بالدرجة الاولى قاعدة الغزو الثقافي الدائم، والحضور الاعلامي الضاغط والمكثف في جميع ‏الاتجاهات التي نحن على صلة بها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، بما يؤدي في النهاية الى تمييع ثقافة الشباب ‏الملتزم بالاسلام بوصفه نهجاً حضارياً ورسالياً في امتداد الحياة كلها، وهدر طاقاتهم، وتسفيه مواهبهم، وتشويه السلوك ‏الاجتماعي العام للمسلمين، وفرض رؤية وجودية وكونية مادية جديدة عليهم تتناقض جملة وتفصيلا مع معاييرثقافتنا الاسلامية وابعادها ومعطياتها القائمة على قاعدة الوسطية والتوازن الدقيق بين الروح والمادة. وعلى خلفية هذه المواجهة الحضارية الشاملة بيننا وبين الغرب (التي نتمنى ان يكون "الحوار بالتي هي احسن‏» عنوانها وقاعدتها الاساسية) ياتي هذا الكتاب: "الغزو الثقافي‏" الذي يظهر فيه مؤلفه سماحة السيد علي خامنئي متابعاً دقيقاً،وراصداً واعياً لموضوع الغزو الثقافي، وذلك من موقعه الرسمي والشعبي، ومسؤوليته الرسالية العالية. لقد جاءت طروحات هذا الكتاب ومباحثه بمجملها واقعية وصريحة كونها انطلقت من خلال انسان مسؤول عاش‏ شبابه في حركية الثورة الاسلامية، وكان من الاسلاميين الاول الذين انفتحوا على قضايا الاسلام في العصر، فامتلك نتيجة لذلك ذهنية اسلامية مستنيرة وعصرية في فهمها الملتزم لقضايا الاسلام والانسان. اي انه كان يلاحق الامور،ويتابع مجريات الاوضاع على ارض الواقع اليومي بتفاصيله وتشعباته جميعها بعيداً عن حالة المنظر الثقافي العام الذي ‏قد يفكر في الاجواء الثقافية الضبابية التي يمكن ان تكون بعيدة في معظم الاحيان عن حقائق الحياة وتجارب ‏الواقع. وبطبيعة الحال، نحن لا نستطيع ان نعد هذا الكتاب اكاديمياً بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، لانه جاء على شكل‏ منطلقات وبيانات وخطابات ورؤى فكرية ومواقف عملية حيال مسالة الغزو الثقافي، تكونت لدى سماحة السيد الخامنئي خلال مدة من الزمن، حتى تجمعت ونضجت على خلفية هذه المتابعة نصوصاً كثيفة وغنية تمت اعادة ‏تنظيمها وتنسيقها واعدادها من جديد لتخرج بهذه الحلة الفكرية المثمرة. لقد قسمت مباحث الكتاب الى ثلاثة فصول، حمل الاول منها عنوان: «مقدمات تأسيسية في مقولتي: الغزو الثقافي ‏والتبادل الثقافي‏" (ص: 35 80). وفيه تناول المؤلف افكاراً نظرية وتطبيقية تتصل بمفهومي "الغزو" و"التبادل‏" الثقافي ضمن خمسة عناوين رئيسية:

1ـ مفهوم الغزو الثقافي (ص: 37 ـ 38).

2ـ اهمية الايمان بوجود الغزو الثقافي وضرورة النهوض لمواجهته (ص: 38 ـ56).

3 ـ الفوارق بين التفاعل الثقافي والغزو الثقافي (ص:  56 ـ65).

4ـ الخلفية التاريخية والجذور العلمية والثقافية لايران المسلمة:

 الصلة التاريخية بين العلم والدين وانفصالهما عن بعضهما ازدهار العلم هدف اساسي

للثورة الاسلامية (ص: 65 74).

5 ـ مسؤولية الشباب الخطيرة في تحقيق النمو العلمي (ص: 74ـ 77).

اما الفصل الثاني من الكتاب فقد تمحور الحديث فيه حول قضية "العالم الاسلامي

والغزو الثقافي‏" (ص: 83 ـ 158) حيث تم تقسيمه الى اربعة اقسام هي:

القسم الاول: لمحة تاريخية عن خط مواجهة الثقافة الاستكبارية للثقافة الاسلامية (ص: 83 ـ92)

القسم الثاني: علل الغزو الثقافي الاستعماري للعالم الاسلامي وجذوره (ص:  95 ـ100).

القسم الثالث: الغزو الثقافي الاستعماري للعالم الاسلامي الوسائل والادوات (ص:

103  ـ 120).

القسم الرابع:

1ـ نهوض المسلمين لإحياء حاكمية الاسلام.

2ـ تبيين الحقائق الاسلامية عن طريق الفن والوسائل الادبية.

3ـ اتفاق المسلمين ووحدة كلمتهم.

4- تصدير الثورة معناه بث الثقافة الاسلامية الاصيلة (ص:  123 ـ 155). نأتي الان الى الفصل الثالث والاخير من هذا الكتاب الذي دار فيه الحديث حول "الثورة الاسلامية والغزو الثقافي‏" في‏ثلاثة اقسام:

القسم الاول: نبذة عن تاريخ الغزو الثقافي في ايران.

القسم الثاني: علل الغزو الثقافي المناهض للثورة الاسلامية وجذوره.

القسم الثالث: وسائل العدو في الغزو الثقافي المضاد للثورة الاسلامية وادواته (ص: 159 ـ 249).

خلاصة عامة ومفيدة لمجمل ما جاء في الكتاب نجد ضرورة ملحة في تثبيت أهم أفكار الرؤية المفاهيمية وعناصرهاالتي احتوتها مباحثه.. وهي:

اولا: التركيز الدائم على اسلامية الايرانيين، وضرورة تعلمهم من المحيط الحضاري الذي يعيشون فيه، ويتفاعلون معه،اي ان صفة الايرانية أو الاسلامية، أو اية صفة اخرى، يجب الا تمنع الانسان من التعلم والانفتاح على الاخرين في مواقع ‏قوتهم، في افكارهم الجيدة، وطروحاتهم المفيدة للانسانية جمعاء.

ثانيا: التفريق بين مقولتي "الغزو" و"التبادل" باعتبار ان الغزو يعني اجتثاث اصول الثقافة الخاصة والقضاء عليها نهائيا، اوعلى الاقل النظر اليها بوصفها ثقافة هامشية (لا مركزية) في مقابل اعتبار الثقافة الغربية هي الثقافة المركزية الوحيدة ‏المؤهلة لقيادة العالم.

بينما تعني مقولة "التبادل‏" ضرورة الانفتاح الواعي والمدروس على الاخر، ومد جسور التعاون ‏والتواصل الثقافي والحضاري معه من موقع الندية والتكافؤ لا من موقع المحاكاة والتماهي والذوبان في منظومته ‏الروحية والمفاهيمية.

ثالثا: اذا كان الغرب مسؤولاً عن المقدمات الاساسية لآليات هذا الغزو واساليبه، فان المسلمين مسؤولون بشكل اكبرعنه، ويتحملون قسطاً أوفر من مسؤولية هزائمهم وسقوط مشاريعهم التحديثية في هذا المجال. لاننا بوصفنا مسلمين، نهيى له (للغرب) الاساليب والآليات المناسبة التي تمنحه مساحة واسعة من حرية الحركة والامتداد على اراضينا من‏خلال تضعيفنا لأنفسنا. فلضعفنا، وبضعفنا يحدث الغزو، وينمو، ويكبر، ومن ثم ينتشر.

رابعا: نحن نعترف بوجود الغرب بوصفه قوة حضارية متقدمة علينا في علومها وصناعاتها وتقنياتها، وقد يمتلك‏اصحابها افكاراً واشياء افضل مما هو موجود في دائرتنا الحضارية الاسلامية، لذلك فالمطلوب هو ان نحث الخطى، ونشمر عن السواعد، ونتغلب على الصعاب، ثم ننطلق باتجاه امتلاك عناصر تقدم تلك الحضارة وتطبيقاتها وادواتها من‏خلال ارادتنا الواعية والحرة، ومن دون قسر أو اكراه. مما تقدم يبدو لنا ان عناصر تلك الرؤية الموضوعية المتوازنة لمسالة حساسة وخطيرة كمسالة "الغزو الثقافي ‏والاعلامي‏" تعبر عن متابعة حركية دؤوبة وحية، ونابضة بالحس الواعي والمسؤول لجميع ملفات الواقع الحضاري‏الاسلامي والانساني المعاش حاليا واجوائه، في ظل مناخ سياسي واجتماعي واعلامي عالمي يعمل على تأصيل ‏نزعات الدمار والخراب، وقيم الفردية، والتعصب، والدوران حول محور الغرائز والانانيات، ومحاولة تعميق ثقافة ‏الكسل والاسترخاء والجمود بين الشعوب المستضعفة جميعها.

ولهذا وجدنا الكتاب يتعامل مع قضية "الغزو الثقافي‏" من خلال اعتبارها حقيقة واقعة لا مفر امامنا من ضرورة وعيهاودراستها وتحليلها علميا وموضوعيا، والاسراع الى اتخاذ الاجراءات العملية المناسبة لمواجهتها، والتخلص من آثارها السلبية واجوائها الضاغطة على الفكر والانسان في عالمنا الاسلامي، طبعا ليس بالانغلاق على النفس والتقوقع على ‏الذات، ولكن بتعميق قيم الانفتاح الواعي والتواصل الممنهج والمدروس مع الاخر. وهذه نقطة ايجابية لمصلحة ‏الكتاب الذي قلنا عنه سابقاً بأن مؤلفه يميز تمييزاً واضحاً وذكياً بين مقولتي "التبادل‏" و"الغزو"، ومقولتي "الانفتاح‏" و"الانغلاق". وفي هذا السياق نؤكد على مسالة (نقدية) مهمة جداً، وهي انه يجب علينا جميعاً خصوصا من هم في مواقع ‏المسؤولية والعمل الرسالي الا نستغرق كثيرا في الحديث عن مقولة «الغزو» بحيث تتحول، امام اجيالنا، من كونها مظهراً سلبيا يجب وعي معطياته الداخلية ومحاولة تطويق اسسه ومرتكزاته في مواقعها الاولى الى حالة في النفس تتحرك ‏في الداخل الشعوري والوجداني لتلك الاجيال الصاعدة التي تمتلك طاقات ومواهب هائلة بوصفها عقدة مرضية اوعاهة نفسية مستديمة لا شفاء منها، بحيث تبدو الغاية الاساسية لها في التمويه على الواقع الفاسد والظالم، والاختباءخلف مقولات "المواجهة‏" و"التحدي‏" و"الدفاع عن الذات‏" لتمرير مشاريع وصفقات خاصة مشبوهة يمكن ان تتحرك في ‏داخل اجوائنا الاسلامية لتسقط وعينا الاسلامي الفعال بديننا ومبادئنا ومشروعنا الحضاري الانساني. وهذا امر واقعي وطبيعي يمكن ان تعاني منه اية حضارة أو امة، اذ ان هناك على مستوى امتنا العربية والاسلامية كثيرامن المؤسسات الاشخاص والمواقع الكبيرة ممن ينتمون إسمياً الى تلك الامة، ويمارسون عملهم في مواقع ‏المسؤولية العالية يحاولون التستر خلف تلك الشعارات، والاختباء وراء تلك المقولات الصحيحة والمحقة بهدف‏ رعاية مصالحهم، وتثبيت اقدامهم وقواعدهم المهتزة هنا وهناك. لذلك وفي مقابل تصحيح رؤية الوضع العام السائد حالياً بخصوص تلك القضايا لابد من مراعاة جانب التفاهم ‏الثقافي والحوار الحضاري مع الاخر في عالم متداخل ومتشعب، فيه الكثير من الثقافات المتنوعة المنتشرة في كل‏ حدب وصوب. ونحن طبعا نؤكد على اهمية هذه النقطة بالرغم من وجود الكثير من النخب الثقافية والسياسية التي ‏تشكك اصلا بمصداقية هذا التوجه الهادف والمسؤول. وبطبيعة الحال، يجب ان نفهم بان المعنى الحقيقي لمفهوم "التبادل‏" و"التفاهم‏" الثقافي والحضاري مع الاخر لا يعني‏ مطلقا ان نقلده، لان تقليده لن يتيح لنا سوى التشويه والانحراف وإلغاء الانا الحضارية والثقافية الخاصة بنا (وهذا مايريده الغرب أساساً)، وكذلك لا يعني ان نقفز فوق منجزات الحضارة الغربية وتطبيقاتها كما ذكرنا سابقاً ولكنه يعني في احد تعبيراته ان نستجيب فعليا للتحديات التي تواجهنا من خلال الخروج من حالة القصور والعجز المطبق، الذي ‏نعايشه، بالتحرر من العادات والقيم والمبادى البالية التي تصادر العقل، وتعطل الفكر، وتوقف مسيرة التقدم والازدهارالحضاري. الحل هو بالحوار والتفاهم والتصالح (العلمي) مع الغرب، وفك الارتباط العملي القائم بين روحانية هذاالغرب وثقافته من جهة، وعلومه وانجازاته التقنية والتكنولوجية من جهة ثانية، تماما كما قامت اليابان وغيرها من‏الدول المتقدمة التي رفضت الاندماج والذوبان في الثقافات الاخرى بتحمل مسؤولية بناء ذاتها الحضارية وفق‏مناهجها وثوابتها التاريخية، وانطلقت لتصنع عالميتها من خلال خصوصيتها الثقافية.

لذلك علينا ان نعمل على تعميق الممارسة الابداعية لثقافتنا الاسلامية وهويتنا الحضارية على نحو فاعل ومنتج‏ وخلاق يفتح أمامنا السبل والمجالات الواسعة من اجل ان نصنع حداثتنا، ونبرز عالميتنا بما يتناسب مع وضعنا وذاتنا ونسيجنا التاريخي والعقائدي الاسلامي. وبالنتيجة، نحن اصحاب ثقافة عالمية وحضارة كونية، رضينا بذلك ام لم نرض. فنحن نشهد احداث العالم، ونتفاعل مع ‏اوضاعه ومجرياته كبيرها وصغيرها، اي اننا نشارك في الحركية العالمية لهذا العصر الكوني بصورة من الصور، كما تشارك سائر الامم والدول فيه، مع فارق اساسي، وهو ان كل مجتمع يمارس عالميته انطلاقا من خصوصيته (رؤيته‏ الكونية) المنتجة والقادرة على المساهمة في عملية التجديد والابداع الحضاري العالمي. وبديهي جداً ان نؤكد هنا ان عالمية الحضارة وضرورة تفاعلها مع الحضارات الاخرى لا تلغي امكانية وجود اجواءللصراع أو للتنافس (الانتقام) الحضاري بين الامم الحضارية البشرية على امتداد الساحة الكونية الكبرى، وفي هذاالمجال، من الطبيعي ان يكون للغزو الثقافي والاعلامي خصوصا في عصر العولمة، ومجتمعات الثورة المعلوماتية‏الحالية دور اساسي في هذا الصراع الكوني.

من هنا نؤكد على ضرورة ان تمارس حضارتنا الاسلامية التي ساهمت في عملية النمو والابداع الحضاري العالمي في‏ما مضى من التاريخ الانساني خصوصيتها الشاملة على نحو فاعل وخلاق يتيح لها ان تواجه بقوة مقولة "الغزو" أوغيرها من مقولات الصراع والتنافس وقضاياهما وتصنع حداثتها الاسلامية، وتبرز عالميتها الانسانية، وتؤكد حضورهاالفعال، وتنشر سلطانها، وتعمم خصائصها. ان مواجهة غزو الاخر المتفوق علميا وصناعيا لا تكون كما اسلفنا بالتقوقع على الذات، والانغلاق على قيمها وتعاليمها الخاصة، أو ممارسة هذه الخصوصية بطريقة تتاكد فيها هامشيتها، ويساء فهمها، كما هو شان مجتمعاتنا وبلداننا الاسلامية التي اذا ارادت ان تصنع حدثاً، فانها تنطلق لابراز قوة الاخر وضخامته بما قد يسقط نفسياً وواقعياً معالم الممانعة الحية لدينا وعناصرها، الامر الذي سرعان ما يرتد علينا وبالاً ونكالاً.

وقد جعل هذا الامر معظم سياساتنا الداخلية والخارجية سلسلة متواصلة من الاخطاء والكوارث والأزمات. اننا نؤكد مع الكتاب ان "الغزو الثقافي‏" مسالة واقعية، لها جذورها وأجواؤها المسيطرة حالياً، ولا نستطيع ان نهرب من‏مواجهتها، وفيها يتحرك الغرب مدعوماً باديولوجية شاملة معززة بسلطات معرفية هائلة، وبمختلف ضروب القوة ‏الثقافية والعسكرية والاقتصادية من اجل تنصيب "ايديولوجيته‏" عن طريق الغزو خياراً وحيداً للبشرية كافة. وبالمقابل نجد ان عالمية حضارتنا وانسانيتها هي مسؤولية خطيرة وجسيمة ملقاة على عاتقنا جميعاً، ولا يمكننا التهرب منها، فأما ان نتحملها، ونحسن أداءها، وممارستها على طريق اسقاط مقولات الصراع ومنها مقولة "الغزوالثقافي‏" أو ننعزل وننكفى وننحو باللائمة على الغرب وأهله. من هنا ينبغي علينا ان نعمل في سياق انتاج القوة الفكرية والعلمية للنهوض بواقعنا ومواجهة الاخر انفاذا لقوله تعالى:(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة. .) [الانفال:60] على اساس ان ننتج حلولاً لقضايا الانسان المعاصر، حتى نستطيع ان ‏نواجه المشكلة بالحلول الواقعية التي نمتلكها من تراثنا ومن واقعنا الراهن، من اجل صنع عالم اسلامي مثقف بالاسلام ‏في ما يحتاجه الاسلام من الثقافة المعاصرة، لان وجود معرفة وثقافة اسلامية عاشت في ما مضى من الزمان لا يكفي‏ للانتقال الى مرحلة حضارية جديدة، لان المثقفين الاسلاميين في الواقع الثقافي الماضي كانوا يعالجون مشاكل ذلك ‏العصر وتحدياته بما لديهم من ثقافة ومخزون فكري، وقد انتج العصر الحالي مشاكل وقضايا حياتية كثيرة، فلابد لنا من‏ان نعرف كيف يمكن ان نواجه هذه التحديات العصرية المتنوعة بعقلية اسلامية معاصرة، تعرف كيف تنطلق المشكلة،وما هي اهدافها ودوافعها، وطرق علاجها! وهذا الكلام لا يفترض بنا ان نسقط امام العصر، ونخضع لمقولاته وتعقيداته ‏واجوائه السلبية، بل ان نعرف ماذا في داخله، ليكون لنا حس معاصرته، لاننا اذا عرفنا الداء لابد من ان نعرف الدواء.وهذا امر لن يتم ما لم نعرف لغة هذا العصر، وذهنيته.

وذلك من خلال ان ننزل الى ارض الواقع، ونعايش التجربة ‏الانسانية الحية في مواقع انطلاقتها وامتدادها، لا ان نبقى بعيدين عنه (عن العصر)، ومنغلقين على انفسنا بداعي ‏الحرص الشديد على نقاوتنا وطهارتنا، والحفاظ على أصالتنا وحضارتنا، والخوف الشديد على ذاتنا من غزو الاخر.

ونحن نعتقد استكمالاً للحديث السابق عن اساليب المواجهة ان ممارسة النقد العلمي والموضوعي لأفكارنا وممارساتنا العملية، وذاتنا الحضارية، وتعميق الحس النقدي للانسان المسلم، هي احد أهم تجليات المواجهة ‏الحضارية المبدعة مع الاخر، لأن بناء حضارتنا لا يقوم فقط كما اكد الكتاب على تضخيم ايجابيات الواقع، وغض ‏النظر عن سلبياته الكثيرة، بل يقوم الى جانب تعميق النهج والخطوات الايجابية على قاعدة مواجهة الحياة والواقع ‏بطريقة النقد العقلاني الهادئ والمتوازن الذي يدفع الانسان المسلم الى محاكمة الامور بقوة المنطق والحكمة والتوازن ‏والمسؤولية، لا بمنطق القوة والعاطفة والاتهامات الجاهزة للآخر، ويرشده الى السبل الكفيلة ببناء اسس نقدية واعية ‏تسمح بنمو ثقافة منتجة جديدة، وقادرة على تقديم الحلول العملية للمشاكل المطروحة حاليا، بما فيها الحل الضروري‏ لأزمة انسداد افق التغيير والتحرر، سواء اكان تحرراً عقلياً ام مادياً. 

 

 

من فكر القائد

 

الإصلاحات في رؤى السيد القائد

 

رؤية الإمام الخامنئي حول الدين

 

رؤية الإمام الخامنئي للسياسة

 

آراء القائد في قضايا العالم الإسلامي

 

من فكر الإمام القائد الخامنئي (دام ظله)

 

معالم الحرية في فكر القائد

 

رؤية الإمام القائد لمرحلة الشباب المتوقدة

 

رؤية الإمام الخامنئي للديمقراطية الدينية

 

دور الشعب في الحكومة الإسلامية من وجهة نظر القائد