الحج رحلة ترفيهية أم سفر إلى الله؟!

فرصة الحج بالنسبة للفرد المسلم هي فرصة دخول الإنسان إلى مناخ معنوي جد رحيب وواسع. ننتزع أنفسنا من ثنايا حياتنا العادية بكل شوائبها وإشكالاتها ونتجه نحو أجواء النقاء والروح المعنوية والتقرب إلى الله والرياضة الاختيارية.‏

* الإحرام:‏

منذ بداية دخول الإنسان هذه المراسم يحرّم على نفسه بعض الأمور المباحة له في حياته اليومية الدّارجة.. إنه الإحرام.. أي تحريم أمور شائعة مباحة جائزة في الحياة العادية المألوفة، والكثير منها مدعاةٌ للغفلة، بل إن بعضها سبب في الانحطاط.‏

تُنتزع منا جميع أسباب التفاخر الظاهري المادي، وأولها الثياب. تُستبعد جانباً المناصب، والمراتب، والثياب الفاخرة ويرتدي الجميع لباساً واحداً..‏

لا تنظروا في المرآة، لأن ذلك من مظاهر الأنانية والنرجسية. لا تتعطّروا بالعطور الطيّبة، لأن ذلك أداة من أدوات التظاهر والبروز. لا تهربوا من الشمس أو الأمطار إلى تحت السقوف ـ أثناء المسير ـ، لأن ذلك من مظاهر طلب الراحة والدعة. إذا مررتم بمكان تفوح منه روائح كريهة، فلا تمسكوا أنوفكم، وكذلك سائر أعمال الإحرام.. تحريم الأمور الباعثة على الراحة وشهوة النفس والشهوات الجنسية خلال هذه المدة، سواء كانت سبباً في التفاخر، أو سبباً في التمييز؛ كل هذه تُرفع وتزول.‏

* هذا هو الحج:‏

بعد ذلك، يأتي الدور للدخول في فضاء بيت الله والمسجد الحرام وتلك العظمة والجلال دون الابتعاد عن البساطة وعدم التجمّل، والشعور بذلك بالعين، واليد، وبكل الوجود. العظمة والجلال، ولكن، ليس من نوع العظمة المادية وعظمة الأموال والزينة المادية، بل من نوع آخر لا يمكن حتى وصفه للناس العاديين. ومن ثم الدخول في هذا السيل الهادر الدوّار والتحرك حول مركز واحد، مع ذكر الله، والدعاء، والبكاء، والخشوع، والكلام مع الله تعالى. وكذا الحال بالنسبة للسعي بين الصفا والمروة بعد ذلك، والوقوف في عرفات والمشعر، وفرائض أيام منى. هذا هو الحج.‏

أوصيت براحة الحجاج ورعايتهم. نعم، هذا طبيعي، لكن هذه الراحة لا تعني الخمول واللذائذ. هذه الراحة تعني فراغ البال لأجل هذا الهيام والانجذاب والانقطاع إلى الله. افعلوا ما من شأنه أن يفرغ بال الناس كي لا يعيشوا هموماً معينة فيستطيعوا بذلك أداء هذه الفريضة على أفضل وجه. هذه هي الغاية، وإلا، ليس المراد الراحة الحيوانية وراحة الأكل والنوم والأكل الأفضل والأكثر، كلا، هذا ليس ذوقياً، كي نتوخّى هذه الأمور ونجري وراءها.‏

* سفر قلبي وروحي:‏

ليس الحج رحلة ترفيهية، إنما هو رحلة معنوية. إنه سفر إلى الله بالجسم والروح كليهما وليس السفر إلى الله سفراً جسمانياً بالنسبة لأهل السلوك، إنما هو سفر قلبي وروحي. وهذا السفر إلى الله هو بالنسبة لنا جميعاً ـ نحن الناس ـ سفر بالجسم والروح معاً، ولا فائدة من أن نأخذ الجسم إلى هناك ولا نأخذ الروح، أو أن يتحول الحج لا سمح الله بالنسبة لبعض من تتكرر لهم هذه النعمة ـ حيث يوفّقون للذهاب إلى الحج بشكل متكرر فيشاهدون بيت الله ويزورونه ـ إلى شيء يبعث على اللامبالاة وعدم الاهتمام، فيعجزون عن الإيحاء لأنفسهم بتلك الثورة الداخلية أو وجدانها في نفوسهم. هذا ليس بالشيء الإيجابي.‏

رحمة الله على المرحوم الشيخ محمد بهاري(*) الذي يقول في إحدى كتاباته إن الدعاء، والذكر، وربما الصلاة إذا تكررت من دون توجّه إلى الله، فستؤدي إلى القسوة! نصلي وتكون الصلاة سبباً في قسوتنا! لماذا؟ لأن قلوبنا غير حاضرة وغير خاشعة أثناء الصلاة. إذاً، هذه الصلاة إما أن تؤدّى بخشوع فتكون مدعاة رقة وقرب ولطف ونقاء، أو تقام بلا خشوع فتكون حسب قوله سبباً في قسوة القلب.‏

* فرصة الأيام المعلومات:‏

كذلك الحج.. ينبغي أداء هذه الأعمال بتوجه وحضور ﴿أياماً معدودات﴾ (البقرة: 184) ﴿معلومات﴾ (الحج: 28). مجموع أيام الحج والعمرة ليس أكثر من عدة أيام. فرصة الحج الممتدة لعدة أيام تمرينٌ وتعليم تجريبي يرى من خلاله الإنسان أن بالمستطاع العيش على هذه الشاكلة أيضاً.. يمكن العيش بلا تفاخر ولا اكتراث للّذائذ المادية. لا لأننا نريد أن نعيش حياتنا كلها في حالة إحرام، ليس هذا المراد، ينبغي أن تصيبوا من طيبات الرزق التي أحلّها الله تعالى، إنما يجب تبديد التعلق والتعطّش واختصار الحياة في هذه الأمور ـ وهذا ما نعاني منه، حيث نظن الحياة هذه اللذائذ والشهوات المادية والأهواء الفارغة العبثية ـ كي نفهم أن بالإمكان تخصيص فصل من الحياة وجزء من الأيام، وساعات من منتصف الليل لحالة النقاء والانقطاع إلى الله. هذا ما تتدربون عليه وتتعلمونه هناك. يتعلم الحاج أن بالمستطاع القيام بذلك. انظروا كم هي فرصة عظيمة!‏

عليكم أيها العاملون في شؤون الحج أن تفعلوا ما من شأنه جعل العدد الكبير من الناس الذين يأتون إلى الحج معكم أو الموجودين هناك ـ القادمين من بلدان أخرى ـ يدركون هذه النقطة في الحج، ويتعرفون إلى هذه الفرصة، ويندفعون نحو اقتناصها. الشعور بأن هذه فرصة توفرت الآن ولا تتوفر دوماً ليس بالشعور الذي ينتاب الجميع. كم من الناس يتمنون يوماً واحداً من أيامكم هناك، لكن الفرصة لا تتوفر لهم! الذين يشتاقون للحج في العالم كثيرون، فاغتنموا هذه الفرصة طالما توفرت لكم الآن.‏

الفرصة الثانية هي تلك التي تتهيأ للأمة الإسلامية التي تتعرض بسبب تعدد قومياتها، وأعراقها، ومناطقها في العالم، وثقافاتها، وعاداتها، وأذواقها للفواصل والتباعد بشكل طبيعي. فالله تعالى لم يبعث الإسلام لعرق خاص، أو لثقافة خاصة، أو لمنطقة معينة من العالم، بل بعثه للبشرية كافة، والبشر كلهم متباينون عن بعضهم البعض من حيث اللون، واللغة، والعادات، والأذواق، والمناخات التاريخية والجغرافية. إذاً، ثمة أرضية للاختلاف في الأمة الإسلامية. ويجب أن لا يظهر هذا الاختلاف ولا يكتسب تحققاً وحالةً فعلية. الحج فرصة كبيرة للأمة الإسلامية كي تلتئم بعض الفواصل الطبيعية أو ربما المصطنعة والمفروضة.‏

والحج فرصة للأمة الإسلامية. من بين هذه الأعداد الهائلة التي تشارك في الحج كل عام، خذوا مقطعاً زمنياً من عشرة أعوام وانظروا كم مليون إنسان يشارك في الحج من أفريقيا، وآسيا، وأوروبا، ومن كل أرجاء العالم، من نساء، ورجال، متعلمين، وغير متعلمين، وذوي أذواق ومشارب مختلفة.‏

لو ساد نداء الاتحاد ﴿ولا تفرقوا﴾ (آل عمران: 103) الإسلامي على هذه الحشود، فلكم أن تتصوروا أي حدث عظيم سيقع. ستبهت كل أسباب الاختلاف تلك. واحد سني، وآخر شيعي، ولدى الشيعة فرق مختلفة، وبين السنة فرق مختلفة، ومذاهب فقهية مختلفة، وعقائد مختلفة، وعادات شتى تؤدي إلى التباين على نحو طبيعي.. كل هذه تجمعها يد الحج العطوفة وتقرِّب بينها.‏

طبعاً، أنا لا أعتقد أننا يجب أن نصلح مظهرنا الخارجي وليكن باطننا ما يكون، كلا، أعتقد بجد أن واجبنا الأول والأمر الأول الموجّه لنا هو أن نصلح أنفسنا، سواء داخل قلوبنا وبواطننا أو داخل بلادنا.‏

الرحمة الإلهية تنزل علينا وتشملنا حينما نراقب أنفسنا ونروّضها.. نراقب كلامنا وتصريحاتنا وأفعالنا وإعلامنا. مناخ اللامبالاة في الكلام والتصريح ضد الحكومة وضد فلان وفلان لأغراض خاصة ليس بالشيء الذي يتجاوز عنه الله تعالى بسهولة.. يقول الله تعالى: ﴿واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة﴾ (الأنفال: 25).. نعم، بعض أنماط الظلم وبعض الممارسات تعود نتائجها وآثارها على الجميع وليس على ذلك الظالم فقط، وذلك بسبب سلوك عدد من الناس ممن يمارسون الظلم في أقوالهم وفي أعمالهم وفي أحكامهم وتقييماتهم. ينبغي الحذر من هذه الأمور.‏

يجب أن يكون الحج درساً لنا.. درساً للحاج الذي يذهب للحج، ولنا أيضاً نحن الذين ننظر وندعو ونتمنى أن يؤدوا إن شاء الله حجاً مقبولاً كاملاً. وفقنا الله جميعاً لأن ننتفع أقصى المنفعة من دروس الحج.‏

ـــــــــــــــــــ

(*) آية الله العارف الشيخ محمد البهاري الهمداني (1265ﻫ ـ 1325ﻫ). صاحب كتاب «تذكرة المتقين في آداب السير والسلوك».‏