حوار مع سماحة آية الله الشيخ محمد هادي معرفة[1]

 

الحوزة: نشكر سماحتكم لقبول إجراء هذا الحوار معنا، في البداية حبذا لو تبينوا لنا العوامل والعلل التي ساعدت على التأثير العميق للإمام في النجف الأشرف وبروزه العلمي والفقهي فيها بالنظر للمكانة العلمية والفقهية المتميزة التي كانت تتمتع بها النجف ومع وجود أساتذة كبار لدرس الخارج آنذاك:

 

الأستاذ: منذ البداية وحتى قبل أن تبدأ حركة الإمام كنا نسمع أنهم كانوا يطلقون عليه اسم (خوئي قم) في النجف. وبعد أن بدأت حركة الإمام ونهضته خاصة في سنة 1342ﻫ.ش، أيده الكثير من الطلاب والفضلاء حتى أن بعضهم كان يعترض على المدرسين أثناء الدرس، بأنكم لماذا لا تؤيدون حركته ولماذا لا تعترضون، وغيرها. حتى أني قلت للأستاذ في أحد الدروس: إنكم ستدفعون ثمن سكوتكم، وقد تجرأت كثيراً على هذا الأستاذ الذي لا أريد ذكر اسمع لأنه قد توفي الآن. وقد كان البعض متعطشين للقائه والتحدث معه عن قرب، وأخذ عددهم يزداد يوماً بعد يوم آخر، حتى أني أعتقد أن إبعاده إلى النجف كان أحد الألطاف الإلهية الخفية. وقد تحدثت للطلاب أثناء الدرس مراراً حول هذا الموضوع، لماذا؟ لأنه كان من المقرر ظهور حركة عظمية على مستوى العالم، ترتبط بشخصية الإمام خاصة في جانبها الفقهي المتميز، حيث كان يترشح من هذا المقام الفقهي معنى الولاية. وقد بدأت هذه الحركة فعلاً وأيدها الناس والعلماء، وإلاّ لا يمكن أن نتوقع من الناس العاديين موقفاًَ مؤيداً للحركة حتى لو كانوا يتحلون بالشجاعة ويعلمون بماهية الحركة، خاصة أولئك الأفراد الذين يرون لنفسهم مكانة علمية مرموقة؛ لذا ينبغي التعرف على شخصية الإمام وأبعادها من لسان الأشخاص المؤيدين له والذين كانوا يرغبون بمساعدته ونصرته أو كانوا يهدفون أساساً ويتمنون المشاركة في نهضته وحركته؛ لأن المحقق الجامعي أو المحقق الحوزوي يختلف عن عامة الناس؛ في كونه لا يظهر تأييده أمام الشخص ما لم يطمئن منه؛ لذا كان لحضوره في الحوزة دور كبير في جذب العديد من الفضلاء نحوه سواء من العرب والعجم، حتى أني شاهدت الكثير من الشخصيات العلمية العربية كانت تلتقي به أثناء فترة إقامته في النجف وتكن له الكثير من الاحترام والإجلال كمريدين لشخصيته، رغم أنهم كانوا لا يبدون مثل هذا الإجلال حتى لعلمائهم. نعم، لقد ترك حضوره في النجف تأثيراً كبيراً، بحيث جذب إليه العديد من الفضلاء والشخصيات العلمية وأيدوه بشدة وكانوا يتعاملون معه كتلامذة مطيعين لأوامره، رغم ما كانت تتميز به مدينة النجف آنذاك من مكانة علمية مرموقة وأنها تزخر بالعلماء والمحققين الكبار. والسبب في ذلك يعود لما كانت تتميز به شخصيته العظيمة من خصائص وصفات عالية سواء على المستوى العلمي أو على مستوى القيادة والتوجيه بشكل جذب إليه العالم بأسره. وحسب رأيي كانت هذه أبرز صفاته وخصائصه، وأنا عادة ما أدقق كثيراً في خصائص الشخصيات المهمة وأسعى بجد واهتمام إلى فهمها وتحليلها. وقد ذكرت لأصدقائي هذه المكانة العلمية للإمام منذ بداية حضوره في النجف، وبعد أن طلب البعض منه أن يبدأ درسه، اقترح سماحته هل نؤكد في الدرس على القواعد أكثر أم على الروايات ونقل الأقوال؟

 

فأجاب أغلب الحاضرين بضرورة التركيز على القواعد، أي كما فعل الشيخ في كتاب المكاسب؛ لأن سماحته كان قد بدأ درسه بكتاب البيع. ومنذ ذلك الوقت أوجد تحولاً كبيراً في النجف الأشرف، أو على الأقل أحدث تحولاً كبيراً في نفوسنا مما زاد من تعلقنا بشخصيته يوماً بعد آخر وقد كانت مسألة طرح أقوال وآراء العلماء في الفقه تعتبر آنذاك أمراً مقدساً لا يمكن تجاوزه إذا كانت شخصية الفقيه تؤثر في آراء الآخرين، وهذا الأمر أخرج الفقه من صيغته التحقيقية إلى صيغته التقليدية كما كان متعارفاً في الماضي، حتى أن الفقهاء كانوا يقولون:

 

بعد الشيخ، وحتى قبل ابن إدريس، كان الفقه يدرس بصورته التقليدية، لكن هذا العالم العظيم جاء وأخرج الفقه من هذا الإطار وبدأ بمسألة التحقيق، فالكلام هو كلام المرحوم آقا ضياء أو كلام المرحوم النائيني، أو كلام الشيخ حبيب الله الرشتي، أو المرحوم الفشاركي الأصفهاني، أو الميرزا أو الشيخ، وقد أدى نسبة القول إلى قائليه إلى إيجاد نوع من القدسية عليه، بحيث كان الطلاب من أمثالنا لا يتجرؤون على نقض كلام هؤلاء الفقهاء العظام أو مناقشة آرائهم أو التحقيق حولها. وهنا يظهر دور الصفة التي تميز بها الإمام في هذا المجال، إذ تمكن من كسر هذه القدسية وعمد إلى مناقشة آراء العلماء وطرح الإشكالات عليها، وبيّن للمحققين والفقهاء أن احترام العلماء إنما يكمن في مناقشة كلامهم والتحقيق فيه، وإلا لا أحد يهتم بكلام الناس العاديين، مما يتطلب كسر هذه القدسية لكلام العلماء العظام.

 

فلو افترضنا أن شخصاً غير معروف بعلمه ومكانته الفقهية قد طرح رأياً ما، فإن كلامه لا يترك تأثيراً مهماً في أي مكان، مما يعني أننا عندما نناقش كلام العلماء ونشكل عليهم، فإنما هو من باب الاحترام لمكانتهم العلمية فلا ينبغي حينئذٍ إغلاق باب المناقشة والإشكال على كلامهم وآرائهم. وخلاصة القول إن الإمام كان يمتلك الجرأة والشجاعة الكافية التي مكنته من فتح باب مناقشة كلام العلماء، وأن يبين الحق والحقيقية كما هي، فأحيا بذلك باب الاجتهاد الذي يصفه المذهب الشيعي وفقهاء الشيعة بأنه مفتوح دائماً، فاستحق الإمام بهذا العمل كلّ التقدير والاحترام. إن هذه الشهامة التي تميز بها الإمام والتحول الذي أوجده في تلامذته، كانت من أبرز صفاته وخصائصه العلمية.

 

الحوزة: نرجوا من سماحتكم أن تبينوا لنا أهم الخصائص التي تميز بها الإمام في مسألة القيادة.

 

الأستاذ: أما الخصائص التي تميز بها في مسألة قيادة العالم الإسلامي فهي: الصلابة، والقاطعية والتأثير؛ أي تهيئة الأفراد للقبول والموافقة. فالإنسان عندما يختار رأياً معيناً سواء كان رأياً علمياً أو سياسياً أو اجتماعياً، فإنه يكون مسبوقاً عادة بتفكير عميق ودقيق ومناقشة جميع جوانبه وتأثيراته؛ لذا يكون هذا الرأي عنده رأياً قوياً وثابتاً كالجبل الشامخ؛ أي يتميز بالقوة والصلابة، مما يعطي لهذا الشخص القاطعية في رأيه. فهو يفكر حتى في تأثيراته المستقبلية عند طرحه على الناس وكيف سيتعاملون معه، ومن يفكر بهذا الرأي بمثل هذه الدقة ويبحث جميع جوانبه، سيصل إلى القطعية والحتمية في اتخاذه، بحيث لا يتأثر عند التشكيك فيه، ولا يتراجع عنه حتى لو اجتمع على ذلك جميع الناس في العالم. فمثلاً حضرتكم آمنتم أن محمداً (صلى الله عليه وآله) هو نبي الله، وقد اتخذتم هذا الرأي في هذه المسألة، فلن تتراجعوا عن رأيكم حتى لو اجتمع جميع الناس على التشكيك فيه، بل ولا تشكون فيه أبداً، لماذا؟ لأنكم لم تتخذوا هذا الرأي تحت تأثير المجتمع أو لأن والديكم كانوا يفكرون بهذا الشكل، بل اتخذتموه بعد تفكير طويل وتمحيص وتدقيق فيه. لقد كان الإمام هكذا في اتخاذ آرائه في المسائل المختلفة، بحيث لا يتراجع  عنها خطوة واحدة حتى لو اجتمع الثقلين على عكسه، لأنه لم يتخذ هذا الرأي إلاّ بعد تفكير وبحث طويل.

 

الصفة الثالثة التي تميز بها الإمام هي قدرته الفريدة في تربية الإنسان وتهذيبه، أي قدرته على تهيئة الناس وأفراد المجتمع للقبول بكلامه.

 

في سنة 1342 لم أكن في قم، لكن سمعت ممن يقول: عندما كانت تنطلق المظاهرات في قم كان الناس يغلقون محلاتهم وأبواب بيوتهم بوجه الطلاب أثناء هروبهم للاختباء، لكن عندما بدأت هذه النهضة العظيمة ضد الشاه كنت حينئذٍ في قم وشاهدت بعيني كيف كان الناس يفتحون أبواب محلاتهم وأبواب بيوتهم لإخفاء الطلاب الهاربين بعد المظاهرات.

 

وفي الزقاق الذي كنا نسكن فيه رأيت كيف كان الناس يقفون أمام أبواب بيوتهم استعداداً لاستقبال الطلاب الهاربين وإخفائهم داخل البيوت. وقد حدث هذا التحول في فكر الناس خلال 15 عاماً، حتى المنشورات والبيانات التي كان يصدرها الإمام كانت توزع بأيدي الناس فكانوا بمثابة المبلغين لنهضته.

 

إن كلّ مصلح عظيم عندما يريد تطبيق فكره في المجتمع يحتاج إلى تهيئة الظروف اللازمة لذلك، فالمرحوم المدرس كان يمتاز بالصلابة والقاطعية، لكنه كان يفتقد لفن تهيئة الظروف اللازمة لإنجاح الفكرة، أو أن أرضية الظروف آنذاك لم تكن مهيئة ممكنة، أو افتقد الأنصار والمؤيدين الذين يساعدونه في تهيئة تلك الظروف اللازمة، حيث عندما كان يتحدث مع بعض الشخصيات المهمة، لم يعتنوا بكلامه ولا يتفاعلون معه، على عكس الإمام كان لا يهتم بمثل هؤلاء ولا يعدهم من البشر حتى. والخلاصة أن هذه الصفات الثلاث كانت السبب وراء موفقية الإمام على المستوى العالمي.

 

الحوزة: كان الجميع يشعر أن وفاة الإمام ستترك فراغاً عظيماً سواء في قيادة المجتمع والعالم الإسلامي أو في التحولات الفكرية والحوزوية والفقهية، لكن العمل الصحيح يقتضي أن تبذل جميع الشخصيات الفكرية المؤثرة في المجتمع أقصى جهودها في سبيل ملأ هذا الفراغ قدر الإمكان. باعتباركم أحد تلامذة الإمام وممن يعرف أفكاره وأصوله، فحسب رأيكم ما هو نوع الخطوات والمساعي التي ينبغي اتخاذها لملأ هذا الفراغ؟

 

الأستاذ: أود أن أخبركم أنه بعد وفاة الإمام، طرحت مسألة الفراغ العظيم الذي سيتركه هذا الحدث في المجتمع، وهل ينبغي سد هذا الفراغ أو لا؟ الجواب: حتماً يجب سد هذا الفراغ، وإلاّ ستفقد الثورة قدرتها على الاستمرار. وإذا ما أردنا الانتظار حتى يظهر رجل عظيم كالإمام فعلينا الانتظار لعشرات السنين أو لعدة قرون حتى يخرج التاريخ لنا مثل هذه الشخصية، وهو ما يطلقون عليه  بفلتات التاريخ، يعني أن التاريخ يخالف أحياناً حساباته وقواعده ويخرج لنا مثل هذه الشخصيات، كما كانوا يقولون عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنه كان فلتة تاريخية؛ أي أن التاريخ أخطأ في حساباته فأخرج أمير المؤمنين في ذلك الزمان. فهذه الشخصيات كانت من فلتات التاريخ، لكن هل يمكن التقليل من تأثير فقدانهم بنحو معين؟ نعم، من جهة أن الإمام قد رحل عنا حتماً بشخصيته الحقيقية، لكنه من جهة أخرى قد تمكن سواء قبل الثورة أو بعدها من تربية الكثير من الأفراد والشخصيات، وترك بينهم فكراً وبرنامج عمل معين واتضحت لهم أهدافه وما كان يسعى لتحقيقه والآية الشريفة تقول: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، وكلمة شهداء في القرآن تعني المسؤولين وليس القتلى في سبيل الله.

 

وجاء في بعض الروايات أن تفسير ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً﴾ يعني أئمة،  فتفسير هذه الآية بأنها تخاطب حكام المسلمين، وأن الله تعالى يقول للقادة والزعماء والشخصيات المؤثرة في المجتمع: لقد أوليتكم رسالة مهمة وهي قيادة العالم نحو طريق العدل ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ وقد أراد الإمام تنفيذ هذا الأمر الإلهي وإفهامه للعالم أجمع.

 

وهذا هو حال الإسلام ومبادئه وحقيقته، وليس إسلام ما قبل الثورة الإسلامية في إيران الذي كان يطرح في العالم آنذاك بحيث عندما أرادوا طرح نموذج للحكومة الإسلامية، طرحوا الملك فهد والحكومة السعودية. وهذه الحقيقة كانت تظهر في المقالات واللقاءات الصحفية التي تطرح في السعودية باعتبارها نموذجاً للحكومة الإسلامية.

 

وقد أفهمت الثورة الإسلامية العالم كله أن هذه الحكومة ليست نموذجاً للحكومة الإسلامية، والنموذج هو ما نطرحه نحن اليوم وقد قبل العالم به، وفهم أن الإسلام السعودي ليس الإسلام الحقيقي، بل الإسلام المحمدي (صلى الله عليه وآله) هو ما تطرحه اليوم للعالم، ولحسن الحظ قد قبل به الصديق والعدو. لكن هل تمكن الإمام من إيصال هذه الفكرة إلى مؤيديه وأنصاره؟

 

أعتقد أنه تمكن من ذلك، وأوصل الفكرة إلى العلماء والفقهاء والشخصيات المهمة سواء من تلامذته أو من غيرهم، المؤمنين بعقيدته وفكره، وأوضح لهم ماذا كان يريد وما هو هدفه من الثورة.

 

فهل نؤمن حقاً بنهج الإمام وفكره، وهل نرى من واجبنا الشرعي الاستمرار على هذا النهج؟ وهل بإمكاننا فعل ذلك أو لا؟

 

حتماً يمكننا ذلك، لأن الإمام قد هيأ لنا طيلة هذه العشر سنوات جميع الإمكانات اللازمة لذلك، حتى أنه عمد إلى تحصين هذه الثورة من الأخطار المحتملة. ومن العجيب أن الإمام كان يشعر بقرب أجله، كما جاء في إحدى الروايات المسلمة عندنا أن المؤمن يشعر بقرب أجله قبل موته، حيث عمد الإمام إلى تطبيق بعض الأمور بسرعة كبيرة في الفترة الأخيرة من حياته، فلماذا فعل ذلك؟ لأن الإمام وحسب «المؤمن ينظر بنور الله» أحس بنهاية رسالته، فعمد إلى تحصين الثورة وهيأ لنا جميع الأمور اللازمة لذلك، فعبّد لنا الطريق ووضعنا في بدايته وقال لنا: سيروا على هذا النهج. إذن، نحن الآن نعرف أهداف الإمام وهي أداء رسالة الله في الأرض، لذا هيأ لنا جميع الإمكانات اللازمة لذلك وحصّن الثورة من التهديدات المحتملة، وبالتالي إذا ما قصرنا في ذلك نكون قد خنّا الأمانة.

 

وإذا ما أردنا التفكير بمصالحنا الشخصية الآن، نكون والله قد خنّا الإسلام وخنّا الله والإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف)؛ لكن لحسن الحظ، قد أدرك مسؤولونا هذه الحقيقة وفهموها جيداً؛ لذا أنا مطمئن تماماً أن المصالح الشخصية لن تطرح بعد الآن؛ لأن إخوان الصفا المؤمنون بنهج الإمام والذين هم من أتباعه الآن، قد أحسوا بهذا النهج وسيستمرون عليه إنشاء الله .

 

الحوزة: لقد تحدثتم في قسم من جواب السؤال الأول عن المباني الفقهية للإمام، لكن مع ذلك نود أن تبينوا لنا بشكل أكثر انسجاماً ووضوحاً مكانة الإمام العلمية ومقامه الفقهي.

 

الأستاذ: كما قلت لقد كنا منذ البداية نعتبر الإمام محققاً متبحراً، لكن بعد اقترابنا أكثر منه اتضحت لنا الأبعاد الأخرى لشخصيته. وعندما بدأ درس الإمام كان مزدحماً في البداية لكثرة الطلاب الذين جاءوا لتأييده، بعد ذلك لم يعودوا للدرس، وبعد ذلك أصبح العدد قليلاً حتى اقتصر على الطلاب الأكفاء المؤهلين لفهم ودرك مطالب البحث منهم، الفضلاء: السيد رضواني والسيد قديري والسيد خاتم والسيد راستي والسيد كريمي وغيرهم، وكان عددهم كثيراً أيضاً، وقد تفاءلت بالقرآن الكريم في مسألة حضور درسه فكان إيجابياً وقاطعاً جداً إذ ظهرت الآية الشريفة: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ﴾ وكان ذلك عجيباً حتى أني أخبرت أصدقائي بذلك فتعجبوا كثيراً لهذه المصادفة.

 

لقد أحدث الإمام قفزة نوعية في الفقه، إذ كان الفقه آنذاك يسير وفق إطار ونسق معين ومعطوف على الماضي، فالسابقون فعلوا ذلك ونحن أيضاً نفعل مثلهم، وهذا ما نطلق عليه الفقه النسقي. فجاء الإمام ونسخ هذا النوع من الفقه، فأحدث بذلك قفزة نوعية في الفقه. وحتى لو اختلفت تعابيرهم حول هذا الأمر فهم يقصدون ما عبّرنا عنه.

 

لقد كان الإمام صاحب اختيارات تامة في الفقه سواء في الأصول أو الفروع. فمثلاً حديث لا ضرر ولا ضرار يعد من الأحاديث المهمة التي أسهب الفقهاء في بحثها ويعتبر أحد القواعد المهمة للاستنباط في الكثير من الفروع الفقهية. وقد تمسك الشيخ في المكاسب وبقية العلماء بهذا الحديث لإثبات خيار الغبن.

 

فبدليل «البيعان بالخيار ما لم يفترقا فإذا افترقا وجب البيع» يصبح البيع لازماً، والآن لو اتضح أن هذا الشخص كان مغبوناً، فإن قلنا أن هذا البيع لازم ولا يحق له الفسخ شمله حديث (لا ضرر ولا ضرار)، وعلى هذا الأساس تمسك الفقهاء به لإثبات خيار الغبن، والآن أسألكم هل هذا الحكم بالخيار هو حكم أولي أو ثانوي؟ إنه حكم أولي، فإثبات الخيار في المعاملة الغبنية يعد من الأحكام الأولية، لكن الإمام قال: حديث لا ضرر من الأحكام السلطانية التي تعد جزءاً من الأحكام الثانوية كالتقية.

 

يقول الشيخ في المكاسب: إذا ما تزاحم أحد الأحكام الأولية مع النظم والنظام يكون محكوماً، ونص عبارته كانت بالشكل التالي: «حفظ النظم والنظام من الأحكام الثانوية الحاكمة ومن الأحكام المطلقة الحاكمة وعلى جميع الأحكام الأولية».

 

فكل حكم يتزاحم مع مسألة النظام يكون محكوماً والنظام هو الحاكم، وهذا ما يقول به الشيخ وجميع المحققين الآخرين، لكن الإمام يقول أن حديث لا ضرر ولا ضرار يرتبط بالأحكام السلطانية فماذا تعني الأحكام السلطانية؟

 

يعني أن السلطان وولي الأمر لو نقض حكماً أولياً حسب ما تقتضيه مصلحة الدين، إذن تكون قاعدة لا ضرر وسيلة لنقض الأحكام الأولية وليس حكماً أولياً ثابتاً.

 

مثلا: «الناس مسلطون على أموالهم» هو أحد الأحكام الأولية، فمثلاً صاحب النخلة كان حسب الحكم الأولي له الحق في الوصول إلى نخلته وملكه، لكن ما هو الدليل الذي استند عليه الرسول (صلى الله عليه وآله) في نقضه لهذا الحكم؟ الدليل هو حديث لا ضرر. إذن، حديث لا ضرر هو حكم ثانوي حاكم على الدليل الأولي. فالفقهاء تمسكوا بهذا الحديث لإثبات خيار الغبن وهو من الأحكام الأولية، رغم أن الحديث يعد دليلاً على تطبيق الأحكام السلطانية في الموارد التي تحتاج إلى نقض الأحكام الأولية؛ لذا استفاد الإمام من الشرط الضمني لإثبات ذلك. والخلاصة، ما كنت أريد قوله هو أن الإمام كان يطرح مثل هذه المباحث العلمية الدقيقة في الفقه مما أحدث قفزة نوعية في دراسة الفقه آنذاك.

 

الحوزة: سماحتكم بالإضافة إلى حضوركم درس الإمام في مبحث ولاية الفقيه، قمتم أيضاً بترجمة هذا الكتاب القيم، لذا نرجوا منكم أن تبينوا لنا خصائص هذا البحث؟

 

الأستاذ: لقد حضرت درس الإمام في بحث ولاية الفقيه منذ بدايته، وكان الشيخ حسن كروبي يجلب لي الشريط الصوتي للدرس فأقوم بترجمته، كما ترجمت أغلب دروسه في الحكومة الإسلامية. ولهذا أدركت مطالب هذه المسألة جيداً لأني حضرت الدرس وقمت بترجمته أيضاً، وكنت مولعاً بهذا الدرس، حيث كنت أجلس ليلاً وأدون الدرس، وفي اليوم التالي كنت أعرض على الإمام ما كتبته، وأهمش أحياناً بعض الإشكالات التي ترد في ذهني على الدرس.

 

حتى إني في إحدى الليالي كنت أكتب الدرس، فسمعت مكبرة الصوت، فامتعضت كثيراً وقلت في نفسي: ما هذه الأخلاق السيئة لماذا تفتح مكبرة الصوت ليلاً؟ فإذا به كان صوت الأذان؛ أي إني كنت لا أشعر بمرور الوقت لشدة تعلقي بالدرس. والولاية التي طبقها الإمام هي نفس ولاية الفقيه التي عبّر عنها صاحب الجواهر بأن منكرها «لم يذق من طعم الفقه شيئاً»، إذن، بعد هذه العبارة كيف يقول الشيخ عنها: «دون إثباته خرط القتاد»؟ الحل واضح بالنسبة لنا، فالشيخ لا يريد إنكار ولاية الفقيه، وإنما أراد القول أن الروايات التي أوردها المرحوم النراقي لا يمكن الاستناد عليها لإثبات ولاية الفقيه أي «دون إثباته من هذه الروايات خرط القتاد»؛ لذا يكون من الظلم  للشيخ وللفقه أن ينسب أحد له القول بإنكاره ولاية الفقيه.

 

 أما ما فعله الإمام في هذه المسألة وكما قال الشيخ جوادي آملي في كلامه أخيراَ، أنه عمد إلى مزج العلاقة بين الفقيه والناس بمسألة ولاية الفقيه. فالفقيه لا ينظر إليه كمتخصص في الفقه بحيث يرجع إليه الناس في الموارد التي يحتاجون إليه فيها، وليس كالطبيب الذي يرجع إليه الناس عند المرض، وهم بالخيار في الرجوع إليه أو لا، أي لا يوجد إلزام في ضرورة الأخذ برأيه ويمكن للشخص تحمل المسؤولية في وقوع الضرر عند عدم مراجعته. لقد رفع الإمام من مستوى النظر إلى هذه المسألة، وقال: إن الفقاهة لا تعني الرجوع إلى المتخصص فقط، بل هي الرجوع إلى المتخصص الذي له الولاية أيضاً. فكان الربط بين مسألة الولاية والفقاهة من الأمور التي أحدث فيها الإمام قفزة نوعية في الفقه.

 

الحوزة: نرجوا من سماحتكم أن تتحدثوا لنا ولقرائنا الكرام عن بعض ذكرياتكم مع الإمام أثناء فترة دراستكم وحضور درسه؟

 

الأستاذ: سأخبركم ببعض الذكريات التي أثرت في تكوين شخصيتي. لقد كان من عادة الإمام أن يجلس في غرفة الاستقبال في منـزله بعد صلاة المغرب والعشاء، فكان بإمكان أي شخص الوصول إليه والتحدث معه. بعد ذلك يذهب الإمام لحرم أمير المؤمنين (عليه السلام) ويبقى هناك إلى 3 ساعات بعد الغروب، وكان دقيقاً في أوقاته بحيث لو أراد أحد تنظيم ساعته، فإنه إذا ما رأى الإمام في شارع الرسول قرب منـزله متجهاً نحو الحرم المطهر لعلم أن الساعة الآن هي الثالثة، وعندما يخرج من الحرم يعلم أن الساعة 5.30، فكان هذا التنظيم وهذه الدقة في البرنامج اليومي أمراً تربوياً بالنسبة لنا.

 

وعندما كان الفضلاء العرب أو العجم يأتون لزيارته كان يسمح لهم بالبحث والمناقشة عنده، حتى أن البعض كان يقول أنه لم يكن لديه مثل هذا البرنامج في قم؛ مما يعني أنه بدأ هذا البرنامج في النجف الأشرف، بأن يسمح للحضور البحث والنقاش في الجلسة العامة. وكان أحياناً يشترك في البحث بشكل جدي ويسمح للآخرين من أمثالي في مناقشته، وكان يسكت إذا ما تحدث الآخرون ويستمع إليهم، ثم يشترك بالبحث ليس لإقناعنا بكلامه أو الخروج من البحث مثلاً، بل كان يناقش الموضوع بشكل جدي. فكان ذلك من الأساليب التي ابتكرها في النجف وكانت مثار فخر واعتزاز بالنسبة لنا. وفي أحد الأيام مثلاً كنا نجلس حوله، إذ زاره عدد من الإيرانيين وجلبوا معهم حقوقاًَ شرعية من سهم الإمام وكان مبلغاً كبيراً آنذاك، وأرادوا إعطاءه المال في تلك الجلسة، وقالوا له: نريد أن نبني في منطقتنا مسجداً أو أنهم كانوا يبنون مسجداً، فهل تسمح لنا باستثمار قسم من هذا المبلغ في بناء المسجد، فرفض الإمام ذلك بشدة وحزم، وقال: أبداً، لا أسمح بذلك، حتى إنهم كانوا يتوسلون إليه الموافقة، لكنه رفض ذلك، رغم أن الإنسان في مثل هذا الظرف كان ليقبل ذلك خاصة عندما يتعلق الأمر بإعطاء المال، ثم قال: إن من شؤون المسلمين بناء مسجد لهم في منطقتهم.

 

إذن، كان الإمام يعتقد أن بناء المسجد يدخل ضمن شؤون حياة المسلمين، فمثلاً التربة التي تريد الصلاة عليها؛ ألا يفترض عليك شراؤها؟ فأنت الذي تريد الصلاة عليها لهذا يجب عليك شراؤها. فإذا ما كان المسلمون في منطقة معينة يحتاجون مسجداً، فلا يمكن إعطاؤهم مالاً من سهم الإمام لبناء هذا المسجد، وكيف أعطيكم من سهم الإمام لصرفه في إحدى شؤونكم الإسلامية والحياتية؛ وأخيراً رفض الإمام إعطاءهم المال. عندها قال: نعم لو كان الساكنون في المنطقة من مذهب آخر كالبهائية، فبناء المسجد فيها يدخل حينئذ ضمن التبليغ للمذهب والدعوة للدين، وبالتالي تختلف المسألة هنا وتصبح كأفعال الإمام الحجة. فكانت مثل هذه المواقف والمواضيع تتضمن صيغة تعليمية وتربوية بالنسبة لنا.

 

الذكرى الأخرى ترتبط بزيارة كربلاء، حيث كنت في أحد الأيام في حرم الإمام الحسين (عليه السلام) بمدينة كربلاء، عندما حضر الإمام للزيارة، وكانت لكربلاء سبع زيارات خاصة في السنة وللنجف ثلاث زيارات خاصة. فكان الإمام ملتزماً بهذه الزيارات السبعة إضافة إلى زيارة ليالي الجمعة وأحياناً لم يكن يتمكن من أداء الزيارة في ليالي الجمعة.

 

وكان الإمام أثناء الزيارة يجلس داخل الحرم مثل عامة الناس وينشغل بالصلاة والدعاء، أما بقية العلماء فلم يكونوا كذلك وإنما يكتفون بزيارة الحرم لعشر دقائق أو ربع ساعة كحد أقصى يصلون فيها ركعتين ويقرأون ما يحفظون من الدعاء ثم ينصرفوا، لكن الإمام كان يجلس مثل عامة الناس ويقرأ الدعاء في مفاتيح الجنان. وقد رأيته ذات مرة جالساً أمام رأس الإمام الحسين وهو مشغول بالصلاة وكان المتعارف عند أهالي مدينة بغداد توزيع الحلوى أو التمر على الزائرين، وكان الإمام جالساً وأنا بقربه وكان برفقتي ولدي أيضاً وكان صغيراً جداً آنذاك، فعندما قام أحد الزائرين بتوزيع الحلوى أخذ الإمام شيئاً منها ثم أعطاه بلطف شديد إلى ولدي لأن ذلك الشخص لم يقدم له منها؛ وهذا يدل على مدى دقته واهتمامه بمثل هذه الأمور. وأتذكر أيضاً أن بعض الإيرانيين كانوا قد قدموا للزيارة آنذاك، فقدّم أحدهم تربة للإمام وطلب منه الصلاة عليها للبركة، فلبى الإمام طلبه بكل تواضع واحترام وصلى عليها ركعتين ثم أعطاها للزائر الإيراني، فأعجبني هذا الموقف جداً، لأنه يبين عقيدة الناس بشخصية الإمام وقدسيته، وكذلك يبين اعتقاده بمثل هذه المسائل، فالناس يتصورون أنه شخصية جهادية وبالتالي قد لا يؤمن بمثل هذه الأشياء وربما يعتبرها من الخرافات، لكن بعد هذا الموقف اتضح أنه يهتم بالروايات التي تحدثت حول هذه المواضيع ويعمل بها.

 

فالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) عندما كان يتوضأ لا يسقط من ماء وضوءه شيئاً على الأرض؛ لأن الصحابة كانوا يضعون أيديهم لالتقاط الماء والاستفادة منه للبركة، وقد أقرّ الرسول هذا العمل ونجد مثل هذه الأمور في تراجم الأئمة وسيرتهم، إذ كانوا يعطون بعض ملابسهم للناس للتبرك بها. كما ينقل التاريخ لنا أن شخصاً جاء للنبي (صلى الله عليه وآله) وطلب منه أن يعطيه البساط الذي كان يصلي عليه لكي يتبرك به. فمثل هذه الأمور كانت موجودة سابقاً ولا تعد من الخرافات، وقد أقرّها الإمام (قدّس سرّه) ووافق على طلب الزائر بتواضع ولطف. وقد سررت جداً عند مشاهدتي هذا الموقف من الإمام.

 

الذكرى الأخرى: نقل لي أحد الأصدقاء أنه قام بتعريف الإمام لبعض الأفراد أثناء زيارتهم لمرقد العباس (عليه السلام)، فاستدعاني الإمام وهمس في أذني قائلاً: ما الداعي لذلك؟ إنما أقول ذلك لمصلحتك. فقلت: يا للمصادفة لقد وقعت مثل هذه الحادثة معي أيضاً، إذ عندما طلب مني الشيخ حسن كروبي أن أبدأ بترجمة كتاب ولاية الفقيه، قال لي إن الإمام أخبرني أنه لا ينبغي أن يعرف أحد بهذا الموضوع، وهذا إنما هو لمصلحتك لأننا لا نخشى أحداً. وخلاصة الكلام أن مثل هذا الاهتمام عندما يصدر من شخصية عظيمة يكون موضع فخر واعتزاز؛ لأن مثل هذه الشخصيات العظيمة التي تسعى لتحقيق أهداف عظيمة عادة ما تغفل عن مثل الأشياء الصغيرة، لكن صفة الاهتمام حتى بالأمور الجزئية والمسائل الصغيرة الموجودة عادة عند الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، قد لاحظتها في شخصية الإمام (قدّس سرّه) أيضاً. فرغم أنه كان يفكر بأمور عظيمة لكنه في الوقت ذاته لم يغفل عن الاهتمام بدقائق الأمور والمسائل الجزئية، وهو أمر مهم جداً.

 

الحوزة: نرجوا من سماحتكم أن تحدثونا عن ذكرياتكم حول دور الإمام في تربية التلاميذ.

 

الأستاذ: إن أهم ما كان يميز الإمام في هذا المجال هو سماحه للطلاب بطرح الإشكالات في درسه. فأنتم تعلمون أن الأستاذ في مثل هذه الدروس العامة التي تقام على مستوى علمي واسع جداً ودقيق، يكون قد استعد للدرس وبحث مواضيعه ومطالبه بدقة وبذل جهداً واسعاً ووقتاً طويلاً في تبويب مباحثه؛ يعني أن المسألة التي يطرحها الإمام اليوم على المنبر هي نتيجة تفكير وبحث استغرق عشرين سنة وليست مسألة يوم وليلة من التفكير، لذا عادة مالا يسمح الأستاذ لطلابه بالمناقشة أو حتى الكلام أثناء الدرس؛ لكن الإمام رغم ذلك كان يسمح للطلاب بطرح إشكالاتهم أثناء الدرس.

 

والخلاصة أن السماح للطلاب بالمشاركة في بحث الدرس أمر مهم جداً. حتى أن أحد الأصدقاء قال لي في بداية حضوري درس الخارج، إذا أردت أن تكون فقيهاً متبحراً عليك بطرح الإشكالات والمناقشة في الدرس. فالسماح للطالب بطرح إشكالاته والمناقشة في الدرس يعد نوعاً من بناء شخصيته وتربيته، وهذا أهم ما كان يميز درس الإمام (قدّس سرّه).

 

الحوزة: نرجوا من سماحتكم أن تتحدثوا لنا عن مؤلفات الإمام (قدّس سرّه).

 

الأستاذ: عادة ما يترك المؤلفون والمحققون مؤلفات وكتب كبيرة لكن هذه المؤلفات تنقسم إلى مجموعتين: بعضها يبقى خالداً والبعض الآخر سرعان ما يتعرض للنسيان والإهمال. ويكمن في هذه المسألة سرّ خاص، إذ أن المؤلف عندما يكتب كتابه فكأنه يقدم متاعاً خاصاً للناس، فإذا كان هذا المتاع ثميناً وذا قيمة مهمة، سيقبله المجتمع، لماذا؟ لأنه خضع لقانون العرض والطلب، هذا إذا كان المؤلف أو المحقق قد بذل جهداً كبيراً واستهلك وقتاً طويلاً في تأليف الكتاب وكان مؤمناً بما كتبه. فإذا ما أردنا بحث الموضوع ومناقشته من هذا الجانب نجد أن الإمام قد قدّم للحوزة والمجتمع كتابين خالدين سيبقيان جزءاً من الآثار الخالدة، رغم قيمة وأهمية كتبه الأخرى، وأحد هذين الكتابين هو كتاب البيع الذي كان ثمرة تحريره وكتابته لدرسه في باب البيع، حيث تضمن تحقيقاً وبحثاً واسعاً جداً، وناقش فيه آراء كبار العلماء والفقهاء، وتضمن تحقيقات مهمة واسعة جداً. وهذا ما يجب أن يكون عليه الدرس، فأنتم عندما تقرأون كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري بصورة تحقيقية ستحصلون على نظرة اجتهادية في جميع أبواب الفقه، وهذا ما امتاز به كتاب البيع للإمام وكان بهذا المستوى الرفيع الواسع، مما جعله أحد الكتب الخالدة. الكتاب الآخر الذي سيبقى خالداً أيضاً هو كتاب تحرير الوسيلة، فما كان يميز كتاب الوسيلة للمرحوم السيد أبو الحسن الأصفهاني عن  كتاب العروة الوثقى هو أن العروة الوثقى كان كتاباً درسياً عادة ما يدون الفقهاء العظام حاشية حوله تمثل بياناً لمقامهم العلمي، ثم تطرح هذه الحاشية في دروس الخارج، لكن أغلب مسائلها لم تكن محل ابتلاء أي مجرد مسائل نظرية. أما المرحوم السيد أبو الحسن الأصفهاني فقد جمع في كتابه الوسيلة المسائل محل الابتلاء، لكنه لم يوفق تماماً في هذا الموضوع، فبذل الإمام (قدّس سرّه) جهداً كبيراً في تهذيب هذا الكتاب وتكميل مطالبه؛ أي أنه كتاب تعاون في تدوينه فقيهان متبحران من الدرجة الأولى وبذلوا فيه جهداً عظيماً، الأول المرحوم السيد أبو الحسن الأصفهاني، والثاني الإمام الراحل (قدّس سرّه)، فكان هذا الكتاب ثمرة لجهد هذين العلمين في الفقه، ويمثل دورة فقهية جامعة وكاملة وسيبقى خالداً إنشاء الله.

 

 ـــــــــــــــــــ

 

 [1] سماحة آية الله الشيخ محمد هادي معرفة، ولد في كربلاء المقدسة سنة 1312 ﻫ.ش وبدأ دراسة العلوم الإسلامية عند والده، ثم استمر في دراسته حتى نهاية دروس السطوح وقسماً من دروس خارج الفقه ودورة كاملة في الأصول محضر الأستاذ الشيخ يوسف البيارجمندي الخراساني. ثم انتقل إلى مدينة النجف الأشرف ودرس الفقه والأصول في محضر أساتذتها وفقهائها العظام: آية الله العظمى السيد الحكيم، وآية الله العظمى السيد الخوئي، والشيخ الحسن الحلي، والميرزا باقر الزنجاني، والعلامة الفاني، والإمام الخميني رضوان الله عليهم. ثم انتقل إلى مدينة قم عام: 1351ﻫ.ش ودخل حوزتها العلمية ودرس الأصول لفترة معينة في محضر الأستاذ آية الله الميرزا هاشم الآملي.

 

وقد تصدى سماحته لتدريس السطوح العالية في هذه الحوزات، ويعد أحد أساتذة خارج الفقه والأصول في حوزة قم العلمية.

 

ألف سماحة آية الله معرفة كتباً مهمة، منها: التمهيد في علوم القرآن، حديث لا تعاد، ولاية الفقيه، تحقيق وتعليق شرح تبصرة الحاج آقا ضياء العراقي.