باسمه تعالى

 

﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا﴾ (الأحزاب: 39).

 

﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 104).

 

الخطُّ العلمائيُّ الواعي والرِّساليُّ - في أيِّ زمان ومكان - دائمًا ما يكون هو الموقع الحاضر والمتحرِّك والفاعل والمضحِّي، منطلقًا في ذلك من المسؤوليَّة الشَّرعيَّة التي رسمتها النُّصوص والتَّوجيهات الدِّينيَّة، والعلماء في ضوء الالتزام بهذه المسؤوليَّة الشَّرعيَّة هم؛ «... مصابيح الأرض، وخلفاء الأنبياء ...» ( ميزان الحكمة 3 / 2067) كما عن النَّبيِّ الكريم (صلَّى الله عليه وآله)، ومنطلقًا كذلك من الحسِّ الوطنيِّ الذي يقضي بضرورة تحمُّل هموم الوطن والمواطنين والدِّفاع عن قضاياه الأساسيَّة، والسَّعي والمساهمة في إصلاح وتطوير واقعه.

 

وهذا ما يمثِّله الخطُّ العلمائيُّ في بلدنا الحبيب البحرين، وفي مقدّمته الرُّموز العلمائيَّة الكبيرة، فهو الخطُّ الأصيل الواعي في منطلقاته وأهدافه، والقويم المتَّزن في منهجيَّته ووسائله، والأمين الحريص على مصالح الشَّعب وحقوقه وأمن الوطن واستقراره وازدهاره، وهذا الوجود العلمائيُّ ليس وجودًا طارئًا، ولا هامشيًّا، بل هو وجود أصيل منسجم مع هُويَّة هذا البلد وتاريخه وحضارته، منطلقًا من عمق وجوده وانتماء أبنائه.

 

وتاريخ الخطِّ العلمائيِّ في هذا البلد خير شاهد على صدقه وإخلاصه واستقامته في رعاية المصالح العليا الدِّينيَّة والوطنيَّة، وممارسته لدوره الرِّساليِّ بعيدًا عن كلِّ المزايدات السِّياسيَّة والتَّنافس على المصالح الشَّخصيَّة، مُتَّخِذًا الإصلاح شعارًا وطريقًا، وفق منهج قرآنيٍّ أصيل: ﴿... إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (هود: 88)، واسترشادًا بسيرة عطرة لأئمَّة الهدى (عليهم السَّلام): «... اللَّهمَّ، إنَّك تعلم أنَّه لم يكن الذي كان منَّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيئ من فضول الحطام، ولكن لنرُدَّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطَّلة من حدودك...» (نهج البلاغة / خطبة رقم 131)، وقدَّم في هذا الطَّريق الكثير من التَّضحيات، وتحمَّل الكثير من المعاناة.

 

وفي هذا السِّياق الواضح جاءت انطلاقة المجلس الإسلاميِّ العلمائيِّ، حيث مثّل امتدادًا وتطويرًا طبيعيًّا لحالة الحراك الطَّبيعيِّ في الواقع العلمائيِّ والدِّينيِّ المستمرِّ منذ مئات السِّنين في البحرين، ولم تكن الانطلاقة غامضة ولا مبهمة، بل كانت واضحة جليَّة في المنطلقات والأهداف والمقاصد والبرنامج والتَّطلُّعات.

 

فما يُمارَس هذه الأيَّام من هجوم شرس على الخطِّ العلمائيِّ ورموزه وقياداته ومواقعه المتقدِّمة من قبل بعض الجهات المشبوهة لا يمتلك أيَّ مصداقيَّة، ولا يعبِّر إلَّا عن إفلاس في الفكر، وطائفيَّة في الرُّوح، وتخبُّط في السُّلوك، ودكتاتوريَّة في الموقف، وليس سوى محاولات يائسة لإثارة الغبار أمام حقيقة الدَّور العلمائيِّ المخلص، وزعزعة ثقة الجماهير في مواقعها الدِّينيَّة المتقدِّمة، ونحن على يقين بأنَّ هذا الاستهداف الممنهج لن يتمكَّن من إيقاف مسيرة العطاء للخطِّ العلمائيِّ، ولا تشويه حركته القويمة النَّاصعة، ولا تحجيم موقعيَّة رموزه في نفوس الجماهير المؤمنة، بل سيزيد من عمق تلاحمها مع الخطّ العلمائيّ المخلص ورموزه الكبيرة.

 

والمجلس الإسلاميُّ العلمائيُّ وإنْ كان وجودًا دينيًّا - وليس إطارًا سياسيًّا بالمعنى المتعارف، ولذلك فهو لا يُمارس العمل السياسيَّ، ولا يشتغل به على حدِّ الجمعيَّات والهيئات والمؤسَّسات السِّياسيَّة -، ولكن لا يعني ذلك انعزاله عن الواقع السِّياسيِّ ومجمل حركة المجتمع، فهو جزء من المجتمع يحقُّ له كما لغيره - بل يجب عليه أحيانًا - أنْ يكون له رأيه وموقفه السِّياسيُّ، انطلاقًا ممَّا تقتضيه الوظيفة الشَّرعيَّة من رأي أو موقف تجاه مختلف القضايا المرتبطة بالشَّأن المجتمعيِّ العامِّ، انسجامًا مع الرُّؤية الإسلاميَّة التي لا ترى انفصالًا بين الدِّين والسِّياسة.

 

والدَّعوات المتكرِّرة لإبعاد الوجود الدِّينيّ عن الواقع السِّياسيِّ، دعوات مشبوهة معادية للواقع الدِّينيِّ، واضحة الأهداف في محاولة إقصاء الدِّين عن واقع الحياة، وهو ما يتنافى وبشكل صارخ مع أسس الرُّؤية الدِّينيَّة، ويتناقض مع المبادئ الأساسيَّة للدِّين، ودوره بالنِّسبة إلى مختلف مساحات الحياة.

 

وكم نعجب من هذا المنطق الأعوج، ففي الوقت الذي لا تترك السِّياسة مساحة للدِّين إلَّا وتدخَّلت فيها، في محاولةٍ لتوجيه الواقع الدِّينيِّ؛ ليكون مواكبًا ومتلائمًا مع التَّوجُّهات السِّياسيَّة، وصياغة المواقف الدِّينيَّة، وتطويع النُّصوص الشَّرعيَّة، وتحريك المواقع الدِّينيَّة؛ لتعطي الشَّرعيَّة لمجمل الواقع السِّياسيِّ بكلِّ سلبيَّاته وسوآته، التي تتناقض وتتباين تمامًا في أحيان كثيرة مع أسس وضوابط الشَّريعة ومبادئ الإسلام، تتعالى الصَّيحات في قِبال الحِراك العلمائيِّ المُصلح، والذي يسعى للقيام بدوره ومسؤوليَّاته الشَّرعيَّة في إصلاح الواقع بالأساليب الحكيمة الملتزمة.

 

والحِراك العلمائيُّ حراكٌ وطنيٌّ بامتياز، ينطلق من عمق وجود هذا الوطن، مؤمنًا بمصالحه ملتزمًا بالمحافظة على أمنه واستقراره وتقدمه وازدهاره، بعيدًا عن كلِّ أشكال التَّبعيَّة والارتهان للخارج في ما هو الموقف الوطنيُّ، ولذا نجد كلَّ المواقف السِّياسيَّة التي اتَّخذها الخطُّ العلمائيُّ والمجلس الإسلاميُّ العلمائيُّ متوافقة مع المصلحة الوطنيَّة، وكاشفة عن حرصٍ عميقٍ على الدَّفع باتِّجاه بناء الوطن الواحد، الذي ينعم بالاستقرار والازدهار والتَّقدُّم، ويعيش كلَّ أبنائه من دون تمييز في ظلاله الحياة الحرَّة الكريمة العادلة.

 

كما أنَّ الخطَّ العلمائيَّ والمجلس الإسلاميَّ العلمائيَّ في البحرين لا يسعى للتَّحجُّم في إطار مذهبيٍّ خاصٍّ، بل يمثِّل الإطارُ الإسلاميُّ العامُّ الهمَّ الأكبرَ الذي يسعى له من أجل تحقيق الأهداف الإسلاميَّة والوطنيَّة المشتركة، وهذا ما عبَّرت عنه خطابات ومواقف الرُّموز العلمائيَّة حيث كانت صريحة في أنَّ الأُمْنِية الكبيرة التي نسعى إلى تحقيقها، هي الوصول إلى إيجاد إطار علمائيٍّ إسلاميٍّ، يجمع المكوِّنات الإسلاميَّة، ويُعنى بالواقع الإسلاميِّ في إطاره الواسع.

 

وقد أشار مؤسِّس المجلس الإسلاميِّ العلمائيِّ سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم "حفظه الله تعالى" إلى ذلك في الرَّدِّ على بعض الأسئلة المثارة في الصَّحافة حيث قال: (... والوحدة الإسلاميَّة والوطنيَّة يخدمها مجلس علمائيٌّ أهليٌّ مستقلٌّ مشترك بين الطَّائفتين الكريمتين، وهو الشَّيئ الذي أتمناه وكنت أطرحه، وإذا منعت الأوضاع المتخلِّفة من ذلك حاليًا كان البديل المناسب متمثلًا في مجلسين متفاهمين متعاونين يرشدان الشَّارع المسلم، ويسعيان لتوحيده)، وأكَّد ذلك العلَّامة السيد عبد الله الغريفي "حفظه الله تعالى"، حيث قال في الجلسة التَّأسيسيَّة للمجلس الإسلاميِّ العلمائيِّ: (... هذا المشروع ليس تكريسًا للمذهبيَّة الطَّائفيَّة، وإنْ انطلق في دائرة هذا المذهب، وقد حرص نظامه الدَّاخليُّ أنْ يؤكِّد الأهداف الإسلاميَّة العامَّة، ونتمنَّى أنْ يأتي اليوم الذي يشهد ولادة مجلس علمائيٍّ يضمُّ كلَّ علماء البلد سنَّة وشيعة...).

 

والمُطالع لأدبيَّات المجلس والخطّ العلمائيِّ لا يجد فيها أيَّ منهجيَّة طائفيَّة أو فئويَّة ممقوتة، فالأهداف والبرامج العامَّة والممارسات العمليَّة على أرض الواقع، كلُّها منسجمة تمامًا مع الأهداف الإسلاميَّة والوطنيَّة العامَّة، وبيانات المجلس وتصريحات رموزه كانت دائمًا تتحرَّك في إطار الحديث عن ضرورة وأهمية الانسجام واللُّحمة الإسلاميَّة والوطنيَّة، ولستَ تجد حتَّى كلمةً واحدةً تنحرف عن هذه الإستراتيجيَّة، بل حتَّى مع الاستهداف والتَّشويه الذي مُورس ولا زال يُمارس تجاه المجلس والوجود العلمائيِّ في البلد من قبل أطراف معيَّنة، فإنَّ الخطاب العلمائيَّ لم ينجرَّ إلى أيِّ صراع طائفيٍّ ومذهبيٍّ بأيِّ شكل من الأشكال، بل تجده دائمًا يُقابل ذلك بالتَّأكيد على ضرورة المحافظة على اللُّحمة الإسلاميَّة والوطنيَّة، والنَّسيج الاجتماعيِّ الواحد والمترابط.

 

والخطَّ العلمائيُّ يقبل بكلِّ مكوِّنات هذا الوطن، يؤمن بحقوق الجميع، ويسعى للتَّعايش الحقيقيِّ المشترك مع الجميع، على قاعدة الإنصاف والعدالة، لا يرضى بتضييع حقٍّ لأحد، مهما تفاوت الانتماء الدِّينيِّ أو المذهبيِّ، ومهما اختلفت الرُّؤى الفكريَّة أو السِّياسيَّة، فالوطن للجميع، وهو مسؤوليّة الجميع، ومن هنا لم يكن الواقع العلمائيُّ وفي أيِّ وقت من الأوقات طالب سُلْطَة أو جاهٍ، ولا ساعيًا للانفراد بقرار سياسيٍّ يصادر معه حقّ شركائه في الوطن والمصير.

 

وفي هذا الإطار كان الخطُّ العلمائيُّ الدَّاعيَ الصَّادقَ لضرورة تعزيز أواصر الثِّقة المتبادلة بين جميع مكوِّنات الوطن، سواء المكوّنات الاجتماعيَّة بعضها مع البعض الآخر، أم بين النِّظام السِّياسيِّ في البلد والشَّعب، وبدون هذه الثِّقة لا يستتبُّ أمن ولا استقرار، ولا يحصل نموٌّ ولا ازدهار، وهذه الثِّقة لا تحصل اعتباطًا ولا قهرًا، وإنَّما لا بدَّ لها من أسس وقواعد يتمُّ التَّوافق عليها وينتظمها دستور تعاقديٌّ متوافق عليه ينظِّم الحياة السِّياسيَّة، ويبني الثِّقة بين الحاكم والمحكوم، وبين المكوِّنات الاجتماعيَّة جميعًا، ولتحقيق ذلك لا بدَّ من فتح حوار صادق وجادٍّ يُنتج حالة من التَّوافق بين مكوِّنات المجتمع، ويؤسِّس لدولة القانون والحقوق المشروعة إسلاميًّا ودُوليًّا ضمن الأطر السِّياسيَّة المتداولة عالميًّا، ويبني حالة الثِّقة المتبادلة والرِّضا الشَّعبيَّ العامَّ.

 

كما أنَّه يؤمن بوحدة وطنيَّة ثابتة وراسخة، تقوم على أسس العدالة والمساواة بين المواطنين بعيدًا عن جميع أشكال التَّمييز، واحترام إرادة الشَّعب الذي هو مصدر السُّلطات بحسب الميثاق والدُّستور، والحِفاظ على هُويَّة البلد الإسلاميَّة العربيَّة واستقلاله، مع الإيمان بوحدة المصير مع أمَّتنا الإسلاميَّة والعربيَّة، وضرورة التَّعاون على الخير، والدَّعم لقضايا الأمَّة الرَّئيسة.

 

المجلس الإسلاميّ العلمائيّ

 

13 رجب الأصبّ 1432هـ

 

16 يونيو 2011م