خطبة الجمعة (472) 8 ذو القعدة 1432هـ  ـ جامع الإمام الصادق (ع) بالدراز.

 

الخطبة الثانية:ـ

 

محنة الوطن العربي:

 

امتحن الوطن العربي خاصة والوطن الإسلامي عامة بمدى زمنٍ طويل بأنظمة حكم تسلطية، فرضت نفسها على خلاف إرادة الأمة ودينها، ولا يمكن لها في ظل وعي الأمة وصحوتها وإدراكها لمقتضيات هويتها ومصلحتها واعتزازها بذاتها وحضارتها أن تنال ولائها وثقتها ومناصرتها، فصارت تعمل دائماً على تجهيلها واستغفالها وقتل إرادتها، ومنع أسباب القوة والنهوض عنها، درءً لما تراه خطراً عليها في صحوتها ووعيها وقوتها، وادراك مأساتها هذا من جهة.

 

ومن جهة أخرى، لقد مكنت هذه الأنظمة للأجنبي من رقبتها، وأباحت له الأرض العربية والإسلامية وخيراتها، وأعانته على غزو ثقافتها وأخلاقيتها وقيمها، وإفساد دينها وتربيتها شعوراً منها أمامه بالضعف، وحاجتها إلى دعمه وتأييده ـ أي تأيد الأجنبي ـ في قبال حركة الشعوب المتوقعة، وهذا ما جعل بقاء هذه الأنظمة مرهوناً بإرادة الأجنبي، واتاح له أن يبتزها بأي درجةٍ من الدرجات متى شاء وكيف شاء، وجعل له تغلغلاً واضحاً في كل مفاصل هذه الدول الذليلة المستسلمة، وملكه علاقاتٍ مهيمنةً على مستوى التفكير والشعور والإرادة ونوع الطموح على كثيرٍ من أبنائها خارج جسم الحكومات، لتكون البديل المناسب لخدمة نفوذه ومصالحه عند الضرورة.

 

وقد جعل هذا الواقع المعقد حركات الإصلاح والتغيير الصالح في الأرض العربية والإسلامية، تواجه خطر القمع الداخلي العنيف على يد الأنظمة الحاكمة والدعم الأجنبي لها، والذي كان قائماً في المثال الليبي إلى وقتٍ كان القذافي يقمع فيه الشعب وينزل حمم سخطه عليه كما تواجه خطر البديل المتعاون مع الاستعمار الأجنبي من أبناء شعوبها، ممن صنعوا على عين المستعمر نفسه لمدة طويلة على أيدي الحكومات الظالمة، واعدو بصورة جاهزة لخدمته وتمثيل سياسته وأهدافه.

 

وخطرٌ آخر على حركات الإصلاح والتغيير في البلاد العربية والإسلامية، قد أوقعها فيه ذلك الواقع المرير الذي صنعته الأنظمة الفاسدة والحكومات الجائرة، وهو شعور الكثير من هذه الحركات إلى مغازلة الأجنبي واسترضائه، والدخول في مساومةٍ معه، لا إيماناً بقيمته ولكن إذعاناً ليهمنته وقل أن تتحرر حركة تغيير أو إصلاح من هذا الهاجس، وتتمتع بروح الاستقلال الحقيقي، وتعتمد على قوتها الداخلية ورصيدها الوطني، وجهدها وجهادها وتضحياتها وإن طال الطريق، وذلك وإن قل إلا أنه قد تحقق على الأرض [1] وهو قائمُ وموجودٌ فعلاً. وإذا وجود، كان معاداً من جميع قوى الظلم والانحراف والزيف والظلال، وكان عليه أن يواصل جهوده المضنية، ويصبر على مر الأعداء الكثيرين وحربهم وآذاهم، وأن يملك دائماً انتباهه ويقظته لما يدور حوله وما يحاك له من مؤامرات، وأن يبني قوةً متينةً متناميةً تحميه.

 

ولا أمل في تحرر الأمة وانعتاقها من ذل العبودية لقوى الطاغوتية في الداخل والخارج، إلا في حركة إصلاح أو تغييرٍ مستقلة عن هيمنة القوى المعادية للأمة، تولد من رحم أمتها المجيدة، ووعيها الإسلامي، وخطها الحضاري، وإرادتها الحرة التي لا تخضع إلا لله، ولا تستكين إلا أمام إرادته، ولا تتطلع إلا إليه، ثم لا تعتمد مع بذل كل الجهد إلا على ربها، وتتحمل المعاناة الصعبة والتضحيات الجسيمة في سبيله، وتكون على نباهةٍ ووعي بالغين لا يسمحان بأن تسرق صنائع الأجنبي وخلاياه المعدة عطاء التضحيات الباهظة لجماهير الأمة ومكاسبها[2].

 

أما عن شأننا المحلي، فإن كل يوم يحتفل فيه العالم لتكريم المرآة أو المعلم أو الطبيب أو الصحافي الحر، هو يوم إهانة، وتهميش، وملاحقة، ورعب، وازدراء، ومحاكمة ظالمة لكل هؤلاء، ولكل مطالبٍ بالحق ومنتصرٍ له في هذا الوطن المظلوم الكئيب المعذب.

 

فهل هذا هو التقدم المدعى، والإصلاح الموعود، والرشد المطلوب، والسياسة الرشيدة يا أهل السياسة؟!

 

صار لا يصبح هذا الوطن ولا يمسي إلا على أخبار الاضطهاد، وشن الهجمات على المناطق، وانتهاك الحرمات، والمحاكمات الصورية بلا حساب، والأحكام التبرعية القاسية، والسجن والإعدام، ومجالس التأديب للشرفاء المخلصين، والفصل التعسفي، وألوان المظالم والتعديات، وكل ذلك لذنبٍ واحد هو المطالبة بالحقوق واسترداد الحرية والكرامة والعيش بسلام.

 

وإن للمواطنين على هذا الطريق لصبراً لا ينفذ، وعزماً لا يتراجع، وإرادةً لا تلين، وتصميماً لا يهن، وإيماناً لا يدخله خلل.

 

وطول الطريق، وشدة المحنة، وازدياد الكلفة، وتضاعف التعب، والإمعان في الظلم صار لا يزيد الصبر عند هذا الشعب إلا صبرا[3]، والعزيمة إلا عزيمة، والإرادة إلا مضاءة، والتصميم إلا تصميما ، النفس طويل وسيبقى هذا النفس طويلاً إلى أن يصل هذا الشعب إلى الغاية[4].

 

ومن لم يبتغي في الأرض شراً ولا فسادا، ولم يخرج أشراً ولا بطرا، وإنما كل حركته للإصلاح، وطلباً للحرية والإنعتاق من عبودية العباد، ورفضاً للظلم والبغي في الأرض، كان الله معه، ومن كان الله معه كان النصر حليفه وكان من الغالبين.

 

ثم إنه من أسوء حالات السياسة أن تمعن في الظلم والتضييق، وسد كل منافذ الحل، وغلق فرص التدارك، وفي التجويع والترهيب والازدراء والتهميش والإقصاء والاستهداف بأحق أنواع السوء، حتى تنطق هذه اللغة العدوانية من أي حكومة من الحكومات التي تمارسها للشعب الذي تحكمه بهذا المقال: ( هذا فراقٌ بيني وبينك، وأنا عليك ـ الحكومات تقول ـ ما دمتُ ، فاحمي نفسك إن استطعت )، فهذه اللغة لغة لا تبقي ولا تذر.

 

ـــــــــــــــ

 

[1] أي وجود النماذج، نماذج التغيير والإصلاح الحقيقي المستقل النابع من ضمير الأمة والناظر لمصلحتها.

 

[2] هتاف جموع المصلين: لن نركع إلا لله.

 

[3] هتاف جموع المصلين: هيهات منا الذلة.

 

[4] هتاف جموع المصلين: لن نركع إلا لله.