بخطوات ثابتة، منطلقة نحو المجهول، ترجل من السيارة، وضع رجلاً على الأرض فيما الأخرى تحاول الانضمام لها، مضت السيارة أثناء نزوله، أخذ يجري، توقف برهة، خاطب ثلاث نسوة بكلمات سريعة غير معروفة، وحركة عفوية من يده تطالبهن بالمضي بعيداً، ومضى مسرعاً، يتجنب السيارات، يتجنب جيب الشرطة الذي لاحقه، لم يمر وقتٌ طويل قبل أن ينضم له جيبٌ آخر، وعسكري يجري نحوه راجلاً، وجيبٌ ثالثٌ أيضاً، التحمت مركبتان لقوات الشغب ببعضهما واختفى المشهد، لا أحد يعلم إن كانت المركبات قد اصطدمت به، أم حاصرته فقط، كان الشهيد محظوظاً بما يكفي ليجد شخصاً يوثق ما حدث، ففي بلدٍ كالبحرين يمكن قتلك بألف سبب، والتستر بألف كذبة.

 

هنا لا يقتل المرء وحده، بل يقتل مشيعوه أيضا والباكون عليه، وربما صح بنا تحريف المثل إلى:"يقتل القتيل، ويقتل من يمشي بجنازته"، هنا حيث لا يمكنك الحزن بما يكفي، ولا الصراخ بما يكفي، ولا طلب العدالة. بل تغدو المطالبة بالقصاص من القاتل بحد ذاتها جريمة، في هذا البلد الذي تموت فيه بالسكلر دون أن تصاب بنوبة، وتموت فيه بالفشل الكلوي دون أن تكون مصاباً حتى بمقدماته، وتموت غرقاً دون علامات غرق، هنا علب الموت جاهزة، وعليهم فقط اختيار موتك، هذا العبث المتعمد بمشاهد الموت، تجعلك لا تدرك إلى أي حدٍ من السفاهة قد يصل هؤلاء المجرمون، كم من الأرواح يمكن أن يحصدها جنون العسكر إذا ما انفلت، لا أحد يعلم... ولا يمكن لأحدٍ أن يتنبأ.

 

في ساحة الموت

 

شاهد عيان، يقف على مسافةٍ كافية لالتقاط مشاهد الموت، في الساحة القريبة من مركز شرطة سترة،  عصر الأربعاء الأسود، الذي فارق فيه الوطن ثلاثة من شهدائه، كان محمد إبراهيم يقص شعراته الأخيرة، يستحم للمرة الأخيرة، ويتناول غداءه الأخير على عجالة، قال: سيأتي صاحبي لنذهب سوياً، ليس لدي الوقت لآكل المزيد، ذهب مسرعاً، لشيءٍ ينتظره، حتى هو لم يكن يعلمه، هناك في الساحة التي سُميت لاحقاً باسمه، حيث سقط للمرة الأخيرة، قبل أن تنتهي أنفاسه ممداً على شرشفٍ أبيض، جاء صاحبه، ذهبا سوياً للتفرج، قال صديقه وهو يبكي: لم نكن ننوي المشاركة، سمعنا أن هناك تظاهرة في الساحة فقررنا التفرج، لم تمر أكثر من دقيقتين حين تفاجأنا باصطدام مركبة قوات الشغب بسيارتي، مرة، وأخرى. فجأةً قرر الشهيد أن يترجل، حدث كل ذلك بسرعة، لم أعرف لمَ فعل ذلك، ذهب محمد إلى حيث حشر بين مركبتين، وذهبت أنا بالسيارة إلى طريقٍ آخر.

 

شخصٌ آخر، رآه مرةً أخيرة، قبل أن يختفي في غيابة الجب، رجل أربعيني، وقف على مسافة كافية ليتابع بدقة تفاصيل الموت الأخير، قال: "أنزلوا الشهيد من الجيب، وضعوه أرضاً، واثقٌ أنا أنهم ألقوه على ظهره، لأن وجهه كان خالياً من الخدوش حين تفحصته في المشرحة" أكمل بعيون مترددة، تناظر ذوي الفقيد، وكأنه يعتذر عن تلك التفاصيل الموجعة: "بعد رميه اجتمع عليه أكثر من خمسة وعشرين عسكرياً، كانوا يركلونه في بطنه بأحذيتهم الثقيلة، ربما أصابته الركلات في أماكن أخرى، لكني رأيته بين أرجلهم جميعاً، تلك الساحة ملعونة، هناك يعذب جميع معتقلي سترة قبل أن يساقوا مجبرين إلى مراكز الشرطة".

 

ساعة يعقبها لقاء لم يأتِ أبداً

 

وصل الخبر إلى والدي الشهيد بسرعة، كانت الساحة التي صُدم بها على مقربة من بيت جده، هناك حيث تجتمع العائلة، تقول أمه التي بدت متماسكة، ومتعبة بذات الوقت:" حضر ابني الأوسط، طلب مني أن اسرع اللحاق بمحمد الذي اعتقلوه، علهم يفكون وثاقه، قيل لنا إنهم بالساحة فذهبنا، لكنه لم يكن هناك، بعض الفتيات أخبرنني إنهم انطلقوا به نحو مركز الشرطة، فذهبنا، سألنا عنه فقالوا غير موجود، طلبوا أن نستفسر من مركز شرطة محافظة الوسطى، ذهبنا مسرعين فأنكروا وجوده، بقينا هناك مصرين على ألا نخرج إلا بخبر يطمئننا".

 

حضر مدير المركز، شمسان البوعينين، أخبروه أنهم يبحثون عن ابنهم، وأنه مريض بالسكلر، تقول الأم: "أخبرتهم بذلك حتى لا يعتقلوه، هو مريض سكلر لكنه لم يعاني من نوبة سكلر إلا مرة واحدة حين كان طفلاً، لم يزر المستشفى ابداً، ولم يشكُ من آلام مفاصله، بعد دقائق أخبرنا مدير المركز أن ابني مع الضابط الآن، سينتهي من التحقيق معه خلال ساعة ويمكننا أخذه معنا، وطلب أن ننتظره، قاربت الساعة على الانتهاء حين جاءنا شرطي يطلب منا إحضار ملابس له، أحضر ابني الآخر ملابس أخيه، سلمناها لهم، الساعة انقضت وأكثر، ولم أر ابني، سألت مجدداً فقالوا يمكنكم الانصراف الآن سنقوم بأخذه للمستشفى للكشف ونعيده، اتركوا أرقامكم كي نقوم بالاتصال بكم، رفضت الخروج، قلت إني سأنتظره، لدي كل الوقت لانتظار ابني، لكنهم رفضوا، ألحوا علي بالخروج، وألححت على البقاء، هددوني بالاعتقال والتحقيق إن لم أأتمر بأمرهم وأنصرف، قالوا إنهم سيتهمونني بالتجمهر في مبنى الشرطة، وكان تجمهراً من شخصٍ واحد، اضطررت للمضي مجبرة، عدت للمنزل على أمل اللقاء بعد ساعات، ذاك اللقاء الذي لم يأت أبداً، كانت الساعة تقارب العاشرة والنصف، ربما أكثر أو أقل، سقطت مني عقارب الزمن، حين وردتنا اتصالات شتى، صراخ، وبكاء، تعجبت حينها، كنت أتساءل ما بهم؟ لم كل هذا الصراخ؟ محمد ليس به شيء، لقد قالوا إنهم سيفرجون عنه، طلبوا ملابسه، هذا يعني أنه بخير، لكن الاتصالات استمرت، فوجئنا بقناة المنار تنشر الخبر عبر شريطها الإخباري، ذهبنا للمستشفى مسرعين، كان أعمامه قد سبقونا، أرادوا أن يتأكدوا قبل أن ينقلوا لنا الخبر، لكن الخبر كان حقيقياً، حقيقياً أكثر مما نحتمل، وأشد مما يمكننا تصوره، كيف يعدوننا باللقاء بعد ساعة، ولا يكون اللقاء بعدها إلا في غرف الموتى، حيث يتجمد كل شيء، حتى الإحساس بالإنسان، هناك في مشرحة الموتى، حيث نقل الشهيد، بعد ساعات من الإهمال الطبي المفضي للموت (1)، كان فصلاً آخر من البشاعة ينتظر الأهل، لم يسمح لهم بالدخول، وحوصروا من قبل قوات الشغب، حضر أحد الضباط وقال: من البطل الذي قال إننا قتلناه؟، أتريدون أن نغلق عليكم المنافذ ونطلق نحوكم أسلحتنا وندعي أنكم أخللتم بالأمن وتجمهرتم بالسلمانية!!، لم تكن تلك الطريقة المثلى لخطاب عائلة فقدت شاباً في مقتبل العمر، لكنه جنون العسكر، الذي لا يبقي معه شيئاً.

 

بعد منعهم من دخول المشرحة لرؤية الجثة سمح لشخص واحد فقط بالاطلاع، أدخل العم لكنه لم يحتمل فسقط مغشياً عليه، فدخل آخرون لحمله، رفض الطبيب الشرعي أن يرى أهل الشهيد أكثر من رأسه حتى الرقبة، ومنعوا من رؤية جسده بالكامل، بعد ساعتين، تلقى الأهل اتصالا من المشرحة يطلب منهم الحضور والاطلاع على جثة الشهيد، وتساءل الأهل كثيراً ما الفارق بين الآن وقبل ساعتين، وقالوا بتأكيد:"نخشى أن يقوموا بتغيير العلامات الواضحة في جسد الشهيد التي تثبت تعرضه للتعذيب"

 

ليس للأموات حرمة

 

لم يكن الموت أسوأ ما واجهه الشهيد، لقد كان بين الاعتقال وقبره مسافة موتٍ آخر، ساعاتٍ من التعذيب  بعد محاولة موثقة للقتل دهساً، وتجاهل آهات الوجع، وعلامات الشحوب التي بدت جليةً على وجه الشاب، في الفيلم الساخر الذي عرض من قبل الإعلام الأمني، حيث بدت عيون الشاب تدور في دوائر مفرغة، تناظر مجهول المصير، وحوار محجوب الصوت، تختفي بعده كل الصور التي تأخذنا إلى حيث قضى الشهيد آخر ساعاته، بين رعب الأرجل المتهتكة انسانياً، وبين سادية العسكر التي لا ترحم، وساعاتٍ أخرى قضاها ممداً فوق سريرِ الموت، تتسرب روحه من بين جنباته ببطء، وهدوء، يواجه قسوة الشرطة، وإهمال الأطباء، والموت يقف على مقربةٍ منه متربصاً، لكن ما بعد الموت، لا تبقى لقتلى التعذيب حرمة، حتى شهادة الوفاة، ليست وثيقةً حقيقية للعبور لعالم الأموات، حيث تحمل معك شهادةً موثقة بموتك بسببٍ لم تمت به.

 

وجد الطبيب الشرعي المشارك في انتهاك حرمة الموتى أن مرض السكلر قد يكون متهماً مثالياً للجريمة، دوّن ذلك دون اكتراث، فلطالما زيف رحلة ما بعد الموت للكثير من الأجساد، تلك الأجساد التي ظلمت بموتها دون رغبة، وظلمت بتزييف موتها دون رحمة، رفض الأهل التوقيع على التقرير، لقد كان سبب موته جلياً لعمي الأبصار، لكنه ليس كذلك لعمي القلوب، طلبوا من النيابة العامة أن تسمح لهم بإحضار طبيب شرعي محايد من خارج البحرين، أخبروهم أن دفنه سيتأخر كما حدث للشهيد (يوسف موالي) فأصرت العائلة، وافقت النيابة على مضض، وتفاجأوا بعد ساعات باتصال من المحامية تخبرهم أن النيابة رفضت طلبهم، فطلبوا أن يتم التشريح بحضور المحامين، لكن النيابة ترفض مجدداً دون أسباب مقنعة، تدخل القضية دهاليز المحاكم الطويلة، ويؤخذ الشهيد إلى حيث تنتهي رحلته الأولى.

 

من أجل العصفورة الحزينة

 

وعلى طريقة فيلم (house of sand and fog) حين خر الأب ساجداً بعد أن أطلقت الشرطة النار على ابنه، قال حينها: "سأهب ما أملك للعصفورة الحزينة إن أنقذت ابني يالله" كذلك فعلت أم محمد، أخرجت في ذلك اليوم صدقة، قالت: "أردت أن أعطي كي يعيده الله لي سالماً"، لم تكن تعلم، أن تلك الصدقة كانت من أجل أن تعبر روحه بسلام، أضافت:"كنا ننوي العمرة بعد أيام، طلب أن نشتري له ثوب الإحرام، قال:"أريد أن أطوف به بيت الله"، لكنّ القدر استبق لبسه له، فأصبح ثوباً لموته، تضيف أمه: "قبل أيام فقط كان يمازحني وهو يقول ماذا لو أصبحت شهيداً؟ رددت بتهكم: كيف تصبح شهيداً وأنت لا تبارح المنزل؟! لكنه أصبح شهيداً، رحل محمد، وظلت ابتسامته باقية، ضحكاته التي تعج المكان، مزحه، مشاغباته، التصاقه بجديه، رحل هو، وترك كل الأشياء بعده تستصرخ عودته.