بسم الله الرحمن الرحيم

 

﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾ النساء /75

 

 بسم الله الرحمن الرحيم

 

فقه المقاومة وفقه الدولة

 

تتزايد الحاجة في الجوامع الإسلامية المعاصرة إلى فقهين لم تكن إليها حاجة من قبل بهذه الصورة الواسعة المتزايدة، وهما (فقه المقاومة) و (فقه الدولة).

 

فقه المقاومة للإجابة على الأسئلة الكثيرة الّتي تتردد في الأوساط الإسلامية من شرعية المقاومة المسلحة ووجوبها العيني أو الكفائي، وأقسام المقاومة، واختلافها في الشرعية والوجوب أو اتخاذها في الحكم الشرعي والدليل الشرعي على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، ومسائل كثيرة أخرى من هذا النوع.

 

والفقه الآخر فقه الدولة وهو فقه واسع يتناول مسائل الحكم، والقضاء وولاية الفقيه، والعقوبات والجزاء، ومسائل العُملة، والمصارف والأمن، والدفاع، والعلاقات الخارجية، وشكل الحكم، والفقه الدستوري، والشورى، والعلاقة بين الشورى والولاية، والانتخابات، ومسائل أخرى كثيرة من هذا القبيل.

 

وتتزايد الحاجة إلى هذين الفقهين لأن عصرنا يشهد تطورات وأحداثاً حركية كثيرة، على شكل المقاومة المسلحة في مواجهة الاحتلال ومواجهة الحكام الظلمة المستبدين بالحكم، وكثير من البلاد الإسلامية تشهد اليوم حالة المقاومة وتصاعدها، أو تشهد ظهور البدايات الأولى للمقاومة، كالعراق وإيران في عهد نظام بهلوي وفلسطين وجنوب لبنان والجزائر وتونس وأفغانستان، والمناطق الإسلامية في شرق آسيا والبلدان الإسلامية في آسيا الوسطى الواقعة تحت الاحتلال الصيني، وليبيا وغيرها من أقاليم العالم الإسلامي الّتي تتعرض للاحتلال الأجنبي.

 

وسوف تطول معاناة المسلمين وعذابهم من ناحية الاحتلال فإنّ الإستراتيجية الأمريكية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي هي مد نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري، بل والثقافي إلى المنطقة الإسلامية.

 

والآلية المفضلة لدى الأمريكان في بسط نفوذهم في المنطقة الإسلامية هي نشر عملائهم في مواقع الحكم والقرار في العالم الإسلامي، الّذين يمثلون إرادتهم في الحكم والإرادة، ويغطون الحضور الأمريكي بغشاء وطني رقيق، لا يخفى ما تحته. وهؤلاء هم الحكماء الّذين تسميهم أمريكا بالحكام المعتدلين في الأنظمة المعتدلة.

 

وبطبيعة الحال هؤلاء الحكام لا يمثلون إرادة شعوبهم، وسبيلهم الوحيد إلى المحافظة على مواقعهم هو الإرهاب والاضطهاد.

 

وهذان تحديان صعبان تواجههما الأمّة الإسلامية في أكثر مناطق العالم الإسلامي اليوم، وهما الاحتلال، والاستبداد والاضطهاد السياسي.

 

وكان مخاض هذه المواجهة المزدوجة للاحتلال من جانب وللاستبداد والاضطهاد السياسي والأمني من جانب آخر تنامي حركة المقاومة الإسلامية على جبهتين: جبهة مقاومة الاحتلال الكافر الأجنبي، وجبهة مقاومة الاستبداد السياسي والاضطهاد الأمني.

 

ومع تنامي حالة الاحتلال والاستبداد السياسي تتنامى حالة المواجهة والمقاومة.. ومع ولادة وتنامي الاستراتيجية الأمريكية الأخيرة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي بدأت استراتيجية أخرى تتكامل وتتقنن وتجتمع وتنتظم خيوطها في العالم الإسلامي في المقاومة المسلحة على جبهتين: الجبهة الخارجية والجبهة الداخلية.

 

واتسعت هذه الحركة اتساعاً واسعاً، وبطبيعة الحال هذه الحركة الإسلامية الواسعة تحتاج إلى تنظير وتقنين فقهي تجري عليه هذه الحركة العالمية الكبيرة.

 

كما شهد عصرنا ولادة الدولة الإسلامية، وكان أوسعها وأوضحها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الّتي تكونت منذ الأيام الأولى لولادتها على الخط الفقهي، وقادها فقيه ثائر مقاوم من ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي تجري إلى اليوم على الخط الفقهي ولم تعدل عنه، ويتولى المواقع الحساسة فيها فقهاء ملتزمين بالأحكام والحدود الشرعية.

 

وهذه الدولة الفتية تتطلب تنظيرات وتقنينات فقهية ربما للمرة الأولى في عصرنا الحاضر.

 

أقسام المقاومة المسلحة:

 

ذكرت قريباً أن عصرنا يشهد تنامي حركتين للمقاومة: المقاومة الداخلية والمقاومة الخارجية.

 

المقاومة الداخلية في مواجهة الأنظمة الفاسدة والظالمة الّتي تمارس تسلطها على أقاليم العالم الإسلامي بالعنف والإرهاب والاضطهاد.

 

والمقاومة الخارجية في مواجهة الاحتلال. وقد شهدنا في القرن الميلادي المنصرم وبدايات القرن الجديد ألواناً ونماذج شتى من الاحتلال، كالاحتلال الانجليزي والإيطالي والصهيوني والبرتغالي والسوفيتي والروسي والأمريكي وغيرها.

 

ولكل من هاتين المقاومتين مبانيها الفقهية الخاصة بها.

 

أما المباني الفقهية للمقاومة الداخلية من الكتاب والسنة فهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأعلى مراتبها التغيير باليد، وهو معنى المقاومة المسلحة، وأدنى مراتبها كراهية الظالم والسخط عليه, وعدم الرضا به، وعدم الركون إليه.

 

وأوسط مراتبها المقاطعة السياسية والإدارية والاقتصادية للنظام الفاسد الظالم والإعلام المضاد له، والتشهير بالظالم وتسقيطة، وتشتيت الناس عن حوله، وعزله اجتماعياً وسياسياً، وهي مرحلة بين المقاومة المسلحة والمقاومة النفسية.

 

وأما المباني الفقهية لمقاومة الاحتلال الكافر من الكتاب والسنة، فهي آية القتال من سورة النساء / 75 والأحاديث الكثيرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) من طرق الفريقين في وجوب الدفاع عن بيضة الإسلام عندما يتعرّض بلاد المسلمين للعدوان الأجنبي، وهي روايات كثيرة في وجوب الدفاع، وإغاثة المسلمين ونصرتهم ومقاومة قوات الكفر من موقع الدفاع عن بلاد المسلمين.

 

ومن مباني هذه المسألة إجماع المسلمين، بلا استثناء في وجوب الدفاع، وإذا كان لبعض الطوائف الإسلامية شبهة أو تشكيك في وجوب أو جواز المقاومة الحاكم المسلم الظالم، فليس هناك في المذاهب الإسلامية مذهب فقهي يُقرّ وجود الاحتلال الكافر في بلاد المسلمين وتحرّم الدفاع بالتأكيد.

 

ومن المباني الفقهية لهذه المسألة حكم العقل القطعي بوجوب الدفاع، وتقبيح العقل للاستسلام للظالم مع القدرة على دفعه.

 

وفي هذه الدراسة سوف نتوفر إن شاء الله على دراسة المباني الفقهية للمقاومة المسلحة في مواجهة ومقارعة الاحتلال الكافر وقواته في بلاد المسلمين.

 

وأما المباني الفقهية لمواجهة الاستبداد السياسي والأنظمة الظالمة الفاسدة في العالم الإسلامي، فقد خصصناه بدراسة فقهية من قبل تحت عنوان (حوار في التسامح والعنف) فلا نعيد الكلام فيه.

 

وإليك الآن إن شاء الله دراسة للمباني الفقهية لمقاومة الاحتلال الكافر لبلاد المسلمين.

 

المباني الفقهية للمقاومة المسلحة:

 

بإمكاننا أن نصنّف الأدلة الفقهية على وجوب المقاومة المسلحة إلى أربعة أصناف:

 

1ـ القرآن الكريم.

 

2ـ السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام وسنة أهل البيت (عليهم السلام)، الّتي هي امتداد لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

 

3ـ الإجماع.

 

4ـ الدليل العقلي.

 

وسوف نستعرض الأدلة الثلاثة الأولى من خلال المناهج الفقهية لعموم المذاهب الإسلامية، أعني: مدرسة أهل البيت ومدرسة الخلفاء.

 

أما الدليل العقلي فالاحتجاج به يختص بمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) لأنّ المدارس الفقهية السنية لا تحتج بالدليل العقلي.

 

كلمات الفقهاء:

 

قبل أن ندخل في تفصيل البحث عن أدلة وجوب الدفاع أو (المقاومة المسلحة) تجاه العدو الّذي يداهم بلاد المسلمين، نستعرض بعض كلمات الفقهاء في حكم الدفاع (المقاومة) وشروطه، ثُمّ نبحث عن أدلة وجوبه من الكتاب والسنة.

 

يقول ابن إدريس في السرائر:

 

اللهم إلاّ أن يدهم المسلمين ـ والعياذ بالله ـ أمر من قبل العدو يخاف منه على بيضة الإسلام ويخشى بواره. وبيضة الإسلام مجتمع الإسلام وأصله أو يخاف على قوم منهم وجب حينئذٍ أيضاً جهادهم ودفاعهم غير أنّه يقصد المجاهد والحال ما وصفناه الدفاع عن نفسه وعن حوزة الإسلام وعن المؤمنين[1].

 

ويقول العلامة الحلي في قواعد الأحكام:

 

يجب الدفاع عن النفس والحريم بما استطاع ولا يجوز الاستسلام. وللإنسان أن يدافع عن المال كما يدافع عن نفسه، ولو قُتل الدافع كان شهيداً[2].

 

ويقول العلامة أيضاً في تذكرة الفقهاء:

 

ومتى قتل المرابط كان شهيداً[3].

 

وقتال المرابط من موقع الدفاع عادة، فيكون من الجهاد الدفاعي.

 

ويقول فخر المحققين ابن العلامة في إيضاح الفوائد:

 

يجب الدفاع عن النفس والحريم بما استطاع، ولا يجوز الاستسلام[4].

 

ويقول الشهيد الأول في الدروس:

 

إلاّ أن يخاف على بيضة الإسلام وهي أصله ومجتمعه من الاصطلام أو يخاف من اصطلام قوم من المسلمين فيجب على من يليهم الدفاع عنهم[5].

 

ويقول المحقق الأردبيلي في (زبدة البيان) في تفسير قوله تعالى: ﴿ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ ﴾:

 

يدخل فيه الدفاع النفسي والذب عن الدين[6].

 

ويقول الشيخ جعفر الكبير في كشف الغطاء:

 

ثُمّ إن هناك أنواعاً أخرى من الحرب، السائغ أو الواجب بحسب الشرع يطلقون عليها اسم (الدفاع)، وهي أقسام ثلاثة:

 

أحدهما: الدفع عن نفسه.

 

ثانيهما: الدفاع عن عرضه أو عن نفس المؤمن أو عرضه فيجب عليه ذلك مع غلبة السلامة.

 

ثالثها: الدفع عن ماله أو مال مؤمن فيستحب الدفاع[7].

 

ويقول الفقيه النجفي في موسوعته الفقهية الكبيرة (جواهر الكلام):

 

(ولو بدأ العدو بالقتال وجب وكان جهاداً واجباً من غير حاجة إلى إذن الإمام عليه السلام)[8].

 

ثُمّ يوضح رحمه الله:

 

إن الشروط الّتي يذكرها الفقهاء في الجهاد من أمر الإمام العادل أو إذنه يختص بالجهاد الابتدائي في الدعوة إلى الإسلام. أما في الجهاد الدفاعي، فلا يلزم شيء من ذلك، ويجب من دون شرط إذن الإمام العادل..

 

ثُمّ يقول رحمه الله: إن الدفاع من أقسام الجهاد، ويدخل في إطلاقات الجهاد، والمقتول فيه شهيد شرعاً، ولا يغسل ولا يكفّن, وإليك نصّ كلامه:

 

يقول رحمه الله: (بل ظاهر غير واحد كون الدفاع عن بيضة الإسلام مع هجوم العدو ولو في زمان الغيبة من الجهاد لإطلاق الأدلة، واختصاص النواهي بالجهاد ابتداءً للدعاء إلى الإسلام من دون إمام عادل، أو منصوبه، بخلاف الفرض الّذي هو من الجهاد من دون اشتراط حضور الإمام ولا منصوبه ولا إذنهما في زمن بسط اليد، والأصل بقاؤه على حاله، واحتمال عدم كونه جهاداًَ حتّى في ذلك الوقت مخالف لإطلاق الأدلة[9].

 

ويقول في موضع آخر:

 

(الجهاد أعم كما يشعر به تقسيمهم إياه إلى الابتدائي وإليه، بل قد تقدم في كتاب الطهارة تصريح جماعة بكون المقتول فيه شهيداً، كالمقتول بين يدي الإمام (عليه السلام) فلا يغسل ولا يكفن[10].

 

ويقول صاحب الجواهر في أقسام الجهاد:

 

والثاني أن يدهم المسلمين عدو من الكفار يخشى منه على البيضة[11]، أو يريد الاستيلاء على بلادهم وأسرهم وسبيهم وأخذ أموالهم، وهذا واجب على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والسليم والمريض، والأعمى والأعرج وغيرهم، إن احتيج إليهم، ولا يتوقف حضوره (عليه السلام) ولا إذنه ولا يختص بمن قصدوه من المسلمين.

 

ويتأكد وجوبه على الأقربين فالأقربين[12].

 

ونتحدث عن الأدلة الأربعة لإثبات وجوب الدفاع شرعا بالتسلسل الآتي:

 

1ـ القرآن الكريم:

 

يقول تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾. النساء / 75.

 

لا خلاف بين المفسرين أن الآية نزلت في تحريض المسلمين الأنصار والمهاجرين للدفاع عن المسلمين المستضعفين في مكة. فقد بقي بعد الهجرة نفر من المسلمين في مكة لم يتمكنوا من الهجرة، فاستضعفتهم قريش وبالغت في إيذائهم واستضعافهم وإذلالهم، فكانوا يدعون الله تعالى أن ينقذهم من هذا الظلم الّذي يجري عليهم بأيدي المشركين من قريش في تلك القرية الظالم أهلها وهي مكة المكرمة.. فحرض الله تعالى المؤمنين على قتال قريش لاستنقاذ هذه الفئة المستضعفة من المسلمين من ظلمهم واستضعافهم وإذلالهم.

 

يقول الزمخشري في الكشاف، في تفسير هذه الآية:

 

والمستضعفون هم الّذين أسلموا بمكة وصدّهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد، وكانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه، فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة، وبقي بعضهم إلى الفتح حتّى جعل الله لهم من لدنه خيراً[13].

 

والآية الكريمة تدعو إلى الجهاد في سبيل الله لإنقاذ أولئك المستضعفين من المسلمين في مكة من أيدي المشركين، فهي دعوة إلى جهاد من نوع الجهاد الدفاعي، الدفاع عن مسلمي مكة المستضعفين بيد المشركين من قريش.

 

فهي إذن تخص الجهاد الدفاعي، وهو ما نسميه اليوم في أدبياتنا الحركية المعاصرة بـ (المقاومة) هذا أوّلاً:

 

وثانياً: الآية الكريمة تحرّض المسلمين على مجاهدة العدو وهو آية الوجوب وإمارته.

 

يقول الرازي في تفسر الآية:

 

﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ﴾ يدل على أن الجهاد واجب، ومعناه أنّه لا عذر لكم في ترك المقاومة[14].

 

ويقول أيضاً في تفسير كلمة ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ﴾ خطاب للمأمورين بالقتال على طريقة الالتفات مبالغة في التحريض عليه، وتأكيداً لوجوبه[15].

 

إذن الآية الكريمة 75 من سورة النساء واضحة الدلالة وظاهرة في وجوب جهاد الكافرين دفاعاً عن المسلمين المستضعفين واستنقاذاً لهم عن ظلم الكفار وإذلالهم وتسلطهم عليهم.

 

وهذا هو ما ذكرناه من الدليل على وجوب المقاومة دفاعاً عن المسلمين، لإنقاذهم من ظلمهم واستضعافهم لهم وإذلالهم.

 

وفي القرآن الكريم آيات أخرى بهذا الصدد نقتصر منها على ما ذكرنا.

 

وننتقل إلى الدليل من السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام.

 

2ـ السنة النبوية الشريفة وسنة أهل البيت (عليهم السلام):

 

وردت روايات كثيرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن طريق الفريقين في وجوب إغاثة المسلمين إذا داهمهم العدو واستغاثوا بالمسلمين لنصرتهم ودفع العدو عنهم، وأن من يتقاعس من المسلمين عن تلبية استغاثة المسلمين وإغاثتهم ونصرتهم ودفع العدو عنهم.

 

ونحن نشير هنا إلى طائفة من هذه النصوص عن طريق الفريقين:

 

روى الكليني في (الكافي) عن علي عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»[16].

 

وفي نوادر الراوندي عن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن آبائه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس في شيء، ومن شهد رجلاً ينادي يا للمسلمين، فلم يجبه فليس من المسلمين»[17].

 

وروى الكليني في الكافي عن محمّد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن سليمان بن سماعة، عن عمه عاصم الكواز، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ««من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين، فلم يجبه فليس بمسلم»[18].

 

وروى الكليني في الكافي في باب الاهتمام بأمور المسلمين والنصيحة لهم عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن محمّد بن القاسم الهاشمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من  لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»[19].

 

وورد في الحديث من طريق أهل السنة، في المعجم الصغير للطبراني، عن الحذيفة بن اليمان، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يصبح ويمسي ناصحاً لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم»[20].

 

وأورده كذلك الطبراني في الأوسط عن حذيفة[21].

 

وأورده السيوطي في جامع الأحاديث (حرف الميم)[22].

 

وأورده ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم.

 

وقال: قد ذكرنا في أول الكتاب عن أبي داود: أنّ هذا الحديث أحد الأحاديث الّتي يدور عليها الفقه.

 

وقال الحافظ أبو نعيم هذا الحديث له شأن عظيم. وذكر محمّد بن أسلم الطوسي: أنّه أحد أرباع الدين[23].

 

وفي مستدرك الصحيحين بتعليق الذهبي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من لم يتق الله فليس من الله في شيء، ومن لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم»[24].

 

ونقتصر من طرق الحديث بهذا المقدار. وهو من الأحاديث المستفيضة لفظاً ومعنى.

 

وسواء أخذنا بما ورد في طريق أهل البيت من التعقيب بما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين، فلم يجبه، فليس بمسلم»، أن بالطرق الأخرى الّتي لم يرد فيها هذا التعقيب.. فإن الحديث واضح في وجوب الاهتمام بما يحل بالمسلمين من النكبات وإغاثتهم ونصرتهم.

 

وروى البرقي في (المحاسن) عن محمّد بن علي، عن أبي فضال، عن محمّد، عن إبراهيم بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «ما من مسلم يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلاّ خذله الله في الدنيا والآخرة»[25].

 

وروى الصدوق في ثواب الأعمال، عن أبيه عن سعد، عن البرقي، عن أبيه عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «ما من مؤمن يعين مؤمناً مظلوماً إلاّ كان أفضل من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام، وما من مؤمن ينصر أخاه وهو يقدر على نصرته إلاّ نصره الله في الدنيا والآخرة.. وما من مؤمن يخذل أخاه، وهو يقدر على نصرته إلاّ خذله الله في الدنيا والآخرة»[26].

 

والرواية صحيحة.

 

وفي قرب الإسناد، عن هارون، عن ابن صدقة، عن الصادق، عن أبيه، قال: «لا يحضرن أحدكم رجلاً يضر به سلطان جائر ظلماً وعدواناً ولا مقتولاً ولا مظلوماًَ إذا لم ينصره، لأن نصرة المؤمن على المؤمن فريضة واجبة، إذا حضره والعافية أوسع ما لم يلزمك الحجة الظاهرة»[27].

 

وفي ثواب الأعمال عن أبي الوليد، عن محمّد بن أبي القاسم، عن هارون مثله[28].

 

وفي قرب الإسناد بهذا الإسناد، أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بسبع: عيادة المرضى، وإتباع الجنائز، وإبرار القسم، وتسميت العاطس، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي[29].

 

وروى الصدوق في الأمالي، عن ابن إدريس، عن أبيه، عن ابن عيسى، عن ابن فضال، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «ما من مسلم يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلاّ خذله الله في الدنيا والآخرة»[30].

 

والرواية صحيحة.

 

وفي (ثواب الأعمال) للصدوق، و (علل الشرائع)، عن ابن الوليد عن الصفار، عن السندي بن محمّد، عن صفوان بن يحيى، عن صفوان بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام): أقعد رجل من الأخيار في قبره فقيل له إنا جالدوك مائة جلدة من عذاب الله، فقال: لا أطيقها، فلم يزالوا به حتّى انتهوا إلى جلدة واحدة. فقالوا ليس منها بد. فقال: فيما تجلدونيها؟ قال: نجلدك لأنك صليت يوماً بغير وضوء، ومررت على ضعيف فلم تنصره. قال: فجلدوه جلدة من عذاب الله عَزّ وجَلّ فامتلأ قبره ناراً[31].

 

والرواية صحيحة.

 

هذه الطائفة من الروايات، وفيها روايات صحاح واضحة وظاهرة في وجوب نصرة المسلمين والإسراع إلى إغاثتهم ونصرتهم ودفع العدوان عنهم.

 

3ـ الدليل العقلي:

 

الدليل العقلي حجة لدى الإمامية (الأصولية) خاصة.. وهو يتألف من مقدمتين (صغرى وكبرى) والنتيجة المترتبة عليهما هو حكم الله في المسألة الّتي يحكم بها العقل.. لا لأنّ العقل مشرع، والشرع يتبع العقل، بل العكس، لأن العقل يكشف عن الحكم الشرعي، فحكم العقل يكون كاشفاً للحكم الشرعي.

 

والمقدمتان الّتي يتألف منهما الدليل العقلي هما كما يلي:

 

1ـ إثبات أن العقل يحكم بحسن الدفاع عن نفس الإنسان وماله وعرضه وحريمه وبلده، ومجتمعه.. وهذا هو حكم العقل العملي، وهو الصغرى في هذا القياس.

 

2ـ إثبات الملازمة بين الحكم والعقل بحسن الدفاع وضرورته وقبح الاستسلام للعدو الّذي يداهم بلده، ويغتصب منه حقوقه وأمواله، ويستذله، ويستضعفه، وبين حكم الشرع بوجوب الدفاع وحرمة الاستسلام للعدو، وهو حكم العقل النظري، وهو الكبرى في هذا القياس.

 

وليس معنى ذلك أنّ هناك عقلين للإنسان، عقلاًَ عملياً وعقلاً نظرياً، وإنما المقصود بالعملي والنظري هنا هو متعلق حكم العقل أمراً عملياً مثل قبح الظلم وحسن العدل، وقبح الاستسلام للعدو مع القدرة على المقاومة واحتمال النصر وحسن الدفاع وضرورته.. وهذه هي أحكام عقلية تتعلق بأمور عملية من الظلم والجور والدفاع والاستسلام.

 

وهناك نحو آخر من الحكم العقلي يتعلق بقضايا نظرية بحتة مثل حكم العقل بالملازمة بين حكمه وحكم الشرع، فهو حكم نظري للعقل.

 

ومن تأليف هاتين المقدمتين (حكم العقل العملي والنظري) ينتج القياس حكماً شرعياً، وهو أن الدفاع واجب شرعاً والاستسلام للعدو مع القدرة على المقاومة واحتمال النصر (احتمالاً معقولاً) حرام شرعاً.

 

وقد استكشف العقل هذا الحكم الشرعي بناءً على قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

 

وإليك نوضح موجز لهذا القياس العقلي وما ينتجه من الحكم الشرعي بوجوب المقاومة وحرمة الاستسلام.

 

أما صغرى القياس وهو حكم العقل بحسن وضرورة دفاع الإنسان عن نفسه، وماله، وعرضه، وحريمه، وبلده، ومجتمعه، وثرواتهم فهو مما لا يشك فيه عاقل، والعقلاء يحمدون ويمدحون من يقابل العدو الغاصب بالمقاومة والدفاع المسلح، ولا يشكون في قبح الاستسلام للعدو، مع القدرة على الدفاع، واحتمال النصر على العدو احتمالاً معقولاً.. بل يمكن أن نقول: إن هذا الحكم العقلي حكم فطري أيضاً، وأن فطرة الإنسان السليمة تأبى الرضوخ والاستسلام مع القدرة على المقاومة، ويجري هذا الحكم الفطري في الحيوانات أيضاً، من خلال الغرائز الحيوانية، وهذا المعنى حكم العقل بحسن المقاومة وضرورتها وقبح الاستسلام للعدو وهذا هو صغرى القياس.

 

وأما كبرى القياس، وهو حكم العقل بالملازمة بين ما يحكم به العقل وحكم الشرع، فهو أيضاً مسألة ضرورية واضحة لا نشك فيها. وليس معنى الملازمة هنا الملازمة بين الاستحسانات والاستهجانات العقلية غير القطعية، بل المقصود بحكم العقل ما يقطع به العقل من الحسن والقبح، وما يحسّنه العقل ويقبحه العقل بالقطع واليقين بالضرورة.

 

وفي مثل هذه الحالة لا يمكن أن يحكم الشرع بخلاف العقل وبما يقبحه العقل تقبيحاً ضرورياً، مثل قبح الظلم، ولا يمكن أن يأمر الشارع بالظلم في الناس، ولا أن ينهى عن العدل. ولا يمكن أن يؤمن المكلف بأن الشارع يحكم بما يقطع العقل بقبحه، وينهى عما يقطع العقل بحسنه وضرورته.

 

وعليه فإن الملازمة تامة بين حكم العقل وحكم والشرع، وهو كبرى القياس.

 

والنتيجة المترتبة على هاتين المقدمتين هذا القياس نتيجة قطعية لا يمكن التشكيك فيها وهي وجوب الدفاع والمقاومة تجاه العدو المداهم، وحرمة الاستسلام للعدو مع احتمال النصر احتمالاً معقولاً والقدرة على المقاومة.

 

ـــــــــــــــــ

 

[1] السرائر: 2/4.

 

[2] قواعد الأحكام: 3/571.

 

[3] تذكرة الفقهاء: 9/453.

 

[4] إيضاح الفوائد: 545.

 

[5] الدروس للشهيد الأول.

 

[6] زبدة البيان للمحقق الأردبيلي، ص144.

 

[7] كشف الغطاء: 382.

 

[8] جواهر الكلام: 21/14.

 

[9] جواهر الكلام: 21/14.

 

[10] جواهر الكلام: 21/16.

 

[11] البيضة: مجتمع المسلمين.

 

[12] جواهر الكلام للفقيه النجفي: 21/18.

 

[13] تفسير الكشاف للزمخشري في تفسير الآية 75 من سورة النساء.

 

[14] تفسير الرازي في تفسير الآية 75 من سورة النساء.

 

[15] المصدر السابق.

 

[16] بحار الأنوار 71/ 337، والنوفلي وإن لم يرد فيه توثيق، ولكن تأكيد الفقهاء والمحدثين بالأخذ بروايات (السكوني) يتضمن السكون إلى روايات النوفلي، لأن نسبة كبيرة جداً من روايات السكوني وردت عن طريق النوفلي.

 

[17] بحار الأنوار: 72/ 21 ، باب 33.

 

[18] بحار الأنوار: 72/ 21 ، باب 33. باب نصر المسلمين.

 

[19] الكافي: 2/235.

 

[20] المعجم الصغير للطبراني: 2/ 131، رقم / 907.

 

[21] المعجم الأوسط 7/270.

 

[22] جامع الأحاديث للسيوطي حرف الميم 21/379، ح/رقم 23770.

 

[23] جامع العلوم والحكم: 77، دار المعرفةـ بيروت.

 

[24] مستدرك الصحيحين بتعليق الذهبي: 4/352 و356.

 

[25] بحار الأنوار: 72/22.

 

[26] بحار الأنوار: 72/21.

 

[27] بحار الأنوار: 72/17 الباب/ 33.

 

[28] بحار الأنوار: 72/17 الباب/ 33.

 

[29] بحار الأنوار: 72/17 الباب/ 33.

 

[30] بحار الأنوار: 72/17 الباب/ 33.

 

[31] بحار الأنوار: 72/17 الباب/ 33.