القائد وتفسير الدولة الإيرانية

نَشَرَت مؤسسة كارنيغي للسلام الدوليCARNEGIE ENDOWMENT FOR INTERNATIONAL PEACE الأميركية دراسة مُركّزة حول شخصية المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران آية الله خامنئي.

وبِغَضّ النظر عمّا قالته الدراسة، فإن إلقاء الضوء على شخصية بحجم آية الله العظمى السيد علي الحسيني الخامنئي يُشكّل إحدى أهم الزوايا التي غفلت عنها مراكز الدراسات العالمية. فإذا كانت الدول المُناكِفة لإيران تعتقد أن الأخيرة لا تخرج عن وعاء سيا/ديني معقّد ومارق، فإن الضرورة بالتالي تصبح واجبة لاستظهار الفاعل الأساسي في ذلك الوعاء.

وبما أن الدستور الإيراني قد أجاز في بُنيته القانونية لشخص الولي الفقيه أن يكون قطب الرحى في النظام الإسلامي، فإن الخطأ كل الخطأ أن تتضافر مراكز الدراسات ووسائل الإعلام لتتّحد في قراءة أطراف السلطة أو خطّها الأدنى وإشاحة النظر عن خطّها الأعلى.

وقد ذكرتُ في مقال سابق عنونته بـ «محاكاة إيرانية بين واجب المصدر وواجب التلقّي» إرهاصات تشكيل موقع المرشد في الدولة الإيرانية وعمله المتعدد الوجوه. فهو يحتفظ بالصور المعنوية والدينية المرتبطة بشئون مرجعية واجب المصدر، ثم بتجميع النفوذ الخاص بالقيادة ضمن فضاء السلطة العام، وأخيراً العمل بأكثر من متغير عمودي خارج قيم الدولة الإجرائية.

في سلسلة الخطابات «المُجرّدة» التي كان يُلقيها المرشد الأعلى على المسئولين أو في الحشود الشعبية (والتي قيّمتها دراسة مؤسسة كارنيغي) تظهر الخلاصة السياسية في أن رجل الدولة الأول في إيران يتمتّع بالحزم الكافي وبقدر ملحوظ من التماسك والثبات.

بل إن ذلك الحزم والثبات والنفوذ، بات يُقنع زعماء العالم والدول الكبرى اليوم بأن أي سلوك سياسي تجاه إيران يستثني آية الله خامنئي لن تكون له قيمة تُذكر. فهو بالإضافة إلى وضعيته القانونية التي شخّصتها المادة 110 من الدستور فإن كاريزميته المتدفقة من تاريخ الثورة تُعطيه صبغة وصدقيّة إضافية.

فهو مناضل سابق ضد نظام الشاه. وبعد الثورة كان عضواً في مجلس قيادة الثورة وممثلاً للإمام الخميني في وزارة الدفاع ومستشاراً له في المجلس الأعلى للدفاع، وقائداً للحرس الثوري، وإماماً لجمعة طهران، وعضواً في المجلس الاستشاري الإسلامي، ورئيساً للجمهورية مرتين.

آية الله خامنئي لا يدير سلطته من خلال وسائل تقليدية تُوفّر له القدرة على إدارة الأمور مرة بالكسب ومرة بالخسارة، بل هو يدير سلطته من خلال وسائل دينية أعلى كعباً من وسائل السياسة، لكي يبقى مدى البناء الديني متلازماً لمدى البناء السياسي، ويتحدّد الأول بالثاني والعكس.

وهذه الوسائل تتّحد في نهاية الأمر في صيغة يُحبّذها المرشد الأعلى ويطرحها دائماً في خطبه وبياناته وهي السيادة الدينية الجامعة لـ «شبكة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام» وبين دينية الدولة.

وقد تصل أدوات المرشد في عملية تسوير الدولة وتلازم المدى الديني والسياسي فيها ضمن منظومة الوسائل إلى ستة آلاف تتوزّع على الوزارات والقوى الأمنية والعسكرية والثقافية والمجلس الأعلى للأمن القومي.

في الرابع من يونيو/ حزيران من العام 1989 انتقل آية الله خامنئي من موقع هام إلى موقع أهم في الدولة الخمينية. ففي هذا التاريخ تسنّم الرجل ولاية الأمر في إيران كثاني رجل يصل إلى هذا الموقع الحسّاس بعد الإمام الخميني. وكانت الظروف الداخلية والخارجية تضع البلد على سكّة مرحلة أخرى سُمّيت بمرحلة البناء والأعمار.

خلال هذه الفترة كانت إيران تنظر إلى الخلف رامقة أهم ثلاثة مفاصل عاشتها في أقل من عامين. عزل حسين علي منتظري عن خلافة الإمام، وقف الحرب العراقية الإيرانية وقبول إيران بالقرار 598، وارتحال آية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني.

في مرحلة المرشدية الخامنئية نُقّيت شوائب الارتجال الثورية التي تراكمت طيلة العقد الأول من الثورة. وانتقلت إيران من اقتصاد مركزي صارم إلى اقتصاد السوق المفتوحة وانتظار دورة إنتاج أكثر رشداً وديناميكية لتعويض الكيان الاقتصادي للدولة ما فقده طيلة الثماني سنوات من الحرب مع العراق.

في هذه المرحلة بدأت إيران في بناء المصانع والسدود وتعبيد الطرق وتنشيط مواصلات القطارات وزيادة التبادل التجاري الخارجي وتكثير احتياطي العملة الصعبة في الصندوق الوطني، وتمتين القدرة الأمنية في الدخل، وإحياء برامج تنموية أوقفتها الحرب كمترو الأنفاق.

وبشكل موازٍ سعت إيران نحو امتلاك التقنية النووية. وهو العلم الذي من خلاله تتبدل موازين القوى، وتتحدد البورصات السياسية والعسكرية. لذا فقد شرعت إيران وبشكل غير علني وسريع نحو توفير كل ما من شأنه أن يُساعدها على الوصول إلى دورة الوقود النووي.

وفي أقل من عام وإيران تتسربل سياسات المرشد الجديد توالت براكين العالم السياسية والاقتصادية في قذف حمم التغيير. غزو العراق للكويت وقيام حرب الخليج الثانية، انهيار الاتحاد السوفياتي وتحوّل العالم إلى القطبية الأحادية، وقيام نظام مصالح عالمي جديد.

وكانت تلك الأحداث انتصارات حقيقية لإيران جاءت بها الأقدار، لكنها أيضاً كانت أحداث جدّية ومصيرية قد تتحوّل إلى هزائم لطهران إن هي لم تُحسن إدارة ارتداداتها واقتناص فرصها وتفادي حممها الملتهبة. هكذا كانت الظروف التي واجهت المرشد الأعلى الجديد.

لقد نَجَحَ آية الله خامنئي في السير على الحافة وروح البلد معلّقة بطرف خيط. مُنحنياً مرة للريح ومتصلباً مرة أخرى أمامها دون انكسار. وخلال عقد التسعينيات وعبر حكومتي الإعمار الأولى والثانية برئاسة هاشمي رفسنجاني ثم عبر حكومتي الإصلاح الأولى والثانية برئاسة محمد خاتمي تجسّرت علاقات إيران الخارجية بشكل صلب.

بل إن خامنئي وفي سبيل ذلك اتبع سياسات خارجية متفرعة. فهو لم يُقدّم هدايا مجانية لكسب الرضا الغربي. بل إنه كان حازماً جداً في أدلجة السلوك تارة وفي جعله براغماتياً تارة أخرى. وكان يُصرّ على «مد يد + اختبار» لاستجلاء المواقف السياسية للدول.

في العراق بارت مساعي واشنطن في جعل مشروعها ينجح. وانتقلت من صياغة المشروع وترفيعه إلى اللهث نحو سحبه قدر الإمكان من حضن الإيرانيين القادمين على كفّ الجغرافيا والتاريخ ودهاء السياسة. حتى أقرّ الأميركان بصعوبة الموقف فدفعتهم الظروف لأن يجلسوا مع نظام كانوا ينعتونه بالمُرُوق.

وفي أزمة الملف النووي ربح رهان آية الله خامنئي في المضي بسياسة حافة الهاوية وتضييع الوقت وتوتير محيط الخصم وتعليق المعلّق وتأجيل المؤجّل لتحويل مسار التفاوض من وقف التخصيب إلى تجميده فقط، ثم تحطيم أكثر اللاءات الأميركية.

اليوم تفتح دراسة كارنيغي الباب جيداً لدراسة إيران عبر كُوّة المرشدية العليا. وإذا ما أحسِنت قراءة هذه المراكز البحثية لشخصية خامنئي فإن ذلك سينعكس لا محالة على الاستشارات التي تقدمها هذه المراكز لوزارات الخارجية سواء في أميركا أو أوروبا.