أم الدنيا .. في خطاب الإمام الخامنئي

المتتبع لخطابات وأحاديث قائد الثورة الإسلامية سماحة آية الله العظمى السيد علي الخامنئي حول الصحوة الإسلامية والثورات والتطورات التي تشهدها الدول العربية، يلحظ اهتماما خاصا ومميزا من لدن سماحته بمصر وما تشهده من تطورات، تدفع المراقب إلى أن يتوقف مليا أمام سر هذه العناية الخاصة من قبله بمصر، شعبا وتاريخا وحضارة ورمزا وثورة.

خطابان مهمان ألقاهما الإمام الخامنئي خلال الأشهر القليلة الماضية حول الصحوة الإسلامية والثورات التي تشهدها الدول العربية، احتلت مصر مساحات كبيرة فيهما، الأول يعود إلى يوم الجمعة 4  شباط / فبراير من هذا العام حيث ألقى سماحته خطبة باللغة العربية، فيما يعود الثاني إلى 18 أيلول /سبتمبر أمام المؤتمر الدولي  الأول للصحوة الإسلامية التي استضافته طهران.

الأهمية التي يراها الإمام الخامنئي لمصر تعود لدورها الريادي في المنطقة العربية والإسلامية، وأهمية مصر كأهمية الرأس من الجسد، لذلك نرى سماحته في خطبة صلاة الجمعة التي ألقاها قبل  انتصار الثورة المصرية، يقول: «لقد انحبست الأنفاس في صدور العالم الغربي والعالم الإسلامي –ولكل واحد أسبابه- وهم يترقبون ما سيحدث في مصر الكبرى، مصر نوابغ القرن الأخير، مصر محمد عبده والسيد جمال الدين، مصر سعد زغلول واحمد شوقي، مصر عبد الناصر والشيخ حسن البنا، مصر عام 1967و1973، يترقبون مدى ارتفاع راية همة المصريين. فلو أن هذه الراية انتكست – لا سمح الله – فسيعقب ذلك عصر حالك الظلام، وإن رفرفت على القمم فإنها ستطال عنان السماء».

إن إطلاق أبناء الشعب المصري على مصر تسمية (أم الدنيا) تحببا، فإن هذه التسمية يؤكدها الإمام الخامنئي كحقيقة واقعة، فهي الأم التي يرتبط بمصيرها مصير المنطقة برمتها، لخصائص تنفرد بها دون غيرها، ففي ذات الخطاب يقول سماحته: «إن مصر نموج فريد، لأن مصر في العالم العربي بلد فريد فمصر أول بلد في العالم الإسلامي تعرف على الثقافة الأوروبية، وأول بلد أدرك أخطار هجوم هذه الثقافة وتصدى لها. إنه أول بلد عربي أقام دولة مستقلة بعد الحرب العالمية الثانية، ودافع عن مصالحه الوطنية في تأميم قناة السويس، وأول بلد وقف بكل طاقاته إلى جانب فلسطين وعرف العالم الإسلامي بأنه ملجأ للفلسطينيين».

لم تكن مصر ملجأ للمظلومين فقط بل كانت أيضا مقصدا للعباقرة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، فالعبقرية المصرية هي الوحيدة التي تدرك سر العباقرة فالسيد جمال الدين، وفي هذا الشأن يقول الإمام الخامنئي: «إن السيد جمال الدين لم يكن مصريا لكنه لم ير في غير الشعب المصري المسلم من يفهم همه الكبير. إن الشعب المصري أثبت جدارته في ساحت النضال السياسي والديني، وسجل مواقفه المشرفة على جبهة التاريخ. لم يكن محمد عبده وتلاميذه وبعده زغلول وأتباعه أشخاصا عاديين. كانوا من النوابغ الشجعان والواعين الذين يحق لمصر أن تفخر بهم وبأمثالهم. إن مصر بهذا العمق الثقافي والديني والسياسي قد احتلت بحق مكان الريادة في العالم العربي».

وفي خطاب الجمعة ذاته، أشار الإمام الخامنئي إلى ثلاث نقاط  في غاية الأهمية، الأولى هي رفض سماحته ما يقال عن استنساخ النموذج الإيراني، وتأكيده على خصوصيات كل ثورة عندما أعلن حينها أنه «لا يمكن أن نتوقع أن يحدث في مصر وتونس أو أي بلد آخر ما حدث في الثورة الإسلامية الكبرى بإيران قبل أكثر من ثلاثين عاما، ولكن هناك مشتركات أيضا، وتجارب كل شعب تستطيع أن تكون نافعة للشعوب الأخرى».

النقطة الثانية، أشاد سماحته بالجيش المصري، الجيش الذي يفتخر به كل عربي ومسلم، بتضحياته من أجل فلسطين، وتحذيره من جر هذا الجيش الوطني إلى مواجهة مع الشعب فقال سماحته حينها «الجيش المصري يحمل على صدره وسام المشاركة في حربين على الأقل مع العدو الصهيوني يتعرض اليوم لاختبار تاريخي كبير. العدو يطمع أن يدفع به لقمع الجماهير. لو حدث هذا –لا سمح الله- فإنه يشكل ثغرة لهذا الجيش لا يمكن سدها. إن الذي يرتعد أمام الجيش المصري يجب أن يكون العدو الصهيوني لا الشعب المصري».

أما النقطة الثالثة والأخيرة، فلخصها الإمام الخامنئي بقوله مخاطبا الشعب المصري: «يا أبناء الكنانة، إن الأبواق الإعلامية للعدو سوف ترفع  عقيرتها كما فعلت من قبل بالقول إن إيران تريد أن تتدخل، تريد أن تنشر التشيع في مصر، تريد أن تصدر ولاية الفقيه إلى مصر، وتريد وتريد...هذه أكاذيب ملأت آذاننا خلال ثلاثين عاما، الهدف منها أن يفرقوا بين الشعوب بعضها من مساعدة بعض، ورددها المأجورون ﴿يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربكم ما فعلوه فذرهم وما يفترون﴾.

المتأمل لخطاب الإمام الخامنئي الخاص بمصر وأهلها يخرج بنتيجة مفادها أن جذور هذا الخطاب ضاربة في أعماق الثقافة الإيرانية التي تعتبر صنو الثقافة المصرية .. فعبقرية الشرق، وبشهادة الجميع، هي من صنع المصريين والإيرانيين، ومنذ أن كان الشرق كانت مصر وإيران، ولا قائمة لهذا الشرق إلا بوجود هذين التوأمين، لا نبالغ إن قلنا، إنهما ملتصقان منذ أن ولدا، فإذا ما تراجع دور أي منهما لأسباب قاهرة، انحسر دور الآخر وتقلص، أما إذا تراجع دورهما معا عندها يدخل الشرق برمته في سبات عميق، وما شهدته منطقتنا خلال العقود الماضية خير دليل على ذلك.

رغم أن النظرة العقلية المشبعة بالعاطفة التي ينظر إليها الإمام الخامنئي إلى مصر وأهلها معروفة للجميع، إلا أن سماحته وفي خطابه الأخير أمام المؤتمر الدولي الأول للصحوة الإسلامية اقترب كثيرا من عقل ووجدان أبناء أم الدنيا عندما كشف في هذا الخطاب أنه كان يناجي الشعب المصري ويتساءل عن أسباب تأخر أبناء عباقرة الشرق في الانتفاضة على مال إليه أمر دنياهم, وقال سماحته ما نصه: «الذي أثار في قلوبنا هذا التوقع ما كنا نعرفه عن مصر من تاريخ جهادي وفكري وما أنجبته من شخصيات مجاهدة وفكرية عظيمة، لكننا لم نسمع صوتا واضحا من مصر.كنت مع نفسي أخاطب الشعب المصري بأبيات من شعر أبي فراس الحمداني:

              أراك عصي الدمع شيمتك الصبر                أما للهوى نهي عليك ولا أمر

وحين تدفقت الجماهير المصرية إلى ميدان التحرير والميادين المصرية الأخرى شعرت أن الشعب المصري قد أجابني بلسان الحال:

                بلى أنا مشتاق وعندي لوعة                    ولكن مثلي لا يذاع له سر»

إن أغلب بلدان منطقة الشرق الأوسط محشورة في جغرافيا سياسية ينحصر تأثيرها في نطاق هذه الجغرافيا، إلا بعض الدول، وهي أقل من أصابع اليد الواحدة، من التي احتضنت أول تجمعات بشرية على وجه البسيطة، وفي مقدمة هذه الدول مصر وإيران، فمن الخطأ حشر مصر في نطاق جغرافيتها الحالية، فهي أكبر من هذه الجغرافيا واشمل ، فهذه الحقيقة التاريخية الحية تفرض نفسها مهما طال الزمن وقست الظروف.

إن العالم بأسره صعق من حيوية هذه الحقيقة الخالدة التي ظن، من يجهل عبقرية أبناء مصر، أنها ماتت، بسبب السياسة التي اعتمدت على مدى عقود لحشر أم الدنيا في دنيا الجغرافيا الضيقة، فإذا بهذه الحقيقة تنتفض وتتمرد حتى على منطق الأشياء. إن مصر ليست للمصريين وحدهم، فمصر هبة العبقرية المصرية للعالم، وكما التقت على ضفاف نيلها الخالد عبقرية الأجداد من مختلف أصقاع العالم الإسلامي، حان الوقت كي تلتقي عبقرية أحفاد السيد جمال الدين وأحفاد الشيخ محمد عبده، فلا تدرك العبقرية إلا عبقرية مثلها، وهو بالتحديد ما أدركه الإمام الخامنئي في مصر وأهلها، وهو ذات السر الذي أدركه السيد جمال الدين من قبل في أم الدنيا.