خطبة الجمعة:  12 صفر 1433ﻫ. 6 يناير 2012م

 

عامُ البداية:

 

العام الحادي عشر بعد الألفين الميلادي ما هو إلّا عام البداية للثورات العربيّة في وجه الأنظمة الحاكمة التي ضاقت بها الأمّة ذرعًا; بما أوقعتها في مستنقع التبعيّة الذليلة وسلبتها العزّة ولقمة العيش وأذاقتها الهوان.

 

ثوراتٌ لن تُلقي عصا السير، ولن تتوقّف عن تصاعدها، ولن تستريح حتى تكون الحاكمية التي تُؤمِن بها الشعوب لا الحاكميّة التي تُؤمّن طاغوتيّة السلاطين; ذلك لأنّها لم تنطلق من فراغ ولا نظرةٍ سطحيّة أو حالة انفعالٍ عابر أو رؤية مُتعجّلة أو إرادةٍ متلكّئة أو عزمٍ ضعيف.

 

وإنه لن تنفع بعد يَقًظةِ الشعوب وانبعاث إرادتها والإصرار على استرداد حقوقها وحريّتها وكرامتها في إيقاف هذه الثورات أساليبُ بطشٍ وقمع, ولا حيلةٌ ولا وسيلةٌ ممّا يقع تحت يدِ الباطشين الذين لا يرعون إلًّا ولا ذمّة ولا يقيمون لإنسانٍ وزنا.

 

في أقلّ من عام سقطت ثلاثة أنظمة من أعتى الأنظمة العربيّة, وغادر حاكمُ اليمن موقع السلطة مُكرهًا تحت ضغط الشعب الثائر الذي لن تهدأ ثورته حتّى يتمّ له مطلبه في الحريّة والكرامة, ويختار نظام الحكمِ الذي يؤمن به من غير هَيْمنَةِ أحدٍ عليه إلّا اللهُ تبارَك وتَعالى.

 

وسيبقى التحرّك الثورُّي زاحفًا للأمام وعلى مساحة الأمّة كلّها وتتعالى الصرخات ويستمرّ الزلزالُ حتّى تتحقّق أهداف الشعوب في الحريّة والكرامة واسترداد الحقوق, ويُستَجابُ لإرادة الأمّة فيما تختار من حُكمٍ وحاكمين.

 

لم يبقَ صبرٌ للأمّة على الذلّ والهوانِ والإقصاءِ والتحكّمِ ومصادرةِ الإرادةِ الشعبيّةِ والفسادِ السياسيّ والاقتصاديّ وألوان الفسادِ الأخرى. نعم، هناك صبرٌ جديدٌ مُضاعفٌ كبيرٌ على البذلِ والأذى في سبيل الله والتضحيات, لا صبرٌ على طاعةٍ كطاعةِ العبيد, وفي ذلك ضمانةٌ من ضمانات الاستمرار على طريق الجهادِ من أجل العزّة والكرامة.

 

صار مستحيلا في وعي الأمّة وشعورها وتصميمها أنْ تكونَ عودةٌ للأمسِ الظالم, وصار لابدّ أنْ تُغلَقَ كلّ أبوابِ العودةِ إليه, بل لابدّ أنْ يكونَ غدُ الأمّةِ أفضلَ دائمًا من يومها الذي تعيشه والحالِ الذي تكون عليه.

 

ثمّ لو كانت الأنظمة الحَاكمةُ في البلاد العربيّة على حكمةٍ بالقدر المطلوب ومُقدِّرةً ولو لمصلحتها لوجَدت في دروسِ العام الحادي عشر بعد الألفين ما يكفي لإقناعها بضرورة الإصلاحٍ حتّى قبل تحرّك مَنْ لم يتحرّك بعدُ من شعوبها؛ لأنّ رياحَ التغيير لا توقّفَ لها, وليس في وُسْعِ الوعود وآلة الإعلام الكاذب أنْ تطيل كثيرًا من عُمر التخدير للرأي العام وأنْ تُشِلّ إرادة النّاس وتعطّل فهمهم. ولا يمكن لأسلوب البطشِ وإرهاب الدولةِ بعد هذه القفزةِ الهائِلةِ في الوعي والشعور والإرادة عند الشعب العربيّ أنْ يقهر إنسانَ هذا الشعب ويُحدِثُ له الاستسلام, كلّ ذلك لا يملك اليومَ أنْ يصرف عن المطالبة بالحقوق أو يثبتَ أمام هيبةِ هذا الشعبِ وثورته.

 

ليس حقيقًا بالحكم والحكمُ ليسَ محلًّا لمَنْ لمْ يتعلّم من الحكّام العرب من دروس العام المُنصرم ولم يفهم أنّ عليه أنْ يستجيبَ للتغيير, بل عليه المبادرة إلى ذلك وأنْ ليس بإمكانه أنْ يُوقِفَ عجلة الإصلاح ويعطّل حركة التغيير; لأّنّه كي يستطيعَ ذلك لابدّ عليه أنْ يَرجِع بإنسان الأمّة وعيًا وتطلّعًا وثقةً بالنفس واعتزازًا بالذّات وجرأةً وإرداة وتشبّثًا بالحريّة إلى مسافاتٍ بعيدةٍ تستحيلُ العودةُ إليها.

 

ودروس العام المُنقضي تقدّم خطابًا للحكومات وخِطابًا للشعوب. خطابُها للحكومات بأنّه لا مجالَ للفّ والدورانِ والمغالطةِ والتمييع لمَطلب الإصلاحِ والتغيير, وأنّ كلّ الوسائل التي تملكها الأنظمة في التحايُلِ والتضليل والقمعِ عاجزةٌ عن مواجهة إرادة الشعوب. وخطابها للشعوب بأنّ قدرها أنْ تنتصر - بإذن الله - إذا أصرّت على الحقّ وسَلكت سبيله وصبرت على التضحيات وأحسَنَتِ الأسلوب وصدقت العزم ونيّة أخلصتِ وَوحّدت الصفوف.

 

وجديدُ العامِ المُنصرم أنْ قامت أنظمةٌ سياسيّة بديلة في أكثر من قُطرٍ عربيّ قد تمّ لها قيامُها أو أنّها على هذا الطريق.

 

وبعدَ أنْ تجدّد وجود الأمّة فكرًا ورؤية وإرادةً وطموحًا وعزمًا وشعورًا بالعزّة والكرامة ووعيًا وخبرةً, لن يسعَ الأنظمة المُنبثقة عن الثورات العربيّة أنْ تتعامَلَ مع شعوبها تَعامُلَ الأنظمة البائدة، وأنْ تعودَ بها إلى ما كانت عليه من حالة الإقصاء والتهميش والاستغلال والاستنزاف والذيليّة والتبعيّة المهينة.

 

ومن جهةٍ أخرى، لابدّ أنْ تتركَ الأنظمة الطاغوتيّة التي أسقطتها إرادة الشعوب بصماتٍ سيّئةً ومتاعِبَ جمّة وآثارًا مُعرقِلة وأزماتٍ متراكمةً من مخلّفاتها, يُحتاج للتخلّص منها مع الجدّ والإخلاص إلى جهودٍ مُضاعَفة ووعيٍ كبير وعملٍ حثيث وزمنٍ مُمتدّ.

 

البحرين في العام الجديد:

 

مضى العام الحادي عشر من القرن الواحد والعشرين الميلادي شاهدًا بحقّ على مَثلٍ عالٍ من الأمثلة الجديدة النادرة التي قد تمثّلها الشعوب والأمم من قوّة التحدّي للظلم الصارخ والبطش الشرس ومن الصبر وتحمّل الصِعاب في سبيل العزّة والكرامة والإباء والشموخ والتعالي على الجِراح والبذل والتضحيةِ ثمنًا للحريّة والانعتاق ومن التمسّك بالحريّة والانضباط. هذا المثل أقامَه وجسّده شعبُ البحرين.

 

ومضى العام نفسه شاهدًا على مَثلٍ بالغ السوء للقسوة والفضاضة والتجاوز لقِيَمِ الدين والأخلاق والأعراف الحميدة والمواثيق الدوليّة وما يستحقّ أنْ يكون دستورًا من دساتير المجتمع البشريّ أو قانونًا من قوانينه ممّا يمكن أنْ يحدث على يد حكومةٍ في تعاملها مع شعبٍ من شعوب الأرض ومطالبه العادلة. مَثلٌ قدّمه التعامل الرسميّ مع الحراك الشعبي ومطالبه الضروريّة الملحّة, التعامل الذي ضَربَ مثلًا في القسوة والعنفِ وبَالَغ في الإرهاب والفضاضة واستباح ما لا تصحّ إباحته في دينٍ أو ضمير [1].

 

ملأت السياسة الظالمة عامَ البحرين المُنصرم بألوان الانتهاكات والتعديّات التي طالت الأرزاق والممتلكات والأنفسَ والأعراض والمساجدَ والقرآن والعقيدة والشعائر ومُختلفَ ما يعتزّ به الإنسان أو له تقديرٌ في دين الله. وكان اختتام العام المُنصرم بأنْ صُبِغَت أرض سترةَ البطَلة بالدمِ الزكيّ الحرام لشبلٍ من أشبالِ الشعب البرَرَة. وتوالت الإدانات لجرائم الحكومة على لسان لجنة تقصّي الحقائق - وهي من اختيار النظام وحده -، وعلى لسان المفوضيّة الساميّة لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدّة, ومن منظّمات حقوقيّة خارجيّة متعدّدة وعلى لسان رؤساء دولٍ مهمّة.

 

وصارت الحكومة مطالبةً بإصرار لإنهاء عنفها وإطلاق السجناء وإعادة المفصولين من طلابٍ وأساتذةٍ وأطبّاء وموظّفين إلى مواقعهم ووظائفهم وإنصاف المظلومين ومعاقبةِ مُرتكبي الجرائم في حقّ أبناء الشعب من الأجهزة الحكوميّة والمسؤولين الكبار, ومُطَالبَةً بالإصلاح السياسي الذي يُعالج أصل المُشْكِل ويمثّل الضمانة لإيقاف الانتهاكات والنزيف.

 

وكما كَثُرَت الإدانات للحكومة كَثُرَت منها وعود الإصلاح, ومضى على الإدانات والوعود وقتٌ طويل ودخل العالم عامَه الجديد, فماذا تغيّر في البحرين؟!

 

هل عُوقِب قاتلٌ أو معذِّبٌ للمواطنين؟

 

هل أُنصِفَ مظلوم؟

 

هل أُعيدَ كلُّ المفصولين من طلابٍ ومدرّسين وأطبّاء وأصحاب وظائف مختلفةٍ إلى مواقعهم التي كانوا يشغلونها؟

 

هل انتهى التعذيب والقتل؟

 

هل انتهى سبُّ المواطنين والشتم والتخوين لشرفاء الوطن والشحن الطائفيّ البغيض؟

 

هل تحرّك الملفّ السياسيّ قَيْد أنملة؟

 

هل توقّفت استباحة المناطق السكنية الآمنة أو قلَّ إغراقُها بالسموم الغازيّة في أيِّ ساعةٍ من ليلٍ أو نهار؟

 

هل هناك جديّة في إعادة بناء كلِّ المساجد التي انتهكتِ الدولةُ حُرمَتها بهدمها على ما فيها من نُسَخِ القرآن الكريم وكُتُبِ دعاءٍ ومناجاة؟

 

هل تمّ إطلاق سُجناء الرأي وأُقفِل باب المحاكماتِ المسرحيّة؟

 

هل تغيّر شيءٌ على الأرض ممّا عانى منه الشعب وطالت معاناته منه؟

 

نعم، تغيّر أمران لا أرى لهما ثالث:

 

- حلَّ القتل بالغازات السامّة والوسائل الأخرى محلّ القتل بالرصاصِ الحيّ طلبًا للتستّر على الجريمة وسُهولة إنكارها وإمكانِ المُغالَطة.

 

- جاء التعذيب في مبانٍ تكونُ في محلِّ الاحتجاجات الشعبيّة مكان التعذيب في السجون للغرض السابق نفسه.

 

هذا هو الجديد وكلّ ما عَداه على ما كان, بل بعضُه في مزيد من ذلك سحُبٌ من الغازات السامّة التي تخنقُ الكبار والصِغار وتُصاعِدُ من وتيرةِ الشُهداء، والشعبُ صابرٌ مثابرٌ مُطالب لا تُكسَر إرادته في الإصلاح ولا يلينُ أمامَ دينارٍ أو حديدٍ، وبالله المستعان[2].

 

ـــــــــــــــــــــ

 

[1] هتاف جموع المصلّين: «فلتسقط الحكومة».

 

[2] هتاف جموع المصلّين: «هيهات منّا الذلّة».