بقلم: السيد عبد الامير علي خان

هذه اثارات في مجال الفقه السياسي الإسلامي، اردنا بها لفت النظر إلى ضرورة ملء الفراغ في هذا المجال من مجالات التفكير الإسلامي المطلوب في هذه المرحلة من مسيرة الامة، التي تكافح فيها لاستعادة سيادتها بسيادة الإسلام في حياتها.

 

مبدأ حكومة وسيادة الدين

 

وهو اول المبادئ السياسية في الإسلام، وأساس نظرية السياسة في الدين الإسلامي، وتعبير آخر عن حاكمية الله سبحانه وتعالى.

 

هذا المبدأ هو الفيصل الفارق، بين المدرسة الإسلامية وبين غيرها من المدارس السياسية في هذا العالم، وهو يعني وجوب اتخاذ الدين أساساً لبناء السياسية للأمة وللمجموعة المسلمة وللفرد المسلم، واساساً لتمهيد تنظيم علاقات المسلمين مع غيرهم من الناس.

 

وهذا المبدأ أقرب للعقيدة منه للفقه، لأنه من ضرورات الدين الاساسية، ومما يرتبط مباشرة بالتوحيد، ومنكره من غير شبهة لا مناص من الحكم عليه بالكفر لانه رادّ على الله ورسوله.

 

ويمكن أن نصور هذا المبدأ على النحو الآتي:

 

1 ـ يجب الإيمان بأن الدين هو اساس بناء حياة الفرد المسلم، والمجموعة المسلمة والامة الإسلامية كلها؛ وعلى أساس هذا الايمان تتفرع مواد وقواعد واحكام السياسة عند المسلم وعند المجتمع، فيتكون الدستور والقوانين والانظمة والمناهج والضوابط والمفاهيم والاعراف السياسية…

 

2 ـ تجب دراسة الإسلام، لأخذ الحكم أو الرأي في كل قضية من قضايا السياسة، كباقي جوانب الحياة بلا استثناء، ضمن وجوب التعلم والفحص عن الاحكام من اجل الالتزام والعمل، للتخلص من الوقوع في المخالفة.

 

3 ـ اذا وجد للإسلام حكم في القضية المدروسة (أو المطروحة) وجب الالتزام به، ولا تجوز المخالفة، وكذلك اذا استدعى الامر الاحتياط.

 

وقد تشكل حول الموضوع دائرة من الاحتياطات الاستحبابية تحرزاً من المخالفة، لأن الاصل في الامور السياسية هو الاحتياط، لانها تتعلق بالآخرين الموجودين والذين سيوجدون في المستقبل بشكل مباشر أو غير مباشر.

 

4 ـ اذا وجد أو اتضح ان الإسلام يسمح للأمة أو لبعض الامة (كالفقهاء وكالممثلين الموكلين من قبل الامة) لأن يضعوا قضايا السياسة الفرعية أو الجوانب التنظيمية والفنية، فيجب الالتزام بالطريقة الشرعية أو المبدئية التي يفرضها الإسلام، أو تفرضها طبيعته، ويجب مراعاة الاحكام السياسية الثابتة ومراعاة احكام الإسلام في كل جوانب الحياة، وروحه، واهدافه التي يريد تحقيقها في هذه الحياة.

 

وهذا هو معنى حكومة الدين على الحياة السياسية؛ أي ان الدين يجب ان يقدَّم ويكون حاكماً على السياسة بأحكامه ومفاهيمه وروحه وأهدافه، وان تكون السياسة في خدمة الحضارة الدينية (أي الحضارة التي يقيمها الدين)، ومن العوامل المساعدة على تطبيقه وارساء سيادته في الحياة…

 

والادلة على هذا المبدأ كثيرة جداً، وشرحها يطول ويستغرق مؤلفاً مستقلاً لا يتسع له المجال، لذا نكتفي بالاشارة والاثارات الآتية:

 

الأدلة من القرآن الكريم على مبدأ الولاية الالهية[1]

 

أ ـ آيات ولاية الله سبحانه، وولاية الرسول (ص)، وولاية اهل البيت (ع):

 

ومن الواضح ان من آيات الولاية ما تكون ارشادية إلى ما تفرضه العقيدة ويدركه العقل بان ولاية الله سبحانه ذاتية لا تحتاج إلى جعل، وانها مطلقة لا يتخلف عنها جانب من الحياة، وان كل ولاية سواها تكون محدودة. وما لم تكن مفروضة من الله سبحانه، أو مشرعة من الدين فإنها باطلة، واذا كانت مفروضة ومشروعة فهي مجعولة من قبل الله سبحانه.

 

ومن آيات الولاية ما يكون تشريعاً وفرضاً للولاية السياسية بالدرجة الاولى، مثل قوله تعالى: {انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا}[2] لأنها نزلت في مورد سياسي أو في ظروف سياسية، ولغرض بيان وجوب طاعة الامام(ع)، وحصر الولاية بولاية الله سبحانه والنبي والامام؛ يعني قطع الولاية على الاسس غير الدينية. وفرض الولاية السياسية بين المسلمين انما يتفرع على هذا المبدأ ولا يقطع بخلاف تصور الولاية السياسية على غير اساس الدين.

 

وآيات حصر العزة لله سبحانه والرسول والمؤمنين[3] تعاضد هذا المبدأ ايضاً لأنها تمنع من الاعتزاز بالكفار وتمنع ان تعطى العزة للكفر؛ والعزة انما تكون في السيادة وفي السياسة. وهناك آيات اخرى كثيرة تتناول العبادة، لكنها بإطلاقها تضمن الجانب السياسي، لأن طاعة الله سبحانه، في أيٍّ من جوانب الحياة عبادة، وقد سمى القرآن الكريم طاعة غير الله سبحانه عبادة لغير الله، واعتبرها شركاً بالله تعالى. ويتضح الجانب السياسي اكثر من الآيات التي تحرم عبادة الجبت والطاغوت[4]، لأن عبادة الطاغوت تعني طاعتهم في امرهم ونهيهم والتحاكم اليهم؛ فالآيات اذن تحرم سيادة كل سياسة غير دينية وتصفها بانها طاغوت، وقد كان المسلمون يعون هذا المعنى، وكان مركوزاً في اذهانهم، ومن الضرورات والقضايا الوجدانية عندهم، وكانوا يطلقون على كل من يحكم على اساس غير ديني أو بدون مشروعية من الدين بأنه طاغوت، وعلى كل من ينحرف عن الإسلام في التطبيق ويحكم بغير قوانينه واحكامه، ويخالف العدالة ويظلم الناس، بأنه طاغوت.

 

وكذلك آيات حصر الحكم لله سبحانه: {إِنِ الحكمُ إلا لله}[5] فان إطلاقها يشمل الجانب السياسي، ويشعر ان السيادة السياسية لدين الله سبحانه، بل ان بعض الآيات ظاهر في السياسة بالدرجة الأولى، كالآيات التي تعبر عن القضاء بـ(الحكم)، والآيات التي تعبر به (أي الحكم) عن التشريع والتقنين، بل ان بعض الآيات، تعبر عن الاوامر الالهية السياسية بلفظ الحكم، كالآيات التي تأمر بالصبر على اذى المشركين حتى يأتي امر الله السياسي بالمباينة والمقاتلة.

 

هذا ولا يمكن تصور التسامح من قبل الإسلام في هذا المجال، لان السماح بجعل السيادة السياسية لغير الدين تعني السماح بنسخ الدين من قبل السيادة السياسية. والتدبر في الفقه الإسلامي يوضح ان الإسلام صمم تشريعاته على اساس افتراض نفوذ سيادته العامة والمطلقة في شؤون الحياة.

 

ب ـ آيات طاعة الله سبحانه، وطاعة النبي (ص) وطاعة الأئمة (ع): فان اطلاق وعموم وجوب الطاعة يفرض سيادة الدين ولا استثناء. ومن الآيات ما يرشد إلى حكم العقل بوجوب طاعة الله سبحانه، ومنها ما يكون بمثابة فرض وتشريع الطاعة السياسية بالدرجة الأولى، لان الآيات نزلت في موارد وظروف واحداث سياسية مثل قوله تعالى: {يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم}[6].

 

التأكيدات الكثيرة على طاعة الرسول (ص) تفرض سيادة الدين بالاطلاق تارة، وبالتنزيل تارة (أي ان بعض الآيات نزلت في موارد سياسية).

 

جـ ـ آيات وجوب الرد إلى الله سبحانه والرسول (ص) واهل البيت (ع) ووجوب اتباعهم:

 

فان آية وجوب الرد إلى الله سبحانه والرسول (ص) وأولي الامر[7] نزلت في موارد سياسية، وهي واضحة في فرضها سيادة الدين وعدم تجاوزه وعدم التسرع في الخوض في الامور، قبل الفحص عن حكمها في الإسلام.

 

ومن الآيات ما تشدد في هذا الجانب، وتحذر المسلمين من ان يسبقوا الدين بقول أو رأي أو فعل حتى على سبيل الاقتراح والمشورة.

 

وآيات وجوب اتباع الرسول (ص) كذلك تفرض سيادة الدين. واتباعه (ص) في حياته يكون مباشراً، وبعد وفاته يكون باتباع سنته.

 

وكان المسلمون يشددون على ضرورة اتباع سنة الرسول (ص) في السياسة، ويحذرون من اماتتها باتباع غيرها.

 

د ـ آيات وجوب اقامة الدين[8] وتطبيق الكتاب ووجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر: فان اقامة الدين تشمل هذا المعنى ايضاً، لأن الدين تناول جميع جوانب الحياة، لأنه لا يقام حتى في الجوانب غير السياسية مع سيادة غيره، ولأن الكثير من جوانب الدين يجب ان تقام من مستوى السلطة التنفيذية وبالسيادة السياسية، ولهجة الاحتجاج على اليهود والنصارى، بوجوب اقامة التوراة والانجيل واضحة في هذا المعنى ايضاً، وكذلك الآيات التي تفسر البر فانها تركز على الجوانب السياسية اكثر، بل ان القرآن الكريم يقرر ان انزال الكتاب مع ارسال الرسل، كان من اجل فرض سيادة الدين بالقوة وبالسلاح، ومن اجل الحكم على الناس وبين الناس.

 

والآيات التي تنص على قيمومة الدين، وانه القيم على الحياة تتضمن سيادة الدين المطلقة.

 

وكذلك الآيات التي تأمر المسلمين بان يقوموا لله بالقسط[9]، وانهم الشهداء على الناس، وانهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

 

وآيات وجوب ظهور الدين الإسلامي، على الدين كله[10] تقرر سيادة الدين السياسية، لأ القرآن يسمي القانون ديناً، بل انه يسمي السلطة الزمنية ديناً، كما عبر عن سلطة ملك مصر (دين الملك).

 

وهكذا الآيات التي تأمر المسلمين بالقتال[11] حتى فرض سلطة الإسلام على الحياة، وان يكون الدين لله؛ أي تكون السيادة للدين الالهي الحق.

 

وآيات تمكين الدين[12] تعني، فيما تعني بالدرجة الاولى التمكين السياسي، ويظهر ذلك اوضح في الآية التي جعلت الإذن الالهي للمسلمين بالقتال مسوغاً بانهم ان مكّنهم الله في الارض اقاموا الدين، ويقابلهم في الطريق المعاكس مَنْ اذا تولّى في الارض سعى فيها الى الإفساد.

 

وآيات الخلافة والاستخلاف تفرض سيادة الدين، لأنها تجعل الانسان خليفة الله في الارض، وبما ان الله سبحانه موجود في كل زمان ومكان، فانها لا تعني الخلافة في حالة الغيبة، وانما تعني الوكالة والنيابة.

 

ومن قصة خلق آدم وحوار الملائكة وقصة خروج آدم من مرحلة الحضانة الى دور التكليف وتسلّم الخلافة، يتضح ان الخلافة تكون بتطبيق الهدى الالهي وهو الدين، وتعضد ذلك آية خلافة داود وآيتا استخلاف المؤمنين(ع).

 

وحتى مبدأ الخلافة، وقصة هبوط آدم (ع)، الى دور التكليف، يتضح ان الاصل في الحياة، ان تكون على اساس الدين، وان الخروج عن الدين كفر وشذوذ عن الاصل.

 

هـ ـ آيات وجوب تطبيق احكام الله سبحانه، واقامة حدوده وعدم تجاوزها، ووجوب الحكم بما انزل الله سبحانه:

 

ان الكثير من الآيات، تأمر بوجوب إقامة الحدود، وتطبيق الدين، وتحذر من مخالفة الدين، ولم تستثنِ جانباً من الدين، بل ان الفقهاء جعلوا عنوان الحدود خاصاً بالأحكام التي تتطلب ان تكون السيادة للدين، ادراكاً منهم أن هذا اللفظ اقرب لهذا المعنى.

 

والآيات التي تشدد النكير على الحكم بغير ما انزل الله سبحانه، وتؤكد وجوب الحكم بما انزل الله، فانها كانت في معرض بيان وجوب القضاء على وفق الدين، وهذا لا يكون الا اذا كانت السيادة للدين.

 

وتتضح خطورة هذا المبدأ، من جعل الحكم بغير ما انزل الله مساوياً للكفر[13]، واعتبار الالتزام بحكم الإسلام هو الايمان الحقيقي، وان الايمان لا يتحقق، الا اذا تحقق الاستسلام للحكم الإسلامي.

 

و ـ الآيات التي تبين الاحكام والأوامر والنواهي التفصيلية:

 

وأقصد بها الآيات التي تدل على كل حكم بمفرده، فانها تبقى فعلية الى يوم القيامة ولا يتعطل منها قسم. وهذا يعني وجوب دراسة القرآن دائماً، ودراسة السنة دائماً، من اجل معرفة الحكم الإسلامي في كل قضية من قضايا الحياة؛ وهذا يعني سيادة الدين.

 

وقد اشتهر عن اهل البيت (ع)، القاعدة الفقهية المعروفة: "ما من واقعة الا والله فيها حكم"، وبهذا المعنى الكثير من الاحاديث الشريفة، وبعض الآيات التي تؤكد ان في الدين تفصيل كل شيء، وكل هذه التفصيلات والاحكام تبقى فعلية، ويجب تطبيقها الى يوم القيامة. فيجب دراسة كل قضية في مصادر التشريع، وبالطرق المعتبرة، لمعرفة حكم الإسلام والاستهداء بهديه، وهذا يعني سيادة الدين.

 

الأدلة من السنة الشريفة

 

أ ـ الاحاديث التي تذكر وجوب الالتزام بالكتاب والسنة واقامة الدين، وتحذر من البدعة واتباع الهوى والعمل بغير علم وغير هدى وبصيرة.

 

ب ـ الاحاديث التي تؤكد شمول الإسلام لكل قضايا الحياة وان فيه تفصيل كل شيء.

 

جـ ـ الاحاديث التي تذكر وتؤكد وجوب الالتزام بالمبادئ الإسلامية السياسية وأحكام الدين السياسية بالتفصيل، ومنها ما يعتبر ان الإسلام هو الالتزام بالمبادئ الإسلامية السياسية، وان تجاوزها على حد الكفر والردة عن الإسلام.

 

د ـ سيرة النبي (ص) واهل بيته (ع) قامت على اساس مبدأ سيادة الدين في كل الحياة، والحياة السياسية بصورة خاصة، ولا يجوز الكفر بهذه السيرة من بعد النبي (ص) ولا في زمن غيبة الامام (ع).

 

دليل اجماع الأمة

 

فان الامة الإسلامية في عهد الرسول (ص) وفي زمن الأئمة (ع) كانت تجمع على هذا المبدأ وتلتزم به بقوة ولم تتهاون فيه حتى في حالات ضعف التدين وضعف الالتزام، الى ان اجتاحت البلاد الإسلامية جيوشُ الاستعمار الكافر وتيارات الحضارة الغربية، التي اوجدها المستعمرون في بلادنا، ووجهوا بموجبها وبالإجراءات العملية الحياة السياسية وجهةً غير إسلامية، فطهرت فكرة فصل الدين عن الدولة، أو الفصل بين الدين والسياسة.

 

دليل الضرورة والملازمة

 

ونقصد به الملازمة بين العقيدة الالهية وبين الالتزام بالإسلام في الحياة اليومية؛ لأن الهداية الالهية لطف من الله سبحانه ويجب الايمان بضرورتها، وانها يجب ان تكون تامة، ولا تكون كذلك الا اذا كانت كاملة وشاملة لجميع مجالات الحياة، وما لم تكن البشرية مرتبطة بالله سبحانه في حياتها كلها وفي مقدمتها الحياة السياسية، لا تكون مهتدية، ولا يكون التقصير من فقدان ولا من نقص الهداية الالهية، وكل ما يفرضه الله سبحانه يجب اتباعه لولاية الله الذاتية المطلقة.

 

هذا والامر المغفول عنه في الوقت الحاضر هو الايمان بالإسلام مبدأً للحياة، فاذا توافر هذا الايمان بشكل واضح وقوي يحصل الدافع للتعلم ودراسة الإسلام، ثم الالتزام والعمل والتطبيق.

 

مبدأ سيادة الولاية بين المسلمين

 

ومعنى ذلك ان المسلمين أمة واحدة من دون الناس، ولهم كيان سياسي لا يشركهم به غيرهم ابداً، وان العلاقة السياسية بينهم علاقة شرعية مجعولة من الله سبحانه، وعليها تقام حياتهم السياسية من جميع الوجوه وفي كل الاحوال.

 

وهذه الولاية تأتي في المرتبة الثالثة من تسلسل مستويات الولاية في الإسلام، حيث تكون ولاية الله في المرتبة الاولى، وتكون هي الاساس الاول والاصلي للولاية في الإسلام، لأنها ذاتية غير مجعولة ومطلقة غير محدودة، وبها جعل الله سبحانه ولاية الرسول (ص) وولاية اهل بيته (ع).

 

وفي الوقت الحاضر (زمن غيبة الامام المعصوم ـ ع ـ) تكون الولاية بين المسلمين هي المبدأ العام الفعلي، الذي ينتظم به المسلمون بكيان سياسي واحد في ظل سيادة الدين والولاء للنبي (ص) على اختلاف اجتهاداتهم ومواقفهم من مبدأ خلافة النبي (ص).

 

ولهذا المبدأ الاساس ابعاد واسعة جداً تغطي كل مساحة السياسة، نذكر منها فيما يأتي نقاطاً رئيسةً على سبيل المثال، ونعرض تصوير خطورة هذا المبدأ العقائدي والفقهي العام:

 

1 ـ ولاء وانتماء المسلم السياسي لا يكون الا على اساس هذه الولاية، فلا يكون المسلم جزءاً من حالة سياسية مع غير المسلمين؛ فلا ولاية بين المسلم وغير المسلم، ولا يجوز للمسلم التبري من كيان المسلمين السياسي، ولا يجوز له التبري من اخيه المسلم على المستوى الفردي، ولا من اخوانه المسلمين على المستوى الاجتماعي، ويلتزم بالعلاقات السياسية التي يقيمها المسلمون كمجموع مع غيرهم، أي ان العلاقة السياسية مع غير المسلمين تكون من قبل مجموعهم، ومن خلال ارتباط المسلم بالمجموع يلتزم بالتزاماتهم.

 

2 ـ هذه الولاية تكون اساساً لمشروعية التشريع والتخطيط والتنظيم لشؤون الحياة في ما لم يكن فيه حكم ثابت (أي منطقة الفراغ) ولا يكون ذلك مشروعاً على اساس آخر غير هذه الولاية، لأن شؤون السياسة لا تنحصر بدائرة القائمين بها، وانما تتعدى ذلك الى دائرة اوسع، حيث تمتد إلى المجتمع الحاضر وإلى الغائبين منه، وإلى الذين سيأتون في زمان لاحق، وإلى القاصرين الذين لا يستطيعون المشاركة في التشريع أو التخطيط أو التنظيم، حتى من مستوى التوكيل والتمثيل والانتخاب، فلا مشروعية للتصرف فيهم وفي شؤونهم وأحوالهم بدون اذن، أو تشريع من الله سبحانه، وقد جعل الله سبحانه المسلمين امة واحدة في كل الازمنة وكل البقاع، بعضهم من بعض، وبعضهم اولى ببعض، ولن يجعل الله ولاية لغيرهم عليهم ولا على بعضهم.

 

3 ـ الأمر والنهي (وهما من متطلبات السياسة)، ولا يصحان الا على اساس هذه الرابطة وهذا الجعل التشريعي من المولى عز اسمُهُ، اذ لا يصح ان يأمر احدٌ غيرهُ بشيءٍ لأن ذلك تصرف بالآخرين، ولكن الله سبحانه سوغ للمسلمين أن يأمر بعضهم بعضاً بالمعروف وبما فيه المصلحة، وأن ينهى بعضهم بعضاً عن المنكر وعمّا فيه مخالفة للصالح العام.

 

4 ـ العقوبات والمكافآت لا تصح الا على اساس هذه الرابطة، لانها تدخلٌ بشؤون الآخرين، أو تصرف بحقوق بعضهم واعطاؤها لبعضهم الآخر.

 

5 ـ فرض اقامة الوحدة السياسية والمحافظة عليها لا يُوجه الا على اساس الولاية الإسلاميه وفرضها من قبل الله تعالى، اذا لا وجه شرعياً لحمل بعض الناس بعضهم الآخر للتوحد والالتزام بكيان واحد على الاسس غير الدينية، وقد جعل الله سبحانه حقاً للمسلمين بان يحمل بعضُهم بعضاً ولو بالقوة والعنف للتوحد والالتزام بالوحدة، بل اوجب عليهم ذلك.

 

6 ـ تمثيل المسلمين تجاه غيرهم، والتعهد عنهم، لا يصح الا على اساس هذه الرابطة.

 

7 ـ وقد جسد الإسلام هذه الرابطة في القوانين المدنية والقضائية بشكل واسع جداً، حيث جعل الاحكام بين المسلم والمسلم تختلف عن الاحكام بين المسلم وغير المسلم.

 

8 ـ العمل السياسي والدعوة الى الافكار والآراء السياسية لا تصح الا على اساس هذه الولاية، لأن ذلك تدخل في شؤون الآخرين ويؤدي الى التأثير على حياتهم، ولكن الله سبحانه جعل المسلمين مسؤولين بعضهم عن بعضهم الآخر وفرض على كل منهم الاهتمام بأمر الآخرين.

 

9 ـ شكل الحكم لا يتجه الا على اساس هذه الولاية، لأن المسلمين بين مسلكين في هذا المجال: مسلك التنصيب الالهي من مستوى تنصيب الامامة، ثم تنصيب الامام للفقيه (على وفق مبدأ ولاية الفقيه) ومسلك الشورى، ومبدأ الرابطة الإسلامية، هو الذي يحكم المسلمين من الطرفين.

 

10 ـ هذا وقد جعل الإسلام الدين اساساً لتقسيم الناس سياسياً، فصنفهم على اساس الدين، دون الاسس الاخرى؛ فجعل المسلمين صنفاً واحداً متميزاً، وجعل غير المسلمين صنفين: صنف اهل الكتاب، وصنف المشركين؛ وجعلهم جميعاً (من حيث العلاقة بالمسلمين) صنفين: معاهدين، ومحاربين؛ وجعل مجالاً للمعاهدة مع أهل الكتاب أوسع بكثير مما جعله لها مع المشركين، حيث جعل مجالاً لأن يكون اهل الكتاب في ذمة المسلمين، وضمن مجتمعهم ودولتهم الى زمن غير محدود، ما لم ينقضوا هم عهد الذمة وشروطها.

 

11 ـ وعلى اساس الرابطة الإسلامية اعطى الإسلامُ المسلمَ دوراً كبيراً في الحياة السياسية، ولم يسمح لغير المسلم بأي دور في حياة الامة السياسية.

 

والادلة على هذه الولاية كثيرة جداً من الكتاب والسنة، وقام عليها الاجماع، نشير الى بعضها اشارة عابرة بقصد التنبيه والاثارة على البحث والدراسة.

 

الأدلة من الكتاب على الولاية بين المسلمين

 

أ ـ الكثير من الآيات تخاطب المسلمين خطاباً جماعياً، وتوجه اليهم مسؤوليات جماعية وتعتبرهم وحدة واحدة.

 

ب ـ الآيات التي تمنع منعاً قاطعاً ولاية سياسية بين المسلم والكفار دون المسلمين، وهي آيات كثيرة وفيها دلالة مباشرة على حرمة اتخاذ المسلم الكفار اولياء[14]، ودلالة بالمفهوم على الولاية بين المسلم واخوانه المسلمين.

 

جـ ـ الآيات التي تنص على أن المسلمين بعضهم من بعض، وان بعضهم اولى ببعض وانهم اخوة.

 

د ـ الآيات التي تنص على أن الله سبحانه وليُّ المسلمين وان كانوا طوائف، وانهم يجب ان يعتصموا به، فانها تقرر ان اساسَ الولاية الايمانُ والانتماء الى ولاية الله سبحانه، ودينه الذي ارتضاه وتنفي اية ولاية غير ولايته[15].

 

هـ ـ الآيات التي تأمر المسلمين بالبراءة من الكفار باعتبارهم اعداءً أو الاصل فيهم انهم اعداء الله، ولا يجوز الخروج عن الاصل إلا بدليل خاص يستثني بعض الحالات، ولم يكن في هذا المجال غير احكام الذمة واحكام المهادنة والجوار، والاحكام الاضطرارية (التقية).

 

و ـ الآيات التي تذكر بعض ابعاد الولاية بين المسلمين، كمبدأ الوحدة الإسلامية، وحرمة التفرق، ومبدأ الشورى، ومبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

ز ـ آيتا وجوب الصلح بين المسلمين[16]، تقرران مبدأ الاخوة الإسلامية.

 

حـ ـ الآيات التي تبين الاحكام الشرعية المترتبة على الولاية والاخوة الإسلامية، مثل حرمة دم المسلم وماله وعرضه ووجوب النصرة، واحكام المواريث والديات والحدود، والتكافل والتضامن، والولاية على السفهاء والقصّر… وغير ذلك من ابواب الفقه التي تنعكس عليها هذه الولاية المهمة.

 

ط ـ الآيات التي توجب الدفاع عن المسلمين، وعن اوطانهم وديارهم وأمنهم، ووجوب انقاذهم… بما في ذلك الآيات التي تبين سنة الله سبحانه في اتباع الانبياء السابقين، والآيات التي توبخ بني اسرائيل على تفريطهم بهذه الولاية، وأبعادها واحكامها.

 

الادلة من السنة

 

وهي كثيرة جداً نشير الى بعضها اشارة اجمالية:

 

أ ـ سيرة النبي (ص) وسيرة اهل بيته (ع) قامت على اساس اعتبار المسلمين امة واحدة، وان الولاية الإسلامية هي التي يجب ان تسود في الحياة السياسية، وان لا ولاية بين المسلم والكافر، وان المسلمين يتميزون بكيان مستقل عن غيرهم (امة من دون الناس، ويد على من سواهم، وانهم اخوة، وان دعوتهم واحدة، وان دعوتهم محيطة من ورائهم، وان سلمهم واحد، وان حربهم واحد…الخ).

 

ب ـ مؤاخاة النبي (ص) بين المسلمين في مكة وفي المدينة ولعدة مرات، وبأشكال متعددة، وكتابة الكتاب بينهم، انما كانت من اجل تطبيق مبدأ الولاية بين المسلمين.

 

جـ ـ تأكيدات النبي (ص) المتكررة والكثفة على مبدأ الولاية بين المسلمين، والرابطة والاخوّة الإسلامية، والاحكام المترتبة عليها، ووصفه نقضها بانه كفر وردّة عن الإسلام، ووصاياه المتكررة لهم بالالتزام بها بعد وفاته، حتى آخر لحظات حياته الشريفة المباركة.

 

د ـ الاحاديث التي تبين الاحكام الفقهية والقضائية التي تترتب على هذه الولاية، مثل احكام الطهارة والارث والديات والقصاص والشهادة، واحكام القضاء بين الناس والحدود، واحكام الحرب والسلم، وحقوق المسلمين فيما بينهم…

 

هـ ـ سيرة الأُمة المتشرعة التي بُنِيَت على اساس ما بناه النبي (ص).

 

دليل الاجماع

 

وقد قام الاجماع بين الأمة ككل، وبين الفقهاء جميعاً من زمن النبي (ص) والى اكثر من ثلاثة عشر قرناً على هذا المبدأ الاساس، ولم تنحرف الامة عن مبدأ سيادة الرابطة الإسلامية وقدسيتها الا بعد ان احتلت جيوش الكفر بلاد المسلمين وقوضت الكيان السياسي للمسلمين، واقامت كيانات سياسية على اسس اخرى، ووجهتها بمبادئ وضوابط واحكام متباينة ومتناقضة، وقسمت بلاد المسلمين الى مقاطعات ودويلات، على اسس غير إسلامية، بعد ان وضعت على خارطة العالم الإسلامي خطوطاً حمراء، جعلتها حدوداً بين تلكم الدويلات، وأعطتها من سطوة الاستعمار وبريق حضارته شرعية زائفة، واضفت عليها قدسية مزخرفة وهمية، فاحترمها بعض ابناء الامة مبهورين أو مقهورين أو منحرفين انتهازيين، ورضوا لأنفسهم ادوار عمالة وتبعية للعدو الكافر… فأصبح الجو السياسي مشحوناً بأعراف ومثُل وقيم مزيفة ومزخرفة، توجهت بموجبها اجهزة التربية والتعليم والاعلام والبحث والتأليف والنشر، فسرعان ما تربى عليها المسلمون وتطبّعوا، فأصبحوا وكأنهم لم يمروا بواقع سياسي قائم على اساس الرابطة الإسلامية، واصبح الحديث فيه اقرب الى الحديث النظري والفلسفي، واصبحت مشكلة الأمة اليوم فقدان وعي قدسية الولاية الإسلامية، وضعف الدافع الإسلامي في السياسة والعمل السياسي، وفي البناء السياسي. واصبح الدافع الديني في السياسة عند اهل الاديان الباطلة الخاوية اقوى واكثر حيوية من الدافع الديني عند المسلمين، واصبح حكام المسلمين زبانية لحماية مقولة إبعاد الدين عن السياسة، واقصاء اعتبار الرابطة الإسلامية في شؤون السياسة، ولم يلتفتوا الى مدى رعب الاستعمار من كلمة (دين) في السياسة في بلادنا، وبين المسلمين اينما حلّوا، مع انه لا يعيب هذه الكلمة في الاوساط المسيحية واليهودية، وحتى اوساط المشركين اينما حلوا، حتى المتوحشة منها.

 

والاجماع في تلك القرون المتطاولة حجة على المسلمين بخلاف الغلفة التي يمرون فيها الآن، فإنها شذوذ وانحراف ولا قيمة شرعية لها، فلا ينبغي ان تؤثر على التفكير والبحث والدراسة والوعي.

 

_________________

 

[1]  آيات ولاية الله ورسوله(ص) واهل البيت كثيرة منها في: سورة البقرة، الآيتان: 257، 286. سورة آل عمران الآيتان: 68، 150. سورة الانعام، الآيات: 14، 51، 62، 70، 127. سورة الشورى، الآيتان: 9، 28. سورة الجاثية، الآية: 19. سورة النساء، الآيتان، 45، 135. سورة الاعراف، الآيتان: 155، 196. سورة الانفال، الآية: 40. سورة الحج، الآية: 78. سورة محمد، الآية: 11. سورة التحريم، الآيتان: 2، 4. سورة التوبة الآية: 51. سورة المائدة، الآية 55. سورة الاحزاب، الآية : 6. سورة سبأ، الآية: 41. سورة يوسف، الآية: 102. سورة يونس، الآيتان: 30، 62. سورة فصلت، الآية: 31. سورة الكهف، الآية: 44.

 

[2]  سورة المائدة، الآية: 55.

 

[3]  منها في سورة النساء، الآية: 139، سورة يونس، الآية: 65. سورة فاطر، الآية: 10. سورة الصافات، الآية: 180. سورة (المنافقون)، الآية: 8.

 

[4]  منها في سورة المائدة، الآية: 60، سورة البقرة، الآيتان: 256، 257، سورة النساء، الآيات: 51، 60، 76. سورة النحل، الآية: 36. سورة الزمر، الآية: 17.

 

[5]  سورة الانعام، الآية: 57.

 

[6]  سورة النساء، الآية: 59.

 

[7]  انظر سورة النساء، الآية: 59.

 

[8]  انظر سورة الشورى، الآية 13.

 

[9]  منها في سورة آل عمران، الآية: 18. سورة النساء، الآية: 135. سورة المائدة، الآية: 8.

 

[10]  في سورة التوبة، الآية: 33. سورة الفتح، الآية: 28، سورة الكهف، الآية: 9.

 

[11]  منها في سورة البقرة، الآيات: 190، 193، 244. سورة النساء، الآية: 76. سورة التوبة، الآيات: 12، 14، 29، 36، 123. سورة الانفال، الآية: 39.

 

[12]  انظر سورة النور، الآية: 55.

 

[13]  في سورة المائدة، الآية: 44. وغيرها كثير.

 

[14]  منها في سورة آل عمران، الآية: 28. سورة النساء، الآيات: 76، 89، 119، 139، 144. سورة المائدة، الآيات: 51، 57. سورة الاعراف، الآية: 3. سورة التوبة، الآية: 23. سورة الكهف، الآيتان: 18، 102. سورة الفرقان، الآية: 18. سورة العنكبوت، الآية: 41. سورة الزمر، الآية: 2. سورة الشورى، الآيات: 5، 9، 46. سورة الجاثية، الآيتان: 10، 19، سورة الممتحنة، الآيات: 1، 9، 60.

 

[15]  منها في سورة البقرة، الآيتان: 107، 120. سورة الانعام، الآية: 70. سورة التوبة، الآيتان: 74، 116. سورة الرعد، الآية: 37. سورة الكهف، الآية: 26. سورة العنكبوت، الآية: 22. سورة السجدة، الآية: 4. سورة الشورى، الآيات: 8، 31، 44، 46. سورة النساء، الآيتان: 123، 173. سورة الكهف، الآية: 17. سورة الاحزاب، الآيتان: 17، 65. سورة الفتح، الآية: 22. سورة الجاثية، الآية: 10.

 

[16]  انظر سورة الحجرات، الآيتان: 9، 10.