الحضارة الإسلامية من منظار الإمام الخامنئي

ظهرت الحضارة الإسلامية ببركة الحركة العلمية التي انطلقت في الإسلام منذ يومه الأول. لم يكن قد مضى قرنان على بزوغ شمس الإسلام حينما ظهرت الحركة العلمية الإسلامية المتسارعة، وفي تلك البيئة. لو أردتم مقارنة تلك الحركة العلمية بالحاضر فعليكم النظر للأقطاب العلمية في العالم اليوم، ثم افترضوا بلداً في منطقة بعيدة من العالم يفتقر لأية مدنية أو تحضر، يدخل ساحة الحضارة، ثم يصل خلال مائة أو مائة وخمسين عاماً إلى مرتبة متفوقة على كافة تلك الحضارات من الناحية العلمية. إنها حركة معجزة ولا يمكن تصورها أساساً. ولم يكن هذا ممكناً لولا أن الإسلام يحث على العلم وتعلّمه وتعليمه والعيش حياةً علمية.

جوهر الحضارة الإسلامية كان من داخلها. طبعاً الحضارة الحية تستفيد من الآخرين أيضاً. السؤال هو: من أين جاء هذا العالم العامر، وكل هذا الاستخدام والتوظيف للعلم، وهذا الاكتشاف لحقائق عالم الوجود من الدرجة الأولى ـ عالم المادة هذا ـ على يد المسلمين، وهذا الاستخدام للأفكار والنظريات والأذهان والأنشطة العلمية العظيمة، وتأسيس الجامعات العملاقة بالمقاييس العالمية آنذاك، وقيام عشرات البلدان الثرية والقوية في ذلك الحين، وانبثاق قوة سياسية فذة على مدى التاريخ؟ لا يمكنكم مشاهدة قوة في كل التاريخ سوى القوة السياسية للإسلام امتدت كبلد واحد من قلب أوربا إلى قلب شبه القارة الهندية حكمته سلطة مستمرة.

فترة القرون الوسطى كانت بالنسبة لأوربا حقبة جهل وبؤس. الأوربيون يسمون القرون الوسطى العصور المظلمة. في القرون الوسطى التي ساد أوربا خلالها الضلال والجهل سادت أنوار العلم البلدان الإسلامية بما في ذلك إيران. هذه القدرة السياسية، والعلمية، وهذا الازدهار الدنيوي والإدارة والاستخدام والتوظيف لكل الطاقات البشرية الحية والبناءة والفاعلة كان نتيجة التعاليم الإسلامية.

مثّل القرن الرابع الهجري ذروة ازدهار الحضارة الإسلامية؟ القرن الرابع الهجري ـ وهو القرن الحادي عشر للميلاد، أي قمة ظلمات الجهل والفراغ في أوربا ـ كان ذروة الازدهار الإسلامي في إيران. العلماء الذين ظهروا ـ باستثناء عدد قليل جداً ـ كانوا إيرانيين كلهم تقريباً. ذات يوم كان الغربيون يكسبون العلم من الشرق ومن إيران تحديداً، وكان الإيرانيون مؤسسي الكثير من العلوم الشائعة في العالم اليوم. بل إن النهضة الأوربية قامت على أساس ترجمة نتاجات البلدان والمناطق الإسلامية. هذا في حين لم يكن الدين والتدين في إيران خلال تلك الفترات بأقل مما في أوربا بل أكثر منه بكثير. إذن، ليس الدين هو ما يمنع العلم، إنما هناك شيء آخر وهوية أخرى تحول دون تقدم العلم. فما هو ذلك الشيء؟ إنه صنوف الجهل لدى الناس. الخرافات المسيحية في ذلك العصر. لم يُلاحظ إطلاقاً خلال الفترة الإسلامية أن يُهان العالم بجريرة العلم. والحال أنهم في أوربا قتلوا شخصاً بتهمة العلم، ورجموا آخر، وشنقوا آخر، وأحرقوا الكثيرين. أي إنهم عمموا على كل العالم ما حدث هناك وكان نتيجة الدين الخرافي المختلط بالغلظة المشوبة بالجهل في المسيحية المحرفة. فما ذنب الإسلام اليوم؟ وما ذنب المسلمين؟ وما ذنب الشعوب الإسلامية؟

مع أن الإسلام كان نهضة وحركة معنوية وأخلاقية لكن التقدم العلمي والرقي الاقتصادي كانا ضمن الأهداف الإسلامية. لم يكن قد مضى أكثر من خمسين عاماً على إشراقة الإسلام حتى أنضوى أكثر من خمسين بالمائة من العالم المتحضر آنذاك تحت لواء الإسلام. وخلال القرنين الأولين أضحى العالم الإسلامي الكبير قمة الحضارة البشرية في ذلك الحين من الناحية العلمية وفي شتى صنوف العلم والتقدم المدني والاقتصادي. ولم يكن هذا إلا بفضل تعاليم الإسلام التي ركّزت في آن واحد على المعنوية والتقدم المادي.

الحضارة المادية الغربية ساقت الجميع نحو النـزعة المادية فأضحى المال والبطن والشهوة أكبر الهموم، وبالتالي ترك النقاء والصدق والتجاوز والإيثار في كثير من أنحاء العالم أماكنها للحيل والمؤامرات والحرص والحسد والبخل وسائر الخصال الذميمة. السبب في أن العلوم المتطورة وفوق الحديثة في الحضارة والعالم الغربي غير قادرة اليوم على إنقاذ البشرية هو أنها لا تواكب الإنسانية. حيثما كان هنالك علم ولم يكن ضمير ومعنوية وأخلاق وعاطفة ومشاعر إنسانية فلن تنتفع الإنسانية من ذلك العلم. العلم من دون معنوية وأخلاق سيتحول إلى قنبلة ذرية تفتك بالأبرياء. وسيتحول إلى أسلحة تستهدف العزّل في لبنان وفلسطين المحتلة وغيرهما من أنحاء العالم. سيتحول إلى مواد كيمياوية قاتلة تفتك بالنساء والأطفال والشباب والإنسان والحيوانات في حلبجة وباقي أرجاء العالم.

إننا في الحضارة الإسلامية وفي نظام الجمهورية الإسلامية المقدس السائر نحو تلك الحضارة جعلنا هدفنا أن نتقدم علمياً بموازاة النـزعة المعنوية. حين تلاحظون العالم الغربي حساساً من التزامنا بالمعنوية ويسمي تديننا تعصباً وتحجراً، وحبنا للمبادئ الأخلاقية والإنسانية معارضةً لحقوق الإنسان، فالسبب هو أن منهجنا على الضد من منهجهم. إننا إلى جانب الاستفادة من النتاجات العلمية والعملية والتجارب البشرية الناجحة، علينا للوصول إلى الحل المحلي، نثر بذور التقدم المادي والمعنوي بأنفسنا ورعايتها حتى تخضرّ، ولا ننشد تقليد هذا وذاك.