منذ سنوات والخطاب السياسي في هذا الجامع ثابتٌ في أُسسه، واضحٌ في معالمه، غيرُ متردّد، وجاءت أحداث العالم العربي وشعوبه من خلال معاناتها المُرّة، وكان ما كان من ثورات وانتفاضات وتحرّكات وسقوط بعض الأنظمة وارتفاع حرارة الأحداث، والخطابُ هنا لم يتغيّر، وبقي الخطاب في أُسسه ومعالمه واحداً قبل الرابع عشر من فبراير وبعده، وأيام الدوّار وبعده، وكانت المناداة ثابتة بإصلاح جدّي قادر على إيجاد مناخ من الرضا والتوافق المنقذ للوطن والأخذ بالأسلوب السلمي في المطالبة لا غير.

 

ولكن صدرُ السياسة أضيق من أن يحتمل أهدأ الأساليب السلمية، ولم يعدْ أيّ أسلوب سلميّ قابل للاعتراف وخارج دائرة العقوبات.

 

ومع تأكيدنا على السلمية وتشديدنا عليها، نطرح هذا السؤال على العقلية العالمية والضمير العالمي، وعلى عقل كل عاقل، وضمير كل ذي ضمير، ودين كل ذي دين، وإنسانية كل ذي إنسانية: هل السلمية ليست مطلوبة إلاّ من الشعوب فحسب، أمّا الحكومات فلها أن تفعل ما تشاء، وتضرب ما تشاء، وتفتك وتبطش كيف شاء، وترعب وترهب كيفما ترى؟

 

إنها قسمة ضيزى، وظلم من الظلم الفظيع.

 

وعن طريق الإصلاح فإنه قد اختار هذا الخطاب طريقاً للإصلاح، هو الطريق الذي تنادي به كل الدنيا اليوم، وهو طريق الديمقراطية التي لا تُهمل رأي الشعب ولا تهمّشه ولا تلتفّ عليه ولا تدير ظهرها له، ولا تُسكته بالقوّة وتشتيت الرأي، وإيجاد الفتن في صفوف المجتمع وطوائفه وشرائحه.

 

ومحال أن يستغني وطنٌ عن الإصلاح، ويتعذّر أن يسلم مجتمعٌ من الفتن الحارقة أو ينأى عن حرائق الداخل ونزاعات الخارج، أو أن تكون له قدم رقيّ وتقدّم، وأن يهنأ بالأمن والاستقرار وهو يرفض حركة الإصلاح، ويستبدل حماته عنها بالعنف والبطش والإرهاب والتنكيل.

 

وساحتنا العربية كلها تجارب حيّة تفيد بأن سياسة العنف لا تولّد إلاّ عنفاً، وتزايد البطش لا يدفع بأوضاع الأوطان الملتهبة إلاّ إلى تصاعد حتى يكاد الوطن يحترق كله، هذا مع ما تفتحه الصراعات العنيفة المنفلتة من أبواب على مصراعيها لتدخّل أجنبي أكثر وهو أكبر ما يضرّ بالأوطان، وما تخلقه من الأرضية المناسبة لتمكين التدخّل الأجنبي لما تلحّ الحاجة إلى الاحتماء به من طرف أو أكثر، وفي هذا أخطر الخطورة التي ينبغي أن يدرأ كل مواطن وطنه عنها.

 

ولو استطاع العنف والقتل بالمئات والألوف، مع التعدّيات المروّعة الأخرى التي يمارسها النظام الرسمي ـ ألف أو باء في ساحتنا العالمية ـ أن يسكت شعبه إلى وقت، فإنه لا بدّ أن يتوقّع الانفجار بدرجة أقوى في كل لحظة من لحظات المستقبل، وعليه في ظلّ هذا الترقّب الدائم أن يضع كل ثروة الشعب وكل الوقت وكل الجهد وإمكانات الوطن في حراسة أمنه الخاص، والإضرار بالشعب وإضعافه وتفريقه وإخافته، بدل أن يعيش معه في أمن مشترك وثقة متبادلة وتعاون مثمر يصبّ في صالح الوطن كلّه وبنائه وعزّه وهيبته.

 

البطش الذي يستخدمه عدد من الأنظمة، أسلوب لأن سكتت عليه الحكومات القويّة رعاية لمصالحها المادّية التي لا تساوي كل القيم المعنوية والدينية والأخلاق الإنسانية بإزائها شيء، فإن الشعوب المحايدة في كل العالم ـ وإن كانت بعيدة ـ ترى فيه ما ينقص قيمتها ويهدّد مصيرها، ولذلك لا بدّ أن تدينه بقوّة من منطلق هذه الرؤية، ومن منطلق ضميرها الإنساني.