أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا خاتم النبيين أبي القاسم محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين وأصحابه الأخيار المنتجبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
السادة العلماء، السادة النوّاب، أيّها الإخوة والأخوات، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
يشرّفني أن أفتتح مؤتمركم هذا، والذي أعتبره خطوةً نوعيةً وتأسيسية في مجاله، إذ لعلّها المرة الأولى التي ينعقد فيها مؤتمرٌ فكريٌّ وعلميٌّ خارج إيران، يتناول فكر وشخصية سماحة الإمام السيّد الخامنئي (دام ظله) من عدة أبعاد. كما أنني في البداية أتوجّه بالشكر الجزيل إلى جميع القائمين والمقيمين لهذا المؤتمر والمؤسّسين له والمنظّمين وإلى جميع الحاضرين والمشاركين في جلستنا هذه، أيّ جلسة الافتتاح وفي جلسات المناقشة، وأخصّ بالشكر منهم السادة والسيّدات الذين شرّفونا من خارج لبنان، وتحمّلوا عناء السفر.
إن معرفتي الشخصية والمباشرة وعن قرب بسماحة الإمام الخامنئي تعود إلى العام 1986، حيث أتاحت لي اللقاءات الكثيرة والمتقاربة أن أتعرّف على الكثير من أفكاره وآرائه ومبانيه وطريقة تفكيره وطريقة تحليله للأحداث، وعلى منهجه في القيادة والإدارة واتّخاذ القرار، فضلاً عن المواصفات الأخلاقية الرائعة التي يتحلّى بها من تواضعٍ ولين جانبٍ ورحمةٍ وحلمٍ وسعة صدرٍ وزهدٍ وبساطة عيشٍ إلى غيرها من فضائل الأخلاق.
لقد قرأت الكثير من كتبه، وأستطيع الادّعاء بأنني تابعت الأغلبية الساحقة من كتبه وحواراته وبياناته منذ تولّيه القيادة بعد رحيل الإمام الخميني (قدّس سرّه الشريف) إلى اليوم، وأقول ذلك لكي أعطي شهادة، كما استمعت إلى كمٍّ كبيرٍ من دروسه الفقهية المسجّلة في عددٍ من أبواب الفقه، وبعد الاطّلاع على شهادات كثيرين ممن يعرفه عن قرب سواء كانوا فقهاء أو مفكّرين أو قادة أو نخباً سياسية وثقافية، وبعد متابعةٍ لسيرته الشخصية والعلمية والفكرية والجهادية والسياسية نستطيع القول وبكل صدقٍ وأمانة أنّنا بين يدي إمامٍ عظيمٍ في القيادة وحسن الولاية، وإمامٍ عظيمٍ في التقوى والزهادة، وإمامٍ عظيمٍ في الفقه والاجتهاد، وإمام عظيم في الفكر والتفصيل والتجديد. إننا بين يدي إمامٍ يملك رؤيةً شاملةً وعميقةً ومتينةً قائمةً على الأسس التالية:
أوّلاً: المباني الفكرية والعلمية الأصيلة.
ثانياً: معرفة الحاجات المعاصرة والمشاكل القائمة.
ثالثاً: معرفة الإمكانات البشرية والمادّية المتاحة لأمّتنا.
رابعاً: معرفة الحلول المناسبة والمنسجمة مع الأصول والأسس الإسلامية.
ولذلك نجده يقارب كل الأحداث والتطوّرات والموضوعات بوضوحٍ وعمق انطلاقاً من هذه الرؤية الشاملة، ومع كل الشرائح التي يلتقيها وعلى اختلاف تخصّصاتها واهتماماتها، ستجد أنك أمام قائدٍ يحيط بالموضوع إحاطة عارفٍ حتى بالتفاصيل، ويتحدّث فيه كصاحب اختصاص، ويقدّم فيه كل جديد وبشكلٍ مستدام.
سأذكر بعض الشرائح على سبيل المثال مما تابعته من خلال المتابعة الإعلامية في لقاءات سماحة السيّد القائد:
* العلماء وأساتذة الحوزات العلمية: عندما يلتقي بالعلماء وأساتذة وطلاّب الحوزات العلمية يتحدّث عن الحوزة كخبير عن مناهج الدراسة وعن طرق الدراسة وعن أساليب التطوير، وعن الحفاظ على الأصالة وإيجابيات المناهج التقليدية والكلاسيكية والأخذ بما هو معاصر...
* المفكّرين والمثقّفين وأساتذة الجامعات وطلاّبها: يتحدّث عن مناهج الدراسة في الجامعات ومشاكل الجامعات وآفاق الجامعات كأيّ أستاذ جامعي خبير ومطّلع وضليع.
* الفعاليات النسائية المختلفة: حيث يقدّم في هذه اللقاءات رؤيته حول المرأة ومكانتها ودورها ومسؤولياتها في التحديات المعاصرة.
* مع رجال الاقتصاد والمؤسسات الاقتصادية: يتحدّث في المجال الاقتصادي حيث يقدّم رؤية وسياسات عامة يدعو النظام الإسلامي للالتزام بها.
* مدراء ومعلّمي المدارس، الأطبّاء والمهندسين والمزارعين والفلاّحين: قبل مدة كان له لقاء مع الصناعيين، حيث تحدّث مطوّلاً عن الصناعة.
* مع السينمائيين: يتحدّث عن الأفلام وإنتاج الأفلام والأهداف والتطوّر والتطوير.
* مع الفنّانين: في مجال الشعر والموسيقى والرسم والنشر.
* مع حفّاظ وقرّاء القرآن المجيد، ومع المدّاحين للنبيّ ولأهل بيته.
* في مجال البيئة.
فضلاً عن القادة السياسيين، وحتى في المجال العسكري: أنا كنت حاضراً في جلسة كان يتحدّث فيها - بالصدفة - فاكتشفت أنه يعرف أنواع الأسلحة المختلفة والاستراتيجيات العسكرية حتى تكتيكات القتال واستخدام السلاح.
في الحقيقة نحن نجد أنفسنا أمام شخصيةٍ عظيمةٍ واستثنائيةٍ من هذا النوع، ونرى أن الكثيرين في هذه الأمّة لا يعرفون عنها إلا القليل. ندركُ كم هو مظلومٌ وغريبٌ هذا الإمام وهذا القائد في أمّته، وحتى في إيران - بالإذن من الإخوة الإيرانيين- وحتى في البعد الأبرز والأوضح في شخصيته وهو البعد القيادي والسياسي من خلال تصدّيه لمسؤولية قيادة الأمّة منذ اثنين وعشرين عاماً، ولأنك أمام شخصيةٍ في الحقيقة يحاصرها الأعداء ولا يؤدّي حقّها الأصدقاء، بكل ما للكلمة من معنى. يحاصرها الأعداء، يحجبون حقيقتها ونورها عن العالم وعن الأمّة، ولا يؤدّي حقّها الأصدقاء.
مسؤوليتنا أن نعرّف الأمة على هذا الإمام العظيم لتستفيد من بركات وجود هكذا قائد وفقيه ومفكّر لخير حاضرها ومستقبلها ودنياها وآخرتها، وهي التي تواجه من التحدّيات على كل صعيد ما لم تواجهه أمّتنا خلال كل العقود والقرون السابقة، وهذه هي مهمة هذا المؤتمر البالغة الأهمّية والحسّاسية.
أودّ في الوقت المتاح أن أقدّم شهادة سريعة حول البعد القيادي والسياسي في شخصية الإمام من خلال مواقف وتجارب مباشرة لي مع سماحته، تبيّن مدى إحاطته ودقّته وعمقه وصحّة تحليلاته وتوقّعاته حول بعض أحداث الشرق الأوسط ومنطقتنا بالخصوص، وبالتالي صوابية المواقف الحكيمة والشجاعة التي اتّخذها وما زال يتّخذها.
وأنا سأتحدّث عن بعض الشواهد، ولديّ منها الكثير، ولكن أكتفي بقليل منها نظراً لضيق الوقت، وآخذاً بعين الاعتبار المحاذير والظروف السياسية، يعني حتى ما سأقوله لن أقوله كاملاً وإنما أكتفي بالمقدار الذي لا أتجاوز فيه المحاذير، وأراعي فيه الظروف السياسية اللبنانية والإقليمية.
في الحقيقة أنا أعددت شواهد من منطقتنا، عندما يكون فقيه في إيران، مفكّر إسلامي في إيران أو قائد في إيران يتعاطى مع أحداث منطقتنا هنا بهذه الدقّة، بهذا الوضوح، فهذه علامة فارقة وأساسية. نحن لا نتحدّث عن رجل يعيش في لبنان أو في سوريا أو في فلسطين أو في مصر أو في الأردن، يعني في ساحة الصراع المباشرة. واخترت وقائع إشارتي فيها كافية لأنها وقائع عايشناها جميعاً خلال العقدين الماضين.
أبدأ من مؤتمر مدريد 1991. كلنا يذكر عندما جاء الأميركيون بعد عاصفة الصحراء، وتغيّرت معادلات في المنطقة وفي العالم، وأصبحت أميركا هي القوى العظمى الوحيدة ودعت الجميع.
ولأول مرة تجلس وفود عربية على طاولة واحدة، من كل الدول العربية بما فيها لبنان وسوريا على الطاولة في تلك المرحلة نتيجة أن هناك معادلات دولية تبدّلت، هناك متغيّرات كبرى حصلت في العالم وفي المنطقة، ومن جهة أخرى أن الإدارة الأميركية أعلنت تصميمها على إنجاز ما يسمّونه سلاماً عادلاً وشاملاً ونسمّيه تسوية مفروضة. اعتقد الكثيرون، بل سادت حالة من الإجماع أو شبه الإجماع في منطقتنا تقول إننا أصبحنا على مشارف التسوية وأن لا مفر من التسوية لأن الأميركيين سيفرضون شروط الحلّ على جميع الدول المعنية بهذه التسوية.
في ذلك اليوم أنا أذكر أن الإمام الخامنئي كان له رأي خارج هذا الإجماع أو شبه الإجماع.
وهكذا ستلاحظون في بقية الشواهد التي سأتحدّث عنها، قال إن هذا المؤتمر لن يصل إلى نتيجة، وإن هذه التسوية لن تنجز، وإن أمريكا لن تستطيع أن تفرض تسوية على حكومات وشعوب هذه المنطقة.
والآن وبعد مضي ما يقارب العشرين سنة نستمع إلى أطراف مشاركة في المفاوضات وبعض الشخصيات التي كانت في مؤتمر مدريد واستمرت في التفاوض عندما تتحدّث عن عقدين من الخيبة والإحباط والتيه والضياع الذي أدّى إليه ما يسمّى بالمفاوضات.
في عام 1996، الكل يذكر أيضاً التطوّر أو الاختراق الكبير الذي حصل في المفاوضات الإسرائيلية – السورية وما قيل عن وديعة رابين واستعداد اسحاق رابين للانسحاب - كما قيل في ذلك الحين - إلى خط الرابع من حزيران 1967، يعني من الجولان السوري المحتلّ وصولاً إلى خط الرابع من حزيران 1967، وسادت حالة في منطقتنا في لبنان وسوريا وفلسطين والأردن ومصر وكل المنطقة هنا. الكل بدأ يقول: هناك تسوية ستنجز وخصوصاً أنه في 1993 كان قد تمّ توقيع اتفاقيات أوسلو والسلطة الفلسطينية مستمرة في التفاوض.
إذن، مصر انتهت، الأردن وقّع اتفاق وادي عربة، السلطة الفلسطينية وقّعت اتفاقية أوسلو وبقي لبنان وسوريا، الشرط الأساسي لإنجاز تسوية بين إسرائيل وسوريا هو إقرار إسرائيلي بالانسحاب إلى خط الرابع من حزيران، هذا إسحاق رابين قد أقرّ، إذاً الأمور أصبحت في نهاياتها وما تبقّى هو مجرد مجموعة من التفاصيل التي يمكن خلال بعض جولات من التفاوض أن يتمّ إنجازها.
وأنا أذكر في تلك المرحلة هذا الجو السائد، جاء من يقول لنا في أكثر من مكان ومن أكثر من مكان إنّه لا تتعبوا أنفسكم - وتعرفون أنّه عام 1996 كانت المقاومة في خط بياني تصاعدي - والأمور انتهت ولا داعي لتقدّموا دماء وشهداء وقتالاً وتضحيات ومواجهات، بل هناك من دعانا لأن نبدأ بترتيب أمورنا على قاعدة أنّ التسوية قد أنجزت، ودعانا إلى أن نعيد النظر ليس فقط بماهيتنا كحركة مقاومة بل حتى باسمنا وبهيكلياتنا وبخطابنا السياسي وبرنامجنا السياسي، والتفكير ماذا نفعل بسلاحنا وإمكانياتنا العسكرية التي كانت متوفّرة في ذلك الحين على قاعدة أنّ الأمور قد انتهت.
طبعا إنّ أيّ خطأ في التقدير في ذلك الحين قد تكون له آثار خطيرة، لأنّ المقاومة عندما تصاب بالشلل أو بضياع الرؤية أو عندما تتوقّف، فما أنجز بعد 1996 ما كان لينجز، وأعني الانتصار عام 2000.
خارج هذا الإجماع الذي كان مسيطراً في لبنان - وأقول لكم هذا التحليل كان موجوداً في إيران بدرجة كبيرة جداً عند عدد كبير من المسؤولين - ولكن عندما ذهبنا إلى سماحة الإمام الخامنئي (دام ظله) وكنت أنا وعدد من الإخوة وقُدِّمت هذه الرؤية، وأن هذا هو الموجود والمطروح في المنطقة، سماحة الإمام الخامنئي قال بوضوح: أنا لا أعتقد أنّ هذا الأمر سيتم، ولا أعتقد أنّ هذه التسوية بين إسرائيل وسوريا وبالتالي مع لبنان ستنجز. أنا أقترح عليكم - وهذا من أدب سماحة السيد القائد، وهو دائماً يتحدّث بهذه اللغة - أنا أقترح عليكم أن تواصل المقاومة عملها وجهادها بل أنّ تصعد في عملها وجهادها لكي تحقّق إنجاز الانتصار، ولا تعيروا آذانكم وعقولكم لكل هذه الفرضيات ولكل هذه الاحتمالات ولكل هذه الدعوات. طبعاً هذا كلام كنّا ننظر إليه في تلك الساعة على أنّه خارج كل التحليل، كل المعطيات، وكل السياق الذي نراه نحن في لبنان ويراه كثيرون في المنطقة.
بعد عودتنا من ذلك اللقاء، أنا أذكر أنّه فقط بعد أسبوعين أو ثلاثة أسابيع ليس أكثر، كان إسحاق رابين يخطب في تل أبيب، وتقدّم متطرّف صهيوني - وكلهم متطرّفون - وأطلق النار على إسحاق رابين فقتل، وقام مقامه شيمون بيريز.
وفي ظرف كانت فيه حركتا حماس والجهاد الإسلامي بشكل خاص قد تعرّضتا لضربات قاسية جداً حتى ظنّ البعض أن لا حول ولا طول ولا قوة ولا قدرة للمقاومة الفلسطينية على تنفيذ عمليات، فكانت العمليات الاستشهادية في القدس وفي تل أبيب التي هزّت الكيان الإسرائيلي في تلك المرحلة كما تذكرون، ثمّ جاء التوتّر مع الجنوب اللبناني، وانعقدت قمّة في شرم الشيخ جمعت قادة العالم عام 1996 للدفاع عن "إسرائيل" ولإدانة ما سُمِّيَ بـ "الإرهاب" وحُدّد بالاسم حماس وحركة الجهاد الإسلامي وحزب الله، ووجّهت تهديدات وصدرت قرارات لمحاصرة هذه الحركات "الإرهابية" باعتبارهم، ولتجفيف مصادر تمويلها والضغط عليها، ثمّ كانت معركة عناقيد الغضب في نيسان عام 1996 وسقط بعدها في الانتخابات شيمون بيريز وجاء نتنياهو وعادوا إلى الصفر، إلى المربع الأوّل.
من أين للإمام الخامنئي أن يصل إلى نتيجة وإلى اعتقاد واضح وجازم من هذا النوع في الوقت الذي كانت فيه كل النخب السياسية والمحلّلين السياسيين والقادة السياسيين في المنطقة يرون الأمور تسير باتّجاه مختلف. هذا الشاهد الثاني.
الشاهد الثالث، في مسألة المقاومة في لبنان كان دائماً يتحدّث عن انتصار المقاومة، لكنّه إلى ما قبل العام 2000 لم يتحدّث عن زمن، كان يتحدّث عن مبدأ الانتصار، وكان يقول لنا إنّه مؤمن بانتصار المقاومة بناءً على فهمه العقائدي لقوله تعالى: >إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ<، ولأوّل مرة أنا أسمع من يقول لنا "ليش الله بيمزح، الله لا يمزح" بهذا التبسيط، الله يتكلّم معنا بجدّية ويقول: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾، هذه المقاومة تنصر الله والله ناصرها حتماً. بعد عام 1996 كان يقول إنّ الإسرائيلي في وضع كالعالق في الوحل، فلا هو قادر على التقدّم واجتياح لبنان من جديد، ولا هو قادر على الانسحاب إلى فلسطين المحتلة لمخاطر هذا الانسحاب بلا قيد أو شرط، ولا هو قادر على البقاء في مكانه، فهو عالق في الوحل وفي مأزق شديد، وعلينا أن ننتظر لنرى ماذا سيفعل هذا الإسرائيلي. لكن بطبيعة الحال، الأمر مرهون باستمرار المقاومة.
أواخر عام 1999 حصلت انتخابات رئاسة حكومة في الكيان الإسرائيلي، وتنافس كلٌّ من إيهود باراك و(بنيامين) نتنياهو، وكلاهما وعد بأنّه إن فاز سينسحب من لبنان، إيهود باراك حدّد موعداً زمنياً للانسحاب، وأذكر أنّه 7 تموز عام 2000، وكانت الأسابيع والشهور تتقدّم. الجوّ الحاكم في لبنان وسوريا والمنطقة كان أنّه سوف نصل إلى الموعد ولن ينسحب الإسرائيليون من الشريط الحدودي المحتل. باراك سعى من خلال الأمريكيين والأوروبيين ودول أخرى في العالم للحصول على ضمانات أو ترتيبات أمنية أو اتفاقات أمنية مع الحكومة اللبنانية أو مع الرئيس الراحل حافظ الأسد وفشل، المناخ الحاكم عند الجميع أنّ جيش الاحتلال لن ينسحب وعندما يأتي الوعد من السهل على ايهود باراك أن يتخلّف عن الموعد ويقول لشعبه: لقد وعدتكم بالانسحاب في السابع من تموز ولكن حيث أنني لم أحصل لا على ضمانات ولا على ترتيبات ولا على شروط أمنية فالانسحاب هو خطر وخطأ استراتيجي كبير لن أقدم عليه. وأنا لا أخفيكم، حتى نحن في حزب الله على المستوى السياسي وعلى المستوى الجهادي، حالنا كبقية القوى السياسية الأخرى الموجودة في البلد وفي المنطقة، كنّا نتبنّى وجهة النظر هذه.
أيضاً كان لنا زيارة للجمهورية الإسلامية ولقاء مع سماحة الإمام الخامنئي، ونحن شرحنا وجهة نظرنا حول الأحداث وحول التوقّعات. إلاّ أنّ سماحة الإمام الخامنئي كان له رأيٌ مختلفٌ تماماً ومفاجئ. هو قال وفي محضر جمع من الإخوة: "إنّ انتصاركم في لبنان قريب جدّاً جدّاً، وهو أقرب مما تتوقّعون، وسوف ترونه بأمّ أعينكم"، وهذا كان خلاف كل التحليل والمعطيات والقراءات والمعلومات، بل حتى في المعلومات لم يكن هناك أيّ مؤشر في ذلك الحين على تحضيرات إسرائيلية للانسحاب من جنوب لبنان. وقال للإخوة: "عندما ترجعون إلى لبنان حضّروا أنفسكم لهذا الإنجاز، ما هو خطابكم السياسي، كيف ستتصرّفون إذا انسحاب العدو الإسرائيلي إلى الحدود".
نحن ذهبنا برؤية ورجعنا برؤية مختلفة، ولذلك لم يفاجئنا الانسحاب المفاجئ في 25 أيار، وكنّا قد حضّرنا أنفسنا جيّداً للتصرّف مع منطقة الشريط الحدودي والعملاء وسكان المنطقة والتعاطي مع الحدود، عندما نصل إلى الحدود.
في حرب تموز، في الأيام الأولى، والتي كانت حرباً عالمية على مستوى القرار وعربية على مستوى الدعم وإسرائيلية على مستوى التنفيذ - عربية فيما يعني بعض الدول العربية التي تبنّت قرار الحرب - وكان العنوان سحق المقاومة في لبنان، وقد شهدتم جميعاً قساوة وعنف الهجمة الإسرائيلية، خصوصاً في الأيام الأولى، حيث كان الحديث عن أيّ انتصار، بل الحديث عن النجاة والخروج من هذه الحرب بستر وعافية هو أقرب إلى الجنون، لأنك في حركة مقاومة معروفة الإمكانيات، وفي بلد صغير، ويتآمر عليها العالم كله وتشنّ عليها حرب بهذه الضراوة والقسوة.
وصلتني رسالة شفهية حملها أحد الأصدقاء إليّ إلى الضاحية الجنوبية، وكانت الأبنية تتهاوى في القصف الإسرائيلي، رسالة شفهية من عدة صفحات، لكن سأقتصر على بعض الجمل التي تنسجم مع سردنا. قال الإمام الخامنئي في تلك الرسالة الشفهية: يا إخواني، هذه الحرب هي أشبه بحرب الخندق، حرب الأحزاب، عندما جمعت قريش ويهود المدينة والعشائر والقبائل كل قواها وحاصرت رسول الله (ص) وأصحابه في المدينة وأخذت القرار باستئصال وجود هذه الجماعة المؤمنة، هذه حرب مشابهة لتلك، وستبلغ القلوب الحناجر وتظنّون بالله الظنون، ولكن توكّلوا على الله، أنا أقول لكم أنتم منتصرون حتماً، هذه في الأيام الأولى، أنتم منتصرون حتماً، بل أكثر من ذلك أقول لكم: عندما تنتهي هذه الحرب بانتصاركم ستصبحون قوّة لا تقف في وجهها قوة.
من كان يمكن أن يتوقّع أو يصل إلى استنتاج من هذا النوع وخصوصاً في الأيام الأولى للحرب؟
بعد أحداث 11 أيلول - الشاهد ما قبل الأخير - وقرار الإدارة الأميركية بشنّ الحرب على أفغانستان. وكانت بدايات، يعني إرهاصات، بدء الحرب على أفغانستان ووصول الأساطيل والقوات الأميركية والتهديد أيضاً باحتلال العراق، بعد الانتهاء من أفغانستان.
تذكرون في تلك المرحلة كيف اهتزّت العقول والقلوب والأنفس، واعتقد كثيرون أن منطقتنا قد دخلت في العصر الأميركي وفي ظل هيمنة وسيطرة أميركية مباشرة وأن هذه السيطرة الأميركية سوف تبقى في منطقتنا لمائة عام ومائتي عام، والبعض خرج ليشبّه الغزوة أو الحرب الأميركية الجديدة بالحروب الصليبية ويقيس احتلالها بتلك المرحلة ويتحدّث عن مئة عام ومئتي عام.
أنا كنت في زيارة للجمهورية الإسلامية، تشرّفت بلقاء الأمام الخامنئي وسألته عن رأيه.
هنا نتحدّث عن إيران، عن إنسان يسكن في إيران وهو قائد إيراني ومسؤول عن إيران والأميركيون قادمون لمهاجمة أفغانستان في جواره، على العراق في جواره، والأساطيل والقواعد العسكرية تحيط به من كل جانب، أيّ لا نقوم بسؤال محلّل سياسي أو مفكّر سياسي أو باحث سياسي أو مركز دراسات، نتحدّث مع قائد على ضوء رؤيته سوف يتّخذ قراراً ويرسم سياسة، قال لي خلاف كل ما كان شائعاً في المنطقة.
يومها كثير من الحكومات والقوى السياسية بدأت تتدارس كيف سترتّب أمورها مع الأميركيين، وكيف ستتحّدث معهم وتجد حلولاً معهم، حتى بعض المسؤولين في الجمهورية الإسلامية - وهذا كلام السيّد القائد في شهر رمضان، ولو لم يقل سماحته هذا الكلام قد لا يكون لائقاً أن أقوله - حتى بعض المسؤولين في الجمهورية الإسلامية كانوا يأتون إلى سماحة السيد القائد ويقولون له: هذه هي الوقائع الجديدة، وعلينا أن نفتّش عن مخارج أو طريقة للحوار أو تسويات ما مع الإدارة الأميركية، لكنه كان يرفض انطلاقاً من رؤية إستراتيجية للواقع والحاضر والمستقبل. قال لي في ذلك اليوم بعد أن سألته وقلت: هناك جوّ قلق في المنطقة، طبيعي، حتى نحن كنا قلقين، قال لي: قل للأخوة لا تقلقوا، الولايات المتحدة الأميركية وصلت إلى الذروة، إلى القمة، هذه بداية الانحدار، عندما يأتون إلى أفغانستان وإلى العراق فإنهم ينحدرون إلى الهاوية، هذه بداية نهاية الولايات المتحدة والمشروع الأميركي في منطقتنا، ويجب أن تتصرّفوا على هذا الأساس.
هذا الكلام مبني على قراءة، على معطيات.
مع ذلك، أنا سألت: كيف ذلك؟ ما هو ظاهر شيء آخر.
قال: عندما يعجز المشروع الأميركي أو عندما تعجز الولايات المتحدة الأميركية، ولا تستطيع أن تحفظ مصالحها من خلال الأنظمة التابعة لها في المنطقة، ولا تكفيها الجيوش والقواعد والأساطيل الموجودة في المنطقة، وتضطر أن تأتي بقواعدها وأساطيلها من كل أنحاء العالم إلى هذه المنطقة، هذا دليل عجز وليس دليل قوة، وثانياً هذا يؤكّد جهل الحكّام وأصحاب القرار في أميركا بشعوب هذه المنطقة الذين يرفضون الإحتلالات والهيمنة والسيطرة وينتمون إلى ثقافة وتاريخ الجهاد والمقاومة، ولذلك عندما يأتي الأميركيون إلى هنا سوف يغرقون في الوحول ويبحثون عن سبيل للهروب، ولذلك ما يحصل ليس مدعاة للخوف بل مدعاة للأمل الكبير بمرحلة تتحرّر فيها الأمّة من هيمنة المستكبرين.
هنا، الإنسان حقيقة يتوقّف أمام جانب مضيء ومهم في قيادة هذا الإمام لا يعرفها الكثيرون. أستطيع أن أقول لكم إنه خلال العقد الماضي، أمّتنا ومنطقتنا واجهت أخطر حرب - لعلّه - في تاريخها، الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها الغربيون سادة العالم بكل قواهم العسكرية والأمنية والاستخبارية بكل إمكانياتهم الإعلامية والتقنية والمالية والاقتصادية، بكل حروبهم النفسية، بكل ما أوتوا من قوة، جاؤوا ليسيطروا على هذه المنطقة، ليحتلّوا بلادنا، ليسقطوا بقية أنظمة الممانعة وحركات المقاومة، وهذا كان مشروع جورج بوش الواضح، وليقيموا الشرق الأوسط الجديد. الإمام الخامنئي كان قائد المواجهة في أخطر وأقوى وأصعب حرب تحتاج إلى الكثير من العقل، إلى الكثير من الحكمة، إلى الكثير من الدراية، وإلى الكثير من الشجاعة، ولكن حتى الآن لا يمكن كشف عن جوانب عديدة من هذا الدور الذي لعبته هذه القيادة العظيمة.
أختم بالشاهد الأخير، موضوع "إسرائيل".
سماحة الإمام الخامنئي يعتقد - وأنا أتحدّث عن جلسات داخلية غير الخطابات، وهذا يقوله في الخطابات - أنّ إسرائيل، هذا الكيان، هي إلى زوال، يعتقد جازماً. ويعتقد أنّ زوال إسرائيل ليس بعيداً أيّ ليس في زمن بعيد بل يراه قريباً، ويعتقد أنّ هذه التسوية لن تصل إلى مكان.
كل ما يجري الآن حولنا في فلسطين وفي منطقتنا، سواء ما حصل في مسارات التفاوض أو في إنجازات وانتصارات حركات المقاومة في لبنان وفي فلسطين، أو على مستوى الهبّة الأخيرة للشعب الفلسطيني خارج الأراضي المحتلة يثبت أنّ (الشعب الفلسطيني) صاحب إرادة صلبة في المقاومة، أيّ بعد أكثر من 60 سنة، الألم والمصائب والعذابات التي لحقت بهذا الشعب لم تدفعه إلى اليأس ولا إلى الإحباط، هناك قادة سياسيون محبطون، ولكن هذا الجيل من الشباب الذي يسمع بالنكبة وبالنكسة ولكنه شهد زمن الانتصارات، هذا الجيل يؤكّد أننا أمام أجيال من الشعب الفلسطيني تعيش أملاً قوياً واندفاعة عظيمة وهائلة للعودة إلى الأرض.
ما يقوله الإمام الخامنئي عن "إسرائيل" يمكن أن نفهمه ببساطة عندما نفترض تراجع القوى الأمريكية في المنطقة والزعامة الأمريكية في العالم، ونفترض حصول تطوّرات لمصلحة مشروع المقاومة والممانعة في المنطقة، ونفترض اليأس من مسار المفاوضات، ونرى هذا الاستعداد للتضحية في عيون الشباب الفلسطيني والشباب العربي والشباب المسلم عموماً، ونرى أيضاً هذا الترهّل والوهن وغياب الزعامات والقيادات التاريخية في "إسرائيل"، ونقيّم تجربة حرب تموز وحرب غزة، سوف نعتقد مع الإمام الخامنئي أيضاً أنّ "إسرائيل" إلى زوال في وقت قريب جدّاً إنشاء الله.
هذه الصوابية مبنيّة - وأنا هنا لا أريد أن أتحدّث عن بُعْد غير حسّي في هذا الفهم وفي هذه التوقّعات - هذه الصوابية مبنية على متانة وصحة القواعد والمنطلقات في فكر الإمام الخامنئي وفي فكره السياسي، وعلى قراءة صحيحة للوقائع، وأيضاً على شجاعة الإمام القائد. انظروا، حتى لو كان هناك قواعد فكرية صحيحة وقراءة صحيحة للوقائع، لكن هناك شخص جبان وخائف، سيغيّر القواعد الفكرية والوقائع لمصلحة موقف ضعيف واهن استسلامي. وشجاعة هذا القائد، بالتأكيد، مع التسديد الإلهي - وهذا وعد الله سبحانه وتعالى للمجاهدين: >وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ< - نشهد هذه الظاهرة القيادية الواعية العارفة التي تقرأ حتى خارج ما يسمّى بإجماع العقول السياسية والمحلّلين ومراكز الدراسات والتوقّعات العادية.
اليوم، ونحن نفتتح هذا المؤتمر لا بدّ أن نقف مجّدداً بإجلال واحترام وتقدير كبير أمام الفلسطينيين وخصوصاً أولئك الشباب المجاهد والمقاوم والشجاع والباسل من الفلسطينيين والسوريين الذين احتشدوا عند حدود الجولان السوري المحتل، وإصرارهم على الحضور والمشاركة والتحدّي والمواجهة والتصدّي وسقوط عشرات الشهداء ومئات الجرحى في رسالة واضحة للتصميم والعزم الموجود في هذه الأمّة، وفي كشف جديد أيضاً لحقيقة الإدارة الأمريكية والحكومات الغربية وخصوصاً الإدارة الأمريكية التي تطمح بمصادرة الثورات العربية وخداع عقول الشباب العربي. جاء هذا الدم الجديد ليفضح هذه الإدارة ومواقفها وخلفياتها ومنطلق وليؤكّد التزامها المطلق بك "إسرائيل" كما قال أوبانا وكما قال الكونغرس الأمريكي الذي كان يصفق لنتنياهو قبل أيام، بل بالعكس تقف الإدارة الأمريكية لتقول أنّ ما جرى بالأمس عند الحدود هو دفاع مشروع عن النفس، أيّ ليس هناك إدانة ولا لوم وتقول لـ "إسرائيل": "الله يعطيكِ العافية".
هذه هي أمريكا التي تحدّثنا عن حقوق الإنسان وعن الكرامة وعن الحرّية، هذه الدماء الزكيّة بالأمس هي شاهد جديد لتكريس الوعي السياسي والتاريخي الذي أطلقه وكرّسه الإمام الخميني (قدّس سّره الشريف) ومن بعده سماحة الإمام الخامنئي.
هذه بعض الشواهد لأحد الأبعاد في شخصية هذا الإمام، عندما نتحدّث عن قائد حكيم وشجاع ومدير ومدبّر، ننطلق من هذه الوقائع التي هي قليل ممّا نعرف ومما لا يمكن أن نقول.
أرجو أن يوفّق مؤتمركم للقيام ببعض الواجب الملقى على عاتق علماء هذه الأمّة ونخبها ومفكّريها ومثقّفيها في التعريف بأعلامها وقادتها وخصوصا في زمن الفتن الكبرى.
وفّقكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بيروت / فندق غاليريا / 3 رجب 1432هـ - 6 يونيو 2011م
تعليقات الزوار