شهر انعتاق الروح

في الأدعية سواءٌ في أدعيّة الصحيفة السجادية المباركة أو في غيرها من الأدعية المأثورة حول شهر رمضان ذُكرت صفات لهذا الشهر تدعو كل واحدة منها للتأمل والتدبّر[*].‏

فـ(شهر الإسلام) الذي ورد في دعاء الصحيفة السجادية المباركة المراد منه الإسلام الذي ورد في الآية الشريفة ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ (لقمان: 22).‏

فإسلام الوجه لله يعني تسليم القلب والروح والخضوع لإرادة الله وحكمه وشريعته. كذلك هو شهر الطهور. والطهور إما المطهِّر ـ أي ذلك الشهر الذي يوجد فيه العنصر الذي يعطي للإنسان الطهارة ـ وإما أن يكون بصورة المصدر، أي شهر الطهارة من القذارات والملوّثات. ويوصف هذا الشهر المبارك أيضاً بأنه «شهر التمحيص»، والتمحيص يعني التخليص، فالمعدن القيّم كالذهب الممتزج بالمعادن الرخيصة عندما يوضع في الفرن فهو بذلك يمحّص. والمقصود بالتمحيص هنا هو تخليص الذات الإنسانية الطاهرة من الشوائب والقذارات. وهذه خصوصيات ذُكرت بشأن هذا الشهر.‏

فرصة لتنفّس الروح الإنسانية‏

ويبدو للمرء أن لشهر رمضان بالنسبة لأيام وأشهر السنة حكمَ أوقات الصلاة بالنسبة لليل والنهار. فكما أن الشريعة الإلهية المقدسة قد جعلت لنا، نحن المأسورين والمحدودين بعالم المادة، فرصاً هي أوقات الصلاة الخمسة وهي تشبه المنبه، وقد جعلها الله لنا لأجل الاختلاء بالنفس من أجل إيجاد النورانية في القلب وفي النفس، لنتحرّر من أسر المادة للحظة ونتنفس الصعداء قليلاً، ونقبل على المعنويات ولا نبقى مستغرقين في المادة بشكل كامل، يبدو أن لشهر رمضان بالنسبة لأيام السنة مثل هذه الوضعيّة؛ حيث تتنفس فيه الروح الإنسانية والروح الملكوتية للإنسان؛ وهو فرصةٌ تنعتق فيها هذه النفس وبهذه الرياضة الطويلة الممتدة لشهر كامل من العوامل المادية التي تحيط بها فتدرك نجاتها وتتنفّس وتكتشف النورانية.‏

الخطوة الأولى‏

ومن بين الخصوصيات المذكورة أن شهر رمضان شهر التوبة والإنابة. فالتوبة هي الرجوع عن ارتكاب الخطأ وعن التفكير الخاطئ. والإنابة تعني الرجوع إلى الله. فهذه التوبة والإنابة تتضمن بشكل طبيعي معنىً في ذاتها. فعندما نقول إننا تراجعنا عن طريق الخطأ فهذا يعني أننا حدّدنا نقطة الخطأ والطريق الخاطئ؛ فهذا مهمٌّ جداً. فنحن الذين نتحرك غالباً ما نغفل عن أفعالنا وأخطائنا وتقصيرنا؛ ولا نلتفت إلى المشكلات الموجودة في عملنا. لهذا نحتاج إلى الآخرين ليذكروا لنا عيوبنا. ولو فهمنا ذلك بأنفسنا وأصلحنا، فلا يصل الأمر إلى الآخرين، ولن نحتاج إليهم ليقولوه لنا. فما ذُكر حول التوبة والإنابة يحتاج إلى خطوة أولى وهي أن نلتفت إلى عيوب العمل وندرك أين يوجد الإشكال فيه؛ أين يكمن خطؤنا وذنبنا وتقصيرنا. فليبدأ كل واحد من نفسه ليصل فيما بعد إلى الدائرة الجماعية الأوسع. بداية الأمر في أن يحاسب كل واحد نفسه ليرى أين الخطأ؛ فهذه وظيفة الجميع، بدءاً منّا نحن الأشخاص العاديين المبتلين كثيراً بالتقصير والخطأ والمعصية في العمل، ومروراً بالأشخاص البارزين، ووصولاً إلى عباد الله الصالحين، بل حتى إلى أولياء الله، فهم كذلك يحتاجون إلى الاستغفار وإلى التوبة.‏

وبالنتيجة، فإن علينا أن نراقب أنفسنا في شهر رمضان مهما أمكن، ونصلح سلوكياتنا وأفكارنا وأقوالنا وأعمالنا؛ ونفتّش عن الإشكالات الموجودة فيها لنتخلص منها. ومثل هذا الإصلاح يكون عن طريق التقوى. فالله تعالى يقول في آية الصيام الشريفة: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. الصيام لأجل التقوى. لهذا فإن ما نسعى إليه في سبيل شهر رمضان المبارك يكون باتجاه التقوى.‏

موارد التقوى‏

وقد دوّنت في باب التقوى جملةً أذكرها هنا: ففي أغلب الأوقات عندما تُذكر التقوى ينصرف ذهن الإنسان إلى رعاية ظواهر الشرع والمحرمات والواجبات المطروحة أمامنا؛ أن نصلّي، أن نصوم ولا نكذب. ولا شك بأن هذا الأمور مهمّة، لكن للتقوى أبعاداً أخرى غالباً ما نغفل عنها؛ ففي دعاء مكارم الأخلاق توجد فقرةٌ تبيّن هذه الأبعاد: «اللهم صلِّ على محمد وآله وحلّني بحلية الصالحين وألبسني زينة المتقين»(1)، فما هو لباس المتّقين؟ فيأتي الشرح الملفت: «في بسط العدل وكظم الغيظ وإطفاء النائرة» في إخماد الغضب وإطفاء النيران، تلك النيران التي تندلع بين أفراد المجتمع، «وضم أهل الفرقة» أولئك الذين كانوا منكم وانفصلوا عنكم اسعوا إلى أن تستعيدوهم. فهذه من موارد التقوى التي أشير إليها في دعاء مكارم الأخلاق، الذي يجب علينا جميعاً أن نقرأه وندقق في مضامينه الملهمة. «وإصلاح ذات البين»، فبدلاً من إشعال النيران والإذاعة وإلقاء الخلاف والتفرقة نقوم بإصلاح ذات البين بين الإخوة المؤمنين والمسلمين ونوجد الائتلاف.‏

فانظروا: إن هذه كلها تُعدّ من قضايانا المعاصرة، إشاعة العدل وبسطه، فبسط العدل يُعدّ أرفع أنواع التقوى.‏

وكظم الغيظ تجاه الأصدقاء، أما مقابل الأعداء فيجب أن نتحلّى بالغيظ ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ (التوبة: 15). ففي مقابل ذاك العدو الذي ينافي هويتكم ووجودكم يكون الغضب مقدساً ولا إشكال فيه. أما في جمع المؤمنين فلا ينبغي أن يكون هناك غيظٌ وغضب، فاجتناب هذا الغضب الذي يؤدي إلى الانحراف والخطأ في الفكر والعمل يُعد من موارد التقوى.‏

ومن الملفت أن هذا الصيام في هذا الشهر هو عملٌ جماعي لا ينحصر بالفرد. فكلنا صائمون وداخلون في هذا الشهر، وقد جلسنا حول هذه المائدة؛ جميع أفراد المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية. فعلينا أن نعرف قدر هذا الشهر. وتقديره هو أن نكون في الواقع في شهر التوبة والإنابة والتطهير والتمحيص؛ فنتحرك باتجاه هذه الأشياء.‏

ــــــــــــــــ

[*] مقتطف من خطاب للإمام الخامنئي (دام ظله) ألقاه بتاريخ: 18/ 08/ 2010م.‏

[1] الصحيفة السجادية الكاملة، الإمام زين العابدين (عليه السلام)، ص 103.‏