استعرض آية الله الشيخ عيسى قاسم في خطبة صلاة الجمعة تطورات الوضع في البحرين، محذرا من استشراء روح الكراهية بين أبناء الوطن الواحد، وداعيا إلى التراجع عن أحكام الإعدام التي صدرت بحق ناشطين بحرانيين، كل ذلك من مدخل رؤية قرآنية تعتبر أنّ الانتصار في الدنيا بالباطل هزيمة.

 

ابتدأ آية الله الشيخ عيسى قاسم خطبته الثانية ليوم الجمعة من مسجد الإمام الصادق (ع) بالدراز بتوجيه تربوي وأخلاقي يتناسب مع المحنة التي يجتازها الشعب البحريني المظلوم، فكان الحديث عن الدنيا محط الابتلاء. يقول سماحته: للإنسان في الدنيا جولةٌ قصيرة، وفي الآخرة بقاءٌ في امتداد.. الدنيا جولةٌ لا تطول فيها متعٌ أو كرب، وانتصاراتٌ أو هزائم، وغنىٍ أو فقر، وصحةٌ أو مرض، وهي منتهيةٌ بكل ما فيها وبكل أفرادها وجماعاتها ودولها ومظاهرها وزينتها وأفراحها ومآسيها، حقيقةٌ لا تنكر ولا مفر منها.. وخيرها قليلٌ عند خير الآخرة، وشرها ضئيلٌ عند شر الآخرة، وما خيرٌ بخيرٍ إذا كان عاقبته النار، وما شرٌ بشرٍ إذا كان عاقبته الجنة.

 

وعن الموازين الحق في الدنيا يقول آية الله قاسم: الانتصار في الدنيا بالباطل هزيمة، لأن ثمنه خسارة النفس وسقوطها ونأيها عن الله، وضريبته النّار، وغناها به فقر، وسلامتها به عطبٌ كذلك، لأن ليس أغلى عن العاقل من مضمون ذاته الإنساني الذي لا يبقي منه الباطل شيء ولا يسلم له منه معنى.

 

وأشار سماحته إلى الفرق الكبير في الوزن والقيمة بين الدنيا والآخرة، وبين الإنسان في جانبه البدني وجانبه الروحي، وهو مما يتخذ منه العاقل قاعدةً ومنطلقاً لعددٍ من الأمور:

 

أولاً : قاعدةً ومنطلقاً لأن يبني انتماءه وانحيازه ومواقفه وخياراته على أساسٍ من موازين الحق والعدل دون النظر إلى ما عليه الخارج من وزنٍ مادي.

 

ثانياً : قاعدةً ومنطلقاً لعدم الغرور لما يكون له من قوة الدنيا وغناها، وصحتها وشهرتها، وكل ما يعد خيرا من خيرها، لعلمه بأنه خيرٌ مفارق..

 

ثالثاً : قاعدةً ومنطلقاً لعدم انكسار النفس أمام شر الدنيا ومحنها، وعدم فقد شيءٍ من الوزن المعنوي والشعور بالكرامة والقيمة الإنسانية وقيمة الانتماء للحق في أي مأزقٍ من مآزقها، وعند أي شدّةٍ مما تأتي به الأيام.

 

رابعاً : قاعدةً ومنطلقاً لعدم الفتور عن العمل للآخرة والإعداد ليومها، في أي شدةٍ ومحنةٍ من محن هذه الحياة بسلوك طريق الطاعة لله والصبر على هذا الطريق، وصناعة النفس على ضوء هدى الله.

 

وحذر سماحته من استشراء روح العداوة والبغضاء بالنظر لعملية الاضطهاد المذهبي وإجراءات الانتقام التي أقدمت عليها السلطة الغاشمة في البحرين، مما قد يهدد حالة التعايش بين المواطنين من كل المذاهب، يقول سماحته: وإذا أردت أن تصب عليك المشاكل صبا..وتفسد الأحوال، ويعسر الإصلاح، ويمتنع التدراك، فاسمح لروح العداوة أن تأخذ مكانها وتتمدد في بلدك ودولتك بين أبناء أمتك أو شعبك.

 

هذه نارٌ بدايتها قد تكون محكومة ولكن نهاياتها خارجةٌ عن الحكم والتقدير، وعواقبها دائماً وخيمة، ويضيف: نشر العداوة بين أهل البيت الواحد، المؤسسة الواحدة، الأمة الواحدة، القطر الواحد فيه تضييع جهود، تقويض أمن، نشر فوضى، لعبٌ بالنار، حرق أعصاب، تعطيل حياة، وكل ذلك يمنع منه العقل والدين والإخلاص والحكمة، وتلح على الدرء منه المصلحة العامة المشتركة.

 

واستدرك سماحته موضحا:هذا الكلام ليس إنشاءً وإنما هو حقيقة يحدّث بها كل التاريخ، وكل الحياة، والواقع في كل مكانٍ عاش تجربة العداوات الداخلية. فهل من معتبر؟ وهل من عبرةٍ واتعاظ؟

 

وعن الموضوع الحساس والمؤلم؛ موضوع السجينات والمختطفات قال الشيخ قاسم: كرامة المرأة شعارٌ من شعارات الدنيا اليوم.. وأضاف: وفي هذا البلد نشطت المؤسسة الرسمية وشبه الرسمية بكل تشكيلاتها في الترويج لشعار كرامة المرأة وحرمة المرأة وحق المرأة بقوة، واليوم جاء التطبيق العملي لهذه الشعارات في الصورة التي تعيش المرأة في هذا البلد مرارتها ومأساتها وألمها، وما تثيره من شعورٍ بالمهانة والاحتقار والإذلال عند المرآة، وما تمثله من تعدٍ على الكرامة ومصادرةٍ للحرية وتضييعٍ للحق وشراسةٍ في المعاملة.

 

وتساءل سماحته: فأين كل تلك الشعارات؟ وأين تلك المؤسسات التي كانت تنادي بتقليم أظافر الآباء والإخوان والأزواج وإنزال أشد العقوبة بهم لعدم احترام حق المرأة ورعاية كرامتها بما فيه الكفاية؟

 

وعن أحكام الإعدام التي صدرت بحق بعض المعتقلين، قال آية الله الشيخ عيسى قاسم: صدر الحكم بالإعدام لأربعة من المتهمين الذين يخضعون للمحاكمات هذه الأيام، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

 

وأضاف: يذكر هنا أنه قُتل في الاعتصام من قُتل من أبناء الشعب، ومنهم من عثر عليه مقتولاً في طريق أو زاويةٍ هنا أو هناك، ومنهم من قتل داخل السجون، وجرى القتل في سنواتٍ سابقة للعديد من أبناء الشعب على يد الجهة الرسمية في ظروفٍ مكشوفةٍ وأخرى غامضة.

 

والآن يحكم بإعدام الأربعة بحجة الاعتراف بالجرم في ظروف السجن الغامضة التي لا يمكن أن تعد من حالات الاختيار!

 

وكشف سماحته عن مفارقات لا تحدث إلاّ في دولة متمحضة في الاستبداد: والملاحظ أنه لم يحدث ولا لمرةٍ واحدة أن حُكم شخصٌ واحدٌ من الجهة الرسمية ـ من أي مستوىً من المستويات ـ ولا اتهم في حادثٍ من حوادث القتل لأبناء الشعب، الذي حدث كثيراً في ظروفٍ مكشوفة وبالرصاص الحي أو ما يقوم مقامه في الأداء إلى القتل، وفي حالات التوقيف والتحقيق أو في ظروفٍ غير مكشوفة، وفي كل مرةٍ تحدث التبرئة المسبقة حتى من شبهة قتل الخطأ.

 

وأضاف: وفي العادة لا تحقيق، وإذا شكلت لجنة تحقيقٍ بصورةٍ نادرة، شكلت من طرفٍ واحد، والنتيجة أن لا يعثر على الجاني، فتطوى القضية وتُنسى وتموت..كما أن العادة أن لا يضيع دمٌ رسمي، وأن التحريات لا تفشل ولا لمرةٍ واحدة في وضع يدها على من تنسب إليه الجناية. وتساءل الشيخ قاسم فهل هذا لكثرة الأشرار في أبناء الشعب، وعصمة كل من انتمى إلى الجهة الأمنية؟ هل هذا للمصادفة الدائمة بتوفيق الجهة الرسمية للتعرف على الجاني إذا كانت الدعوة في صالحها، والفشل الثابت في العثور عليه إذا كانت الجريمة في حق واحد أو أكثر من أبناء الشعب الآخرين؟ هل هذا لأن هناك دماً عالياً زكيا ودماً رخيصاً قذرا؟ هل هذا لاختلال الموازين؟

 

وهنا ترك سماحته الجواب برسم الجهات الرسمية: تُترك الإجابة للجهة الرسمية، لكن مع التفسير المقنع لكل من يطالب بالإنصاف في العالم.

 

وهنا استدرك الشيخ قاسم ليفنّد منطق السلطة القانوني فقال: إذا كان المرجع في التحقيق في أمر دم أي مواطنٍ يسفح، وفي الحكم بإعدام الجاني هو الدين، فالدين لا يفرق بين دم شخص التحق بجهازٍ أمني أو لم يلتحق، وكذلك هو القانون؛ إذ لا تفريق فيه نظرياً في هذا الشأن

 

وأنه لمعروفٌ أن أحكام الإعدام ذات طبيعةٍ قاسيةٍ مستفزة، ولا يقدم عليها المسلم إلا عن طريقٍ شرعيٍ واضح لا لبس فيه، وأن لها آثاراً في النفوس لا تمحى إلا أن تكون صادرةً وفق ما أنزل الله وتدقيقٍ موضوعيٍ شرعيٍ بدرجةٍ كافية، فعند ذلك يسلم المؤمنون.

 

وأنهى الشيخ قاسم محاججته بالقول: ولعدم إحراز هذا الأمر فنحن نطالب برفع اليد عن هذه الأحكام القاسية الصادمة، وعدم الدفع بالأمور إلى مزيدٍ من التأجيج والإلهاب والتوتر.