خطبة الجمعة: 1 ربيع الثاني 1433هـ - 24 فبراير 2012م
لا صحيح ولا إصلاح:
مادام هناك فساد سياسي يفتح في حياة المجتمع ألوانًا من الفساد العام، فهناك مشكلة حادّة تهدّد كيان المجتمع كله، ولا تتيح للمجتمع أن يهدأ ويأخذ مساره الصحيح في الحياة والإنتاج وبناء المستقبل، مشكلة تثير الصراع ولا تسمح له بأن يتوقف، وتفرض طلب الحلّ وتعديل الأوضاع وتصحيح الواقع، تجنّباً لأن يخسر المجتمع كيانه كله، أو يكون تحت طائلة الكوارث المستمرة.
ترى الصراع فعلاً وبصورة مكشوفة، ولمدة طالت بين شعب عانى الويلات من فساد السياسة والفساد العام الذي يتدفّق منها ومن أجل خلاصه، وبين السياسة الغاشمة التي تتمسّك بحالة الفساد ولا تريد تصحيح الوضع، وترفض الاعتراف بحقّ الشعب وكونه مصدر السلطات فيما تعارف عليه وضع أهل الأرض في الزمن الحاضر، في حين لا تنسب نفسها للدولة الدينية وترى في هذه النسبة نوعًا من المسبّة.
إذا تظاهر الشعب واعتصمت جماهيره بعشرات الآلاف وبمئات الألوف، ردّت الحكومة على ذلك بأن هذه هي الفوضى، وكيف يكون حوار وكيف يكون إصلاح في ظل أوضاع من هذا النوع، ومع أناس مخرّبين ومتآمرين ومفسدين، ومضرّين بالأمن والمصالح العامة والاقتصاد ولا يريدون إلا التصعيد.
وإذا خفت المظاهرات والاعتصامات، قالت الحكومة بأن الأحوال هادئة، وأن الشعب راضٍ بالوضع القائم، وقد اقتنعت الجماهير بخطأ المعارضة، ولا داعي للحوار ولا موضوع للإصلاح، وأن كل شيء على ما يرام، وديمقراطيتنا متقدمة.
وليس إلاّ أن يبقى المفصول مفصولاً، والسجن سجينًا، والملاحق ملاحقًا، وتستمر حملات التأديب والمداهمة والتشهير والتسقيط، حتى يُتأكّد من ركوع الكل وتسليمه بالواقع المرّ وأن يتحقّق الإذلال[1].
فالشعب تظاهر أو لم يتظاهر، اعتصم أو لم يعتصم، مخطئ في نظر الحكم، مدان، ولا صحيح عنده، ولا إصلاح من جانب الحكم في الواقع السياسي ولا إصلاح على الإطلاق.
نعم، يمكن أن يؤخذ بأمور قشرية لا تسمن ولا تغني من جوع بالنسبة للشعب، ولا تخفّف من معاناته، ولا تمثّل شيء من حلّ لمشكلته، على أن ترفع لافتة إصلاح زائف في فضاء الإعلام.
تناسب طردي:
كلما ظلم حكم شعبًا استشعر بغضاء مظلومه، وفقد ثقته فيه، واشتدّ حذره منه، وفتح الأعين على كل حركاته وسكناته، واستبدّت به الهواجس من كل تصرّفاته، ورأى فيه عدوّه الذي لا بدّ أن يضعفه ويقهر إرادته.
ذلك على عكس حكم عادل مع شعبه، ساهر في خدمته، مخلص له، جادّ في رقيّه، عامل على راحته وسعادته. هذا السلوك يبني ثقة بالشعب، واطمئنانًا له، واعتمادًا على تعاونه، ودعمه للحكم وحرصه على قوّته واستمراره.
يأتي في حياة الناس وعلى مستوى الأفراد أن يُسيء إليك من تحسن إليه، وإذا آتى هذا فإنما يأتي من إنسان فقد إنسانيته، ولكن المحسن يبقى مع ذلك مستمراً في إحسانه، لما يفرضه الإحسان من اطمئنان عند العقلاء بمن أحسنت إليه وعدم توقّع الإساءة منه لانتفاء السبب المعقول، إلاّ من خبث نفس خاصٍ يعاني منه من يقابل الإحسان بالإساءة، حتى ليتفاجئ المحسن وكل الآخرين حين تأتي الإساءة من شخص لآخر أحسن إليه، ويكون هذا الأمر مثلاً في السوء والانحدار عن الخلق الكريم.
أما على مستوى الشعوب والحكومات فيندر ذلك ندرة تكاد تلحقه بالمستحيل، فلا يمكن عادة أن يفقد شعبٌ في غالبيته ضميره وخلقه ورؤيته، ويتعامل مع صدق الحكم وإخلاصه وتفانيه في صالح الشعب وعفّة يده التعامل مع الإساءة ويعاقبه على إحسانه وتعاونه.
إنه لا يفقد حكم ثقته بشعبه إلاّ من ظلم شديد مارسه في حق هذا الشعب، والخطأ كل الخطأ أنه بدل التراجع عن هذا الظلم، والأخذ بالعدل، وتصحيح الوضع لبناء الثقة من جديد، وترميم الأوضاع النفسية، وتدارك الخطأ، يُعمد إلى مزيدٍ من الظلم والعسف والإمعان في إيقاد الفتنة، وأذى الشعب وتهميشه، والإصرار على الاستبداد والإذلال، وتبعية الأغنام لرعاتها مما يُعلم من الشعوب كلها اليوم الوقوف في وجهه بأيّ ثمن كان ومهما كلّفها ذلك[2].
لا حكم اليوم يريد لنفسه البقاء وأن ينال ثقة شعبه أو سكوته عليه على الأقل، يسعه أن يتعامل التعامل الجافي القاسي مع الشعب، ويدوس كرامته، ويتجاهل حقّه في تقرير مصيره، ويدير ظهره لمصالحه، ويتنكّر لحرّيته.
صار من الضروري لاستقرار أيّ حكم، وللتعايش معه من غير توترات حادّة مستمرة، أن يعدل، أن يحترم حقوق الشعب، أن يعترف له بحقّه في تقرير المصير، بحرّيته، بإنسانيته، بكرامته.
أمريكان يحرقون القرآن:
أقدمت القوة الأمريكية في أفغانستان على حرق نسخ من المصحف الشريف تعبيراً عن الاستخفاف به والحقد عليه ومعاداته ومحاربته. وحرق نسخ من المصحف الشريف المبارك إجراء رمزي لإرادة القضاء النهائي على فكر القرآن الكريم في الأرض ومشاعره وحضارته وأمّته وقيادته لحركة الحياة، ولأيّ كيان يتأسّس على أساسه ويقوم في ضوئه وينال مباركته[3]. إنها الحرب العدائية للإسلام، ولكل أثر من آثاره، ولكل مقدّس من مقدساته، ولكل نور من هداه.
وأثار العدوان حمية المسلمين في أفغانستان وغيرتهم الإيمانية لما يعرفونه من قيمة القرآن وقدسيته التي تفدّى بالنفوس، وسقطت أنفس من أجل ذلك في سبيل الله على يد المعتدين.
هذا عدوان حضاري لأمتنا وحضارتنا ومقدساتنا، يواكبه عدوان إسرائيلي مماثل ممنهج لا يكفّ عن مهاجمة المسجد الأقصى وسلبه وتخريبه ومحاربة الصلاة والمصلّين فيه[4].
وأين الحكومات في أغلب البلاد الإسلامية؟! إنها في غياب من أجل تشتيت الأمة وإنهاكها، إذلال شعوبها وقهرها والتآمر على ثوراتها، والدخول في تحالفات رئيسة طويلة المدى على حساب وحدتها وهويتها.
ولقد عشنا محليًا تجربة من التعامل السيئ الساقط المستخفّ المستهين بحرمة القرآن الكريم، حيث تختلط أوراق المصاحف الشريفة مع حطام المساجد المهدّمة مبعثرة هنا وهناك[5].
ولقد شاهدنا هنا في هذا الجامع صبيحة ليل اقتحم فيه عنوة، شهدنا المصحف ملقًى على الأرض في صورة مهينة، إلى جنب ما تمّ اغتصابه من أجهزة البثّ في المسجد أعيد بعضها وبعضها لم تنتهي مصادرته.
إنه يمكنك تفسير ما جرى ويجري من إهانة لكتاب الله عزّ وجلّ على يد قوات غير إسلامية وترى في الإسلام عدوًا لها، ولكن قد يصعب عليك أن تفسّر الاستخفاف والتعدّي على المساجد وما فيها من مصاحف وكتب الدعاء من قوات بلد مسلم تخضع لتوجيه مسؤولين مسلمين في بلد الإسلام والإيمان.
إنها القدوة الحسنة التي تقدّمها بلادنا المسلمة لبلدان العالم الآخر في التعامل اللائق مع المسجد وكتاب الله.
_____________________
[1] هتاف جموع المصلّين: هيهات منّا الذلّة.
[2] هتاف جموع المصلّين: لن نركع إلا لله.
[3] حرق الحرف رمزٌ لحرق المعنى ولحرق الحكم والهيمنة القرآنية في الأرض.
[4] هتاف جموع المصلّين: الموت لإسرائيل، الموت لأمريكا.
[5] هتاف جموع المصلّين: لبّيك يا إسلام.
تعليقات الزوار