من كتاب العشق الإلهي لسماحة آية الله الشيخ جوادي الآملي


لم يترك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عهده إلى مالك كل ما يمكن عدّه من خصائص نظام الحكم إلاّ وأشار إليه.. قال فيه مثلاً: (وامض لكل يوم عمله فإنّ لكل يوم ما فيه)[1] فلا مكان لتأجيل عمل اليوم إلى غد.

 عند تقسيم الوقت وبرمجة الزمن خلال (24 ساعة): ينبغي أن تختار الوقت الأفضل لتعزيز علاقتك بالسماء: (واجعل لنفسك في ما بينك وبين الله سبحانه وتعالى أفضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام)[2]. ومن هنا يؤكد الإمام علي عليه السلام على انتخاب الوقت اليومي الأفضل من أجل الصلاة والارتباط بالغيب.

 

وقد جاء في القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾[3]. ولذا لا ينبغي القول: (العمل أولاً ثم الصلاة) لأنها لن تكون قرباناً طيباً متقبّلاً لأن الصلاة: (قربان كل تقي) كما أن قراءة القرآن في الصلاة في حالات الإجهاد البدني لن تكون قرباناً.

 

وما يقرّب العبد إلى ربّه هو قربانه، وهذا لا يقتصر على الأضاحي في العاشر من ذي الحجة، بل أن كل عبادة تقرّب الإنسان إلى خالقه وبارئه هي قربانه الذي يتقرّب به.

 

فكما جاء في الصلاة: (الصلاة قربان كل تقي). جاء في الزكاة أيضاً.

 

ثم يقول أمير المؤمنين عليه السلام موضحاً فلسفة العبادة بشكل عام، حيث كل الأعمال في إطار النظام الإسلامي تستحيل إلى عبادة يقول عليه السلام: (وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النيّة وسلمت منها الرغبة)[4].

 

فهناك ركنان يحوّل العمل الإنساني إلى عبادة:

 

1ـ النيّة الطيبة الحسنة.

 

2ـ خدمة الشعب.

 

فكل عمل يتوفر فيه شرطان: (حسن الفاعل) و(حسن الفعل) هو عبادة لله سبحانه وتعالى وحسن الفعل ما عاد على الأمة بالخير والصلاح.

 

القسم الثاني من البحث يرتبط بموضوع (النعمة) التي أنعمها الله علينا ولا يعرف قدرها أحد.

 

ولقد أدرك الإمام علي قدر تلك النعمة جيداً.

 

ففي خطبته عليه السلام المعروفة بـ (القاصعة) وقد جاءت بعد ثلاثة حروب خاضها الإمام ضد (الناكثين) و(القاسطين) و(المارقين) استعرض ثلاثة فصول تاريخية لسلالة الأنبياء ليؤكد أن الله سبحانه لا يجامل أحداً فسنن التاريخ التي هي سنن الله سبحانه تمضي في الجميع.

 

الفصل الأول من مسلسل التاريخ يبدأ مع قيام إبراهيم الخليل ونهضته التوحيدية المباركة.. وتسنّم بسببها أبناؤه وأحفاده وذرّيته ميراث النبوّات والإمامة وبتعبير القرآن الكريم (الملك) ﴿وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ﴾[5].

 

هذه هي الحلقة الأولى من التاريخ، أما الحلقة الثانية فالاعتبار بتاريخ ذرّية إسماعيل وإسحاق: (فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل فما أشدّ اعتدال الأحوال وأقرب اشتباه الأمثال)[6].

 

لقد جرت عليهم قوانين التاريخ وتمزّقوا وهنا يدعو الإمام إلى تأمل مصيرهم: (وتأمّلوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرّقهم ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم يحتازونهم عن ريف الآفاق وبحر العراق، وخضرة الدنيا إلى منابت الشيح ومهافي الريح ونكد العيش فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر ووبر)[7].

 

تقاسمت أرضهم دولة فارس وإمبراطورية الروم، وضاعوا بين نفوذ كسرى وحكم قيصر وأصبحوا عبيداً بعد أن كانوا أحراراً.. وهم لم يستعبدوهم فقط وإنما شرّدوهم إلى مناطق جافة.. فكانت حياتهم في ضيق (ونكد معاش) هذه هي سنن التاريخ مع ذرّية إبراهيم وأبناء إسماعيل، وأحفاد إسحاق وبني إسرائيل.. أضحوا أصحاب (دبر ووبر)[8].

 

أصبحوا حفنة من الشحّاذين أذلّة مساكين. ولم يلفّهم هذا المصير البائس إلاّ لأنهم تركوا(الدين الحق) وسقطوا في هاوية النـزاع والاختلاف، وحتى نؤمن الوقوع في مثل ذلك المصير مطلوب منا (الإيمان) و(التضامن).

 

وهذه هي الحلقة الثانية من تاريخ سلالة الأنبياء قبل ظهور الإسلام.. ثم يأتي الفصل الثالث والحلقة الثالثة من هذا التاريخ التي تبدأ بظهور سيدنا محمد (صلوات الله عليه وآله) وظهور الإسلام و(عصر كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة) ولينتهي زمن الشتات: (فهم حكام على العالمين وملوك في أطراف الأرضين يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم، ويُمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم، لا تغمزُ لهم قناة ولا تقرع لهم صفات)[9].

 

فعاد مجدهم بالإسلام بعد أن كان نسياً منسياً مندثراً دارساً، ليصبحوا هم الحكام على من كان حاكماً عليهم فقهروا القياصرة وهزموا الأكاسرة، وتدفقت غنائم الحرب إلى أرض الحجاز.

 

وهذا هو الفصل الثالث من تاريخهم.

 

ثم يشير الإمام علي عليه السلام ـ وبعد أن استعرض الحلقات الثلاث من ذلك التاريخ الملحمي ـ إلى ظهور بوادر التمرّد على الشريعة وما يؤدي له ذلك من أخطار التمزّق الداخلي.

 

(ألا وإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة وثلمتم حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهلية)[10].

 

إنكم تنقبون هذه القلعة الكبرى والحصن الحصين، وتتركون الاعتصام بحبل الله: (وقد امتنّ الله سبحانه وتعالى على جماعة هذه الأمة فيما عقد بينهم من حبل هذه الألفة التي ينتقلون في ظلّها ويأوون إلى كنفها بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة لأنها أرجح من كل ثمن وأجلّ من كل خطر)[11].

 

والآن لنتأمل في مكنونات هذا التحليل الهام للتاريخ في حلقاته الثلاث.. إذا ما أردنا التأمل في دور الإمام الخميني القيادي في إعادة السعادة والسيادة للشعب الإيراني.

 

الإمام الراحل الذي هو الوارث بالحق للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين علي عليه السلام أدرك الأدوار الثلاثة في إيران جيداً، فنهض بما ينهض به الوارثون.. إنه من الصعب جداً أن نخلص لأحد ونحبّه ونتعلّق به إلى الحدّ الذي نفديه بأرواحنا ونفوسنا ولكن الإمام كان أهلاً لذلك.

 

سوف لن نذهب بعيداً في الماضي، بل سنتحدث عن القرن الماضي فقط وبالتحديد منذ عصر الميرزا الشيرازي[12] فمن ذلك الوقت وحتى الآن نكون قد اجتزنا ثلاثة حلقات تاريخية.

 

لقد كان الإسلام في ذروة مجده إبان الفتوى التاريخية، وبلغ علماء الدين ذروة مجدهم لأن المسلمين إبان تلك الفترة كانوا يرجعون إليهم في الاستفتاء والقضاء.

 

ثم أعقبت تلك الفترة فترة أخرى شهدت انحساراً في التديّن ووصلت بالمسلمين الأمور أن ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾[13] الذين شهدوا السنوات بين (1308 ـ 1320 هـ.ش) يعرفون أن الإثني عشر سنة تمثل حلقة مذلّة في تاريخنا.

 

طبعاً سبقت الذلّة هذا التاريخ، وأعقبته أيضاً ولكنها كانت أسوأ فترة كانت (أصحاب دبر ووبر): مساجد كثيرة في شمال البلاد تحولت إلى مخازن.. المدرسة الفيضية كانت مخزناً، دكان الكسبة الذين ينتشرون في أطراف الحرم يضعون الصناديق الخالية في حجرات المدرسة.. وقد أشار الإمام مرّات إلى الطلاب كانوا يذهبون إلى البساتين في النهار ويعودون أثناء الليل خوفاً.

 

وحقاً أن ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ تصدق على الأمة الإيرانية آنذاك..

 

هناك عاملان وراء هذا المصير البائس للأمة الإسلامية:

 

1ـ ترك الدين.

 

2ـ الاختلافات الداخلية.

 

ثم بعث الله إلينا ابن النبي والوارث بالحق للأئمة المعصومين الإمام الراحل ليعيد إلى الإسلام مجده، ويرفع رايته عالياً، وأصبح الإسلام قوّة يحسب لها ألف حساب وحساب.. حتى الشيطان الأكبر(عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين) يتملّق المسؤولين في بلادنا من أجل إعادة العلاقات.. إن أبن النبي صلى الله عليه وآله هذا قد أعاد إلى الإسلام مجده منذ 15 خرداد 1342[14] ومنذ ذلك الوقت بدأت قوافل الشهداء.

 

وإنه من المناسب الآن أن أشير إلى محاور تلك الوثبة الدامية التي وفرت الأرضية التي أعادت العزّة والكرامة والمجد لإيران وكانت الطليعة من نهضة الأمة الإيرانية المجيدة بقيادة الإمام الراحل (قدس سره).

 

في يوم 15 خرداد كانت دفقة ضوء أنارت طريق الثورة، ورسمت ملامح القائد في الوجدان.. كانت شعلة كشفت عن مخزون الثورة وروح الثائر القائد.

 

الإمام الخميني جسّد أبعاد الثورة التي انطلقت يوم 15 خرداد:

 

الأول: البعد العاشورائي عندما تزامن يوم الثورة مع 12 محرّم 1383 هـ.ق وشرارة الخطاب الخميني فأصبح عاشوراء ظرف زماني للثورة.

 

الثاني: مهد هذه الانطلاقة وهي المدرسة الفيضية مهد الفقه. هذان بعدان أساسيان يشكلان (زمكان) الثورة وهنا نرى الإمام يشير إلى البعد الثالث في تأمل شهداء مذبحة 15 خرداد.

 

اقرؤوا شواهد أضرحة الشهداء هل تجدون شخصاً واحداً غير مسلم؟ أم كانوا جميعهم مسلمين موالين لأهل البيت عليهم السلام.

 

البعد الرابع: لنتأمل الآن في حياة الشهداء من أية طبقة كانوا؟ هل كانوا مسرفين، مترفين أم طبقة الفقراء والمستضعفين والمحرومين؟.

 

إذا ما تأملنا في هذه الأبعاد الأربعة سوف ندرك الحداد السنوي الأبدي في ذلك اليوم الذي تتجلّى عاشوراء فيه.

 

لقد هب المحرومون والمستضعفون من زوايا المدارس الدينية.

 

إنّ الحلقات الثلاث في تاريخ البلاد ما تزال في الذاكرة، حتى لا تتكرر التجربة المريرة في (ترك الدين) و(الاختلافات الداخلية).. تلك التجربة المرّة يوم ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾[15] وقد جاء في الحديث المأثور: «لا يلسع العاقل من جحر مرتين»[16].

 

القسم التالي من البحث هو أن ما بيّنه أمير المؤمنين حول أهداف بعثة النبي صلى الله عليه وآله تصدق عليه ذاته أيضاً، وعلى من ورثه من ذرّيته إلى أن يصل إلى شخص الإمام الراحل(قدس).

 

فالخطاب العلوي للنبي صلى الله عليه وآله نراه أيضاً في زيارة أربعين الإمام الحسين سيد الشهداء وهذا ما يمكننا أن نخاطب به الإمام الراحل في زيارته لأنه تلميذ أهل البيت.

 

في زيارة الأربعين نرى نهضة الإمام الحسين من أجل هدفين:

 

1ـ توعية الناس

 

2ـ إنقاذهم من الضلالة والحيرة[17]: (وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة). وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (حسين مني وأنا من حسين)[18].

 

فالهدف الحسيني من الثورة هو ذات الهدف المحمدي من البعثة.. يقول الإمام علي عليه السلام: (فهداهم به من الضلالة وأنقذهم بمكانه من الجهالة)[19].

 

فالمطلوب من الإنسان الوعي أولاً، والعمل ثانياً فالأول علم والثاني عمل.

 

إنّ سنن التاريخ طرق مشرعة.. طريق يؤدي بالناس إلى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾[20] وطريق يوصل بالناس إلى المجد (فهم حكام على العالمين وملوك في أطراف الأرضين)[21]وهذه هي سنن الله، وحركة التاريخ التي يؤكدها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا﴾[22] وقوله عز وجل:﴿إِن تَعُودُواْ نَعُدْ﴾[23] فإذا تقهقرت الأمة إلى ذات الحالة المنحرفة، انحسر عنها فيض النصر وهذه من سنن الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.

 

ومن الممكن أن تبدأ الذنوب والمعاصي في ما يخامر الإنسان في فعل المكروه ثم ارتكاب ذنوب صغيرة، ثم التورّط في الكبائر وبعدها يسقط ـ معاذ الله ـ في أكبر الكبائر..

 

الأنانية والغرور تجرّان الإنسان إلى المخاطرة، يخدع الإنسان نفسه بالتسويف أي التوبة فيما بعد، ثم يصل إلى مرحلة أسوأ عندما تسدّ عليه منافذ التشخيص فيظن نفسه على الحق، وهو على باطل فهو يهدم ويظن نفسه يبني: ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾[24].

 

في بحثه المغالطة يقول ابن سينا أن الإنسان قلّما يغالط عندما يتباحث مع آخر لأنه يصغي بحذر، لكنه عندما يكون لوحده في مكتبته الشخصية يطالع مثلاً فكثيراً ما يقع في المغالطة لأنه لا يحتاط، وهو غافل عمّا يفعله العفريت في باطنه.

 

إننا نتوهم أن المقصود من: (أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك)[25] النفس الأمارة بالسوء في حين أن الحقيقة غير ذلك.

 

إنّ الشيطان لا يترك الذين ليسوا من أهل المعصية وحالهم.. إنه يطمع في إغوائهم دائماً، ربما ينجح في إيقاعهم في مغالطات فكرية.. أم تراه يتركهم يدركون الحق مباشرة؟ إنه ينفذ من خلال الوهم والخيال ويقوم بتغيير الحدود الوسطى، كما لو أنك ترتب منضدتك وأوراقك ثم يأتي شيطان صغير ويعبث في الأوراق مقدماً ومؤخراً.

 

كذلك شيطان الباطن يقوم بتغيير الحدود الوسطى باستمرار؛ وإذا حدث ولو أقل تغيير في الحدود الوسط في البرهان فإن ذلك يوقع الإنسان في المغالطة فيخدع نفسه وهو لا يدري!

 

يقول العلاّمة الطباطبائي[26]: (ربما يقضي الإنسان في ولاء للشيطان وهو لا يدري) أن معرفة النفس ليست أمراً ميسوراً.

 

يتساءل أبان بن تغلب حول حديث من قال لا إله إلا الله يوم القيامة دخل الجنّة: (من شهد أن لا إله إلا الله وجبت له الجنة.

 

قال: قلت له(الإمام الصادق): إنه يأتيني كل صنف من الأصناف فأروي لهم هذا الحديث؟

 

قال: نعم يا إبان أنه إذا كان يوم القيامة وجمع الله الأولين والآخرين فيُسلبُ منهم لا إله إلا الله إلا من كان على هذا الأمر)[27].

 

وكيف يستطيع غير الصادق أن ينطق بكلمة التوحيد الخالص في: ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[28] إنه يوم تتحرّر فيه جوارح الإنسان ولن تكون سيطرة على ملكاته، لأنها لو كانت خاضعة لنا ما شهدت ضدنا.

 

إنّ من لا يراقب نفسه فإنه سيكون عرضة لعفريت المغالطة الكامن في أعماقه، هذا العفريت الذي سوف يعبث المعايير.. وعندها يتصور المرء أنه على حق وهو على باطل وهذه المغالطة لا تقتصر على العلماء بل تشملنا جميعاً يخرّبون: ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾[29].

 

والإمام علي عليه السلام يؤكد على هذه النعمة الكبرى، نعمة الحكم الإسلامي.. هذه النعمة التي وهبها الله للبشر فإذا لم تصن وتحفظ، فإن كل الأشياء السيئة سوف تظهر بمظهر برّاق كالحسنات، وتكون النهاية اللجوء إلى الأجانب والغرباء:

 

(وإنكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر.. ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل، ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم، إلاّ المقارعة بالسيف بينكم حتى يحكم الله بينكم)[30].

 

أجل سوف يحدث هذا عندما تديرون ظهوركم للإسلام وتتركون الثقلين كتاب الله وعترة النبي صلى الله عليه وآله. عندما تفعلون ذلك وتولّون وجوهكم شطر الأجنبي...

 

ستكونون يومها عرضة لهجوم الكفار ولن تغيثكم السماء فلا جبرائيل ولا ميكائيل يأتيان لنجدتكم.

 

هذا: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[31] والملائكة لا تستطيع أن تهبّ للقتال إلاّ بإذن ربّهم ولا أذن لهم يومئذ.

 

يروي صاحب الاحتجاج (الطبرسي) عن رجل شامي سأل أمير المؤمنين علي عليه السلام عن البعد بين السماء والأرض فقال عليه السلام:

 

ـ (مدّ البصر ودعوة المظلوم).

 

ويعلّق العلاّمة الطباطبائي على هذه الإجابة(ربما في بحثه استجابة الدعاء) (أن هذا الحديث من غرر رواياتنا ومن لطائف بيان أهل البيت عليهم السلام.

 

لأن السائل إذا كان قصده المسافة والفاصلة فإنها مدّ البصر وإذا كان المقصود " سماء الغيب")[32].

 

من المستحيل أن لا تفعلُ دعوة المظلوم فعلها.. من غير الممكن أن تنبعث دعوة من القلب ثم لا تصل إلى الله سبحانه.

 

إنّ الذين يظلمون إنما يستندون في قدرتهم إلى قبيلة والى سلطة، أما المظلوم فيرنو إلى السماء فتنبعث من أعماقه نداءات الاستغاثة التي هي أجلى صور التوحيد في الأفعال ومن المستحيل ألاّ تستجاب.

 

فلماذا كل هذا الظلم اليوم ثم لا نرى أثراً للدعاء؟ هنا يكشف الإمام علي عليه السلام عن سرّ ذلك: لأن المسلمين أهملوا أصول الإسلام وتركوا الدين، وفي هذه الحالة وعندما تتعرضون أيها المسلمون إلى الظلم، لن يهب أحد لمساعدتكم وتقديم العون لكم: (ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ينصرونكم إلاّ المقارعة بالسيف بينكم حتى يحكم الله بينكم).

 

ثم يحذّر الإمام عليه السلام من ترك (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ( فإن الله سبحانه وتعالى لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلاّ لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)[33].

 

الموضوع الآخر في هذا البحث هو بيان القرآن الكريم وإشاراته إلى أسباب السقوط واندثار الظالمين.

 

فالخطاب القرآني موجه إلى الفئة التي حققت نصرها من خلال ارتباطها بالسماء وأصبحت قوة سياسية وكياناً ذا سيادة:

 

﴿وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ﴾[34].

 

ها أنتم الآن تجلسون في نفس الموقع الذي كان يحكم فيه الظالمون، وقد عرفتم أسباب سقوطهم أن هذه الأسباب لا تعرف استثناءاً لأحد. إنها قوانين السماء وحركة التاريخ تسري على الجميع.

 

إنّ موقعكم هو اختبار لكم: ﴿فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾[35]. وإنكم في هذا الموقع لا لشيء إلا ﴿لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾[36].

 

والقرآن الكريم بشكل عام تنقسم آياته إلى قسمين( بشير) و(نذير) والأنبياء والرسل جميعاً(مبشرون) و(منذرون).

 

إننا نجد القرآن الكريم زاخراً بالعلم والحقول العلمية، لكننا إذا تأملنا جانب الموعظة نجد له انتشاراً أوسع لماذا؟ لأن الموضوع العلمي لا يحتاج إلى تكرار، فمسألة رياضية يتعلمها الإنسان لا تحتاج إلى تكرر لقد أتقنها وانتهى (أما الموعظة فلازمة التكرار والتأكيد لماذا؟ لأن العدو الداخلي لا يهزمه العلم.. الشيطان عقد العزم على إغواء البشر منذ ظهور آدم.. عقد العزم على إغرائهم واستخدامهم مطايا له وقال صراحة يخاطب ربّ العزّة: ﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً﴾[37] و﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾[38] و﴿لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ﴾[39] و﴿لأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ﴾[40] وهو لا يكتفي بهذا فقط بل وسيتخذهم مطايا له.

 

وما دامت حالة الشيطان هي الإحتناك ومحاولة الركوب، فإن علينا ألا نهمل الموعظة والنصح، وأعمال مثل الطهارة الدائمة والصلاة في أول الوقت والجلوس باتجاه الكعبة، ولا نقوم بنفي أو إثبات كلام لم نتأكد بعد أحقيته أو بطلانه.. ومثل هذه الأعمال هي مقاومة للشيطان الذي يحاول ركوبنا وتسخيرنا واحتلالنا.

 

ومن هنا يمكن أن ندرك بأن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر، لكنه بطبيعة الحال ليس عسيراً على الذين هذبوا أنفسهم وروّضوها فهي راضية مرضيّة و﴿طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾[41].

 

والسرّ في صعوبة الجهاد الأكبر لأننا نواجه عدوّاً نذلاً لا يمتلك أدنى صفة في الفروسية والنبل.

 

مثلاً إننا عندما نواجه عدوّاً يتمتع بالفروسية والنبل فهو إذا شنَّ الحرب علينا فإنه سيعلن ذلك وأنه سيهاجمنا في اليوم الفلاني في الساعة الفلانية ونحن بدورنا نستعد للهجوم هذه فروسية.. أما أن يأتي عدوّ بقناع من الصداقة المزيفة فيحتل مواقعنا ويخرّب خنادقنا ثم يعلن تحدّيه لنا فهذه نذالة وخسّة وانحطاط، وستكون حربنا معه صعبة وشاقة جداً.. وهذه هي حربنا مع العفريت الكامن في أعماقنا!

 

عادة ما يظهر العقل في بدايات سن البلوغ ثم يصل ذروته في سن الأربعين إذن فأمامنا أربعون سنة حتى نعقل، أما الفترة التي تسبق هذه السن ومنذ مرحلة الطفولة حيث تموج النفس الإنسانية بالشهوة والغضب وحب الجاه والنفوذ والأنانية وهي تتحرك بكامل أسلحتها.

 

وفي الوقت الذي نبلغ فيه الأربعين ليدخل العقل ميدان الوعي تكون جميع المواقع محتلة.

 

ولذا جاء في ثقافة الإسلام وأدبياته تأكيد على ألا يسمع الطفل في لحظة الميلاد سوى كلمات الله فيؤذن في أذنه اليمنى ويهمس في أذنه اليسرى بالإقامة.

 

وألا تغذوه إلا الحلال وألاّ نتفوه على مقربة منه ألاّ بما يرضي الله سبحانه تلاوة قرآن أو موعظة أو قانون أخلاقي نابع من سورة النور لماذا؟

 

لأن الإنسان حتى في هذه المرحلة يحتاج إلى جهد وتعبئة عامة.. إنه في حالة حرب.

 

ومن المؤسف أننا لسنا كذلك ندرك المخاطر والعدو المتربص بنا وعندما ننتبه إلى ذلك نجد مواقعنا وخنادقنا محتلّة في قبضة العدو... وتكون مهمة تحرير المواقع وطرد العدو شاقة وعسيرة..

 

ولكن الله لا يخذل عباده فالدعاء مستجاب، وعمل الخير يضاعف لنا، ولطف الله يحمينا وهو معنا في جهادنا الأكبر.

 

 ــــــــــــــــــــ

 

[1] نهج البلاغة: الرسالة 53.

 

[2] المصدر السابق.

 

[3] النساء، الآية: 43.

 

[4] نهج البلاغة: الرسالة 53.

 

[5] المائدة، الآية: 20.

 

[6] نهج البلاغة:الخطبة 234.

 

[7] المصدر السابق.

 

[8] إشارة إلى استخدامهم في الرعي وسكنهم في مخيمات في حياة شبيهة بالتشرّد (المترجم).

 

[9] نهج البلاغة: الخطبة 234.

 

[10] المصدر السابق.

 

[11] المصدر السابق.

 

[12] المرجع الميرزا محمد حسن الشيرازي صاحب فتوى التنباكو التاريخية (المترجم).

 

[13] البقرة، الآية: 61.

 

[14] تاريخ مذبحة الفيضية(المترجم).

 

[15] البقرة، الآية: 61.

 

[16] بحار الأنوار: 1/132 الرواية 29.

 

[17] من الممكن أن يكون الإنسان متعلماً ولكنه ضالاً.

 

[18] بحار الأنوار: 27/74 الرواية 40.

 

[19] نهج البلاغة: الخطبة 1، بحار الأنوار: 88/32 الرواية 36.

 

[20] البقرة، الآية: 61.

 

[21] نهج البلاغة: الخطبة 234.

 

[22] الإسراء: الآية: 8.

 

[23] الأنفال، الآية: 19.

 

[24] الكهف، الآية: 104.

 

[25] نهج الفصاحة/ 66 حديث 33.

 

[26] صاحب تفسير(الميزان) (المترجم).

 

[27] بحار الأنوار: 3/12 الرواية 25.

 

[28] النور، الآية: 24.

 

[29] الكهف، الآية: 104.

 

[30] نهج البلاغة: الخطبة 234.

 

[31] الفتح، الآية: 4.

 

[32] سماء الغيب هي السماء التي لا تفتح أبوابها للكافرين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء﴾ الأعراف، الآية: 40. لا هذه السماء التي تجوبها سفن الفضاء.

 

[33] نهج البلاغة: الخطبة 234.

 

[34] إبراهيم، الآية: 45.

 

[35] الأعراف، الآية: 129.

 

[36] يونس، الآية: 14.

 

[37] الإسراء، الآية: 62.

 

[38] ص: الآية: 82.

 

[39] الحجر، الآية: 39.

 

[40] النساء، الآية: 119.

 

[41] الرعد، الآية: 29.