أعوذ بالله من الشيطان الغويّ الرّجيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
اللهم صلِّ وسلِّم على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين، وعلى صحبه، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى قيام يوم الدين..
السلام عليكم جميعًا ورحمة الله وبركاته..
بإذن الله أتحدّث في 4 محاور..
المحور الأول هو: توثيق الانتهاكات
سبق أنْ تحدّثنا في هذا المحور منذ زمن (قرابة الشهرين تقريبًا) ونعيد الآن التأكيد على هذا المعنى.
بغضِّ النظر عن درجة موافقة الإنسان على القانون السائد من عدمه؛ لأنّ القوانين الوضعية لا تمثّل الحقيقة أو الإجراء الصحيح باستمرار، ولكنها طريقة ضرورية لإدارة شؤون الناس فيما بينهم، فإذا اكتشفوا بأنّ في القانون خطأً أو قصورًا يعملون على تصحيحه؛ لذلك القوانين دائمًا عرضةٌ إلى التغيير في كلِّ دول العالم.
القوانين الإلهية المحكوم بالقطعيّة في وجودها (إذا أردنا أنْ نستخدم اللغة) كوجوب الصلاة قانونٌ إلهي، هذا لا يتغيَّر طوال الدنيا..
هذه القوانين في أيّ بلدٍ من البلدان ما عادت تسمح بمجموعةٍ من الأمور اعتُبرت انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان الأساسيّة؛ فلا يجوز تعذيب الإنسان تحت أيِّ ظرفٍ من الظروف، لا يجوز القتل خارج إطار القانون، لا يجوز الاستيلاء على ممتلكات الآخرين.. وأمور أخرى القانون المحلّي ينصُّ عليها، وإذا خالفها القانون المحلّي أصبحت الاتفاقيّات والقوانين الدوليّة التي تشكّل جزءًا من المنظومة القانونيّة لأيِّ دولةٍ بناءً على توقيعها على هذه الاتفاقيّات، ابتداءً من اتفاقيّة دخول الأمم المتحدة، ثمّ القوانين الأخرى المرتبطة بهذه المنظمة أو منظماتٍ حقوقيّة عالميّة أخرى.. أصبحت ملزَمةً الدولُ بأنّها يجب عليها أنْ توفّر حرية التعبير..
فالفكرة: القوانين لها حدود على مطبِّقي القانون، فالقانون يسمح بالاعتقال لكن لا يسمح بالتعذيب، فإذا ارتكب جرم التعذيب يصبح مُدانًا.
في البحرين - بلا أدنى إشكال - شهدنا انتهاكاتٍ جسيمة لحقوق الإنسان في صور متعدّدة وكبيرة جدًّا، أبرزها أنّنا فقدنا قرابة الثلاثين شخصًا وإنسانًا في هذا الوطن، وهذا مدعاةٌ إلى التحقيق في أسباب فقد هؤلاء والمتسبِّب في ذلك..
هناك دعاوى متعدّدة متواترة من أشخاصٍ كُثر (عشرات الأشخاص إنْ لم يكن مئات) الذين اشتكوا بأنّهم تعرّضوا للتعذيب.. الآن ليس موضع تعديد الانتهاكات، لكن اليوم هو رسالةٌ سبق أنْ تحدّثنا فيها، نعيد الحديث فيها.
كلُّ شخصٍ تعرّض إلى انتهاك، كلُّ شخصٍ تعرّض إلى ما يعتقد بأنّه ظُلامَة (ظُلِمَ)، اليوم لا بدّ من توثيق هذه الظُلامَة وتوثيق هذا الانتهاك بالوقت، الزمان، المكان، الأشخاص الذين قاموا بهذا الانتهاك، الجهاز الذي قام بهذا الانتهاك، وتسجيل هذا الانتهاك بدقّة..
في سنة 95 (1995) بداية ذهابي إلى لندن صار لديّ لقاءٌ مع الأمنستي إنترناشيونال (منظمة العفو الدولية) قالوا لي: هل عذّبوك؟ قلتُ: لا، لم يُعذبوني..
- ماذا فعلوا بك؟
- أخذوني وأوقفوني 12 أو 18 ساعة، ضربوني هكذا بالأيادي..
- قالوا: كيف؟ وهل التعذيب يلزم أنْ يعلّقوك ويصعقوك بالكهرباء؟! هذا في النظام الدولي يُعتبر تعذيبًا!
(نحن متعوّدون على «الدق» و«المداقق»)..
- فالجواب الأوّلي على سؤالهم: هل عذبوك؟ قلتُ: لا، لم يعذبوني..
- لكن هذا الذي فعلوه بكَ هو هذا!
فالانتهاكات هي أنْ يوقفكَ واحدٌ في الشارع ويسبّ دينكَ ويسبّ مذهبك، هذا انتهاك.. لا يجوز لكَ أنْ تسبّ مذهبي وديني.. أنتَ لديكَ نقطة تفتيش، إذا كنتُ أنا حاملًا لسلاح، إذا كنتُ أنا مرتكبًا لمخالفات؟ هذا انتهاك.
كلُّ انتهاكٍ غير مُسجّل هو «لم يحدث».. أنا أقول للإخوة الآن والذين يسمعونني: كلُّ انتهاكٍ لم يُسجَّل بقي مجرّد كلامٍ بلا قيمة حقوقية، بلا قيمة تأثير واقعيّة..
تعرف بأنّ الدنيا مليئةٌ بالكثير من المبالغات والكذب من المعارضات... فأنتَ «حالكَ من حالِهم».. الناس في العالم أيضًا تأخذ هذا المعنى: ممكنٌ بأنّك تبالغ، تكذب.. فما الذي يقرّب العالم ممّا جرى لك؟ توثيقكَ بدقةٍ لما حدث: هذا حَدَث في الساعة الفلانية، في الوقت الفلاني، والشخص الذي قام به هو هذا، والجهة التي قامت به هذه الجهة..
وكما أكّدتُ سابقًا أؤكد بأنّه يجب توثيق هذا الأمر توثيقًا دقيقًا بدون أيّ زيادة، وبدون أيّ «بهارات»، وبدون أيّ مجانبةٍ للحقيقة.. مطلوبٌ توثيق ما حَدَث فقط.
الآن حان وقت أنّ هذا التوثيق يُسلَّم إلى اللجنة المُشكلة بأمرٍ ملكي من شخصيات عالمية. سابقًا تتذكرون بأنني قلتُ في هذا المكان: وثّقوا.. من لا يخاف أنْ يسلّمه لجمعية الوفاق فليُسلِّمه لجمعية الوفاق، ومن يريد أن يسلّمه لمركز البحرين لحقوق الإنسان فليسلِّمه للمركز، من يريد أن يسلِّمه للجمعية البحرينية لحقوق الإنسان فليسلِّمه للجمعية البحرينية، ومن يخاف فليحتفظ به عنده.
أعتقد اليوم أنّني أريدُ أنْ أشجّعكم أكثر بأنْ تُقدَّم هذه الشهادات.. الآن هناك فُرُق عمل تعمل على توثيق الانتهاكات وبهدف إيصالها إلى هذه اللجنة، وبالتالي تصل هذه الانتهاكات إلى هذه اللجنة.
بعد ذلك نرى.. سننظر إلى عمل هذه اللجنة وجدّيته ومصداقيته وما شابه ذلك. ولن يسقط حقُّ أحدٍ انتُهِك حقُّه ولم يُنصف من قبل هذه اللجنة أو غيرها، لا أحد يقدر أنْ يمنع أحدًا أنّه فَقَدَ أخاه، فَقَدَ أباه، فَقَدَ أحد أقاربه أنْ يشتكي في أيّ مكانٍ في العالم يمكن أنْ يصل ويشتكي فيه، إذا كانت المسألة هي مسألة قانون ففي أيّ مكان.. لا أحد سيقدر لا اليوم ولا بعد 10 سنوات، وأنا سبق أنْ تحدثتُ كثيرًا بأنّ الدنيا تتطوّر باتجاه أنّ الذين ارتكبوا انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان لن يتركهم أحد، فالدنيا تتطوّر بهذا الاتجاه.. ولعلّي في الخطاب في الجمعة الماضية تحدثتُ في هذا مباشرةً، وهذا أمرٌ شخصيٌّ، فأنا فيما يتعلق بي أنا شخصيًّا أنا أسامِح، أنا أميل إلى هذا النوع.. وكلُّ شخص بحريّته فمن يريد أنْ يسامح فليسامح، ومن يريد أنْ يأخذ حقّه يأخذ حقّه - هذا أمرٌ شخصي - أمّا في الأمر الوطني العام وظُلامَة شعب، فهذا حقُّ شعبٍ لا بدّ أنْ يحصل عليه.
المحور الثاني: مخاضة ولادة بحرين مختلفة
بلا أدنى إشكالٍ أنّ الألم الذي عِشناه، ونعيشه الآن، والمتمثل في فَقْدِ عددٍ من الأحبة، المتمثلِ في اعتقال وسجن عددٍ آخر، متمثّل في فقْد الأمن من خلال عملية الإرهاب التي مارستها الأجهزة الأمنية، من خلال الإهانات والتسريح من العمل وقطع الرزق والتهديد المستمر في كلّ لحظةٍ تخرج لاحتمال أنْ تكون معتقلًا ومغيّبًا في أحد السجون.. كثير.. لكن إذا فكّر بها الإنسان بعقليّةٍ مُنفتحة وسأل نفسه: في الدنيا.. أين تحسّنت الأمور وتقدمت نحو حكمٍ ديمقراطيٍّ ونحو احترام إرادة الناس بغير هذه الأمور؟
في النادر جدًّا أنْ تحدث.. نادرًا.. لكن يبدو أنّ القاعدة، وتبدو أنّ السيرة البشرية كلّها بدرجاتٍ متفاوتة.. وللإنصاف هنالك اختلاف.. ما عاناه الشعب العراقي حتى يصل لأنْ ينتخب حكومته مكلفٌ جدًّا، واستمرّ سنواتٍ طويلة في مواجهة دكتاتورية عتيدة، وهكذا من دولة إلى أخرى.. الآن، الحمد لله، أسهل الثورات أصبحت الثورة التونسية بها 300 شهيد، الثورة التونسية التي أصبحت وكأنّها جزءٌ من التاريخ والماضي القريب..
الثورة المصرية ذاهبةٌ لأعلى (الرقم ذاهبٌ لأعلى).. طبعًا مع اختلاف عدد البلد، نتكلم عن 80 مليونًا في مصر.. ولم يدفعوها كلّها أيام الثورة، بل دفعوها - ليس في حقبة مبارك 33 سنة - مع الاحترام إلى ثورة 23 يوليو في انطلاقتها، لكن هي ارتكبت أخطاءً استراتيجية فاضحة قاتلة.. عندما تبنّت غير الديمقراطية قتلت الآخر المخالِف لها، بدأت بالإخوان المسلمين، ومرّت على الشيوعيين، ومرّت على القوميين، ثمّ بعدها دارت على كلّ الناس في فتراتٍ مختلفة - مع التقدير للمواقف الوطنية التي كان يتمتع بها جمال عبد الناصر - لكن المفترض ألّا يعمل أحدٌ تحيةً لسجن أبو زعبل واعتقال الإخوان المسلمين والقتل.. جرائم ارتُكِبَت.. فالمصريّون أيضًا دفعوا كلفةً عاليةً جدًّا.. وكلّ الناس..
أنتَ عندما تطالع التاريخ سترى أنّ الدكتاتورية، والتمسُّك بالانفراد بالقرار لا يُسلِّم الأمور بشكل بسيطٍ وطَوْعي. هناك نوادر في التاريخ الذين يُسلِّمون - وهم في مصدر القوة والقدرة المطلقة في دولهم - هو يأخذ خطواتٍ عملية باتجاه تحويل السلطة من يد شخصٍ إلى يد الشعب، وهؤلاء هم أعظم الناس على الإطلاق، أعظم من الثوّار.. الشخص الذي يأخذ ببلده - من منطلق الصلاحيات والقوّة التي لديه - إلى التحوّل نحو عملية استقرارٍ حقيقي وتقدّمٍ حقيقي هم هؤلاء أفضل هؤلاء الناس، ولكنّ هؤلاء جدًّا نوادر، جدًّا قلة.
ستولَد من رَحِم هذه المعاناة، بإذن الله تعالى وبإرادته، بحرين جديدة - بإذن الله - تكون أكثر عدالةً وأكثر حرّيةً وأكثر كرامةً لجميع مواطنيها سُنّةً وشيعة.
نحن لا نتطلّع إلى بحرين تكون فيها كرامةٌ للشيعة ويفقد السنّة فيها الكرامة والحرّية، لا، ليس لها قيمة.
قيمة الأمر الذي نطالب به ونسعى إليه أنْ يشعر الجميع بالحرّية والكرامة، يشعر الجميع بالعزّة، يشعر الجميع بإنسانيّته، ولا يكون شيئًا ثانويًّا.
ولذا إلى إخوتي وأحبّتي في ساحة الشرفاء في البسيتين إذا اجتمعوا:
أنا أطالب بأن يكون منكم أنتم، من أبنائكم - في يومٍ من الأيام - شخصٌ يرأس رئاسة الوزراء.. أنتم مواطنون، أنا أنظر إليكم بهذا، تستحقون هذا.. لا تستحقون أنّكم دائمًا ينبغي أنْ تكونوا في الدرجات الدنيا، هذا ما لا أرضاهُ لكم.
أنتَ إنسانٌ لكَ نفس الكرامة كأيّ إنسانٍ آخر في البحرين، من حقّكَ أنْ تحلم وأنْ تطمح في بلدٍ يكون ابنك فيه في أعلى منصبٍ؛ لأنّ عنده الكفاءة؛ ولأنّ الناس تريده..
هناك جذورٌ للأزمة السياسيّة في البحرين، وهذه الجذور لهذه الأزمة السياسيّة نحنُ نشخّصها بأنّها تتمثّل في تهميش الإرادة الشعبية من اختيار السلطات الثلاث، وتغييب المادة الدستوريّة - موجودة في كلّ العالم وموجودةٌ في دستور البحرين - أن «الشعب مصدر السلطات».. تغييب هذا المعنى (الشعب مصدر السلطات) يعني أنّه هو عنده السلطة؛ لأنّه هو «شعب» وهو يُفيض بالسلطة على السلطة التنفيذيّة.. كيف يُفيض؟ يُفيض بأنْ يقوم بانتخابها، باختيارها.
إذا هو لم يخترها ليس هو مصدر السلطات، إذا لم تكن له إرادةٌ في اختيارها ليس هو مصدر السلطات، إذا لم تكن له إرادةٌ حقيقةٌ وكاملةٌ في اختيار السلطة التشريعية لم يكن مصدر السلطة التشريعية، وهذا ببساطة.. فأين جذور مشكلتنا؟ جذور مشكلتنا في تهميش الشعب وإلغائه.
حلُّ هذا الجذر به يبدأ طريق الحلِّ للمشاكل الأخرى، وبقاء هذا الأمر قائمٌ لا تُحلّ معه المشاكل.. هذا هو فهمنا! لا أحد يستطيع أنْ يمنعنا من أنْ نفهم، هل وصلنا في الدكتاتورية لهذا الحد؟! هذا هو فهمنا.
نحن نفهم أنها ليست مشكلة إسكان ومشكلة تعليم ومشكلة سرقة أراضٍ، بل هذه ظواهر (مظاهر).. إذا حُلّت المشكلة: أنّ رئاسة الوزراء تُنتخب من الناس - نحن فهمُنا هكذا - ستقف سرقة الأراضي (ستقلُّ إذا لم تتوقف) وستتحسّن مسألة الإسكان، وستكون الحكومة القادمة قادرة على إنجاز مشروع إسكان أفضل من الواقع الذي عشناه طوال هذه السنوات والعقود.. هذا هو فهمنا.. نحن نفهم هكذا، ماذا نعمل بعقلنا؟! هذا هو عقلنا!
نحن نفهم بأنّ هذه هي جذورٌ للمشكلة وتحتاج أنْ تُعالِج هذه الجذور، إذا لم تُعالِج هذه الجذور المشكلة ستستمر.. هذا هو فهمنا!
فمن منطلق إخلاصنا لبلدنا، صدقِنا مع ملكنا، صدقنا مع وطننا مع شعبنا، يفرض علينا بأنّنا لا نرضى بحلولٍ كذب.. حلولٍ لا تعالج المشكلة.. ليست بحُلول.. صِيغٌ لا تعالج المشكلة ليست بحلّ.
يعني أنا عندي مصابٌ صمّامات قلبه بها مشكلة.. أنا أحتاج إلى تبديل صمّام.. هناك انسداد في الشرايين تحتاج إلى أنْ تفتح الشرايين إما بعملية قسطرة أو بعملية فتح قلب (مفتوح)، فلا يمكن أنْ تتجاهل الموضوع وتعطيني «بندول»! فأنا إذا وافقتُ على هذا «البندول» فأنا أقتل نفسي.. (في الصيغة العامة الأمثلة دائمًا تًأخذ وتناقش).
ولذا؛ إذا الحل السياسي (مسمى العلاج) لم يذهب إلى المشكلة فإنّ (المرض سيستمر) لا أحدَ يتوقع منا - نحن الذين هذا هو تشخيصنا أنّ هنا المشكلة - لا أحد يتوقع من عندنا أنْ نوافق على شيءٍ لا يحلّ المشكلة! باختصار.. لا يمكن، لا يمكن.. ليس من العقل أنْ تطلب منّي هذه الموافقة، ليس منطقيًّا أنْ تطلب من عندي أنْ أوافق على أنْ أرى جذر المشكلة هنا، وأن أوافق على أنْ يستمرّ هذا الجذر.. ليس من المعقول.. لا يوجد منطق..
أيُّ نتائج - بأيّ مسمّىً جاءت - لا تستجيب إلى علاج المشكلة الرئيسّية التي تسبّب سائر المشاكل، وطنيتنا وإخلاصنا وصدقنا ومحبّتنا لكلّ أهلنا تمنع علينا الموافقة.. ليست لدينا القدرة على الموافقة.
المحور الثالث: شهر شعبان
الآن انقضى علينا شهر رجب، ونحن في العشر الأوائل من شهر شعبان، وهذه أشهرٌ - مع شهر رمضان - أشهرٌ فيها كثيرٌ من التعاليم التي تعمل على تربية الجانب الروحيّ والأخلاقيّ، وتعمّق من إنسانيّة الإنسان، تستحضر إنسانيّة الإنسان. وبالرغم من درجة الانشغال في الوضع السياسيّ، إلّا أنّه يجب ألّا نغفل عن الاستثمار لهذه الليالي والأيام.
الآن كلّ شخصٍ حسب قدرته وتوفيقه في صيام هذه الأشهر الثلاثة - والآن أنا أتحدث معكم، وأنا أستحي لأنني لست بصائم - ولكن من يتمكّن من صيام هذه الأشهر أو بعض الأيام فيها (بعض الأيام لها خصوصيّة، والاستحباب واردٌ في شهر رجب صيامه كاملًا، ويشتدّ الاستحباب في شهر شعبان شهر رسول الله، ولكن يأتي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من هذين الشهرين لهما أيضًا خصوصية، 27 في الشهر الماضي كان له أيضًا خصوصية) بعض الأيام تأتي ولها خصوصيّات معينة.
لا ننسى أنفسنا أيضًا من الصدقة، بعض الأدعية الواردة الخاصّة، بعض الذكر الوارد في هذه الأشهر، وفي كلّ الأشهر - لكن في هذه الأشهر ورد أيضًا - الصلاة على محمد وآل محمد.
بعض الصلوات الخاصة، قراءة القرآن في شهر رمضان، ولكن هذه الليالي مباركة - يعني ليلة النصف من شعبان البعض يتحدث فيها أنها قريبةٌ من ليلة القدر - هذه ليالٍ وأيامٌ مباركة.. يجدّد فيها الإنسان العهد مع الله والتوبة له، فجزاكم الله خيرًا لا تنسونا من صالح الدعاء في هذه الليالي والأيام.
مع هذه الأشهر أيضًا، دخلت علينا العطلة الصيفية في ظرفٍ نمرّ به «استثنائي» قياسًا بالسنوات الماضية، ونريد أنْ نتحدّث عن معنى واحد من معاني كثيرة نحتاج أنْ نقف فيها: هو استثمار هذا الظرف الذي قد يعيق عديدًا من عندنا من قدرة السفر - وإذا سافرنا أيضًا لا يسقط الكلام - في ضرورة التقرّب إلى أفراد الأسرة، وفهم ماذا يجري في عقولهم وفي قلوبهم؟ والجلوس معهم ومحادثتهم، وهذا الأمر الذي هو بسيط ونستسهله وأحيانًا لا نمارسه، هذا هو الوقاية من أمراضٍ تظهر فيما بعد في الأسرة والمجتمع لم نحسب لها حسابًا.
والآن نحن محبوسون في بعض الليالي، محبوسون ليس فقط مع التلفزيون (دعونا نتكلّم مع بعضنا، دعونا نتحدّث مع بعضنا..) يعني لا تصبح «الحبسة» أن كلّ شخصٍ جالسٌ في غرفته ومعه الإنترنت الخاص به وجهازه، وإذا لم يكن إنترنت الآن هذه الموبايلات...
فرصة أنّ هذا الحديث (مع ابنك ومع ابنتك ومع زوجتك)، هذا الحديث هو أوّلًا نوعٌ من الوقاية من المشكلات الاجتماعية عامةً، ولكن هذا الحديث سيمنع - لا سمح الله - انحرافا مستقبليًّا: انحرافا عقيديًّا، انحرافًا سلوكيًّا..
هذا الحديث سيخلق مودّةً ومحبّة وقدرةً على فهم بعضنا البعض.
أولادنا لا يفهموننا ونحن لا نفهمهم.. واحد من أسباب أن لا يفهموننا ولا نفهمهم أنّهم لا يتحدثون معنا ولا نتحدث معهم.. نعيش عمليةً سطحيةً مستمرة، وأحاديث عابرةً تتعلق بالأكل، تتعلق بكذا، تتعلّق بالمدرسة قليلًا.. عدم الدخول في العمق.. هذه فرصةٌ في العطلة أنْ نقترّب من أهالينا ومن أولادنا، ونتحدّث معهم أكثر، نعايش همومهم، وهذا سوف يساعدنا في تجنّب هذه الأمراض الأسريّة، والتفكّك الأسري، والتخلّف المدرسيّ، والانحراف السلوكيّ وغيرها من الأمور.
المحور الرابع، أختم بها هذا الحديث، وهي: محاولة التوازن بين الشعور بألمٍ لا يفارقنا
لا توجد إمكانيّة أنْ يُفارقنا هذا الألم، أيّ إنسانٍ سويٍّ لا يستطيع أنْ لا يتألّم بأنّ هناك معتقلين شرفاء في المعتقل.. لا يمكن.. وأنّ هناك أناسًا مُسرّحين من أعمالهم ويعانون من ضائقة العيش نتيجةً لذلك.. وصورٌ أخرى من الألم في جنبات المجتمع الذي تعيش فيه، لا بدّ أنْ تشعر فيها وتحملها في قلبك.
لكن أريد أنْ أدخل إلى الصورة الثانية، الزاوية الأخرى:
إنّ الحياة المجتمعية لا بدّ أيضًا أنْ تستمر، ولا بدّ لعجلة الحياة - لا أقول الطبيعية، فيها دائمًا هذا الشعور، فيها حضورٌ إلى كل المآسي، «من أصبح ولم يهتم...».
الذي يحصل في سوريا يؤلم قلبك وينبغي أنْ تحمله، الذي يحصل في اليمن، الذي يحصل في أيّ بقعةٍ من بقاع الأرض.. يحصل زلزالٌ في أمريكا، يحصل زلزالٌ في الهند، أنتَ تشعر بالألم وتشعر بالتضامن، والمفترض أنّك تُقدّم ما تستطيع، فما بالك بجارك؟!
لكن في الجانب الآخر لا تتوقف حركة الحياة الطبيعية. أنا أقول: لا أحد يلغي زواجه.. نعم لا يظهر بمظاهر تزعج - لا سمح الله - إذا كان أخوه أو جاره.. يخفّـف من الأمور، نعم هذا هو التوازن..
لا يمكن أنْ أطلب من المجتمع أنْ يعيش في حالةٍ من الشدّ والتوتر؛ لأنّي أعرف أنّ النتيجة النهائية إليها: لا توجد قدرة، ينهار المجتمع، وتنشأ لي مشاكل أخرى أكثر.
الآن سوف يأتي شهر رمضان، لا بدّ أنْ تُفتح أماكن قراءة القرآن، والناس تزور بعضها البعض.. نلتقي ونذكر معتقلينا، نلتقي ونذكر المهجَّرين، نلتقي ونذكر... وهكذا.
نريد عجلة الحياة - ونحن نطالب بحقوقنا، ونحن نقاوم، ونحن نصمد.. وكلّ العناوين - نريد لعجلة الحياة الطبيعية أيضًا أنْ تدور.. نريد للشخص الذي يفكّر في مشروعٍ تجاري أنْ يذهب ويعمل مشروعه التجاري، لا يتوقّف.. هذه الطريقة هي التي تعطينا النَفَس الطويل.
تمرّ بعض القرى - يمكن غالبية القرى - الساعة 8 وترى الطرق كلّها مظلمة.. أنا أقول: لندعْ الإنارة تعود، كلّ الإنارة تعود.. لا ينقطع العمل المطالب بالإصلاح، لا ينقطع، ليس له علاقة.. الآن نحن نخرج في النهار، والشمس مضيئة لكلّ المكان.. الآن هناك ألف طريقةٍ إذا الشخص خائف، لكن الفكرة - وأنا أدعو هنا وأوكّد على العمل السلمي، والتمسُّك بالخيار السلميّ، ومبدأ اللاعنف.. هذه استراتيجية: ليل، نهار، صبح، في أيّ مكان.. هذه استراتيجية أؤكّد عليها.. لكن دع الشخص يستطيع أنْ يخرج من قريته، لا يشعر بالخوف.. المرأة تستطيع أنْ تخرج في قريتها، تستطيع أنْ تخرج في مناطق سكنها..
تدور الحياة، بالتوازن، نحفظ مطالبنا وحقوقنا ونستمرّ فيها، وفي نفس الوقت ندوّر عجلة الحياة الطبيعية حتى يستطيع المجتمع أنْ يمتلك النفس الطويل في المطالبة بحقوقه.
اللهم اجعل هذا البلد آمنًا، وارزق أهله من الطيّبات والخيرات، وآمِنْهم يا ربِّ من كلّ خوف، وحقّق لهم ما يَصْبون إليه من تقدمٍ ورخاءٍ ونماء، في أُلفةٍ ومحبّةٍ تجمعهم تحت راية هذا الوطن.
غفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تعليقات الزوار