شهر البركة:

 

تتصاعد موجة الأجواء الإيمانية العبقة في أشهر البركة الثلاثة رجب وشعبان وشهر رمضان، وتكثر مناسبات المواليد الشريفة لأهل بيت النبوّة من آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ لتثير في ذاكرة الأمّة المؤمنة حنينها لإسلامها العزيز وقادتها الحقيقيين، وتشدّد على الالتحام بهم في مسارها الطويل، ومعترك الحياة، وساحات التحدّي والجهاد المرير، ومواجهة الأزمات. فلا تشذّ لها خطوة ولا كلمة عن الإسلام وأخلاقيته وشريعته وهدفه، ولا ترضى بديلاً من تلك القمم الشامخة والنماذج القدوة في أفقها المتعالي البعيد.

 

بورك لأمّة الإيمان بمناسبة مواليد الأئمة الأطهار في هذا الشهر الحسين الشهيد وزين العابدين والمنتظر القائم ومولد ساقي عطاشى كربلاء أبا الفضل العباس (عليهم السلام).

 

نظرتان:

 

هناك نظرة دينية في المسألة السياسية، ونظرة أرضية استقرّ عندها الرأي العالمي على مستوى الغالبية العظمى من الشعوب في العالم وعدد كثير من الأنظمة الرسمية ولو نظرياً.

 

النظرة الأولى: ترجع الحكم في الناس إلى مالكهم الحق وهو الله سبحانه، وتحكّم في المسألة السياسية أمره ونهيه، وتعتمد فيها على إذنه وإلزامه وترخيصه وردعه. وهذه النظرة لا ترضى لحكم الناس، ولا تسمح لهم بأن يختاروا من لا يرضى الله علمه وعدله وتقواه، وتعفّفه ونزاهته، وخبرته وإخلاصه ووفاءه، وتقديمه لآخرته على دنياه، وتفانيه في نصرة الحقّ والعدل وإنصاف الناس، وصلابته في الدين الذي لا حفظ للحقّ والعدل إلاّ به.

 

والنظرة الثانية: وهي ترى أن للإنسان حق الاستقلال عن ربّه سبحانه في خياراته ومنها الخيار السياسي، ترى أن الشعب هو مصدر السلطات، وأن أيّ سلطة لا تكتسب الشرعية إلاّ بانتخاب الشعب لها ولو بالأغلبية.

 

فمن حقّ أيّ شعب اليوم أن يستوقف أيّ سلطة ليسائلها عما تعتمد عليه من أساس في ممارسة الحكم على الناس، ولا بدّ لها من أن تراجع وضعها من هذه الناحية، فإذا كانت سلطة تعتمد النظرة الدينية في المسألة السياسية فعليها أن تمتلك الأساس الذي يوافق عليه الدين للتوفّر على السلطة، وإذا كانت سلطة وضعية فعليها أن تصحّح وضعها السياسي بما يتّفق ومرجعية الشعب وكونه المصدر الأصل والوحيد للسلطات، وأوّل ما في هذا الأمر هو انتخاب الشعب للسلطة، ووجود دستور يحكم العلاقة بها ويكون من وضع الشعب.

 

إصلاح الخطوة خطوة:

 

يظلّ الإصلاح السياسي معطّلاً قروناً مع الحاجة الملحّة له وحتى المطالبة به، ثم إذا تفجّر الوعي السياسي عند الشعوب وانتفضت من أجل الإصلاح، وعندما تضطرّ الحكومات والأنظمة له تحت الضغوط المختلفة يرتفع شعار (إصلاح الخطوة خطوة)، ويراد بهذا الشعار أن تصبر الشعوب على الظلم والضيم، وتعيش آلامها طويلاً في انتظار قطارة الإصلاح، ويراد به أن تقبل الشعوب بأن تعطي بين آونة وأخرى سيلاً من دماء أبنائها وبناتها، وتمتلئ منهم السجون، وتنتهك الأعراض، وترتفع درجة الجحيم العسكري، وتغلق في وجوههم أبواب العمل والدراسة، وكل ذلك ليخرجوا من تضحياتهم الغزيرة بلا شيء أو بشيء لا يذكر، وبخطوة إصلاحية لا تكاد تبين[1] ليستعدوا إلى جولة جديدة من التضحيات المضاعفة، ولينتهوا إلى نتيجة مساوية.

 

هذا ليس عقلاً، ولا شيء فيه من الإنصاف. إن من بذل الكثير لا يصحّ له أن يرجع بالمردود الحقير.

 

وهناك من يحاول إقناع الشعوب بالإصلاح الخطوة خطوة بالواقعية، ومفاد ذلك أن على الشعوب أن تكون واقعية وتقدّر الظروف والمعادلات الخارجية، وأن تُقنع نفسها بأن ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه، والمراد الدقيق لهذه الواقعية - التي يطرحها هؤلاء - هو مطالبة الشعوب بأن تحترم منطق القوّة الفتّاكة الذي تمارسه الحكومات، والإمكانات الهائلة التي تسخّرها في مواجهة الشعوب وإسكات صوتها ومصادرة رأيها وإلغاء حقّها.

 

وهذا الطرح يواجه بأمرين:

 

الأوّل: أن ما قد يقال عنه بأنه خطوة على طريق الإصلاح في الكثير من الأحيان لا يمثّل حتى شيئاً من خطوة، وأن كل ما طالب به هذا الشعب أو ذاك لا يزيد في نفسه على كونه خطوة واحدة. ولماذا تقسّط الأنظمة على الشعوب الإصلاح وهو حقّها، وفي الجانب الآخر تفتح عليها كل أبواب الشرّ والفساد دفعة واحدة؟!

 

والأمر الثاني في مواجهة المطروح المغلوط: هو أن الشعوب في ما ظهر جليّاً حسب الواقع قد اختارت ألاّ يثنيها عن المطالبة بحقّها ونيل كرامتها شيء[2].

 

الحوار والإصلاح:

 

المقصود الجدّي للشعوب ولمن يريد الخير من الأنظمة هو الإصلاح، والإصلاح لا يحتاج إلاّ لإرادة سياسية جازمة ممن يمتلكون قرار الإصلاح وأدواته ووسائله وإعادة الحقوق.

 

والإصلاح في البحرين يحتاج إلى استجابة عملية من جانب الحكم لما ينص عليه الميثاق وحتى الدستور - المختلف عليه - والذي تلتزم به الحكومة نظرياً من كون الشعب مصدر السلطات، فلو أخذ بهذا النص وطبّق بأمانة وصدق لكان هذا هو الإصلاح أو المفتاح الذي تفكّ به مغاليقه.

 

أما الحوار لو جدّ فمقدمة قد تنتج جزئياً وقد لا تنتج، وقد تجمع وقد تفرّق، وقد تخفّف وقد تأزّم. هذا هو شأن الحوار الجادّ المهيّء للإثمار، فما حال الحوار الذي دخله التلاعب والفساد والظلم قبل بدايته وفي مقدماته؟!

 

نتمنّى حلاًّ عادلاً يريح الوطن وأهله، ولا يريح إلاّ العدل، والعدل في الاعتراف بحقوق الشعب والتعجيل بها، وليس في الالتفاف عليها أو التسويف.

 

وإذا كان ما يقارب أربعة عقود من المعاناة والصبر لم تنتج خطوة إصلاحية مؤثّرة، فإلى متى الانتظار؟.

 

وإذا كان من الحقّ الذي تعترف به الحكومات نظرياً بأن الشعب مصدر السلطات، فالحق لا يُسوّف فيه.

 

وإذا كانت الحرية مطلباً ضرورياً معترفاً به، فلا تأجيل فيها.

 

وإذا كان العدل والإنصاف لا يجوز لأحد أن يعترض عليه أو على المطالبة به، فلا يجوز لأحد أن يؤخّره.

 

وإذا كانت الديمقراطية خيراً مسلّماً به عند الحكومات، فلا معنى لإرجاء ما هو خيرٌ مسلّمٌ به.

 

وعلى المستوى الديمقراطي، إن مبدأ (لكل صوت قيمة مساوية لقيمة الصوت الآخر في مسألة الانتخابات) مبدأ عادل بلحاظ الكم العددي، إذ لا يحابي حزب على حساب حزب، ولا طائفة على حساب طائفة، ولا يقلّل من قيمة أحد من مكوّنات المجتمع، فهو أنصف ما يكون من الناحية العددية.

 

ـــــــــــــــــ

 

[1] هتاف جموع المصلّين: هيهات منّا الذلّة.

 

[2] هتاف جموع المصلّين: لن نركع إلاّ لله.