الإسلام والإسلاميون:

 

هناك أكثر من ثورة عربية أسقطت نظاماً حاكماً مغضوباً عليه من شعبه، وهي في طريقها لإقامة حكومة أخرى ونظام حكم آخر مكانه وعلى أنقاضه، والغالبية في الشعوب العربية عاطفة أو رأياً وعاطفة لا تقدم نظاماً وحكماً على الإسلام لا تنسجم معه، وفي حال أن تجري انتخابات حرة بالمعنى الحقيقي، بعيدة عن كل ألوان المغالطة والغش والخداع والمراوغة والاحتيال والتلاعب وشراء الذمم، فسنجد أن خيار الغالبية من الشعوب الإسلامية هو الإسلام.

 

وهنا يكون الإسلام والإسلاميون أمام تجربة جديدة صعبة، وامتحان عسيرٍ مكشوفٍ مؤثرٍ بدرجة عالية على مصيرهما، ولو أخفقت هذه التجربة المتطلَع إليها من قبل جماهير مسلمة عريضة، والتي ستكون مراقبةً بالمجهر الدقيق من قبل مختلف الملايين، ومقاومةً من قبل كثيرين، فإنها ستكون أشد خطراً وأبلغ في تأثيرها السلبي على الإسلام من حالة إقصائه عن السياسة وعداوتها السافرة له.

 

والإسلام قد خاض تجربة الحكم قديماً وحديثا، ولم تحقق أي أطروحة أخرى ما حققه من نجاح حينما خاض هذه التجربة برؤيته وعقيدته الدينية والسياسية الصادقة وشريعته وقيمه وأخلاقيته الحقيقية.

 

وكذلك قد خاص الإسلام تجربة الحكم مظلوماً على يد التزوير والأطماع الرخيصة ممن لا يؤمن به حق الإيمان، وإنما اتخذه مطيةً لأطماعه وهو عابدٌ للدنيا ـ ولأكثر من مرة في القديم والحديث ـ فسجل ذلك تشويهاً للإسلام، وتحريفاً لأحكامه وقيمه، وإسقاطاً لوزنه، وانقلاباً في الرأي العام في أوساط المسلمين عليه، وبحثاً عن بديلٍ سيءٍ له.

 

صارت الأمة تبحث عن بديلٍ سيءٍ عن الإسلام، لما أصابه من تشويه على يد الحاكمين باسمه وهم لا يؤمنون به حق الإيمان. واحتيج في تصحيح رأي الناس في إسلامهم بعد ذلك إلى جهود مضنية، وتوعية صبورة، وثورات قاسية، ودماء غزيرة.

 

ذاك هو الإسلام، فماذا عن الإسلاميين؟

 

ويبقى امتحان الإسلاميين في التجربة الجديدة، لو تأتّى للأمة أن تعطيهم خيارها، وتضع يدها في يدهم، وتحملهم أمانة الحكم وهي أمانة ثقيلة لا يتحملها إلا أمناء كبار، وقادة أوفياء، وعقول راجحة، وهمم عالية، ونفوس متحررة من شهواتها، متأبية على الأهداف الرخيصة، وذمم طاهرة، وأيد نظيفة، وفهم إسلامي ناضج، وقلوب لا تغفل عن ذكر الله ولا يصرفها عنه لهوٌ ولا تجارة.

 

موقع الحكم يتطلب كل هذا، فهل يكون الإسلاميون في هذه التجربة الجديدة بوزن هذه الأمانة الكبرى بمقدار لا يسيء للإسلام، ولا يظلمه ظلماً أشد من ظلم أعدائه ؟

 

هل يقربون في فهمهم من فهمه، وفي طُهر نفوسهم ونياتهم من طهره؟ وفي حكمتهم من حكمته؟ وفي إنسانيتهم من إنسانيته؟ وفي عقلانيتهم من عقليته ؟ وهل يأخذون في سيرة حكمهم نزاهة تزينهم من نزاهته؟ ودرجة عدل تعشقهم بها الملايين من عدله المطلق الشامل الذي تفرد به ؟

 

إن كان لهم ذلك، سعدت بهم الأمة وسعدوا بها، وحمتهم بقلوبها وأيديها، وكانت قلعتهم الحصينة، وسياجهم المتين، ودعامة وجودهم الثابتة بعد دعم الله وحمايته، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وتعمّق إيمانهم به، وتصلّب وتثبت اختيارهم الإسلام ولن يستبدلوا عنه أو يتخلوا عن نصرته.

 

أما لو أساؤا فهم الإسلام، ولو صبغوه بالعصبية العمياء، لو فصلوه عن بعده الإنساني، لو أوغلوا السيف في رقاب العباد، لو ظلموا وهم يعلنون انتماءهم للإسلام ويتحدثون باسمه، لو كان أول تنافسهم على المواقع والثروة، لو اشتغلوا بالغنائم عن هموم الناس ومشاكلهم، لو توجهوا لبناء الأمجاد الدنيوية الشخصية والفئوية ضاربين بمصالح الأمة عرض الحائط، فإنهم سيسقطون من نظر الأمة، وسيسقطون الإسلام من ناحية عملية إلى حدٍ كبير، ويجنون عليه أكبر جناية. وفي الجناية على الإسلام أعظم جناية على الأمة المظلومة والإنسانية المعذبة، وحرمان لأهل الأرض من منقذ لا منقذ لهم سواه إلى مدى قد يطول، وإن كان لابد أن ينقذ الإسلام العالم من مأساته التي أغرقها فيها البعد عن الله سبحانه على يد الكافرين والظالمين.

 

ويُسقط الإسلاميين الذين يصلون إلى الحكم باسم الإسلام، وينزلوا به ضربة قوية أن يساوموا أعداءه عليه - هذا خطرٌ آخر - ويحرّفوه مجاملة لهم وكسباً لودهم، ليجدوا فيهم سنداً أو يأمنوا منهم شراً وتآمرا.

 

نجاح الإسلاميين في حكم الأمة أو شعب من شعوبها.. أن يكونوا رساليين مبدئيين بمقدار رسالية الإسلام ومبدئيته، واقعيين عند حدود واقعيته، جديين بمستوى جديته، منفتحين بساعة انفتاحه، نزيهين كنزاهته، عادلين في الناس لا يعدلون عن عدله، بعيدين عن كل عصبية أرضية تعكر نقاءه وصفاءه، بهذا يقوون وتقوى بهم الأمة ويجدون منها محضراً دافئاً، وحصناً حصيناً، وعيناً ساهرة، ويداً ضاربة، وإمداداً غير منقطع ،،، وبهذا يحترمهم العدو ويهابهم، ويعطون لأوطانهم الاستقلال ولأمتهم العزة والمهابة والكرامة.

 

يُخطئ الإسلاميون لو طلبوا البقاء في الحكم عن طريق الإكراه والتحايل على الأمة وترهيبها، إنهم يستطيعون أن يضمنوا البقاء في الحكم والعودة إليه عبر صناديق الاقتراع في كل مرة تعطى الأمة فيها فرصة الانتخاب، لو رأى الناس منهم صدق الإسلام وعدله ورحمته وأخلاقيته، واهتمامه بتقدم المجتمع في كل مسارات حركته الصالحة وأبعاد وجوده الكريمة، ولو رأوا منهم التفاني في خدمة الشعب والإخلاص له، والأمانة الصادقة على ما تحت أيديهم من خيراته وثرواته، والاحترام لإرادته وكرامته على خلاف ما رؤوا ويرون في غيرهم من الطغاة والمستكبرين وأهل المصالح الدنيوية الضيقة.

 

الحكومات بين الوظيفة والواقع:

 

الحكومات "وظيفة" من أجل أمن الشعب، نظم أمره، لم شمله، حماية دينه ونفوس أبنائه وبناته، تطوير اقتصاده وثروة وطنه وتوظيفها لغذائه وصحته وتقدمه العلمي والاجتماعي، وتحسين بيئته، وتوفير الخدمات المدنية التي يحتاجها، وتقدم كل أوضاع حياته.

 

أما عن "واقع" حكومات كثيرة فقد صار مطلوبها شعباً بلا أظافر، بلا عقول، بلا إرادة، بلا اعتزاز بذات، بلا رأي، بلا شوق للحرية، بلا إيمان بالكرامة، بلا تطلع لحياة مريحة، بلا أمل، وحتى بلا لسان.

 

صار مطلوبها شعوباً مستسلمة مستكينة متنازلة عن حريتها أو لا تؤمن بهذه الحرية أساسا، وكل إيمانها بالحرية المطلقة للحكومات في أن تفعل فيها ما تشاء وتختار لها ما تشاء، وأن الحكومات مالك مطلق للأرض والشعب وكل الثروة، وأن على الشعوب أن تكدح جاهدة لثراء حكوماتها التي إن شاءت أن تتصدق عليها بما يقيم أودها لتقوى على خدمتها كان ذلك منها إحسانا، وإن شاءت أن تقبض يدها فهي تمارس حقها الطبيعي ولا مورد لأي اعتراض عليها.

 

المطلوب لهذه الحكومات شعبٌ يسبح باسم حاكميه ليلاً ونهارا، وينسى ذاته وربه ودينه وقيمه وضروراته وحاجات حياته، ويكون بلا أمل ولا أمنية ولا تطلع، وهذا هو الواقع الذي تعاني منه شعوب هذه الأمة، ويثير تحركات أقطارها، ويفجر ثوراتها، ويسقط حكومة تلو حكومة ونظام تلو نظام من حكوماتها وأنظمتها،،

 

وهو الواقع الذي آلم هذا الشعب وأنفذ بثقله ومرارته البالغة صبره، وجعله يدفع من أمنه وماله وجهده ودمه، ويركب الصعاب، ويتعرض لما يعز عليه من مهانة الأعراض وآذى النفس، ليكون في الوضع الإنساني والحقوقي الصحيح، ويملك اختيار طريقه وأسلوب حياته، ويسترد حريته، وتصان كرامته،، وهذا الواقع المرفوض عقلاً وديناً ووجدانا، والذي يحرك جميع شعوب الأرض اليوم من اجل الإنعتاق واسترداد الحرية والكرامة، هو الذي يؤدي كل التحركات الشعبية، ويدفع بها إلى الأمام، ويعطيها الدوام والاستمرار ولا يأذن لها بالتوقف، ويجعل الأثمان الغالية في سبيل التخلص منه زهيدة رخيصة.

 

وشعبنا شعبٌ من شعوب الدنيا ومن أوعاها، وأشدها صبراً وإباءً وغيرة وتحملا، وإحساساً بقيمة ذاته ودينه وشرفه.