شكلّت حرب تموز أكبر مشروع لاستئصال المقاومة في سياق مخططات لا تنتهي.. هنا بعض الضوء على قصة مقاومة نمت فأغاظت وحوّلت الانتصار وبالنتيجة زوال (إسرائيل) إلى إمكان تاريخي.

 

والصهاينة على أبواب بيروت صيف82 خرج الشاعر اللبناني خليل حاوي إلى شرفة منـزله ومن بندقية صيد أطلق رصاصة على صدغه.. فكان انتحاره بذلك الشكل الدراماتيكي اختزال وتكثيف لما سمي لاحقا بالزمن العربي الرديء، العنوان الذي سيدخل المجال التداولي بعد أن سقطت بيروت؛ غرناطة المقاومة؛ وأخرجت قوات منظمة التحرير الفلسطينية بعد حصار دام ثمانين يوما ليتوزع مقاتلوها في حواضن عربية بعيدة عن هواء فلسطين القادم من الشمال.

 

لكن سقوط بيروت التراجيدي أرّخ لانطلاق سياق جديد من المقاومة، سياق ستتميز فيه مقاومة أحكمت صلاتها باللحظة الثورية الواعدة والمنبثقة من طهران، مقاومة لم تحركها الدوافع الوطنية فقط وهي تتصدى لقوات الاحتلال ودباباته على مشارف بيروت لردّ عدوانه، بل إنها آمنت ومنذ اللحظة الأولى أن (إسرائيل) قابلة للهزيمة وأنّ معادلات شرق أوسطية عديدة سيتم تحويرها وإخضاعها لحقائق ومعطيات الزمن الثوري الإسلامي المنبثق بقوّة من طهران، الزمن الذي كان الإمام الخميني(رحمه الله) يرسي قواعده كمفصل تاريخي ورسالي ويؤسس له ليس كتنظير بارد بل من خلال كل واجهات الاشتباك سواء تلك التي بادرت إليها الثورة أو تلك التي فُرضت عليها.

 

ومن تلك الواجهات التي سعت إليها الثورة مدفوعة بمبدئيتها ومسؤوليتها الثورية، كانت واجهة الصراع مع العدو الصهيوني؛ المصنّف عدّوا رئيسيّا في الرؤية الإستراتجية للثورة الإسلامية، فكان الدعم اللامحدود للمقاومة الإسلامية بقيادة (حزب الله) والتي من جهتها عرفت كيف تبلي بلاءًا حسنا إذ سرعان ما فرضت إلى جانب قوى وطنية وإسلامية لبنانية في تلك المرحلة على المحتل الإسرائيلي الانكفاء إلى ما كان يسمى بمنطقة الشريط الحدودي، وقدمت كلفة ذلك تضحيات كبيرة من شبابها وكادرها.

 

بعد ترسّخ نهجها لبنانيا وعربيا ستدرك المقاومة أن مشروعها نما وأصبح بحاجة إضافة إلى حاضنته الشعبية لمظلة سياسية تحميه، وإلى مشروع دولة متماسكة تتبنى المقاومة وتتموقع في محور المواجهة وتسهم في بناء مجتمع المقاومة.. ومن هنا قرّر حزب المقاومة وبعد مراجعات غير معلنة لتوجهاته السياسية أن يخوض غمار المشاركة السياسية وهو التوجه الذي سيتطور بشكل ملحوظ منذ أن وصل السيد حسن نصر الله إلى الأمانة العامة للحزب.

 

وككل تجربة تمارس وتقف على الأرض تطور حزب الله تنظيميا وإعلاميا واستطاعت مقاومته أن تثبّت معادلات جديدة في الصراع عدّت مكسبا عسكريا وسياسيا كما في تفاهم تموز في إثر عدوان (تصفية الحسابات) في يوليو/تموز 1993 أو كما في معادلة نيسان التي أرساها صمود المقاومة في عدوان (عناقيد الغضب) في ابريل/نيسان 1996، وصولا إلى الانجاز الكبير والتاريخي والمتمثل في دحر العدو عن معظم مناطق الجنوب اللبناني، فيما اعتبر أول انتصار نوعي تحققه مقاومة في تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني.

 

لم ترضى بعض الأطراف العربية بهذا الانجاز، ليس لأن بعض عوائده الإستراتجية صبّ في الحسابين الإيراني والسوري، بل وأيضا بسبب الإحراج والتعرية الذي أوقعهما انتصار المقاومة في مسار التسوية الذي سلك فيها من سلك من منطلق أنّ السلام يمثّل خيارا عربيا استراتجيا بل وواقعيا إزاء عدوّ لا يُقهر ولا يُهزم.

 

كان الانتصار عظيما لكن المقاومة لم تستقو به على الداخل وفرقاء الداخل بل تواضعت، ولم تضع نفسها فوق الدولة فسلّمت من وقع بين يديها من عملاء للدولة التي تلطفت بهم من خلال أحكام هزيلة شجعت كثيرا منهم على معاودة النشاط.

 

ولأن الاحتلال بقي على بعض الأرض، كما بقي عديد من الأسرى في سجون العدو فإن المقاومة ظلت وفيّة لعهد الأرض والكرامة؛ استكمالا للتحرير وتحريرا لكل الأسرى، وفي الوقت الذي أدخل سلاح المقاومة إلى دائرة الجدل بتغطية أممية وفرّها القرار1559 كانت المقاومة تعلن التزامها بثابت التحرير الكامل لكل شبر من الأرض ولاستعادة الأسير سمير القنطار الذي استثنته صفقة 2004 الانجاز الرافع لرصيد المقاومة في العالمين العربي والإسلامي، مشدّدة على أنّ التمسك بالسلاح يبرره التهديد الإسرائيلي الدائم للبنان.

 

بعد اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري والانسحاب السوري من لبنان تعمق الشرخ والانقسام السياسي، وحاول الفريق المعادي لخيار المقاومة استثمار الأجواء السياسية التي أعقبت الجريمة؛ محدثة انكشافا أمام اندفاعات دولية وإقليمية وإسرائيلية؛ في مسعى لحشر المقاومة في الزاوية الضيّقة بعد الانسحاب السوري من لبنان، وبدا وكأن هذا الفريق يريد تدفيع الثمن لكل حلفاء سوريا وهو في حمأة مشهد سوريالي قرن بين الثورة والأرز ناسجا على وفق ذلك التضايف بين الثورة والألوان كما في بعض جمهوريات أوربا الشرقية، وهكذا عُـبّئ الشارع على قناعة أن كلّ طرف حليف أو متحالف مع سوريا هو عدوّ للحرية وللسيادة والاستقلال.

 

تمكنت المقاومة وحلفائها من استيعاب زلزال الاغتيال والتكيّف مع تداعياته، وقد استشعرت أن رأسها هو المستهدف من خلاله، ليس بالاتهام ـ في حينه ـ بل بمفاعيله الأمنية وتداعياته السياسية على الوفاق الوطني وعلى الغطاء السياسي الذي حظيت به المقاومة وعلى مجمل التفاهمات التي انتهت إليها قيادة المقاومة مع الرئيس المغتال رفيق الحريري. وبالفعل فقد كان من بين تداعيات جريمة الاغتيال بروز حقائق مرّة على الأرض تمثلت في انتقال جمهور السنّة في تياره الأوسع بقيادة الحريري الابن بعيدا عن خندقه الأصيل والتاريخي؛ بعيدا عن المقاومة.

 

أما السلاح الذي أظهر "حزب الله" عزما وصلابة في التمسك به، دونما إغلاق للباب بوجه الحوار الذي كان يرى الحزب ولا يزال أن قوة الحجة في شرعيته قد ترتفع به إلى نفس مقام الشرعيات الأخرى المتسالم عليها ضمن صيغة يركز عليها الحزب وهي تكامل الجيش والمقاومة ضمن إستراتجية دفاعية، هذا السلاح وبعد فشل الداخل في النيل منه تكفلت به إستراتجية عدوانية فيما عرف بحرب تموز عام2006 وهي الحرب التي تقاطعت في رهاناتها جملة مصالح؛ مصلحة إسرائيلية في القضاء على الحزب وليس على سلاحه فقط، ومصلحة أمريكية وجدت في تصفية المقاومة مدخلا إلى شرق أوسط جديد يطيح بعنوان الممانعة من خارطة المنطقة ويسيّد (إسرائيل) عليها، ومصلحة فريق عربي أراد أن ينتصر لخياره التسووي والواقعي جدّا وأن يتشفّى ؛بمظهر الحكمة المتبصّرة؛ على خلفية مشهد الدمار والراية البيضاء التي منّ بها النفس، وطبعا مصلحة فريق لبناني محلي كان يتأهب للتموضع بلبنان وفق اقتضاءات الخريطة الشرق أوسطية الجديدة..لكن أداء المقاومة وحسن استعدادها للنـزال وإدارتها للحرب بمستوى أداء استراتجي لجيش نظامي حوّلها إلى مدرسة اجترحت أسلوبا جديدا في القتال..وفي المقابل تبدّى الفريق العربي المراهن على انسحاق المقاومة كزمرة خائبة وفاشلة ومرجفة وجبانة أمام مرآة النفس وفي حكم التاريخ، وانتهت إلى انفضاح تاريخي غير قابل للرتق.

 

ضاقت (إسرائيل) طعم الهزيمة وزلزل بنيانها القائم على دعامة الردع وكسب الجولات الحاسمة فيما يشبه عربدة الكابوي الأمريكي، واضطرت كونداليزا رايس وفريقها من المحافظين الجدد على بلع خارطتهم الموعودة للمنطقة.

 

ومرة أخرى تواضعت المقاومة صانعة أكبر انتصار في تاريخ الحروب مع العدو الإسرائيلي، ولم ترتد إلى الداخل لتنكل بالذين بدرت منهم الخيانة سافرة منذ الأيام الأولى للحرب والذين هيأوا أنفسهم لمرحلة ما بعد حزب الله، كلّ ذلك حلما وتلطفّا بالسلم الأهلي وتيقنا بأن صكوك الخسارة صارت في جوف حلف الأحزاب بكل تشكيلاته.. جُلّ ما سعت إليه المقاومة هو صيغة تشاركية في الحكم في أفق بناء الدولة القوية والعادلة.

 

ومع الانتصار البيّن ودحر العدوان اتهمت المقاومة بأنها تتصرف في قرار السلم والحرب خدمة لأجندة إيرانية، وأنها تستقوي بسلاحها؛ وهو سلاح مجرّب في حرب الـ33يوما؛ على الداخل اللبناني، بل ونشطت الغرف السوداء في أكثر من عاصمة عربية للنيل من المقاومة والتشويش على صورتها من خلال العنوان المذهبي وتضليل الجمهور العريض الذي دعم المقاومة في حرب تموز واستثارة ذاكرته التاريخية بمحطات من الخلاف المذهبي السني الشيعي.

 

ثم كان 5أيار من عام2008 كعلامة على مؤامرة متعددة الأطراف أريد منها الإطباق على المقاومة بمناوشتها عسكريا وتوظيف عنصر التدويل في تصفيتها، ومن ثم التحرك الممنهج لتشويه صورتها وتسقيطها أخلاقيا في العالمين العربي والإسلامي بتقديمها كمليشيا باغية تعمل على إذلال أهل السنة في لبنان وإخضاعهم. ومع أن المقاومة ومعها قوى المعارضة أجهضت المخطط في شقه الميداني بحسم عسكري سريع وفعّال إلاّ أنّ الشق الإعلامي والسياسي من المخطط؛ وان افتقر إلى زخم النجاح الميداني؛ قد تم تفعيله ولا يزال متواصلا.

 

لكن اغتيال رفيق الحريري الذي توجسّت المقاومة من تفاعلاته وهي واثقة من انّه استثمار استراتيجي لصالح (إسرائيل) وبأدواتها هي، عاد وصُوّب على رأس المقاومة من خلال القرار الظني المرتقب صدوره وذلك بعد أن استثمر ردحا من الزمن على الواجهة السورية كما في الداخل اللبناني.

 

وكما في حرب تموز أجمع حلف العدوان على النيل من المقاومة من خلال محكمة مشبوهة ومسيّسة تتحضر لإصدار قرار ظني يتهم المقاومة في واقعة الاغتيال، أما الحقيقة ومطلب العدالة فهي لا تساوي شيئا في مقابل حسابات سياسية كبرى؛ لا نقول عند الطرف الأمريكي والصهيوني فهذا واضح، بل إن فريقا لبنانيا ومعه محور الردّة العربي صاحب مصلحة في ضرب المقاومة والنيل من صورتها وتخليص الواقع العربي من مقاومته الشريفة ومن كل مفاعيلها سياسيا واستراتجيا وثقافيا وحتى (مذهبيا) مع التنويه إلى أنّ المقاومة لا تشتغل مذهبيا لكنّه منطق التاريخ فالمنتصر تحتذي به الشعوب.

 

وكما انتصرت المقاومة على كل التحديات، وكما كانت دوما صاحبة مفاجآت..فستنتصر على المؤامرة، وأول الإرهاصات كان في مفاجأة السيد نصر الله للمتآمرين في مؤتمره الصحفي بمعطيات وقرائن تضع (إسرائيل) في دائرة الاتهام.

 

هل هي مجرد صدفة أن تجرّع المقاومة العدو الصهيوني غصة الهزيمة السياسية في شهر آب/أغسطس الجاري على غرار هزيمتها العسكرية ذات آب من عام 2006م؟