النهضة الإسلامية بين خذلان الخواص وتبعية العوام
(مُقتَبَسٌ من فكرِ الإمام السيد علي الحسيني الخامنئي)
إن البصيرة وتمحيص الهدف، والسير الحثيث باتجاهه، هو المائز بين الخواص والعوام.
فالخواص هم الذين يتحلون بتلك الصفات، والعوام بخلافهم، ولا يخلو مجتمع من المجتمعات من هاتين الفئتين، فئة تسير بعد فكر وفهم ووعي وإدراك، وهي تعرف طريقها وتسلكه، وفئة أخرى لا تنظر لترى ما هو الطريق الصحيح وما هو الموقف الصائب، ولا يهمها أن تفهم وتحلل وتقيس وتدرك، بل تتبع الجو السائد والهوى العام.
وربما ضمّت الفئة الأولى ـ وهي فئة الخواص ـ أشخاصاً غير متعلمين وغير مثقفين ولم يحصلوا على شهادات علمية، ولكنهم يفهمون ويعرفون ما ينبغي عليهم فعله، وهم يعملون وفق تخطيط وإرادة، وكذلك فئة العوام، فلربما ضمّت أشخاصا متعلمين وحاصلين على شهادات، وشهادات عليا أيضا، ولكنهم لا يعرفون ما هو الهدف الأساسي لهم وكيف يمكن الوصول إليه.
إذاً فالخواص هم الذين عندما يؤدون عملا يؤدونه عن موقف، والنهج الذي يختارونه، يختارونه عن فكر وتحليل.
وفي مقابلهم العوام، وهم الذين يسيرون كمسير الماء، ليس لديهم أي تحليل للمواقف، حينما يشاهدون الناس يهتفون (يعيش) يهتفون معهم، وحينما يهتف الناس (الموت لـ ...) يرددون نفس الشعار.
وكمثال على ما نقول، لمّا دخل مسلم بن عقيل (عليه السلام) الكوفة، وتلا على أهلها كتاب الإمام الحسين (عليه السلام) إليهم، أخذ الناس يفدون عليه زُرافات زُرافات ويُعلنون عن ولائهم له، وكان النعمان بن بشير واليَ الكوفة آنذاك شخصاً ضعيفا، ولم ينهض لمجابهة مسلم بن عقيل (عليه السلام)، فرأى الناس أن المجال مفسوح أمامهم، فجاءوا إلى مسلم وبايعوه.
ولما وصل عبيد الله بن زياد (لعنه الله) إلى الكوفة ـ بعد أن ولّاه عليها يزيد (لعنه الله) عندما رأى الأمور قد ساءت هناك ـ بدأ يخطط للقضاء على وثبة مسلم بن عقيل (عليه السلام)، وتركزت مساعيه على استخدام اشد أساليب البطش والتهديد والتعذيب ضد أنصار ابن عقيل (عليه السلام)، ففعل ما فعل بهاني بن عروة (رضوان الله عليه) وغيره من رؤساء القبائل، وبث بين الناس بعض أهل الباطل لأجل إثارة الخوف، والرعب، والهلع فيهم، فاستشرى بينهم الذعر، وأخذوا يتفرقون عنه تدريجياً، ونادى منادي ابن زياد (لعنه الله): يجب أن يحضر الجميع إلى مسجد الكوفة عند صلاة العشاء ليصلّوا خلفه ! وجاء في المصادر التاريخية أن المسجد امتلأ بالناس للصلاة خلف ابن زياد (لعنه الله)، وبعدها أمر رؤساء القبائل أن يذهبوا ويعملوا على تفريق الناس من حول ابن عقيل (عليه السلام)، وإلا يكون مصيرهم كمصير ابن عروة (رضوان الله عليه)، فذهبوا وقالوا للناس: لماذا اتخذتم هذا الموقف؟ عمنّ تريدون الدفاع؟ وضد منّ؟ إنكم ستدفعون الثمن غاليا، و و و ...، وانسحب كلٌ منهم إلى داره، والعجيب أنّهم هم الذين كاتبوا الإمام الحسين (عليه السلام) من قبل ودعوه للقدوم إليهم، فلمّا رآهم الناس وسمعوا كلامهم انسحبوا هم أيضاً من بعدهم، وما أن مرَّ وقت قصير حتى لم يبق مع مسلم(عليه السلام) مِن أحدّ، وبعدما حاصر جنود ابن زياد (لعنه الله) دار طوعه للقبض على مسلم (عليه السلام)، انبرى أولئك الناس أنفسهم لمحاربة مسلم(عليه السلام)!!.
هؤلاء هم العوام، سلوكهم لا ينطلق عن تفكير وتشخيص، فهم يتحركون وفقا لما يمليه عليهم الجو العام، وهم لا قدرة لهم على اتخاذ القرار، وأمرهم منوط بالفرصة المتاحة أمامهم، فإذا كانوا في زمن يتصدى لزمام الأمور رجل كأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ويسيرّهم إلى الجنة فخير، وأما إذا كانوا في زمنٍ كان المتصدي فيه لزمام الأمور رجل كمعاوية(لعنه الله) ويسيرّهم إلى النار فتعسا.
وأما الخواص المناصرين للحق، فينقسمون إلى قسمين:
القسم الأوّل: هم الذين يتغلّبون في الصراع مع مغريات الدنيا والحياة، من الجاه، والسمعة، والمال، واللذّة، والرفاه.
والقسم الآخر: هم الذين يُخفقون في هذا الصراع.
هذه الأمور ـ أيّ الجاه والسمعة والمال وغيرها ـ كلّها أمور حسنة، وكلّها من مُباحات الدنيا ـ إذا كانت وفق الشرع ـ والقرآن حينما يصفها بأنّها متاع الحياة الدنيا فلا يعني أنّها قبيحة.
المتاع جعله الله ليتمتع به الإنسان، ولكن إذا استمتع فيه إلى الحدّ الذي يستطيع معه الكفّ عنه عند حصول أيّ امتحان عسير شيء، وإذا انغمس فيه إلى الحدّ الذي يعجز معه عن اجتنابه فيما إذا استدعت التكاليف الصعبة منه ذلك شيء آخر.
فكل مجتمع يوجد فيه هذان النمطان من أنصار الحق، فإذا كان الفريق الصالح منهما ـ الذين يستطيعون عند الحاجة الانتهاء منه ـ هم الأكثر، فلن يقع المجتمع بما وقع فيه على عهد الإمام الحسين (عليه السلام)، ولنكن على ثقة أنّ المستقبل سيكون مضموناً إلى الأبد.
أمّا إذا كانوا قلّة، وكان ذلك الفريق من الخواص ـ أيّ المناصرين للحقّ ـ ولكن في وقت من الأوقات تنهار معنوياتهم أمام التحديات أو المغريات الدنيوية، بما فيها من ثروة ودار، وشهرة، ومنصب، وجاه، فيلتزمون الصمت حيثما يجب عليهم قول الحق، حفاظا على أرواحهم، أو مناصبهم، أو لحب الأولاد والأسرة، أو بسبب تسويلات الشيطان وتضليله لهم، هؤلاء إذا كانوا الكثرة، فالويل الويل حينئذ، حينئذٍ ينـزل السائرون على خطى الحسين (عليه السلام) إلى أرض الشهادة، ويُقادون إلى مسالخ الذبح، وسوف تقع في طليعة المآسي استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) بتلك الصورة المُفجعة، ولا يكون آخرها تسلط بني أمية والعصابة المروانية (لعنها الله)، ثم سلسلة السلاطين الذين حكموا العالم الإسلامي إلى هذا اليوم، بل أكثر من ذلك.
فانـزلاق الخواص المؤيدين للحق بدأ بعد وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ببضع سنوات، فالتمييز بين الأصحاب بالعطايا، والهبات، والامتيازات المالية، وغيرها كانت هي اللبنة الأولى لهذا الانحراف إلى أن آل الأمر في عهد الخليفة الثالث إلى حالةٍ صار فيها كبار الصحابة أثرى الأثرياء في زمانهم، وهذا ما أدّى إلى وقوع تلك الأحداث في عهد أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ولولا الفترة الطويلة من حين وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى حين تولّي أمير المؤمنين (عليه السلام) القيادة، لما كانت تواجه عليّاً (عليه السلام) أيّة مشكلة في بناء المجتمع، إلا إنّه جوبه بمجتمع ضاعت فيه القيم و المبادئ في خضمّ حبّ الدنيا، على امتداد خمس وعشرين سنة تقريباً، وهي الفترة الممتدة مابين وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتولي الإمام علي (عليه السلام) الحكم بعد قتل عثمان.
كان أكثر الخواص في عهد علي (عليه السلام) من الذين يعرفون الحق وأهله، ولكنهم كانوا يرجّحون الدنيا على الآخرة، وهو ما أدّى به (عليه السلام) إلى خوض ثلاث معارك، وأنهى فترة حكمه التي استمرت أربع سنوات وتسعة أشهر في هذه المعارك الثلاث، إلى أن استشهد (عليه السلام).
في تلك الأوضاع كان الخواص في حالة إنهيار، ولم يكونوا على استعداد للقيام بأيّ تحرك، ولهذا السبب استلم يزيد (لعنه الله) السلطة من بعد أبيه (لعنه الله)، وكان لزاماً على الإمام الحسين (عليه السلام) أن يثور بوجه هذا الفاسد، فإنّه (عليه السلام) لم يكن له خيار آخر إلّا إرجاع مسيرة الأنبياء إلى طريقها الصحيح، ويركّز لواء الدلالة عليه، ليكون واضحاً بأنّ الأمور إذا بلغت هذا الحدّ فلا بدَّ وأن يكون التحرّك بهذه الطريقة.
وحتّى عندما ثار الإمام الحسين (عليه السلام) لم يأت الكثير من هؤلاء الخواص الذين كانوا موجودين لنصرته!!.
انظر مدى الضرر الناجم عن وجود هؤلاء الخواص المتلهفين على حبّ الدنيا في المجتمع، ويرجّحون دنياهم حتّى على مصير العالم الإسلامي بأجمعه ولقرونٍ مقبلة.
والنتيجة هي أنّ حركة الخواص تجلب في أعقابها حركة العوام، فإذا كان الخواص يتحركون بالاتجاه الصحيح فالعوام معهم، وإن تحرّكوا بخطّ الخذلان والخيانة والباطل فالعوام معهم أيضاً.
فلو تحرّك الخواص بالاتجاه الصحيح في أيّام الإمام الحسن (عليه السلام) لما وقعت حادثة كربلاء، ولانتهى الأمر إلى استلام الإمام الحسين (عليه السلام) زمام الحكم، ولعمّت بركته الكبيرة كلّ التاريخ.
فقد تؤدي حركة ما إلى تبديل وجه التاريخ نحو السمو والرفعة، وقد تقود حركة أخرى مغلوطة وناتجة عن الخوف، والضعف، وحبّ الدنيا، والحرص على الحياة، إلى جعل التاريخ يتمرّغ في مهاوي الضياع.
فالحركة الصحيحة في الوقت والمكان المناسبين هما سبب ذلك التبديل والتغيير التاريخي، فشهداء كربلاء صُرِّعوا جميعهم في يوم واحد، والتوّابون صُرِّعوا في يوم واحد أيضاً، ولكن الأثر الذي تركه التوّابون في التاريخ لا يعدل واحداً من الألف ممّا خلّفه شهداء كربلاء؛ وذلك لأنّهم لم يبادروا إلى الحركة في الوقت المناسب، ولأنّ تشخيصهم وقرارهم جاء متأخّراً.
فلو أنّ الخواص شخّصوا ما ينبغي عمله في الظرف المناسب، وطبّقوا ذلك في الوقت المناسب لتغيّر وجه التاريخ ولما سيق أمثال الإمام الحسين (عليه السلام) إلى ميدانٍ كميدانِ كربلاء.
وأخيراً أقول: التاريخ يعيد نفسه فعلينا أن نعلم أمِن الخواص نحن، أم مِن العوام؟ وإذا كنّا من الخواص، أو نأمل أن نكون منهم، فهل نحن مِن خواص الحق، أم مِن خواص الباطل؟؟.
اللهمَّ إنّا نرغب إليك في دولةٍ كريمة تُعزُّ بها الإسلام وأهله وتُذلُّ بها النفاق وأهله
وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك
وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة
اللهم عجّل لوليّك الفرج
والحمد لله أوّلاً وآخراً
تعليقات الزوار