مع حلول الأول من رجب تختلط المشاعر وتزدحم الأحاسيس والتي اقل ما يقال عنها صادقة, وبعد مرور تسعة سنين, وعام بعد عام يبقى ذكر شهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) طود شامخ وسفر خلود وعنوان تضحية وقائد مسيرة وقائد ثورة وصانع, أوصاف ليست بعيدة عنه لكنها لن تفي حقه فاللسان يعجز والكلمات تخجل والأقلام ترتعش وتتلعثم المعاني فالخطيب المفوه خضب بدمه والفقيه الملتزم والعالم الرباني قد فقد ليثهم الدين ثلمة لا يسدها غيره ولا يعوضها إلا هو.
نستذكر في مثل هذا اليوم ذكرى شهيد المحراب والذي يعد فعلا يوما للشهيد العراقي وهو من أمضى حياته كل حياته في سبيل قضية وحمل هم شعب جاهد وناضل وبذل كل غالي ونفيس لأجل دين وليحيى مذهب, حورب وعذب وسجن وهجر وضايقه الكثير, حاول إسقاطه المدعين وناوئه المتزلفين, وحسده انصاف العلماء, باركه العلماء وسانده الاوفياء وأحبه الفقراء, نعم أحبه الفقراء المحرومين المضطهدين, لم ينس احد لم يقصر يوما بحق احد, إلا بحق نفسه أعطى الجميع ولم يأخذ شيء إلا الذى على جسده الطاهر, ومرضاة الله التي كانت غايته.
الولادة والنشأة
ولد آية الله السيد محمد باقر بن الإمام السيد محسن الحكيم في "20 جمادى الاولى 1358 هـ الموافق لعام 1939م" في مدينة النجف الاشرف وسط العراق.
وعائلة آل الحكيم من العوائل العلمية العربية المعروفة في العراق يرجع نسبها إلى الإمام الحسن المجتبى بن الامام علي "عليهما السلام".
ونشأ في بيت والده المرجع الاعلى للطائفة في زمانه وتلقى علومه العالية في النجف الاشرف على يد اساتذة اكفاء.
وفي سنة 1375 هـ دخل مرحلة السطوح العالية، فدرس عند أخيه الاكبر آية الله السيد يوسف الحكيم، وآية الله السيد محمد حسين الحكيم، وآية الله العظمى الشهيد محمد باقر الصدر "قدس الله ارواحهم".
وبعد مرحلة السطوح حضر البحث الخارج عند آية الله العظمى السيد ابي القاسم الخوئي "قدس سره" وآية الله العظمى السيد الشهيد محمد باقر الصدر "قدس سره" ، ونال سنة 1964م درجة الاجتهاد في الفقه واصوله وعلوم القرآن من آية الله العظمى الشيخ مرتضى آل ياسين "رض".
نشاطه العلمي
مارس التدريس في الحوزة العلمية في مرحلة السطوح العالية، فكان درسه في كفاية الاصول في مسجد الهندي في النجف الاشرف محط طلاب العلم والمعرفة، كما مارس التدريس منذ عام 1964م في كلية اصول الدين في بغداد في مادة علوم القرآن، وفي جامعة الامام الصادق "ع" لقسم الماجستير في علوم القرآن في طهران وفي جامعة المذاهب الإسلامية لعلم الاصول.
كما اشترك مع آية الله الشهيد الصدر "رض" في مراجعة كتابيه (فلسفتنا، واقتصادنا) وقد اشار الامام الشهيد الصدر "رض" الى هذا الموضوع في مقدمة كتاب اقتصادنا فوصفه بـ "العضد المفدى".
وفي ايران وبالرغم من انشغالاته بالتحرك السياسي، فإنه إولى الدراسة الحوزوية اهتماماً يتناسب مع حجم انشغالاته الجهادية، فدرس على مستوى البحث الخارج باب القضاء والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وولاية الفقيه، كما ساهم وبصورة مستمرة في المؤتمرات الفكرية والندوات واللقاءات العلمية والثقافية التي تقام في الجمهورية الاسلامية الايرانية، وتناولت بحوثه: التفسير، والفقه، والتاريخ، والاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، والفكر الاسلامي.
وحتى عودته الى وطنه العراق، كان (رض) يرأس المجلس الاعلى لمجمع التقريب بين المذاهب الاسلامية، وعضو هيئة امناء جماعة المذاهب الاسلامية، كما كان يحتل موقع نائب رئيس المجلس الاعلى للمجمع العالمي لأهل البيت "ع" وعضو ومؤسس لجامعة اهل البيت "ع"، وصدرت له كتب في مجالات مختلفة على الصعيد العلمي والسياسي وعدد كبير من الابحاث والكراسات، واهم كتبه المطبوعة:
1ـ دور اهل البيت "ع" في بناء الجماعة الصالحة "جزءان".
2ـ تفسير سورة الحمد.
3ـ القصص القرآني.
4ـ علوم القرآن.
5ـ الهدف من نزول القرآن.
6ـ الحكم الاسلامي بين النظرية والتطبيق.
7ـ الوحدة الاسلامية من منظور الثقلين.
8ـ المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن وقد طبع في العراق في اوائل السبعينات.
9ـ ثورة الامام الحسين "ع".
10ـ المرجعية الصالحة.
11ـ المجتمع الانساني في القرآن الكريم.
12ـ الامامة في النظرية الاسلامية.
13ـ حوارات 1 و 2.
14ـ حقوق الانسان من وجهة نظر اسلامية.
15ـ النظرية السياسية للشهيد الصدر.
16ـ الصراع الحضاري والقضية الفلسطينية.
17ـ دور الفرد في النظرية الاقتصادية الاسلامية.
وتفسير عدد من سور القرآن المجيد، وغيره من الابحاث العلمية المتنوعة.
نشاطه السياسي
ابدى سماحته (رض) اهتماماً مبكراً بأحوال المسلمين وأوضاعهم، ولذلك فكان من اوائل المؤسسين للحركة الاسلامية في العراق، وقد كرَّسَ جهده ووقته في مرجعية والده الامام الحكيم "رض" فكان يقوم بالنشاطات الاجتماعية ويزور المدن ويلتقي بالجماهير ويمارس دوره في التبليغ والتوعية، وتحمل مسؤولية البعثة الدينية لوالده الامام الحكيم الى الحج ولمدة تسع سنوات حيث كان قد اسس هذه البعثة لأول مرة في تاريخ المرجعية الدينية.
مثّلَ (رض) والده الامام الاكبر الفقيه المرجع السيد محسن الحكيم في عدد من النشاطات الدينية والرسمية، فقد حضر كممثل عن والده في المؤتمر الاسلامي المنعقد بمكة المكرمة سنة 1965م، وكذلك في المؤتمر الاسلامي المنعقد بعمّان بعد نكسة حزيران 1967م.
وأثناء تصاعد المواجهة بين الامام الحكيم "رض" وبين نظام العفالقة في بغداد وخلو الساحة من اغلب المتصدين بسبب السجن والمطاردة لازم السيد الحكيم والده الامام الحكيم وإدارة اعماله، حتى انتقل المرجع الاعلى الى جوار ربّه الكريم في 27 ربيع الآخر سنة 1390هـ "عام 1970".
الاعتقالات
تعرض للاعتقال عدة مرات من قبل نظام العفالقة في بغداد فقد اعتقل اول مرة عام 1972م، ثم اطلق سراحه.
وفي عام 1977 تم اعتقاله مرة ثانية بسبب دوره في انتفاضة صفر، وحكم بالسجن المؤبد من دون تقديمه للمحاكمة، وتم اطلاق سراحه في "عفو عام" في 17 تموز 1978م، لكنه منع من السفر ووضع تحت المراقبة السرّية.
هجرته
هاجر من العراق بعد استشهاد آية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر "رض" في اوائل شهر نيسان عام 1980م، وذلك في تموز من السنة نفسها.
نشاطه في خارج العراق
منذ اول هجرته من العراق سعى سماحته لتصعيد العمل الجهادي الشامل ضد نظام الطاغية صدام وقد قام بخطوات كبيرة في هذا المجال، اسفرت عن تأسيس المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق.
انتخب رئيساً للمجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق منذ عام 1986م الى استشهاده.
كما اهتم بإنشاء المؤسسات ذات الطابع الانساني، فأسس "مؤسسة الشهيد الصدر" والمؤسسات الصحية، ثم المركز الوثائقي لحقوق الانسان في العراق، ومنظمات حقوق الانسان في العراق المنتشرة في ارجاء العالم.
وعلى الصعيد الانساني ايضاً شجّع المؤمنين والمحسنين على تأسيس لجان الاغاثة الانسانية للعراقيين، والتي قدمت خدمات جليلة للعوائل المستضعفة وعوائل الشهداء والمعتقلين في العراق، حيث تقدم هذه المؤسسات سنوياً المبالغ الطائلة رعاية لهم.
وعلى الصعيد الثقافي اسس سماحته مؤسسة دار الحكمة التي تقوم بتخريج طلبة العلوم الدينية وإصدار الكتب والكراسات الثقافية والدورات التأهيلية.
وكذلك اسس مركز دراسات تاريخ العراق الحديث، وهي كلها مؤسسات يقوم سماحته بالإشراف عليها وتوجيهها والإنفاق عليها من اجل خدمة قضايا الاسلام والمسلمين في العراق.
شهادة ثلاثة مراجع
مارس سماحته العمل في ظل ثلاثة من كبار المراجع العظام فمنهم والده الامام الحكيم الذي نال ثقته واعتماده عليه في الكثير من الامور السياسية والاجتماعية والمالية.
كما عمل مع الامام الشهيد الصدر "رض" وكان ملازماً له كتلميذ وصديق، فوصفه الامام الشهيد بـ "العضد المفدى" وغير ذلك من العبارات التي تطفح بها رسائله اليه.
كما عمل مع الامام الخميني "رض" فوصفه بـ "الابن الشجاع للإسلام" تقديراً منه لمواقفه الجهادية وصبره واستقامته تجاه النوائب والمصائب التي نزلت به جراء تصديه لنظام صدام، ومنها اعدام خمسة من اخوته وسبعة من ابناء اخوته وعدد كبير من ابناء اسرته في حقبة الثمانينات من القرن العشرين.
كما كان يحظى حتى اليوم الاخير من حياته الشريفة باحترام وتقدير جميع مراجع الدين العظام المعترف بهم من قبل الحوزات العلمية.
عودته وشهادته
عاد سماحته (رض) الى العراق في 10/5/2003 واستقر في مدينة النجف الاشرف في 12/5/2003 وبعد وصوله بأسابيع قليلة اقام صلاة الجمعة في صحن جده امير المؤمنين الامام علي "ع" ورغم كثرة مشاغله فقد واظب على امامته لها.
وفي يوم الجمعة الاول من رجب 1424هـ استشهد (رض) بانفجار سيارة مفخخة وضعت قرب سيارته بعد خروجه من الصحن الحيدري الشريف بعد اداء صلاة الجمعة. وادى الحادث الاجرامي الى استشهاد وجرح المئات من المصلين وزوار الامام علي "عليه السلام.
تعليقات الزوار