بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه على نعمة الإسلام والإيمان حمداً سرمداً، والصلاة والسلام على خير البرية وأشرف الأنام أبي القاسم المصطفى وعلى آله أنوار الهدى ومصابيح الظلام، واللعنة على أعدائهم إلى يوم النشور والقيام وبعد، فمن المعروف المسلم به عند الشيعة أن الحاكم بعد النبي (صلى الله عليه وآله) هو الإمام المعصوم من أهل بيته(عليهم السلام)، عملاً بما نص عليه وأكَّده النبي(صلى الله عليه وآله) مراراً وتكرارا.

 

فالإمام المعصوم حاكم في الدين والدنيا ومفترض الطاعة من اللّه عزَّ وجل، وأولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أولى بهم من أنفسهم.

 

وإن إبعاد الأئمة المعصومين(عليهم السلام) عن مناصبهم التي جعلها اللّه لهم لا يؤثر شيئاً في وجوب طاعتهم والالتزام بأوامرهم ونواهيهم ووجوب إتباعهم في أقوالهم وأفعالهم.

 

وقد تكفلت بحوث العقائد إثبات هذا الأمر بالأدلة القاطعة من الكتاب العزيز والسنة المتواترة، وقد سار على هـذه العقيدة وهذه الطريقة شيعة أهل البيت (عليهم السلام) من عهد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) إلى أن غاب الإمام الثاني عشر الإمام المهدي أرواحنا وأرواح العالمين له الفداء، وحتى في زمن غيبته الصغرى، حيث كان باستطاعة الفقهاء والناس أن يراجعوا نوابه و وكلاءه المنصوبين من قبله وأشهرهم النواب الأربعة رضوان الله عليهم.

 

ولكن بعد عصر النواب الأربعة وقت الغيبة الكبرى، إلى أن يشاء اللّه تعالى إظهار دينه على الدين كله، فوقع البحث بين فقهاء الشيعة في من يكون نائب الإمام والحاكم في زمن غيبته الكبرى، فاختار كل فقيه في هذه المسألة ما أدى إليه نظره الاستنباطي ورأيه الاجتهادي، وصارت المسألة من مباحث الفقه يتعرض لها الفقهاء في كتبهم عند مناسباتها المختلفة، ويجيبون على الأسئلة الموجهة إليهم بشأنها.

 

وهذه الرسالة الكريمة المختصرة لسماحة المرجع الديني والباحث المتتبع القدير والعالم العامل الورع آية اللّه العظمى الشيخ لطف اللّه الصافي الگلپايگاني مد اللّه في عمره الشريف ونفع المسلمين والمؤمنين بعلمه وتوجيهاته، هي جواب على بعض الأسئلة التي قدمها إلى سماحته بعض العلماء والفضلاء عن مسألة الحكم والولاية في عصر الغيبة، وهي على اختصارها تتضمن والأركان الأساسية لهذا الموضوع، وهـي واحـدة من إجاباته العلمية وبحوثـه الغزيرة التي تزيد على الستين بحثاً ومقالة، والتي نأمل أن نوفق لطباعتها في مجموعة كاملة، لتعم فائدتها إن شاء اللّه، واللّه الموفق.

 

دار القرآن الكريم

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

اَلْحَمدُ لِلّهِ رَبِْ الْعالَمين، وَالصَّلاةُ وَالسلامُ عَلى خَيْرِ خَلْقِهِ وَاَشْرَفِ بَريَّتِهِ مُحمَّد وَآلِهِ الطاهِرِينَ لاسيَّما بَقيَّةُ اللهِ في الأَرَضين، وَلَعَنةُ الله عَلى أَعْدائِهِمْ أجمَعِينَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدينِ.

 

مسألة : دلّت الأدلة العقلية والنقلية على حاجة المجتمع البشري المتمدن إلى حكومة تنظّم أموره، وتحفظ كيانه، وتصونه عما يوجب الفساد والزوال، وتقوم بوضـع الخطط اللازمة لمصالحه، وتمنع القوي عن اغتصاب حق الضعيف، وتدفع عنه ظلـم الظالمين، وتعمل فيه بالعدل، وتؤمِّن السبل، وتجعل الكل أمام الحق والقانون سواء.

 

إنه لإحالة أسوء وأتعس للبشرية من الفوضى المطلقة، ودين الإسلام الذي هو أكمل الأديان وأتمها، وأرقى الشرائع والقوانين والأنظمة لم يترك في حياة البشر المادية والمعنوية أمراً إلا وقد بيّن فيه ما به صلاح الإنسان ورشده، ومن أهم هذه الأمور : أمر وجود الحكومة الأمر الأساسي الذي يدور مداره إجراء أكثر أحكامه، فقد اهتم به أشد الاهتمام، فجعل للنبي(صلى الله عليه وآله) الولاية المطلقة على المؤمنين، قال اللّه تعالى: (النبيُّ أولى بالمؤمنينَ من أنفسِهم)1.

 

النص على ولاية الإمام علي(عليه السلام) المطلقة بعد النبي(صلى الله عليه وآله).

 

فقامت بفضل هذه الولاية حكومة العدل الإسلامية بقيادة صاحب مقام الرسالة والنبوة(صلى الله عليه وآله)، ثم أكمل اللّه الدين بولاية أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين الأئمة الاثني عشر(عليهم السلام)، وأكد على أمر الولاية، سيما ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام)، وقرنـها بولاية اللّه وولاية الرسول بقوله تعالى :

 

(إنما وليُّكُمُ اللّهُ ورسولُه والّـذينَ آمنوا الّذينَ يُقيمونَ الصلاةَ ويُؤتونَ الزكاةَ وهم راكعون)2

 

وأمر بإعلانها في يوم غدير خُمٍّ في مشهد عظيم حضره جموع المسلمين، فقال :

 

(يا أََيُّها الرسولُ بلِّغْ ما أُنزلَ إليك من ربِّك فإنْ لم تفعل فما بلَّغتَ رسالَتَه، واللّهُ يعصمك من الناس، واللّهُ لا يهدي القومَ الكافرين)3

 

فلما كمل الدين بإبلاغ الولاية أنزل اللّه تعالى :

 

(اليومَ أكملتُ لكم دينَكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضِيتُ لكُمُ الإسلامَ دِينًا)4

 

النص على ولاية وإمامة وحكومة الأئمة الاثني عشر(عليهم السلام).

 

وقد ثبت النص عن النبي(صلى الله عليه وآله) على الأئمة الأثني عشر(عليهم السلام) بالولاية والإمامة والحكومة، بالنصوص المتواترة التي منها : أحاديث الأئمة الاثني عشر التي رواها أعاظم المحدثين من العامة والخاصة في صحاحهم وجوامعهم ومسانيدهم وسننهم، والتي لا تنطبق إلا على مذهب الإمامية القائلين بإمامة الأئمة الاثني عشر المعروفين من أهل البيت وعترة النبي(صلى الله عليه وآله).

 

هذا وقد أوجب اللّه إطاعتهم على المؤمنين بقوله تعالى :

 

(يا أيُّها الّذينَ آمنوا أَطيعوا اللّهَ وأطيعوا الرسولَ وأولي الأمرِ منكم)5.

 

فقرن إطاعتهم بإطاعة النبي(صلى الله عليه وآله)،وهذه خِصيصةٌ لا يختص بها إلا من كان مثل النبي(صلى الله عليه وآله) معصوما، وهو الإمام المعصوم الذي يقول به الإمامية، فلا يجوز أن يفسر ( أولي الأمر ) في هذه الآية إلا بالأئمة المعصومين(عليهم السلام) دون غيرهم كائناً من كان، حتى الفقهاء.

 

وهذا هو مقتضى أساس حكومة اللّه تعالى، ومعنى أسمائه الحسنى، وحاكميته التوحيدية، فليس لأحد على أحد الحكومة إلا إذا أعطيت من اللّه تعالى، فهو الحاكم الآمر الناهي، والسلطان والقاضي، كما يستمد من لطفه ورحمانيته ورحيميته وعدله وحكمته وعلمه، فهو الرحمن والرحيم واللطيف والعدل والحكيم والعالم والعليم.

 

وقد أنهى العلامة(قدس سره) الأدلة الدالة على لزوم جعل الحكومة من اللّه على الناس ونصب الإمام لهم إلى ألف دليل.

 

فكل حكومة لم تكتسب المشروعية من حكومة اللّه تعالى باطلة زائفة.

 

فالواجب على جميع المكلفين الإطاعة للحكومة الإلهية المتمثلة في وجود الإمام المعصوم في كل عصر وزمان.

 

قال مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) :

 

( أللهمّ بلى، لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغمورا، لئلاّ تبطل حجج اللّه وبيّناته ) 6.

 

ضرورة الولاية والحكومة للفقهاء زمن الغيبة

 

ثم إنه مما لا ريب فيه ومن البديهي أنه لا فرق في حاجة الناس إلى من يتولى أمورهم بين الأعصار والأمصار، وبين عصر حضور الإمام وعصر غيبته، فكما كانت تحتاج البلاد والأمكنة التي لم يكن يعيش فيها الأئمة(عليهم السلام) الى ولاة ووكلاء منصوبين من قبلهم فكذلك الأزمنة التي يغيب فيها الإمام(عليه السلام) بأمر الله تعالى لحِكَم ومصالح يعلمها اللّه عز وجل، تحتاج أيضاً إلى الوالي الذي يلي أمورهم من قِبَله، فكما أن اللّه تعالى قد أتمَّ الحجة على خلقه بنصب الإمام يجب على الإمام الذي جعله اللّه ولي المؤمنين، ونصبه إماماً على الخلق أجمعين، وكفيلا لأمورهم، وحافظاً لمصالحهم أن يعيِّن في عصر غيبته من يكون حاكماً بينهم، ولا يجوز أن يجعل مصالحهم في معرض الضياع، وأمورهم على شفا حفرة من الفساد.

 

وقد عين أرواحنا له الفداء في عصر غيبته الصغرى أو القصرى جمعاً من أعيان الشيعة، منهم : النواب الأربعة رضوان الله تعالى عليهم، المشهورون عند الكل بالنيابة والسفارة الخاصة.

 

دليل الحكومة والولاية في عصر الغيبة للفقهاء

 

ففي الغيبة الكبرى أو الطولي التي يطول زمانها كما أخبر به النبي(صلى الله عليه وآله) لابد بطريق أولـى للإمام من رعاية مصالـح شيعته، ودفع ما يؤدي إلى ضياع أمرهم وانحلاله، وذلك بنصب القيِّم على أمورهم، الحافظ لشؤونهم الاجتماعية والسياسية، وقوانين دينهم ودنياهم.

 

وليس ذلك بالإجماع والاتفاق إلا ولاية الفقهاء العدول المسماة بالنيابة العامة، فللفقهاء التدخل في أمور المسلمين بما تقتضيه مصالحهم، ويكون كل ما يقع تشريعاً تحت مسؤولية الإمام عليه السلام ورعايته مما يرتبط بمصالح الأمة الإسلامية وشؤون الولاية على الناس، وتقام لحفظها الحكومات يكون ذلك واقعاً تحت مسؤولية الفقهاء ورعايتهم وإدارتهم.

 

فعلى عاتقهم إحياء السنة، ودفع البدعة، وحفظ الشريعة، وكفالة الأمة.

 

فالزعامة لهم، وهم خلفاء الإمام والقائمون مقامه في تلك الشؤون، وأمناؤه على الحلال والحرام، ولولا ذلك لا ندرس الدين وضاعت آثار الشرع المبين.

 

ومن تدبر حق التدبر يعرف أن إشراف الفقهاء على الأمور إضافةً لمنزلتهم الروحية ومنزلتهم الروحانية في القلوب هو أقوى الأسباب الموجبة لبقاء التشيع، وحفظ آثار المعصومين(عليهم السلام) إلى زماننا هذا.

 

إن هذه الولاية التي عرفت بعض شؤونها هي الحكومة الشرعية الحقة التي لم تنقطع من عصر سيد المرسلين(صلى الله عليه وآله)، ولا تزال مستمرةً باستمرار زمان التكليف، لا يتفاوت الأمر في تحققها بين أن يكون ولي أمرها مبسوط اليد في جميع ما جعله اللّه في حوزة حكومته وهو الدنيا بما فيها ومن فيها أو مبسوط اليد في بعضه، أو كان مرفوع اليد عن كله أو عن معظمه، أو كان حاضراً أو ظاهراً على الأنام، أو غائباً عن الأبصار.

 

فالحكومة الشرعية منعقدة مستمرة بهذا الإعتبار، والفقهاء العدول في عصر الغيبة هم الحاكمون شرعاً والولاة على الأمور، وهذا هو معنى قوله(عليه السلام) في توقيعه الرفيع كما سنشير إليه :

 

( فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه ).

 

وهذه هي الحكومة الشرعية التي يجب على المكلفين إطاعتها والانضواء تحت قيادتها، حتى وإن كانوا ساكنين في دائرة غيرها، فالمؤمن وإن كان في دار الكفر أو في بلاد المسلمين تحت سلطة غير شرعية : فإنه يجب عليه أن يكون منقاداً لهذه الحكومة الشرعية التي جعل الإمام أمرها في عصر الغيبة بيد الفقهاء.

 

ولا يخفى عليك أن ولاية الفقهاء في عصر الغيبة على هذا المبنى تكون كولاية الحكام والنواب المنصوبين من قبل الإمام في عصر الحضور، وأن الأحكام السلطانية التي تصدر عن صاحبها يجب أن تكون لتنفيذ الأحكام الشرعية، ولترجيح بعضها على البعض في موارد تزاحم الأحكام والحقوق، فلا ترفع اليد بهذه الأحكام عن الحكم الشرعي بتاتا، وإنما ترفع بها اليد عن الحكم المهم للأخذ بالأهم حسب تشخيص الحاكم بلزوم ترك حقٍّ أو جهة لحفظ حقٍّ أو جهة أهم.

 

وعلى كل حال، فكلامنا في المسألة ليس في الأحكام السلطانية، بل في المناصب الولائية التي يستمد الفقيه منها صلاحيته لإصدار الأحكام السلطانية.

 

ثم لا يخفى عليك أنه قد استدل على ولاية الفقهاء في عصر الغيبة بطائفة من الأحاديث المروية في كتاب القضاء من جوامع الحديث، وقد أخرج شطراً منها الفاضل النراقي في عوائده في العائدة الرابعة والخمسين، لكن الاستدلال بأكثرها لا يخلو عن مناقشة ونظر. ولعل أقواها نصاً في الدلالة التوقيع الرفيع الذي أخرجه شيخنا الصدوق في كمال الدين، قال :

 

حدثنا محمد بن محمد بن عصام الكليني(رضي الله عنه)، قال : حدثنا محمد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق بن يعقوب، قال : سألت محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) أن يوصل لي كتاباً قد سـألـت فيه عن مسائل أشكلت علـي، فوردت في التـوقيـع بخط مـولانا صاحب الزمان(عليه السلام)... إلى أن قال :

 

(وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة اللّه عليهم).

 

وقال في آخر التوقيع : ( والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب وعلى من اتّبع الهدى )

 

ورواه شيخنا الطوسي رضوان اللّه عليه في كتاب الغيبة قال :

 

وأخبرني جماعة، عن جعفر بن محمد بن قولويه وأبي غالب الزراري وغيرهما، عن محمد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق بن يعقوب، قال سألت محمد بن عثمان العمري رحمه اللّه أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان(عليه السلام)... إلى أن قال :

 

( وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه (عليكم)...

 

إلى قوله عليه السلام : والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب، وعلى من اتّبع الهدى 7.

 

وقفة عند التوقيع الصادر عن الناحية المقدسة

 

ويظهر مما تضمّنه التوقيع المبارك كما حكى الأردبيلي في جامع الرواة عن الأسترآبادي علو رتبة إسحاق بن يعقوب، ولعله كما استظهره بعض الرجاليين أيضاً هو أخ الكليني، وكيف كان فلا مجال للخدشة في سنده بعدم مجيء شيء من حاله في كتب الرجال بعد اعتماد مثل الكليني عليه وروايته التوقيع الشريف بما تضمنه من المطالب المهمة عنه، ثم اعتماد مثل الصدوق عليه، ثم شيخ الطائفة رضوان اللّه تعالى عليهم.

 

ومن المستبعد جداً أن لا يكون الكليني عارفاً بحال مثله من معاصريه وهو ينقل عنه أنه يكتب الى مولانا صاحب الزمان عليه الصلاة والسلام يسأله مثل هذه المسائل التي لا يسأل عنها إلا الخواص وعظماء الشيعة، ويأتيه الجواب بخطه الشريف (عليه السلام). فالظاهر أنه كان يعرف الرجل بالوثاقة والأهلية لمثل هذه المكاتبة. إذاً فلا ريب في اعتبار سند التوقيع المبارك.

 

وأما دلالته : فتارةً يستدل بقوله(عليه السلام) ( وأمّا الحوادث الواقعة... )، وأن المراد منها ليس أحكام الوقائع، فإن السائل مثل إسحاق بن يعقوب الذي يظهر من مسائله أنه من أهل المعرفة والبصيرة، بل وغيره أيضا، يعلم أنه يسأل عن الأحكام الرواةَ العالمون بها، فلابد أن يكون المراد منها الحوادث التي يرجع فيها إلى السلطان وولي الأمر والحاكم الشرعي، وهذا هو الذي يحتاج إلى أن يكون المرجع فيه حجة الإمام(عليه السلام).

 

وتـارةً يستدل بقوله فيه : ( فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه )، فكما أن الإمام حجة اللّه على العباد يحتج بوجوده عليهم في جميع أمورهم، ولا يكون معه للناس حجة على اللّه فرواة أحاديثهم أيضاً حجة الإمام على الناس، لا يكون معهم في أمر من الأمور حجة للناس على الإمام.

 

والحاصل : أنه كما أن الواجب على الحكيم جل اسمه بمقتضى الحكمة وقاعدة اللطف نصب الإمام والحجة والوالي على العباد فيجب على الإمام والوالي أيضاً نصب من يقوم مقامـه في الأمصار التـي هو غائب عنها، وكذا في الأزمنة التي هو غائب فيها، وتصديق ذلك قوله تعالى :

 

( وواعدنا موسى ثلاثين ليلةً وأتممناها بعشر، فتمّ ميقاتُ ربِّه أربعين ليلةً وقال موسى لأخيه هارونَ اخُلفني في قومي وأصلح ولا تتّبع سبيل المفسدين )8

 

وذلك لأنه لا يجوز على اللّه ترك الناس بغير حاكم ووال.

 

مدى دائرة ولاية الفقهاء وصلاحيتهم

 

إذاً لا ريب في جعل الإمام الفقهاء ولاةً وحكاماً على العباد; للاتفاقً والإجماع على عدم ولاية غيرهم، وليس مثل التوقيع الشريف وما بمعناه إلا إنشاء هذه الولاية لهم، فلهم المناصب الولائية التي هي من شؤون الوالي عند العرف والشرع.

 

ومن جملة ما يؤول أمره في عصر الغيبة الى الفقهاء العدول ما للإمام(عليه السلام) من الخمس وغيره مثل : ميراث من لا وارث له، فيكون للفقهاء الجامعين للشرائط بحكم منصبهم الولائي الذي تلقوه عن الإمام(عليه السلام)، فيقومون بصرفه في حفظ بيضة الإسلام، والذب عن حريم الدين، وما يوجب إعزاز الشرع المبين وقوة جماعة المؤمنين، مثل : تأسيس الحوزات العلمية، و مصارف طلبة العلوم الدينية الذين يترتب على وجودهم حفظ الآثار من الإندراس، وتعليم الناس بالحلال والحرام، وبث الدعوة إلى الإسلام، وبناء المساجد والمدارس، وطبع الكتب الإسلامية، وتأسيس المشاريع الخيرية، وإنشاء المؤسسات الإقتصادية والتربوية، مما يوجب عز المسلمين واستغناءهم عن الكفار في الصناعة والتقنية، ويمنعهم من الوقوع في استضعافهم السياسي والاقتصادي.

 

كما يصرفونه في إعانة الضعفاء، وكل أمر نعلم أن الإمام(عليه السلام) لو كان حاضراً لصرف فيه أمواله الشخصية، وإن كسبها بكد اليمين وعرق الجبين; لتكون به كلمة اللّه هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، مراعياً في كل ذلك الأهم فالأهم.

 

فإن قلت : السهم المبارك وميراث من لا وارث له ملك لشخص الإمام(عليه السلام)، يجري عليه في عصر الغيبة حكم مال الغائب، يجب حفظه له إن أمكن، وإلا يجب على الذي بيده أن يتصدق به عنه.

 

قلت أولا : إن التصدق بالمال المجهول مالكه أو ما لا يمكن إيصاله إلى مالكه إذا كان في معرض التلف والضياع، إنما يجوز إن لم يعلم من بيده رضاه بصرفه في مورد خاص دون غيره، أما مع العلم بذلك فلابد من صرفه في ذلك المورد.

 

وثانيا : الظاهر أن السهم المبارك إنما جعل للإمام لكي يقوي به شؤون ولايته، ويصرفه في إنفاذ وظائفه الولائية، ولازم جعل الولاية للفقهاء جعل الولاية لهم عليه لأنها لا تقام إلا به.

 

وإن شئت قلت : إن السهم المبارك اختصت الولاية عليه بمن يلي الأمور بإذن الشارع، وهو شخص الإمام(عليه السلام) في زمان الحضور، ومن يليها بإذنه في عصر الغيبة، وهم الفقهاء العدول المنصوبون بالولاية بنصبه.

 

ثم إنه مما ذكرنا يظهر حكم سهم السادة العظام زاد اللّه في شرفهم، فإن مصرفه وإن كان السادة المحتاجين إليه، إلا أن المستفاد من بعض الأخبار وما تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع أن الولاية عليه أيضاً للإمام ومن يلي الأمور من قبله، فالإمام يأخذه ويقسمه بين الأصناف، وقد ورد في هذه الأخبار أن ما يزيد منها على مصارفهم يكون للإمام (عليه السلام)، وأن ما ينقص يتمه الإمام من غيره. فقد روى ثقة الإسلام الكليني (قدس سره)9عن الإمام الكاظم(عليه السلام) أنه قال:

 

(الخمس من خمسة أشياء... إلى أن قال : ونصف الخمس الباقي بين أهل بيته، فسهم ليتاماهم، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم، يقسّم بينهم على الكتاب والسنّة ما يستغنون به في سنّتهم، فإن فضل عنهم شيء فهو للوالي، وإن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به...).

 

وعليه يجب على من يريد إيصاله إليهم بنفسه الاستئذان من الحاكم الشرعي، وإن أراد إيصاله إلى الفقيه فالأحوط أن يوكله بالإيصال إلى المستحق منهم.

 

كما أن الأحوط للفقيه الذي يأخذ سهم السادة أن يأخذ الوكالة ممن عليه الخمس لإيصاله إلى السادة المستحقين.

 

وفي البحث مسائل وفروع لا يسع المجال للخوض فيها، ونسأل اللّه تعالى العصمة عن الخطأ، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.

 

وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين

 

 لطف اللّه الصافي الگپايگاني

 

 

 

مواضيع ذات صلة

 

نظرية ولاية الفقيه

 

تاريخ نظرية ولاية الفقيه

 

ولاية الفقيه مفهوماً ودليلاً

 

ولاية الفقيه في زمن الغيبة الكبرى

 

ولاية الفقيه في أقوال السلف الصالح

 

مبدأ ولاية الفقيه عند أهل السنة وتطبيقاته

 

منهج الفقيه المحقق السيد البروجردي في بحث ولاية الفقيه

 

 ــــــــــــــ

 

1 سورة الأحزاب 6

 

2 سورة المائدة 55

 

3 سورة المائدة 67

 

4 سورة المائدة 3

 

5 سورة النساء 59

 

6 نهج البلاغة : جزء 4 ص 37، من كلامه عليه السلام لكميل بن زياد.

 

7 غيبة الشيخ : حديث 247 ص 290 و 293.

 

8 سورة الأعراف 142

 

9 في المجلد الأول من الكافي صفحة 539.