المناجاة الشعبانيّة في نصِّ الإمام الخامنئي

مناجاةٌ لا نَظير لها

إنَّ المناجاة الشعبانيّة المأثورة - والتي رُوِي أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يداومون عليها - هي أحد الأدعية التي لا يُمكن إيجاد نَظير لمعانيها العرفانيّة، ولسانها البليغ، ولمضامينها العالية جداً، المليئة بالمعارف الرَّفيعة، على الألْسنة الجارية وفي المحاورات العاديّة، بل ليس مُمكناً أصلاً أن تُنشأ بِمِثل تلك الألْسنة.

إنَّ هذه المناجاة، هي النَّموذَج الكامِل مِن تضرُّع أكثر عباد الله الصالحين قُرْباً واصْطِفاءً، بين يدَي معبوده ومَحبوبه، الذّات الرّبوبيّة المقدَّسة. إنّها مِن جهة درسٌ من المعارف، وهي أيضاً أُسوةٌ في كيفيَّة إظهار الحاجة وطلب الإنسان المؤمِن من الله.

إنّ أدعِية شهر رجَبَ المبارَك، وأدعِية شهر شعبان المبارك - على الخصوص - هي مُقدِّمة لِتهيِئَة الإنسان وإعداده - وبما يَتناسب مع ما في قلبه - لِيذهب إلى ضيافة الله.

إنّ المناجاة الشعبانيّة هي من أَرقى المناجَيات، وأَسمى المعارِف الإلهيّة، ومِن أَعظم الأمور التي يَستطيع - مَن كان مِن أهلها - الاستفادة منها، وحَسَب إدْراكه.

إنّ الأدعية التي وَرَد الحثُّ عليها في شهر رمضان المبارك وشهر شعبان، هي دليلنا نحو الهدف.

* أعزّائي! إنّ شهر رمضان على الأبواب، وبعد أيّام قَلائِل سَيَجلس المؤمنون - مَن لهم الجدارة لذلك - على مائدة الضيافة الإلهيّة. والصِّيامُ بِحَدِّ ذاته، والتوجُّه إلى الله تعالى، والأَذكار والأَدعِية التي غالباً ما تَسْتَهْوي الأفئدة وتَجْتذبها في هذا الشهر، جزءٌ من الضِّيافة الإلهيّة. فاغْتَنِموا هذه المائدة بأقصى مداها، وأَعِدُّوا أنفسكم، فَشَهرا رجب وشعبان شهرا تأهُّب قلب الإنسان لِدخول شهر رمضان، ولم يبقَ من شهر شعبان إلَّا أيّام معدودات.

فيا أعزّائي! ويا أبنائي!

أيّها الشباب الأعزّاء!

اغْتَنِموا هذه الأيّام القلائل، سَلُوا الله تعالى، ويَمِّمُوا قلوبَكم النقيّة نحوه وكلِّموه.

وليس مِن لُغة خاصّة للحديث مع الله جلَّ وعلا، غير أنّ أئمَّتنا المعصومين - الذين ارتَقُوا مراتِب القُرْبِ إلى الله واحدةً تلو الأخرى- قد كلّموا الله بِألْسِنَة مُتميّزة وعلَّمونا سبيل التكلُّم مع الله سبحانه، فهذه المناجاة الشعبانيّة والأدعية الواردة في شهرَيْ رجب وشعبان بمضامينها الراقية، وهذه المعارف الرقيقة والنورانيّة والتعابير الرائعة الإعجازيّة، هذه كلّها وسيلة لنا لِغَرض الدعاء.

25 شعبان 1422ﻫ كاشان

حُجُب النُّور، والظَّلام

سألتُ إمامنا العظيم [الخميني] ذات مرّة: أيَّاً من الأدعية تُرجِّح؟ فذكر منها اثنين: أحدهما المناجاة الشعبانيّة، والآخر دعاء كميل. فهذان الدعاءان يحتويان على مضامين راقية.

* إنَّنا نَتعرّض للصَّدَأ والتَّلَف، فقُلوبنا وأرواحنا يَعتريها الصَّدَأ بِشكلٍ مُستمِرٍّ أثناء مواجهتنا لوقائع الحياة اليوميّة، ولا بدَّ مِن وَضْع هذا الصَّدَأ في الحُسبان وتلافيه بالطُّرُق الصحيحة، وإلَّا لَتَعرّض الإنسان لِلفَناء، فلربَّما يكون الإنسان قويّاً شديداً من الناحية الماديّة والظاهريّة، لكنَّه سَيَفْنى معنويّاً إن لم يَضع التعويض عن هذا التَّلف في الحُسبان.

***

هذه الأدعية ليس من شأنها القراءة فقط، أي ليس أن يَملأ الإنسان الأجواء بصوته ويتفوّه بهذه الكلمات فقط. هذه حالة قشريّة ليس لها شأْنٌ يُذكر؛ بل لا بُدّ أن تَتَناغم هذه المفاهيم مع الفؤاد ويَدخُل القلبُ رحابَها.

إنّ الغاية من هذه المفاهيم الراقية والمضامين البهيَّة بألفاظها الرائعة، هي أن تَستقرَّ في فؤاد الإنسان.

«إلهي هب لي كمال الإنقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك».

أي أللَّهمَّ اجعلني دائم الإتصال والإرتباط بك، وأَدخِلني في حريم عزّك وشأنك، وأَنِر بصيرة فؤادي بحيث تَقوى على النَّظر إليك..

«حتّى تَخرق أبصارُ القلوب حُجُبَ النُّور».

فيَقدر بَصَري على اختراق الحُجُب النوارنيّة كافَّة ويَجتازها، حتّى يَصل إليك، لِيَراك ويَدعوك.

إنّ بعض الحُجُب حُجُبٌ ظُلمانيّة. الحُجُب التي نَتكبَّل بها نحن ونَقَع في أَسْرها ونَتشبّث بها - حِجاب الشُّهرة، حِجاب البطن، حِجاب الحَسَد، وحِجاب التمنّيات - إنَّما هي حُجُبٌ ظُلمانيّة وحيوانيّة، بَيْدَ أنّ ثمَّة حُجُباً أخرى تَعترض الذين يَتخلّصون من هذه الحُجُب وهي الحُجُب النُّورانيّة. فانظروا كم هو سامٍ وراقٍ العُبور من هذه الحُجُب بالنسبة للإنسان. إنَّ أيّ شعب يأنس هذه المفاهيم، ويُورِدُ فؤادَه هذه الرِّحاب، ويُركِّزُ مسيرته وِفْق هذا الميزان، سَيَمضي قُدُماً وتَتصاغَر أمام عينيه الجبال.

وخلال برهة تاريخيّة، تبلوَرتْ لدى شبعنا مثل هذه الحالة فولّدت الثورة الإسلاميّة، فلا تَتصوّروا أنّ هذه الثورة كانت مُتوقّعة. كلَّا، فهي لم تَكن كذلك، وكانت على قَدَرٍ من العَظَمة، فلم يَكن مُتصوَّراً أن يستطيع شعب، وبأيدٍ عزلاء، القضاء على نظام متعفّن فاسد، - لكنّه مدعوم بشكل كامل من قِبَل القِوى الدوليّة الظالمة، ويُمارس الحُكم بأقصى الأساليب الإستبداديّة، وليس بمقدور أحد أن يَنبس بِبنْت شفة - ويُبدِّله بما يعتقد ويؤمن به، أي الإسلام، فلم يكن لِيَخطر بِبَال أكثر النَّاس تفاؤلاً إمكانيّة مثل هذا الأمر، بَيْدَ أنّ شعبنا أَنجَز هذه المهمّة.

لقد شَحَنَت المبادئ المعنويّة والأخلاقيّة والقِيَم الكُبرى هذا الشعب بقوّة، فلم يَستطِع معها أيُّ ضغط أو إملاء، أو تهديد أو حادث مُدبَّر، أن يُثنيه في منتصف الطريق ويوقفه؛ لذلك فقد سار الشعب حتّى النهاية.

الدُّعاء، والحقائق العِلميَّة الخاصَّة

* يوجد في الأدعية المُوثَّقة الكثير من المعارِف التي لا يُمكن أن يَجدها الإنسان في مكان آخر، إلَّا في هذه الأدعية.

ومن جُملة هذه الأدعية، أدعية الصحيفة السجاديّة، وإنّ هناك بعض الحقائق العلميّة التي لا يُمكن أن نَعثر عليها أبداً إلَّا في الصحيفة السجاديّة أو في الأدعية المأثورة عن الأئمّة المعصومين (عليهم السلام).

وإنَّ هذه الحقائق العلميّة قد بانَت من خلال الدُّعاء، وكَوْن هذه الحقائق بانَت من خلال الدُّعاء لا يعني أنّ الأئمّة (عليهم السلام) أرادوا إخفاء هذه الحقائق، بلْ إنَّ طبيعة هذه الحقائق هي طبيعة لا يُمكن بيانها إلا بهذه اللُّغة، ولا يُمكن بيانها بلغة أخرى.

إنّ بعض المفاهيم يَتعذَّر بيانُها إلَّا من خلال لُغة الدُّعاء والتَّضرُّع والتَّحدُّث والنَّجوَى مع الباري عزَّ وجلَّ؛ ولهذا فإنَّنا لا نَجِد مثل هذه المعارف والمفاهيم في الروايات أو حتّى في نَهج البلاغة إلَّا قليلاً؛ أمّا في دعاء كُمَيْل، وفي المناجاة الشعبانيّة، وفي دعاء عَرَفة للإمام الحُسين (عليه السلام)، ودعاء الإمام السجَّاد، ودعاء أبي حمزة الثَّمالي، فإنّه يوجد الكثير من هذه المعارف.

لا تَغفَلوا عن الدُّعاء وتَوَجَّهوا إليه، فإنَّ مسؤوليَّتكم كبيرة؛ ولديكم أعداء ومخالفون كثيرون؛ وهذا هو شأن الحكومة الإسلاميّة في كلِّ زمان.

إنّ حكوماتنا الّتي شُكِّلت في بداية الثورة وبالخصوص الفَتيّة منها - مع أنَّها كانت تحمل الشعارات الصريحة والواضحة المُرتبطة بمبادئ الثورة أكثر ممَّا هي عليه اليوم - كان لها مُعارِضون كثيرون في الخارج وفي الداخل، يُثيرون الأجواء، ويُروِّجون الإشاعات، ويُنمِّقون السلبيّات، ويُلفِّقون الأكاذيب، وأحياناً يَقومون بالإخلال بالأمن في ساحة العمل، وفي الأعمال الميدانيّة.

وإنّ مواجهة هذه الأفاعيل يحتاج إلى مِقدار مِن العَزم والتَّصميم القاطِع، والجِديَّة في العمل، وعدم التقاعُس، والتَّمسُّك بمتابعة العمل، وكذلك يَحتاج إلى شيء من التوسُّل والتوجُّه والتضرُّع وطَلَب المَعُونة من الباري تعالى، وإذا ما طَلَبنا المعونة من الله وتَوَكَّلنا عليه، سَيَبْعث في أنفسنا رُوح التحمُّل.

إنَّ من النِّعَم الكبيرة التي يَهَبها الله تعالى هي أن لا يَعتَري الإنسان التعب، ولا تَنْتابه حالات المَلَل.

في بعض الأحيان يكون للإنسان القابليّة على تَحَمُّل التَّعب الجسدي، فلا تَتعب أعضاؤه؛ إلَّا أنَّه يُمكن أن يَطرَأ عليه التَّعب الرُّوحي في حَرَكته.

إنّ هذا التَّعب الرُّوحي يَمنع الإنسان من الوُصول إلى أهدافه. وللحيلولة دون وقوع التَّعب الرُّوحي - الذي يكون أَخطر من التَّعب الجِسمي أحياناً - لا بُدَّ من الاستعانة بالله، والتوكُّل عليه، والاعتماد على المَعُونة الإلهيّة.

اعلموا بأنَّنا لن نكون أعزَّ على الله من الّذين سَبقونا والذين يَأتون مِن بعدنا، ما لم  تكن أعمالنا صالحة وأَكثر تقوى منهم؛ ولو أنَّنا التزَمْنا بالتَّقوى أَكثر، وراقَبْنا أنفسنا أكثر، وقُمنا بأعمالنا ووظائفنا بصورةٍ أفضل، واحتَرَمنا القانون، وبَذَلْنا ما في وسْعِنا من أجل تحقيق أهدافنا، سوف نكون أكثر عزّاً عند الله تعالى. أمّا مع عدم القيام بهذا، فهَيهَات أنْ نحصل على ذلك.

لا بُدَّ أن يكون سَعْيُنا مُنصبّاً على هذا الأمر. احذروا من أن نَقَع في الفخِّ الذي وَقَع فيه غيرُنا.

وأيّ شخص يَقَع في هذا الفخّ، سوف يُبتَلى بما ابتُلي به الآخرون، وسوف تكون عاقِبته كما كانت عواقبهم؛ ولهذا فسوف لا يكون هناك فَرْقاً بيننا وبينهم.

5 شهر رمضان المبارك 1426 هـ طهران

ـــــــــــــــــ

المصدر: المناجاة الشعبانيّة علوم الأدب مع الله للشيخ حسين الكوراني