الخطبة الثانية *
الدهر يومان
«الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك»، كلمة مذكورة عن أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام).
من الناس من لا صبر له على خير أو شر، ومنهم من له صبر على الخير وخَوَرٌ في الشر، ومنهم من هو أصبر على الشر من الخير. والدهر لا تخلو أيامه من غنى أو فقر، وصحة أو مرض، وفرح ومصيبة، ونصر أو هزيمة، وظهور أو انكماش.
وكل ذلك يحتاج إلى صبرٍ وتحمّلٍ ومواجهةٍ وقدرةٍ تحفظ للإنسان عقله واتّزانه، ووقاره ومنـزلته، وسلامة نفسيته، وتقيه من الانهيار والسقوط أمام ظرف الشدّة والرخاء، والقوّة الخارجية والضعف، والفشل والنجاح.
وكل القوّة في الموقف الصامد أمام كل الظروف، وفي الموقف النفسيّ المتفوّق على كل الضغوط، والاحتفاظ باحترام الذات والمبدئية الحقّة رغم كل التحوّلات، والبقاء على خط الغاية الإلهية النبيلة مهما كان من أمر.
ولا يبني الشخصية القوّية السليمة غيرُ هذا المستوى من الصمود، ولا نجاح لأيّ تربية ما لم تحقّق مثل هذه النفسية المقاومة، ولا يمكن لأيّ أمّة أن تنهض بمهمات الحياة، وأن تنتصر على كل تعقيداتها، وتبرهن على وجود قويّ، وأن تثبت في مهب الرياح ما لم تتوفّر على فئة كافية من أهل هذه النفسية القوية والشعور.
الضعيف في الرخاء والغنى والقوّة، مغرورٌ مفسدٌ مسيءٌ للحياة والإنسان، مهلكٌ لنفسه، تلعنه الأجيال.
والمهزوز في الشدّة والفقر وضيق الحال معينٌ على نفسه، مغرٍ لكل طامع باستسلامه، ناسٍ لذاته، ساحقٌ لكرامته، سادٌّ لباب الفرج عنه، معجّلٌ بنهايته.
والإمام عليٌ (عليه السلام) يريد لنا أن نكون الأقوياء في نفسيتنا، الصُلاب في عزيمتنا، المتفوّقين على كل ظروف الشدّة والرخاء، الثابتين على الخط عند كل العواصف، الصامدين أمام كل محنة، الشاكرين عند كل نعمة.
ولا تجيد تربيةٌ صناعةَ النفسية القويّة، الصابرة، الشاكرة، الرضيّة، الصلبة، المقاومة، المنتصرة، المتفوّقة كما تجيدها التربية الإسلامية الحقيقية، ولا يحقّقها شيء كما يحقّقها الإيمان بالله سبحانه، ولا يدفع في اتّجاهها اقتداءٌ كما يدفع ذلك الاقتداء بأبطال الرسالة الإلهية من مثل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام)، ومحمد وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين).
لكل ممكنٍ حدّ
لكل ممكنٍ حدّ، والاعتزاز بالحياة أمر ممكن وإن كان من ثوابت طبيعة الإنسان، ولأنه ممكن فله حدّ. والاعتزاز بالحياة يدفع بالإنسان لطلب البقاء، وطلب كل ما يراه صواباً أو خطأً بأنه سبب من أسبابه، ويحاول أن يجمع كل ما أمكنه مما يرى فيه أنه سبب من هذه الأسباب.
وقد تحدث للإنسان تنازلات، ويتخلّى عن بعض ما يطمح إليه إذا كان ذلك سيُفقده الحياة، ومنطلق هذا التنازل إنما هو اعتزازه بالحياة وحبّه في البقاء، ولكن هذا الاعتزاز قد ينتهي عند نقطة معيّنة، وينقلب إلى تمرّد على الحياة، واسترخاص للتضحية، أو ضيق بالحياة يُسقط قيمتها ويفرض على نفسية هذا الضيق بالخلاص. ولذلك ينتحر من ينتحر عند نقطة من نقاط تفجّر النفس وعدم صبرها على ضريبة الحياة.
وأصحاب النفوس القويّة لا ينتحرون، ولكنهم يضحّون بحياتهم مختارين في هدوء وراحة نفس من أجل مبدئهم وحرّيتهم وعزّتهم وإيمانهم بقيمتهم الإنسانية، وذلك عندما تكلّفهم الحياة أن يدفعوا كل ذلك ثمناً من أجل البقاء.. إذا كلّفتهم الحياة أن يدفعوا عزّتهم ودينهم وكرامتهم ثمناً لها، تفلوا على الحياة وداسوها بأرجلهم.
وهذا ما يُفشل تكثيف الضغوط على الناس إذلالاً لهم، ومن أجل أن يتنازلوا عن إرادتهم لإرادة الغير، وكما يهوى استغلالاً من القويّ للاعتزاز بالحياة وتقديم البقاء من الطرف الآخر على كل المطالب، ولتصوّر أن ذلك يجعله يضحّي بكل شيء، ويصبر على كل مذلّة من أجل أن يبقي لنفسه ولو أخسّ مستوى من الحياة، وهو تصوّر خطأ قاتل.
إن زيادة الضغط في هذا المجال تولّد الانفجار، الذي يأتي ردّ فعل حتمي في حالتين: في حالة تضيق النفس بكلفة الحياة بما يثير فيها الرغبة بقوّة للانتحار، ومن هانت عليه حياته هانت عليه حياة الآخرين، ومن وصل إلى حدّ الانتقام من حياته لم يتوقّف عن الانتقام من حياة الآخرين.
والحالة الثانية التي تعطي النفس فيها ردّ فعل بالانفجار لا عن انهيار، وإنما عن وعي وبصيرة وقوّة وشجاعة، هي الحالة التي تفرض فيها المبدئية والعزّة والكرامة والنظرة الأخروية التضحية بالحياة[1].
فمن خطأ السياسة أن تعتبر يوماً فاصلاً تقرّر فيه ألاّ حرية على الإطلاق للآخر بعد اليوم، لا اعتزاز للآخر بنفسه ولا كرامة له بعد اليوم، لا خيار للآخر في حياته ومصيره بعد اليوم، لا لقمة شريفة له بعد اليوم، لا فرصة علم له بعد اليوم، لا حقّ له على الإطلاق بعد اليوم، لا سلامة لماله ونفسه وعرضه بعد اليوم.
هذا خطأ فادح، وخطر كبير، لأنك بهذا تضع الناس في حالة انفجار، هو انفجار تضحية واعية أو انتحار.
حرمة الدم
شدّد الإسلام على حرمة الدم تشديداً بالغاً، وقد ثبت عند كل علماء الإسلام أن الحدود تدرأ بالشبهات.
وحكم الإعدام لا حكم أغلظ منه، وأيّ تساهل في القضاء به هو تساهل في حقّ الدين والإنسان، والقاضي به بغير ما أنـزل الله إنما حسابه على الله سبحانه. وهو من أشدّ الأحكام استفزازاً للنفوس، وتحريكاً للغيرة، وكل القوانين تشدّدٌ في إقامة حدّ القتل على الإنسان.
وحكم الإعدام الصادر في حق اثنين من المواطنين، لا يمكن أن يوافق عليه أيّ متشرّع بحسب الأجواء المحيطة، والملابسات المعاشة، والمقدّمات المنظورة، والإعلام التحريضي المنتشر، ودعوات الانتقام المثارة، وظروف السجن الخاصّة، والتوتّر الأمنيّ القائم، والتوعّدات الشديدة، وغياب الطريق الشرعي للإثبات[2].
فالحقّ أن الاعتماد في مقام التنفيذ على حكمٍ هذه صفته وظروفه، فيه تساهلٌ واضح بحرمة الدم في الإسلام، وهو الشيء الذي تمنع منه الشريعة، ويحاسب عليه الله.
ــــــــــــــــ
* خطبة الجمعة (23 جمادى الثانية 1432ﻫ.ق 27 مايو 2011م، جامع الإمام الصادق (عليه السلام) بالدراز
[1] هتاف جموع المصلّين: هيهات منّا الذلّة.
[1] هتاف جموع المصلّين: كلا كلا للإعدام.
تعليقات الزوار