الفن في فكر الإمام الخامنئي
حقيقة الفن ـ أي فن كان ـ أنه عطية إلهية. مع أن بروز الفن يتحقق في كيفية التعبير عنه إلا أن هذه ليست كل حقيقة الفن، إذ يسبق هذا التعبير إدراك وشعور فني، وهنا تكمن النقطة الرئيسة. بعد إدراك الجمال والظرافة والحقيقة يستخرج الفنان منها بروحه الفنية وبذلك المصباح الفني المتقد في داخله ألف نقطة أدق من الذرة مما قد لا يستطيع الناس غير الفنانين أحياناً إدراك حتى نقطة واحدة منه، ويعبر بذلك عن الدقائق والحقائق، وسيكون هذا هو الفن الواقعي الحقيقي الناجم عن إدراك وانعكاس وتعبير.
الواقع أن الفن موهبة إلهية وحقيقة جد فاخرة. ومن الطبيعي أن يشعر الشخص الذي منح هذه الموهبة من قبل الله ـ ككل الثروات والكنوز الأخرى ـ بأعباء المسؤولية، أي إن العطايا الإلهية مصحوبة بأداء التكاليف.
ليس الفن من الثروات التي تستحصل كلها بكدّ اليمين وعرق الجبين. فما لم تتوفر فيكم القريحة والموهبة الفنية ستبقون تراوحون في الخطوة الأولى مهما بذلتم من جهد. تلك القريحة ليست إنجازكم ولا هي من فعلكم، بل منحوها لكم. يمنح الله الإنسان جميع النعم حتى لو كانت قنواتها المجتمع والأب والأم والبيئة والأمور الأخرى.
لقد بذلتم جهداً لكن الفرصة والهمّة لبذل الجهد أيضاً مما منحه الله لكم حتى تستطيعوا رفع الفن لمرتبة سامية في أنفسكم.
يقول البعض إن الكلمة الأولى تناقض الكلمة الثانية في تعبير «الفن الملتزم».
الفن هو الشيء القائم على الخيال الحر للإنسان، والملتزم معناه المقيد المكبل، فكيف يجتمع هذان؟ هذا تصور، وهو طبعاً ليس بالتصور الصائب.
قضية مسؤولية الفنان والتزامه تعود قبل كون الفنان فناناً إلى كونه إنساناً.
فالفنان بالتالي هو إنسان قبل أن يكون فناناً. والإنسان لا يمكنه أن لا يكون مسؤولاً. المسؤولية الأولى للإنسان هي مسؤوليته حيال الناس الآخرين. مع أن الإنسان ملتزم أيضاً أمام الطبيعة والأرض والسماء إلا أن مسؤوليته الكبرى هي حيال الآخرين. وللفنان في الوقت ذاته وبسبب خصوصيته المميزة جداً التزام مستقل غير ذلك الذي ذكرناه. الفنان مسؤول على صعيد شكل فنه وقالبه وكذلك على صعيد مضمون فنه. الإنسان ذو القريحة الفنية ينبغي أن لا يكتفي بالمستويات الدنيا. هذا نوع من الالتزام. الفنان الكسول وعديم السعي والذي لا يبذل جهداً في سبيل رفعة عمله الفني وتفجير الإبداع لم يلتزم في الواقع بمسؤوليته الفنية حيال الشكل والقالب.
على الفنان أن يسعى دوماً. طبعاً قد يصل الإنسان أحياناً إلى حيث لا يستطيع السعي أكثر من ذلك، هذا لا نقاش فيه. لكنه عليه السعي بمقدار استطاعته لرفع مستوى قالبه الفني.
هذا الالتزام حيال القالب لا يتأتي من دون شعور بالوجد والعشق والمسؤولية، وهذا الوجد والعشق بدوره مسؤولية وهو بمثابة اليد القوية التي تفرض على الإنسان فعل شيء ولا تسمح للكسل والارتخاء أن تقعده عن الإنتاج.
بالإضافة إلى ذلك هناك الالتزام حيال المضمون. ما الذي نريد تقديمه وعرضه؟ إذا كان الإنسان محترماً وعزيزاً كان قلبه وذهنه وفكره أيضاً عزيزاً محترماً. لا يمكن منح المتلقى أي شيء لمجرد أنه جالس للاستماع لكلامنا. يجب أن ننظر ما الذي نريد أن نعطيه له.
الهمّ الذي يحمله بعض المخلصين في نطاق القضايا الفنية هو أن لا ننسف الفضيلة ولا ننتهك الأخلاق بذريعة حرية الفن وحرية الخيال. هذه المسألة على جانب كبير من الأهمية. إذن الفن الملتزم تعبير صحيح.
على الفنان أن يلتزم بحقيقة ما. فما هي تلك الحقيقة؟ أما ما هو المستوى الفكري للفنان كي يستطيع مشاهدة ومعرفة كل أو جزء من تلك الحقيقة فهذا موضوع آخر.
طبعاً كلما كان مستوى الفكر والإدراك العقلاني أرفع كان بوسعه منح الإدراك الفني الدقيق جودة أعلى.
حافظ الشيرازي ليس مجرد فنان، إنما في كلماته معارف سامية. وهذه المعارف لا تتأتي بمجرد كون الإنسان فناناً إنما لا بد لذلك من رصيد فلسفي وفكري.
لا بد من ركيزة أو نقطة انطلاق وأساس فكري رفيع متين يدعم هذا الإدراك الفني ومن ثم التعبير الفني.
طبعاً ليس الجميع في مستوى واحد. وليس من المتوقع أن يكون الأمر كذلك. هذا ما يصدق على جميع الحقول الفنية، من الفن المعماري إلى الرسم إلى النحت والأعمال السينمائية والمسرحية والشعر والموسيقى وسائر الفروع الفنية.. كلها تستبطن هذا المعنى.
تارة تلاحظون فناً معمارياً فيه فكر. وتارة تلاحظون فناً معمارياً فارغاً وعديم الهوية من الناحية الفكرية فهو لا يستند إلى أفكار.
هذان المعماران إذا أرادا تشييد بناء فسوف يضعان نوعين من البناء. وإذا تم تسليم مدينة لشخصين من هذا القبيل فسيكون نصفها مختلفاً تماماً عن النصف الثاني.
على كل حال هذا الالتزام مهم ولازم.
لا يمكن ممارسة الفن بغير اكتراث ولاأبالية وبمحفزات متغيرة يومياً وربما هابطة وغير نظيفة والبقاء في حال شموخ ورفعة، لأن البهجة الموجودة في الفنان ـ في الفنان بهجة تختلف عن حالات البهجة العادية ولا توجد لدى غير الفنان إطلاقاً ـ ستوجد فيه بحق حينما يعلم ما الذي يريده وينشده وما الذي يريد فعله لكي يشعر بالبهجة والرضا عبر فنه وما ينجزه من أعمال فنية.
عندئذ ينبغي مراعاة الأخلاق الإنسانية والفضائل والمعارف الدينية والإلهية السامية.
أتمنى أن تحظى قيمة الفن ـ كما هي منـزلتها الحقيقة ـ باهتمام أهل الفن أنفسهم أولاً فيتفطنوا لقيمة البضاعة القيمة التي يمتلكونها، ويحترمونها. واحترامها يكمن في إنفاقها في الموضع المناسب.
يقول الإمام السجاد (عليه السلام) في حديث له إن الروح والوجود الإنساني أثمن الأشياء ولا ثمن له إلا جنة الله الموعودة، فلا تمنحوا أرواحكم لسوى جنة الله. والفن من أرقى وأغلى ما في الروح البشرية لذا ينبغي أن تثمّن وتنفق في سبيل الله.
طبعاً حين نقول أنفقوها في سبيل الله يجب أن لا ينصرف الذهن فوراً إلى الحالة السطحية المُرائية.
الفن الديني هو الفن الذي يستطيع تجسيد وعرض مبادئ الدين الإسلامي وهي طبعاً أرقى المبادئ في الأديان الإلهية.
إنها المبادئ التي تضمن سعادة الإنسان وحقوقه المعنوية ورفعته وتقواه وورعه وتكريس العدالة في المجتمع الإنساني. الفن الديني لا يعني بحال من الأحوال التسطيح والقشور والرياء الديني وهو لا يتشكل ضرورة بالمفردات والكلمات الدينية.
قد يكون الفن دينياً مائة بالمائة لكن الكلمات المستخدمة فيه عرفية وغير دينية. ينبغي عدم تصور أن الفن الديني هو الذي يصور قصة دينية بالضرورة أو الذي يتحدث عن مسألة دينية كرجال الدين أو ما شاكل.
الفن الديني هو الذي يستطيع نشر المعارف التي اضطلعت بنشرها جميع الأديان ـ والدين الإسلامي الحنيف بالدرجة الأولى ـ وأزهقت أرواح طاهرة في سبيل نشر هذه الحقائق، وتخليدها وتركيزها في الأذهان. هذه المعارف هي المعارف الدينية السامية. هذه حقائق تحمّل الأنبياء الألهيون أعباء ثقيلة لنشرها في الحياة الإنسانية.
لا يمكن أن نقعد هنا ونحكم بخطأ خيرة الشخصيات في العالم وهم المصلحون والرسل والمجاهدون في سبيل الله ولا نكترث لهم.
الفن الديني ينشر هذه المعارف. الفن الديني يطرح العدالة في المجتمع كقيمة حتى لو لم تذكروا اسم الدين ولم تأتوا بأية آية قرآنية ولا أي حديث شريف عن العدالة في عملكم الفني.
مثلاً ليس من الضروري أن يرد اسم الدين أو شكله أو رمزه في الحوارات السينمائية أو المسرحية حتى يكون الفن دينياً. لا، يمكنكم طرح أبلغ الكلام عن العدالة في فنونكم المسرحية وعندها ستكونون قد انجزتم فناً دينياً.
المسألة الثانية التي أود الإشارة إليها هي الفن الثوري. توقعات الثورة من الفن والفنان تبتني على نظرة جمالية في الفن وبهذا لن تكون توقعات كبيرة. شعب نزل إلى الساحة بكل كيانه خلال ملحمة دفاعية طالت ثمانية أعوام. سار الشباب إلى الجبهات وفتحوا أذرعهم للتضحية في سبيل القيم التي آمنوا بها. طبعاً هم فعلوا ذلك بدوافع دينية غالباً رغم أن البعض منهم ربما تحرك وضحّى في سبيل الدفاع عن الوطن وحدود البلاد.
والأمهات والآباء والزوجات والأبناء والذين عملوا خلف الجبهات صنعوا الملاحم بشكل آخر.
راجعوا مذكرات ثمانية أعوام من الدفاع المقدس وانظروا بعين الفن لحال هذا المجتمع ووضعه، فهل ستجدون أجمل منه؟ إنكم حينما تواجهون تضحية الإنسان في أرقى الآثار الدراماتيكية في العالم تعجبون بها وتثنون عليها. حينما تشاهدون فيلماً أو تستمعون للحن أو تشاهدون لوحة رسم عن حياة الشخصية الثورية الفلانية ـ جاندارك مثلاً ـ أو الجندي المضحي من البلد الفلاني فلن تستطيعوا عدم الإعجاب بعمله في قلوبكم وضمائركم.
وقد وقعت آلاف الأحداث الأكبر والأعظم بعدة مرات مما تجدونه في ذلك الأثر الفني خلال ثمانية أعوام من الدفاع المقدس وفي أحداث الثورة ذاتها في بلادكم وبيتكم، أليس هذا بجمال؟
هل بوسع الفن أن يمر بهذه الأمور مرور الكرام ودون اكتراث؟ هذا هو توقع الثورة وهو ليس توقعاً عسفياً أو كبيراً بل توقع قائم على أسس جمالية فنية؟ الفن هو إدراك الجماليات.
تعليقات الزوار